بعينين واجمتين يُحدِّق في الحائط الذي أمامه دون أن يُعير انتباهًا للأشخاص حوله. لم يعُد سهلًا، مثلما تقول زوجته، أن يُخرجَه الكلام من شروده العميق. لحيته التي تلامس أعلى صدره تعطي تلميحًا صاخبًا عن حالة اليأس التي يعيشها. حركاته قصيرة وبطيئة ومحددة جدًا مثل حركة يده التي يرفعها بغضب ليعبر عن صبره الذي نفد. عمره الآن تجاوز الـ77 عامًا. قلبه متعب من المرض وبدنه بالكاد يُعينه على الحراك. ليس المرض ما يُعجِزُه عن الحراك بل الصدمات الثقيلة التي تعرض لها وما يزال يعيش تبعاتها. بدءًا من اليوم الذي غادر فيه سوريا ووصل إلى مصر ثم شق طريقه إلى غزة عبر نفق تحت الأرض، وصولًا إلى اليوم الذي قُتِلَ فيه ابنه في سوريا وهو بعيد عنه.
وصل زهير إلى غزة عام 2013. وجهتُهُ الأولى كانت مصر. لكنه لا يعرف حتى هذا اليوم كيف قادته أقدامُه إلى غزة. أقدام اللاجئين مرتبكة، مثل مخيِّلتهم، هدفها أن تصل محطةً ما. تُفلِتُ منه ضحكة يائسة وهو يُشبِّه اللاجئين بالقطارات محاولًا أن يُلخِّص رحلته إلى غزة بالقول إن عطلاً أصاب رحلته ولم يخطر على بال أحد أن يصلحه: «بس الله بِحلّنا من هالوضع يا عمي»، يقول زهير بصوت متعب.
يعيش زهير وزوجته في شقة صغيرة. جيبه لا تحمل سوى بطاقة تعريف أصدرتها حكومة غزة، ولا تفيد خارج حدود غزة. همُّ الإيجار الشهري يأكل رأسه، فعلى مدار السنوات الماضية، طُرِدَ مرات عديدة لعجزه عن السدادّ. يقول إنه يعتمد في يومه، بما يحمله من طعام وشراب وعلاج للأمراض المزمنة التي يعاني منها، على معونات صغيرة تصله من جيرانه ومن مؤسسات خيرية أو حكومية. يعيش زهير هذه الحال منذ أن وصل إلى غزة قبل نحو 10 سنوات، عبر نفق تحت الأرض كان يربط الجانبين الفلسطيني والمصري آنذاك.
نفق الأمل الذي ردم
بدءًا من عام 2011 وصل إلى غزة 365 عائلة بينها 50 عائلة سورية الأصل والباقي سوريين من أصول فلسطينية تنوعت طرق الوصول بين طرق شرعية عن طريق المعبر الذي يربط غزة مع مصر، وطرق غير شرعية عبر الأنفاق التي كانت تربط غزة بالجانب المصري آنذاك. العائلات سورية الأصل وصلت إلى غزة عبر الأنفاق، فيما دخلت غالبية العائلات ذات الأصول الفلسطينية عبر طرق شرعية، مثلما تقول تغريد الخوالدة للجمهورية.نت؛ المسؤولة الإعلامية في لجنة متابعة شؤون اللاجئين السوريين في غزة التي تأسست عام 2013.
لم تكن غزة الوجهة الرئيسية للكثيرين منهم، خصوصًا العائلات السورية، لكن الحال غير المستقرة التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة، إثر تبدُّل السلطة في مصر بعد أن أطاح الجيش المصري بالرئيس السابق محمد مرسي، دفعتهم لتجريب طرق وصولٍ إلى أماكن أخرى إثر صعوبة تحصيل معيشة مستقرة. حاول زهير قبل أن يشق طريقه إلى غزة، أن يعود إلى سوريا حيث عائلته وأولاده، لكن السلطات المصرية منعته آنذاك بسبب الوضع الأمني غير المستقر، فقرر أن يبحث عن مكان آخر. تعرَّف زهير على أشخاص واقترحوا عليه وزوجته أن يدبروا لهم طريقًا إلى غزة، فوافق زهير: «تايهين يا عم كنا ما عارفين وين الله حاططنا، وعبرنا من نفق تحت الأرض». يتذكر يوم عبر النفق، ويقول متعجبًا: «تخيَّل تعبر نفق مثل القبر لحتى توصل غزة؟». كان عام 2013 من أشد أعوام الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ العام 2007، قسوة، فبعد أن كانت الأنفاق بين غزة ومصر شريان حياة القطاع أمام إغلاق إسرائيل المعابر التي تسيطر عليها، بدأت مصر في عام 2013 في تدميرها وإغراقها.
أدرك زهير سريعًا استحالة العيش في غزة: «وصلنا يا عم، وشفنا كيف الناس عايشة في ظروف صعبة، لا بيت ولا مأوى ولا أكل ولا شراب». لذا، بدأ في البحث عن مَهربٍ من غزة، لكن النفق الذي عبر منه إلى غزة، رُدِم.
«غيمة سودا وحطت على قلبي»، يقول زهير عن اللحظة التي سمع فيها أن الخروج من غزة عبر نفق بات مستحيلًا. ازدادت الغيمة سوادًا في عام 2014 حين عاش زهير مع سكان غزة عدوانًا إسرائيليًا واسعًا استمر لـ51 يومًا، تشرَّد خلاله، ليصله لاحقًا الخبر الذي زاد من علة قلبه: «ابني استشهد بالحرب… وأنا ما كنت طايل حتى شوفه».
عام تكشف المأساة
عانى اللاجئون السوريون الذين وصلوا إلى غزة ظروفاً قاسية، أولًا لأن أرجلهم قادتهم إلى مكان كلُّ مَن فيه بحاجة إلى المساعدة، فبحسب بيانات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، فإن 81 بالمئة من سكان غزة الذين يزيد عددهم عن مليوني و200 ألف نسمة، يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعاني 64 بالمئة من انعدام الأمن الغذائي. ثانيًا، لأن غالبيتهم وصلوا بلا أوراق رسمية أو مستندات شرعية.
في عام 2013 تمكَّن بعضهم من الحصول على فرص تشغيلية مؤقتة برواتب متدنية بعد احتجاجات كثيرة. لكن ذلك لم يَدُم، إذ زادت ظروف القطَّاع سوءًا بعد العدوان الإسرائيلي الواسع عام 2014، وانعكس ذلك على الجميع في غزة وعلى اللاجئين والنازحين على وجه الخصوص. بعد عدوان 2014 بدأت العائلات الوافدة إلى غزة بالتفكير في طريقة للهروب من القطاع. تمكن الكثير منهم من خطف فرصة للخروج بطرق مختلفة، فيما أعادت المفوضية العامة لشؤون اللاجئين توطين 22 عائلة سورية الأصل كانت في غزة في بلدان لجوء أوروبية. بحسب الخوالدة كانت هذه العائلات المرحَّلة من أشد العائلات فقرًا وعوزًا فلم تكن تجد بيتًا يأويها ولا عملًا أو معونة إغاثية.
على مدار السنوات الماضية، تقلَّص عدد العائلات في غزة بفعل الهجرة العكسية إلى أن وصل في عام 2023 إلى 172 عائلة، بينها 9 عائلات سورية الأصل ما تزال تقيم في غزة حتى الآن. يعاني اللاجئون السوريون وذوو الأصول الفلسطينية من أزمات معقدة ومُركّبة وتسويف ومماطلة من الجهات المعنية، وفق الخوالدة التي تشير إلى أن اللاجئين السوريين يعانون من البطالة ويعجزون عن توفير أجور السكن وتحمُّل تكاليف الدراسة لأبنائهم، إلى جانب معاناتهم من عدم حصولهم على التأمين الصحي الحكومي أو الاستفادة من الخدمات الصحية التي تقدمها وكالة الغوث في غزة.
وعن تاريخ إغاثة العائلات، تقول إن المعونات التي تمكَّنت من تحصيلها من الجهات المعنية في غزة، كوزارة الشؤون الاجتماعية ووكالة الغوث، متذبذبة ولم تشمل سوى عدد محدد. منذ العام 2013 إلى ما بعد عدوان الـ2014، شملت وكالة الغوث في غزة العائلات السورية من أصول فلسطينية في خدمات تقديم بدل إيجار، لكن لم يستفد منها الجميع، خصوصًا من لا يمتلك من اللاجئين السوريين ذوي الأصول الفلسطينية بطاقة اللاجئ، ولم تتضمن العائلات ذات الأصول السورية على الإطلاق. ثم أوقفت الوكالة عام 2018 هذه الخدمة متذرعة بالضائقة المالية التي تعاني منها.
ومنذ نهاية عام 2014 صرفت حكومة غزة، التي تديرها حركة حماس، مبلغًا ماليًا يتراوح بين (200 – 300 دولار) شهريًا للعائلات السورية في غزة، لكنها توقفت لاحقًا بعد أن تشكلت حكومة الوفاق بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية في العام ذاته. وفي عام 2015 توصلت اللجنة إلى تفاهمات مع حكومة الوفاق الفلسطينية برئاسة رامي الحمدلله، بغية تقديم مساعدات مالية شهرية لكل عائلة سورية في غزة، لكن القرار لمّ يجرِ تطبيقه، ومع تفككّ حكومة الوفاق عام 2019 تبددت الآمال إلى الأبد.
تشرح الخوالدة أن معظم العائلات التي لجأت إلى غزة لا تحمل وثائق رسمية، سواء تلك التي تخص اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، أو بطاقات التعريف السورية، لذا، لم تتفهم وكالة الغوث هذا الوضع، وهي التي تعدُّ أهم جهة إغاثية في غزة، ويعتمد على معوناتها نحو 80 بالمئة من سكان غزة. وتقول إن حالة العوز الكبيرة وضعت العائلات الوافدة في خانة التسويف والمماطلة لدى الجهات المعنية في غزة: «أنت في غزة… وكل الناس محتاجة، لهيك على قد ما تحكي… كلها وعودات وكلام ولا شي عالأرض» تقول الخوالدة.
أمام عدم توفر فرص عمل ثابتة ومستقرة، وُضِعت العائلات أمام تحدي تسديد الإيجار الشهري أو سداد التزامات عائلاتهم اليومية، الأمر الذي حوَّل الكثيرين إلى ملاحَقين على أثر قضايا مالية مرفوعة ضدهم، وفق قول الخوالدة التي أضافت: «إن جميع السوريين وعائلاتهم التي يتراوح عدد أفرادها بين (3 -4) بلا أوراق رسمية، ويحملون جوازات منتهية الصلاحية، ولا أُفق لهم للخروج من غزة. هذه الحال جعلت اليأس ينخر عظام العائلات في غزة».
وتقول الخوالدة إن الحكومة الفلسطينية في رام الله، استأنفت مؤخرًا معاملات «لم الشمل»، أو ما يمكن تسميته حق المواطنة، وتمكنت اللجنة من تقديم طلبات لللاجئين السوريين في غزة. وصل لبعضهم حق لم الشمل، أي الحصول على جواز سفر فلسطيني، لكن ذلك كان لعدد محدود جدًا، فهناك أيضًا الكثير من الفلسطينيين في غزة الموضوعين على قائمة الانتظار منذ وقت طويل. تشير الخوالدة إلى أن الانقسام الفلسطيني بين حركتي حماس والسلطة الفلسطينية يطيل هذه المعاناة. باعتبار أن السلطة الفلسطينية صاحبة الحق في استصدار هذه الأوراق عبر الاحتلال: «وكما نعلم الأمور بين الحكومة في غزة والسلطة الفلسطينية لا تسير بالسلاسة المطلوبة، وهو ما ينعكس بالسلب على اللاجئين»، تضيف الخوالدة.
على الرغم من أن العائلات ذات الأصول الفلسطينية التي وصلت إلى غزة وهي محتفظة بأوراقها وبياناتها الرسمية، نالت نصيبًا من معونات وكالة الغوث في غزة، وهي عادةً معونات غذائية تقدم كل ثلاثة أشهر، وتشمل المواد الأساسية، إلى جانب الحق في الدراسة في مدارس الأونروا وحق المراجعة الصحية في مستوصفات الوكالة، إلا أن الأمر لم يشمل الجميع. يقول إياد، وهو سوري من أصل فلسطيني، إنه وصل إلى أرضه صحيح، لكن غزة ليست مكانه. بحسب إياد فإن غالبية العائلات ذات الأصول الفلسطينية هي من مناطق مختلفة من فلسطين، ولم يكن وصولهم إلى غزة مساعدًا لهم: «في عائلات كان إلها امتداد في غزة، تمكنت على الأقل من الحصول على سكن ومأوى عبر أقربائهم، بس نحنا بنعاني كثير… لا أوراق معنا ولا شيء، وولادنا وأهالينا بعاد عنا، ولا إحنا قادرين نعيش، ولا حتى نكون مع عائلاتنا».
الخوف المنبعث من سوريا إلى غزة
حتى وقت قريب، كان اللاجئون السوريون والنازحون من أصول فلسطينية، يعيشون قدرًا من الحرية في الظهور على وسائل الإعلام والتحدث بأسمائهم عن معاناتهم والصعوبات التي يعيشونها، لكن ذلك تغيَّر بعد تقارب حركة حماس مع النظام السوري وإعلان عودة العلاقات بينهما رسميًا عام 2022. إذ بات الجميع يخشَون الظهور على وسائل الإعلام بأسمائهم الحقيقية. أولًا لأنهم وصلوا إلى مستويات عميقة من اليأس، وثانيًا لأن الخوف المنبعث من سوريا وصل إلى غزة، ويخشون على عائلاتهم هناك.
يسكن اللاجئون السوريون وذوو الأصول الفلسطينية في غزة حلم واحد: الهجرة والهروب من غزة. وأمام سعيهم الذي لا يتوقف للخروج من القطاع، باتوا يخشَون التصريح بالطريقة التي وصلوا عبرها إلى غزة، خوفًا من أن تُدرَج أسماؤهم لدى الجهات المصرية، وأن يُمنعو من السفر في حال تحصلوا على فرصة ما عن طريق معبر رفح بين غزة ومصر. يقول إياد: «نحنا بدنا الموضوع ينتسى… بنخاف لو طلعنا عن طريق مصر يرفضونا المصريين… أو يصير شي بعد هالعلاقات إلي صارت بين الجماعة هان والجماعة هناك، إنه تنأذى عائلاتنا بسببنا».
يعيش اللاجئون في غزة ظروف أهالي غزة المعيشية القاسية ذاتها، والتي ازدادت حدة على مدار السنوات الماضية إثر استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ العام 2007، وصعوبة الخروج والسفر من غزة، والقلق الدائم نفسه من عدوان إسرائيلي قد يودي بحياتهم. حتى وقت قريب كان حلم الحصول على إعادة توطين عبر المفوضية العام لشؤون اللاجئين يسكن اللاجئين السوريين، مثلما حصل مع عائلات سورية لاجئة كانت تقيم في غزة، لكنه حلمٌ تلاشى بعد أن تبدَّت صعوبة تحقيقه. وأمام المماطلة التي تُقابَل فيها مطالبهم من مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الحكومية والإغاثية، تبقَّى مخرجٌ وحيدٌ لهم، وهو الحصول على حق مواطنة وجوازات سفر فلسطينية، لكنه مخرجٌ يكتنفه الكثير من التعقيد، إثر الانقسام الفلسطيني بين حكومة غزة التي تديرها حركة حماس والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، والاحتلال الذي يفصل الضفة الغربية عن غزة ويطيل من الوقت اللازم لإجراء المعاملات بين غزة والضفة الغربية.