يُحسب لبرهان غليون أنه، على خلاف التيار الماركسي الذي ساد عندنا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، دافع عن أهمية الديموقراطية (صدرت الطبعة الأولى من كتابه «بيان من أجل الديمقراطية» في 1978)، ولم تأسره «الاشتراكية» بوصفها العلاج الكافي من كل الشرور، دون أن يكون لهذا المفهوم (الاشتراكية) من تحديدٍ في وعي الداعين إليه يتجاوز إجراءات التأميم وإلغاء أو تحديد الملكيات الخاصية. موقف غليون النقدي من هذا التيار السائد الذي كرّس جهده لحشر الواقع في كلمات جاهزة، ومسعى صاحب «البيان» إلى تبدية الواقع على الكلمات، بصرف النظر عن مدى نجاحه، هو ما يفسر الإقبال على كتبه وتكرار طباعتها مراراً، وحضورها الحي حتى اليوم. وهو ما يفسر الاهتمام بكل عملٍ يصدر عن غليون، ذلك أن القارئ يتوقع منه منظوراً مختلفاً أو إضافة جديدة. وقد لاقى كتاب «سؤال المصير»،برهان غليون. «سؤال المصير، قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية». المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت. 2023. الذي نحن بصدد مناقشته، اهتماماً في الوسط الثقافي السوري والعربي، على غرار غيره من الكتب السابقة لكاتبنا.

اليوم، بعد أن تراجعت مفردة الاشتراكية لصالح مفردة جديدة هي الديموقراطية، يتكرر، في مجالنا السياسي، الشيء نفسه، فالديمقراطية أيضاً لا تعني في وعي الغالبية الغالبة من الداعين إليها أكثر من الانتخابات «الحرة والنزيهة». في الحالتين؛ الاشتراكية والديموقراطية، يبدو أن الأمر يتوقف على إجراءات وقرارات تتّخذها نخبةٌ حين تتمكن من سلطة الدولة. في الحالتين تبدو سلطة الدولة هي كلمة السر والمنطلق اللازم لفرض «الإجراءات». وفي الحالتين ترافق تدني المعنى مع علو اليقين والحماس. كما لو أن هناك علاقة ثابتة، في السياسة، بين ضيق المعنى واتساع الجمهور. 

سنقول، استطراداً، إن هذا الاختزال أو الإفقار السائد عندنا، والذي عاناه مفهوم الاشتراكية بالأمس، وعاناه دائماً مفهوم الإسلام والوحدة العربية، ويعانيه اليوم مفهوم الديموقراطية، لا يجد سببه في «ضعف عقولنا»، بل بالأحرى في ضعف واقعنا، وحاجتنا إلى «أمل» يطير بعقولنا بعيداً عن واقعٍ يبدو بؤسُه ثابتاً، ويبدو التفكير العقلاني في تجاوز هذا البؤس محبطاً. الشيء الذي يجعلنا نميل، كما لو بآلية نفسية، إلى صنع آمالٍ يتناسب تعلّقنا بها وحماسنا لها عكساً مع معقوليتها وواقعيتها. هكذا نعيش التوتر بين التوق إلى التحرر من واقعٍ بائس، وضعف إمكانات التحرر منه. هذا التوتر هو ما يدفعنا إلى صناعة الأمل بتبسيط الحلول وجعلها على شكل «إجراءاتٍ» لا تحتاج سوى إلى نخبة وطنية وصادقة وعالمة. تلك هي البيئة النفسية التي تجعل عقولنا «صغيرة» ومواسية وفي خدمة رغباتنا. وتجعلنا جاهزين، في لحظاتٍ معينة، لتقديم الغالي والنفيس في خدمة فكرةٍ جاهزة ومختزلة ولا تختلف كثيراً في حقيقتها عن السراب. ذلك فقط لأننا عطشى ومواردنا شحيحة. 

كان التيار الأوسع من الماركسيين، قبل التفكك الرسمي للمنظومة الاشتراكية، يرى في الديمقراطية مجرد إيديولوجيا برجوازية. وكان هذا التيار يعلي من شأن الوعي الثوري والطليعة الحاملة لهذا الوعي والتي يحقّ لها لذلك أن تقود لأنها تعلم من مصلحة الأمة ما لا تعلمه الأمة. في كتابه «بيان من أجل الديموقراطية»، ينتقد غليون هذا التصور الذي كان في مستوى المُسلّمات لدى التقدميين، ويسميه «نظرية جهل الشعب»، ويسأل: «مَن يستطيع أن يقنعنا أن هذا الوعي أو ذاك منزه عن الهوى وأن الطبقة الواعية كانت تبحث عن المصلحة العليا لجميع الطبقات وليس عن مصالحها الذاتية».برهان غليون، بيان من أجل الديمقراطية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. الطبعة الخامسة، 2006، ص37. في هذا يؤسّس غليون للفكرة الديمقراطية التي تقوّض أحقية أي طليعة أو طبقة في أن تقود المجتمع استناداً إلى وعيها التقدمي أو الثوري أو المقدس … إلخ، وفي هذا يجعل غليون الجمهورَ ممراً لازماً لإقرار هذه الأحقية. لكن صاحب «البيان» سيتراجع عن هذا المبدأ في كتابه الأخير، كما سنرى.

كما هو معلوم، القناعة بفكرة الطليعة صاحبة الوعي الثوري، اختصرت المشكلة في كيفية وصول هذه الطليعة إلى الحكم. وفي ظل سلطاتٍ قمعية ونخبٍ لا تستطيع، لأسباب عديدة، أن تحرّك الجمهور، كان من الطبيعي، أن يكون الانقلاب العسكري هو الوسيلة الأنسب. وهذا ما كان في الحقيقة. على كل حال، لا يهم سبيل الوصول إلى السلطة، بمشاركة الجمهور أو من وراء ظهره، طالما أن النخبة الواصلة هي نخبة طليعية وثورية وتعرف مصلحة الأمة.

وحين كان يتبدى أن حال البلاد لا تتحسن، أو تزداد سوءاً بعد وصول هذه «الطليعة» أو النخبة إلى الحكم، يكون التفسير الوحيد لهذا الفشل هو أن النخبة التي استلمت الحكم قد انحرفت، أو أنها كانت في الأصل ذات وعيٍ منحرف. وطالما استند هذا التحليل إلى تنظيرات ماركسية عن البرجوازية الصغيرة (وهي المنبع الدائم للطليعة) وضيق أفقها وأمراضها وعدم ثباتها. في هذا التتابع المنطقي الفقير، يكون الحل في تغيير الطليعة «المُنحرفة» لإحلال الطليعة «الثورية» محلها. كلاهما، الانحراف والثورية، صفتان للوعي ولا يخضعان لأي معيار واقعي يمكن الاحتكام إليه. لذلك، تمتلك كل فئة الحق نفسه والفرصة نفسها في رمي الفئة أو الفئات الأخرى بالانحراف.المبالغة في أهمية الوعي سمة مشتركة عند الماركسيين العرب، وكأن في هذا نوع من التعويض عن فقر الواقع. يقول غليون في «اغتيال العقل» إن السب الرئيسي لاستمرار هذا الانحباس أو المأزق التاريخي هو غياب الوعي الموضوعي بأبعاد المشكلة الاجتماعية والتاريخية … والعجز عن فهم الوضع القائم فهماً موضوعياً” ص11. وفي «سؤال المصير» يرى كاتبنا أن الشرط الأول لعودة العرب إلى التاريخ هو «أن ندرك أن الحداثة هي المعركة التاريخية الرئيسية» ص199. يزيد في ثقل الأمر أن هؤلاء يشددون على أهمية وعي منقول، في جزئه الأعظم، وليس أصيلاً. هناك من الماركسيين العرب من حاول، بقليل أو كثير من التوفيق، أن يتجاوز النقل إلى العقل، ويمكن اعتبار غليون من بين هؤلاء. وهكذا تصبح السياسة هي صراع على السلطة بين نخب ترى كل منها أنها الممثل الحقيقي لمصلحة الشعب «الجاهل» الذي لا يعرف مصلحته. الأسوأ من ذلك، أن هذا النوع من الصراع لا ينفتح على حلول توافقية، فلا يمكن للحقيقة أن تتوافق مع الزيف، ولا للثورية أن تتوافق مع الانحراف. 

العودة إلى مفهوم الطليعة على حساب الديمقراطية

في قراءة نتاج غليون ما يبرر القول إن الرجل «متعبٌ بعروبته»، فهو يحمل هم العرب في تخلّفهم وخروجهم من التاريخ. هذا مما يحسب له بلا شك، ولكنه في الوقت نفسه يجعله عرضة لاستبطان صراع حضاري «موهوم» مع الغرب، وعرضة، وهذا هو الأهم، للتساهل مع إهمال مبادئ أساسية في الديمقراطية لصالح أهداف كبيرة غير منظورة. الأمر الذي يجعلنا نسمح لأنفسنا بالقول إن عروبة كاتبنا تغلّبت على ديمقراطيته. هذا ما يكشفه كاتبنا حيال ما يبدو له نهضة «عربية» في هذا البلد العربي أو ذاك. في كتابه «اغتيال العقل» (صدرت الطبعة الأولى مطلع 1986)، يتكلم عن العرب والغرب، عن المدنية العربية في صراعها ضد المدنية الغربية. على هذا، يشكل نهوض العرب و«عودتهم إلى التاريخ»عنوان الخاتمة أو الفصل الأخير في كتاب «سؤال المصير» هو «عودة العرب إلى التاريخ». الهمّ الأول له، ما يجعله قليل الاكتراث بهموم الحياة المباشرة للناس، لصالح «نهضة» تُنجزها سلطة مستبدة. كان يمكن قبول هذا لو بينت التجارب العربية أنه يمكن إنجاز نهضة حضارية فعلية على حساب حقوق الناس وشروط حياتهم. 

النهوض الذي يقصده ويمتدحه كاتبنا، يعني امتلاك القوة الاقتصادية والعلمية والعسكرية … إلخ، بما يساعد على التحرر من التبعية للغرب. لنلاحظ أن العنوان الفرعي لكتاب «سؤال المصير» هو «صراع العرب من أجل السيادة والحرية». يفترض أن نفهم السيادة هنا بمعنى السيادة على الذات، وليست السيادة العامة الصادرة عن نزعة تفوق «عربية إسلامية» مريضة، كما يعرضها النشيد الوطني السوري: «فلم لا نسود ولم لا نشيد». والحال إن التجارب الحديثة التي حققت نهضة، أكان في اليابان أو الصين أو كوريا الجنوبية أو سنغافورة … إلخ، والتي يمتدح كاتبنا خيارات النخب فيها، أنجزت نهضتها الحديثة تلك بالتعاون مع الغرب وليس بالصراع معه، ولا بالسيادة عليه، بطبيعة الحال.

التجارب النهضوية العربية الحديثة التي يتناولها غليون في كتابه، تدير ظهرها لفكرة الديموقراطية. من مصر محمد علي إلى مصر عبد الناصر إلى عراق صدام حسين. القاسم المشترك لهذه التجارب هو معاداة الديمقراطية. يعيد كاتبنا فشل التجارب الثلاث أساساً إلى الدور الخارجي الذي يعمل على «الحيلولة دون بروز أي قوة مستقلة ودولة رائدة في المنطقة» (ص76)،كل إشارة إلى رقم صفحة على هذا الشكل، يُقصد بها رقم الصفحة في كتاب «سؤال المصير». وعلى منع تجاوز الخط الأحمر الذي هو «الانقلاب على نظام الوصاية وبناء مركز سلطة مستقلة … والخروج من التخلف وبالتالي من التبعية» (ص78). يوجد إذن تساهل مع الطبيعة المُستبدّة لهذه الأنظمة طالما أنها لا تعيق التنمية والتحديث. لا يندرج الاستبداد في الأسباب الأساسية لسقوط هذه التجارب. 

ويجد كاتبنا في إجراءات التحديث التي يتولاها محمد بن سلمان في السعودية أهمية دور النخبة التي لا يمكن أن تنتظر تطور الوعي لدى الجمهور، وإلا سيكون ذلك بمثابة وضع العربة أمام الحصان،يستخدم برهان غليون هذا المثال في لقاء بخصوص كتاب «سؤال المصير»، أجراه معه الكاتب المصري أحمد سعد زايد. في حين أن النخبة (الطليعة) هي الحصان الذي ينبغي له أن يجر العربة (الجمهور). ولكن ما هي قوة الجر التي تتمتع بها النخبة؟ إنها، بكل بساطة، السلطة. هكذا إذن نعود إلى فكرة الطليعة نفسها التي سبق أن انتقدها غليون. ونعود إلى اتهام الجمهور بالعطالة التي ينبغي أن تتغلب عليها الفاعلية «السلطوية» للنخبة. هذه نسخة معدلة من «نظرية جهل الشعب» التي سبق أن انتقدها غليون في «البيان». الفارق هو أن «جهل الشعب» في النظرية التي ينتقدها غليون، يحول دون دخول العرب في الحداثة، أما النسخة المعدلة فإنها تسوّغ تجاهل وعي وإرادة الشعب لصالح أن تقوم نخبة واعية «بجر» الشعب إلى الحداثة.

من الواضح أن غليون، في «سؤال المصير» يتراجع عن «بيان من أجل الديمقراطية» لصالح الفاعلية السلطوية «التحديثية» التي يمكن أن تقوم بها نخبة تحديثية من خلال استخدام السلطة. يكفي أن نقارن مع فصل «من الانقلاب إلى الثورة» في «البيان» كي ندرك هذا التراجع. لم تعد بنية السلطة في علاقتها بالمجتمع هي التي تهم، بل ما يهم هو النخبة الحاكمة وخياراتها. لم يعد البديل الحقيقي يحتاج إلى ثورة، صار الانقلاب يمكن أن يحمل نخبة ذات «خيارات تحديثية». والواقع أن النخب التي يعتبرها غليون صاحبة محاولات نهوض أجهضها الغرب، هي نخب انقلابية، أي أنها، إذا عدنا إلى لغة «البيان»، كانت «تعكس المصالح العليا للطبقة السائدة ولمجتمع الأحرار (مقابل مجتمع العبيد) جاء استلامها للسلطة في كل مرة وصلت إليها بالعنف وبالانقلاب مؤشراً إلى نهاية معارضتها وإلى بداية تدهورها السياسي والمادي وتحولها إلى فئة كمبرادورية جديدة عميلة وقاعدة للنظام العالمي الدولي».بيان من أجل الديمقراطية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، 2006، الدار البيضاء – المغرب. ص163. في «سؤال المصير» تصبح هذه النخب قابلة لأن تكون «ثورية»، وهكذا تصبح الديموقراطية عنصراً ثانوياً، وربما نافلاً، في الحداثة.

يقودنا غليون في كتابه الأخير إلى تصور وجود استبداد جيد (تحديثي) واستبداد سيء (تابع). العلاقة مع الخارج (تبعية/استقلال) أهم من العلاقة مع الداخل (استبداد/ديموقراطية)، هذا بعد أن تبين إلى أي نهاية يقود الاستبداد، ولا يُستثنى من ذلك الاستبداد الاستقلالي الممدوح. صحيح أن هناك فارق ملحوظ وغير قليل الأهمية بين استبداد ذي مشروع تنموي يحتكر السلطة ويستبد بالناس لتنفيذ مشروعه العام (يمكن اعتبار التجربة الناصرية مثالاً عليه)، وبين استبداد يكون مشروعه الأول هو الإثراء الخاص وتملّك الدولة وتأبيد السلطة وصولاً إلى توريثها (يمكن اعتبار نظام الأسد مثالاً عليه). ولكن «الهم العربي» يجعل غليون يصنّف عراق صدام حسين في عداد الاستبداد التحديثي. فهو، وإن كان لا يغفل عن ذكر ديكتاتورية نظام صدام حسين، وفرديته واحتكاره السلطة … إلخ، يطمئن إلى غياب الفساد والرشوة وتهريب الأموال إلى الخارج (هل يمكن فعلاً أن لا يترافق الفساد مع الاستبداد؟)، وبالنتيجة يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن استبداداً عائلياً منفلتاً من أي ضابط في علاقته بالمجتمع يمكن أن ينجح في معايير التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني، وأن الاستبداد جعل الدولة العراقية، بحسب الكتاب، الدولة الأكثر حداثة في المنطقة. هكذا تسقط الديمقراطية مرة أخرى من معايير الحداثة، ويغدو من الجائز تجاهل الشروط المباشرة لحياة الناس المادية والمعنوية لصالح ما يُنظر إليه على أنه تحديث. 

في خاتمة كتابه، يُحيي غليون الأمل لدى العرب بأن التقدم لا يزال ممكناً إذا تحققت شروط يعددها الكاتب ويذكر في البند الثاني: «إعادة بناء النظم السياسية على أسس ديمقراطية». لا يفهم مَن يقرأ الكتاب المسكون بفكرة التقدم العربي إلى حد التساهل مع الاستبداد، لماذا يؤكد الكتاب في خاتمته على الديموقراطية. ألم تكن كل محاولات النهوض العربي على يد أنظمة غير ديمقراطية؟ ألا تحتاج عملية التحديث السريع والخروج من التخلف إلى سلطة قوية لا يقف في وجه تصميمها على تغيير أوضاع البلاد، أي شيء مما تسببه الديموقراطية من معوقات (احتجاجات شعبية، معارضات سياسية، معارك برلمانية، … إلخ)؟ الحق إن ضعف نقد الكتاب لاستبداد التجارب العربية النهضوية، يأخذ القارئ إلى الاعتقاد أن ذكر الديموقراطية كشرط للتقدم، هو مجاراة لموجة الديمقراطية الراهنة، أكثر منه قناعةً بجدوى الديموقراطية وضرورتها للتقدم. 

المعضلة التي يتفادى الكتاب مواجهتها تتجسد في الأسئلة التالية: على فرض أننا نجحنا اليوم في تطبيق المعايير الديمقراطية في مجتمعنا الذي يحمل إرث استبداد عريق، فهل يمكن أن يتحقّق التقدم الاقتصادي والصناعي والتقني والعلمي والعسكري … إلخ؟ أم أن الديمقراطية في المجتمع الفقير مادياً والمنقسم طائفياً وقومياً وعرقياً وعشائرياً، ستكون مدخلاً إلى صراعات تضعف قدرة السلطة فيه على تحقيق التقدم؟ ومن جهة أخرى: إذا استطاعت سلطة مستبدة، أكانت من النمط المصري الناصري أو العراقي البعثي، أن تحقق بعض التقدم، فهل يمكن لهذا التقدم أن يشكل أساساً لتفكيك الاستبداد وبناء نظام ديمقراطي؟ أم أن ما يبنيه الاستبداد يكون عرضةً للهدم والضياع، كما شهدنا في التجارب العربية؟ يتفادى الكتاب هذه المعضلة بالإشادة بالتقدم والديموقراطية معاً، دون أن يجتهد في فكّ عقدة الأسئلة الآنفة.  

المنطق العميق للكتاب يمكن صياغته على الشكل التالي: استبداد ذو ميول تحديثية واستقلالية، يكرس الجهود والموارد للتنمية وتحقيق «السيادة والحرية» في وجه الغرب، بعدئذٍ، يمكن أن تبدأ عملية انفتاح ديمقراطي على الشعب. لا يختلف هذا كثيراً عن نظرية هنتنغتون للتطوير التي سميت «الانتقال الاستبدادي» وتقول إن الديكتاتورية التحديثية قد تكون ضرورة في حد ذاتها للوصول إلى الديمقراطية. وهو ما دفع فريد زكريا (تلميذ هنتنغتون) إلى تفضيل «الأنظمة السلطوية الليبرالية» (الليبرالية اقتصادياً بالطبع) في بناء مؤسسات واقتصاديات متطورة قبل الانتقال الديموقراطي، وهو ما تحقّق في شرق آسيا بما سمي «المعجزة الآسيوية».للمزيد يمكن العودة إلى عزمي بشارة. الانتقال الديمقراطي وإشكالياته. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ط1. بيروت. 2020. ص167.

غير أن هذه الاستراتيجية، بحسب ما يعرض كاتبنا، تصطدم، في منتصف الطريق، بعقبة خارجية هي «الغرب»، تُحطّم التجربة قبل أن تُكمل حلقتها «الديموقراطية». 

يريد صاحب «سؤال المصير» التحديث ولكن دون علاقة مع الغرب، لأن التحديث بالعلاقة مع الغرب أدى إلى «حداثة رثة».رغم الفارق بين فكر الباحثين، يلفت النظر تشابه فكرة غليون عن الحداثة الرثة مع فكرة مهدي عامل عن «نمط الإنتاج الكولونيالي». الحداثة الرثة، بحسب غليون، هي شكل اندماجنا في الحداثة العالمية، وكذلك فإن توسع نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر أدمج بلداننا وأنتج لدينا نمط الإنتاج الكولونيالي الذي يمكن اعتباره نمط رأسمالي «رث»، وهو شكل توضع الرأسمالية عندنا. لكن هذا التشابه شكلي، ففي حين يقود فكر عامل إلى اعتبار الأزمة هي في سيطرة طبقة كولونيالية، تبدو الأزمة ضعيفة التحديد في نظر غليون، فهي أزمة مجتمعات عربية أو حتى «أزمة عربية». والحق أنه يصعب ترجمة أي من التصورين إلى دليل عمل للخلاص من «الأزمة». وهو في هذا يميل إلى أصحاب «نظرية التبعية» التي لا تضع الديموقراطية على جدول أعمالها.عزمي بشارة. المرجع السابق. ص193. غير أن كاتبنا أراد أن يجمع التحديث (الذي يحتاج إلى سلطة قوية غير ديموقراطية أو إلى «ديكتاتورية تحديثية») مع الديموقراطية. من الواضح أن غليون يدرك إشكالية هذا الجمع، ويميل، دون أن يعلن ذلك، إلى تبدية النهضة على الديموقراطية، وهو ما يتبدى في إشادته بتجارب ديكتاتورية تحديثية.

الأهداف الكبيرة هي باب المستبدين ومصنعهم

ما يُسوّغ فكرة الطليعة هو وجود عناوين عريضة أو أهداف سياسية كبرى يطمح الناس إلى بلوغها مع قناعة (موهومة إلى حد كبير) بأن بلوغ هذه الأهداف يحمل معه الخير والرفاهية والسيادة. بناءً على هذه القناعة، ينبغي أن يتولى شأن الأمة نخبة مؤمنة بالأهداف الكبرى وقادرة على القيادة حتى بلوغها، وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، تفويض النخبة بقيادة الأمة. والحقيقة أن النخبة «المُلهِمة» لا تنتظر التفويض، بسبب غياب آلية ثابتة للتفويض، فغالباً ما تجد «النخبة» وسيلةً للاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها إلى أجل غير محدود في سعيها الدائم لتحقيق الأهداف الكبرى، وهي تستبطن التفويض وتفترضه حقاً «ثورياً» لها. 

يمكن هنا أن نتوقف كي نلاحظ ونتأمل في نظرة النخبة التي تستولي على السلطة إلى ذاتها وإلى الجمهور والتفويض. النخبة هنا تماهي ذاتها بالأفكار الكبرى التي تتكلم بها، والتي يكون لها عادة مقبولية عامة (الإسلام، الاشتراكية، الوحدة العربية، تحرير التراب الوطني … إلخ)، وحين تستولي على السلطة، بالانقلاب العسكري غالباً، تكون على قناعة أنها تحوز التفويض العام لأنها تمثل الأفكار التي تنادي بها، والتي لها قيمة عالية لدى الناس، هي، في الواقع، قيمة الأمل بالخلاص. هكذا يبدو لها، بقناعة تامة وربما نزيهة، أن كل من يعترض على السلطة، إنما يعترض على الشعب وعلى هذه الأفكار العامة قبل أن يعترض على سلطة النخبة. مع الوقت، ومع التحول الذي تُحدِثه السلطة في أصحابها حين تتملكهم مغريات السلطة وتصبح السلطة بحد ذاتها أهم لديهم من أي شيء آخر، تدرك النخبة، ولا شك، حقيقة أنها لا تمثل الأفكار التي تتكلم بها، وأنها لا تحوز فعلاً على تفويض الناس، فتبدأ آلية جديدة هي استخدام كل مقدرات السلطة التي يمنحها جهاز الدولة من أجل الديمومة اللانهائية في السلطة. 

تحكي طرفة فرنسية أن رجلاً مرّ بصياد سمك ينتظر مردود سنارته المرمية في البحر. بعد ساعات طويلة عاد الرجل ليرى الصياد على حاله دون أن يجد في جواره أي سمكة. فسأله، بعد كل هذا الوقت ألم تصطد سمكة واحدة؟! غير أن الصياد الخائب اهتدى إلى مخرج من هذه الخيبة، فأجاب بكبرياء: لست هنا لصيد السمك، بل لصيد الحيتان. الأهداف الكبيرة لا تخفي الفشل فحسب، بل أيضاً تضفي قيمة على الفاشلين.

وعلى اعتبار أن الأهداف كبيرة وأن تحقيقها يحتاج إلى زمن غير منظور، فضلاً عن أن تحقيقها غير قابل للقياس، فإن فكرة الطليعة تحمل في ذاتها، وفق الآلية التي ذكرناها، جنين الاستبداد «التقدمي» المُخوّل بحمل سيف الأمة في وجه كل من يعترض أو يخالف، بوصفه عميلاً لصالح أعداء الأمة أو جاهلاً يعرقل المسيرة … إلخ. 

تكبير الأهداف وتوسيعها سوف ينتهي تلقائياً إلى تهميش الناس لصالح نخبة ما، ذلك أن الناس «قصيرو نظر» لا يرون إلا مصالحهم المباشرة، في حين ترى النخبة مصلحة الأمة في الوحدة العربية وفي «التقدم والاشتراكية»، وفي الديموقراطية أيضاً، هذا المفهوم القابل، كغيره من المفاهيم، إلى أن يتحول إلى أداة في يد «طليعة» ما، لقطع الطريق على الديموقراطية. تبدية الأهداف الكبيرة غير المنظورة وغير القابلة للقياس، هو الباب الذي يدخل منه المستبدون كي ينتهي الأمر إلى خسارة الأهداف الكبيرة والصغيرة معاً. بعد تجربتنا الطويلة والمريرة مع الأهداف الكبرى ومع النخب المنسوبة إليها، يمكننا القول، على غرار مثل إنكليزي شهير، لنهتم بالأهداف الصغيرة، وسوف تهتم الأهداف الكبيرة بنفسها. 

قصف على جبهة فارغة

في «سؤال المصير»، نقرأ الكثير من النقد المحق لتيار ثقافي يعيد سبب تأخرنا إلى «خصائص ذاتية متعلقة بطبيعة الدين أو العصبيات الطائفية أو القبلية، وإلى مقاومتها الحداثة وقيمها»، ويرى الكاتب أن هذا التيار «جعل المشكلات الواقعية والمادية التي يطرحها توطين الحداثة في المجتمعات العربية خارج نطاق الرؤية، أو بالأحرى من دون اهتمام» ص8. لكن مثل هذا التيار، الموجود لا شك، كغيره من التيارات، ليس له في ثقافتنا الثقل والتأثير الذي يتطلب من الكاتب كل هذه المساحة والجهد النقدي الذي يبدو، والحال هذه، شبيهاً بقصف على جبهة شبه فارغة، ويوحي أن مشكلتنا في الداخل هي مع هذا التيار، أو أنه العقبة في سبيل تقدمنا.

هذا فضلاً عن أن الكاتب، في تشخصيه لتخلفنا، يعود، في الواقع، إلى ما يشبه قول التيار الذي ينتقده. ففي حين يعمل التيار المذكور على لوم الشعب (الدين والعصبيات والجهل … إلخ)، يُسهب الكاتب في لوم النخب التي لم تفهم مجتمعاتها، و«هجرت السياسة العملية وعزلت نفسها وابتعدت عن هموم الناس ومشاكلهم اليومية والمصيرية أيضاً» ص170، وعادَت الدين و«تواطأت مع السلطات المستبدة، وفي أحسن الأحوال انسحبت من المواجهة وانكفأت إلى ما يشبه الأديرة الثقافية واحترفت صناعة القضايا الزائفة» ص178. 

وكما يرى غليون أن التيار المنقود ينظر إلى الشعب بتعالٍ، كذلك يمكن للقارئ تلمس موقف حاد من طرف غليونيبدو ذلك في مواقع عدة، منها مثلاً في كتاب «بيان من أجل الديموقراطية» حين يقول غليون، بقطعية وشمولية، إن اتهام الجماهير بأنها غارقة في الجهل العميق «هي النظرية السائدة اليوم كبديهة لدى كل المثقفين العرب، بمن فيهم الأكثر استنارة». تجاه النخب العربية التي يرى أن المستشرقين لعبوا بعقلها حين حرفوا النقاش عن جوهره السياسي وركزوا على الدين، فحرفت هذه النخب «نظر المجتمعات عن الواقع الأهم والأبرز الذي أحدث قطيعة في تاريخ الشعوب والمجتمعات: الظاهرة الاستعمارية وما نجم عنها من بنى اقتصادية وسياسية واجتماعية وإيديولوجية جديدة» ص152. ولكن لماذا تكون النخب عندنا بهذه الهشاشة والتأثرية؟ ولماذا تسود النخب «التابعة» للغرب ولا تسود النخبة التي تحمل وعياً مشابهاً لوعي كاتبنا؟ وهل مشكلتنا في النخب أم أن مشكلة النخب هي مجرد تعبير عن مشكلة في الواقع؟ أو بكلام آخر، هل إذا صلحت النخب يصلح الواقع؟ ولماذا خلال قرنين من الزمن لم تصلح النخب أو لم تسُد سوى النخب «غير الصالحة»؟ 

الحق أن مفهوم النخبة والنخب رغم مركزيته في الكتاب (يرد ذكر هذه المفردة في الكتاب 239 مرة)، ضعيف التحديد ومختلط. الأمر الذي يجعل الكثير من أفكار الكتاب غائمة. في بعض الفقرات يكون المقصود هو السلطات الحاكمة، «النخب التي سيطرت ولا تزال على السلطة وأدارت عمليات التنمية وبالأحرى إعاقة التنمية» ص12. وفي فقرات أخرى يتكلم عن تواطؤ النخب مع السلطات الحاكمة، حين يحاول نقد «الإيديولوجيا التي سيطرت على النخبة الاجتماعية وعملت على فصلها عن شعوبها، ودفعت بالكثير منها إلى التواطؤ مع الأنظمة الاستبدادية القائمة في نصف القرن الماضي» ص19. يحاول كاتبنا توضيح ما يقصد بالنخب، فيقول إنهم أصحاب النفوذ، بمن في ذلك وجهاء الأحياء، أو هم أهل الحل والعقد.الدقيقة 50 من المقابلة المذكورة من قبل. واضح أن هذا التحديد خال من البعد السياسي. والحال إن نجاح نخبة في أن تمتلك ما يجعلها «أهل الحل والعقد»، ينطوي بطبيعة الحال على تهميش نخبة أخرى ذات مصالح متعارضة مع مصالح النخبة الأولى. لذلك حين يحمّل الكتابُ النخبَ مسؤولية التخلف، لأنها لم تستفد من الموارد، ولم تضع خططاً سياسية ولم تبنِ مؤسسات للعلم … إلخ، يبدو وكأن النخب المذكورة متحررة من المصالح، وأنها مجرد نخب «تقنية» تُحسن أو تُسيء التخطيط والإدارة. في حين كان كاتبنا قد ربط التخلف بطبقة كمبرادورية محلية وبتحالف النخب المحلية مع الدول المسيطرة. 

ينسجم هذا «البياض السياسي» المتعلق بمفهوم النخب، مع حرص غليون على تعريف نفسه كمثقف انساني بعيداً عن مفهوم المثقف العضوي ذي الحمولات الأيديولوجية والطبقية. يبدو لنا أن في الكتاب خيط فكري متسق يجمع بين الحديث عن نهضة عربية (صراع العرب من أجل السيادة) وعودة العرب إلى التاريخ، مع تحميل مسؤولية التخلف للنخب (غير المحددة بوضوح) وخياراتها، مع تزكية المثقف «غير العضوي»، الذي يُفهم على أنه «مثقف الأمة» بوصفها ذاتاً تسعى إلى تحقيق ذاتها.يمتدح الكاتب في ص 176 من «سؤال المصير» دور المثقف التغييري أو «المثقف العضوي» الذي لا يمكن كفاح طبقة أن يستقيم دون مساهمته. وفي المقابلة الطويلة التي أشرنا إليه، ينفي عن نفسه صفة المثقف العضوي لصالح المثقف الإنساني. الحق أن غليون يسعى إلى التغيير، ولكن ذات التغيير التي يقصدها هنا، هي الأمة، لذلك قد يصح، في هذا السياق، وصف «مثقف الأمة» أكثر من وصف «مثقف إنساني».

ذوات مختلفة يجمعها الفشل

يصعب على القارئ أيضاً تحديد الذات التي كثيراً ما يشير إليها غليون في كتاباته. في بيان من أجل الديموقراطية تكون الذات هي طبقة برجوازية تكوّنت في سياق الاستعمار وباتت مصالحها مرتبطة بالمركز بحيث باتت حرية هذه الطبقة تعادل استعمار الشعب. أي إن انتصار هذه الطبقة يعادل هزيمة للأمة.

في «اغتيال العقل» تكون الذات هي «الجماعة العربية»، أو هي «المدنية العربية» التي تعيش أزمة تاريخية توجب علينا «أن نخرج من أرضية النزاع السياسي الظرفي القائم اليوم بين المدافعين عن النظام القومي أو الواقفين ضده، وأن نذهب إلى ما بعد الإشكاليات السطحية التي يثيرها مثل: هل الفكرة القومية أفضل أم الفكرة الإسلامية أم الماركسية … إلخ، لندرك ما يكمن وراء الفكرة القومية والإسلامية والماركسية ذاتها. أي أن نذهب إلى المعركة الأساسية بين المدنية الغربية والمدنية العربية».برهان غليون. اغتيال العقل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء – المغرب. الطبعة الرابعة. 2006.ص13 السؤال هو هل توجد اليوم مدنية عربية كي تدخل في صراع أو في معركة مع المدنية الغربية، بشكل يحيل الصراعات السياسية داخل الأمة إلى «إشكاليات سطحية»؟ وأين من هذه الإشكالات «الطبقة الرأسمالية العربية المرتبطة جوهرياً وتاريخياً بالغرب والنظام السائد ولن تكون دون هذا الارتباط»، والتي تشكل «الركيزة الأساسية للاستعمار الغربي»؟

وفي كتابه «عطب الذات»، الذي صدر قبل أربع سنوات من كتاب «سؤال المصير»، تصبح الذات هي أحزاب وجماعات سياسية أو حتى أفراد ومثقفون مفلسون و«مخيبون للأمل». الذات التي يلومها غليون هي الذات المغلوبة، الذات التي كان يفترض بها قيادة المجتمع إلى الحداثة بما تنطوي عليه من ثقافة وعلم ونظام حكم، ولكنها فشلت لأنها معطوبة، ويكمن جزء كبير من عطبها في أنها تتبنى إيديولوجيا مُصنّعة في المراكز المُسيطرة التي «تتحكم بعوامل الحداثة المادية والتقنية والعلمية وصناعة الإيديولوجيا أيضاً لهذه المجتمعات المتأخرة» (ص11).

أما الذوات التي تنتصر وتسيطر على المجتمع فهي ذوات «أخرى» تنسجم مع ما أغرق مجتمعاتنا في «الحداثة الرثة»، وهذه الذوات غير الحداثية تنتصر، لأن «الذات» التي يعنيها كاتبنا وينتمي إليها ويلومها، تفشل. 

خاتمة

وقف غليون في بداياته ضد تيار «اشتراكي» سائد يختزل الاشتراكية في إجراءات سلطوية، وانتصر للفكرة الديمقراطية التي تقول إن طريق التقدم، وإن كانت تفتحه النخبة، فإنه يمر عبر الشعب وليس من فوق الشعب. اليوم يسود تيار «ديموقراطي» يتعامل مع الديمقراطية كنموذج بسيط جاهز للتطبيق، ويجعلها، بذلك، مفهوماً فقيراً ومنزوع الدسم، ويحوّل هذا المفهوم إلى ما يشبه «الرقية» التي تشفي من كل العلل. هكذا يتحول الكثير من الأدب السياسي المعاصر إلى «مواعظ ديموقراطية» تتفادى الحاجز الصعب الذي يمثله السؤال: ولكن، كيف نصل إلى هذه الجنة المسماة ديمقراطية؟ ولماذا تنتكس التجارب «الديموقراطية» عندنا كما شاهدنا مثلاً في مصر ثم في تونس؟ ما هي الذات التي تريد الديموقراطية وتفشل، والذات التي لا تريدها وتنجح؟ ولماذا تفشل هذه وتنجح تلك؟ 

يبدو لنا أن غليون امتلك في شبابه قوة مواجهة تيار سائد هو «الاشتراكية»، واليوم يتجنب كاتبنا نقد «الديمقراطية» السائدة، ويختار طريقاً سهلاً هو مواجهة تيار يقول «إن سبب الفجوة الحضارية التي لا تكف عن التفاقم بين حال المجتمعات العربية عموماً وحال المجتمعات المتقدمة الحديثة يعود إلى مقاومة البنيات العربية القديمة للحداثة» (ص7). هذا تيار هزيل سواء كان في عدد أنصاره أو في قوة تأثيره في الواقع، وقد صبّ كاتبنا جام نقده عليه وكأنه هو أساس مشكلتنا. والحال إن أكثر ما يحتاج اليوم إلى النقد هو “تبسيطية” التيار الديموقراطي السائد، الذي تستند قوته إلى تفاؤل مريح، ولكنه كاذب، بقدرة «الديموقراطية» على كل شيء، الأمر الذي  يقود، كما قادت التجارب الاشتراكية والتقدمية، إلى خيبات ونكسات. 

ما ينبغي التشديد عليه، هو أن الديمقراطية التي تبنيها الأحزاب تبقى فارغة من المضمون الذي هو مشاركة الناس الفاعلة وحضورهم الكثيف في إدارة شؤونهم المباشرة من الأقرب إلى الأبعد، بأشكال مناسبة من النضال والتنظيم. ولكي يكون المسعى الديمقراطي مليئاً بالمحتوى، لا بد من نقد فكرة التفويض أو التمثيل، وإظهار حدودها، بقدر ما يعني التمثيل توكيل الأمر لنخبة «منتخبة» ما. لا ينبغي أن يكون التفويض أكثر من إجراء تقني يبقي المفوَّض تحت رقابة الناس الدائمة. تلح حاجتنا إلى مثل هذا النقد حين ننتبه إلى غياب الفرد الحر في مجتمعنا، الأمر الذي يشوّه التمثيل الديمقراطي ذاته. 

ليست السلطة، بحد ذاتها، هي الهدف وليست هي وسيلة الحل، الحل هو الحضور الدائم للناس ووقوفهم المباشر بجانب مصالحهم الحياتية اليومية، المادي منها والمعنوي، لحمايتها وتوسيعها أكثر وأكثر، عبر ابتكار سبل وأفكار وأشكال تنظيم مواتية.

نثر المصالح المباشرة القابلة للإدراك والقياس، وليس شعر الأهداف الكبرى، هو ما ينبغي أن يوجّه النضال وهو ما يمكن أن يبني ديمقراطية. هكذا ينعكس وزن الناس في السلطة بشكلٍ واعٍ وملموس، وهكذا يغلق الطريق على النخب التي تبيع الناس سمكاً في البحر، وتشتري الحاضر باسم مستقبل مشرق كاذب. على هذا السبيل يمكن بناء تجربة «ديمقراطية» مجدية، يمكن، من خلالها، أن نعود إلى التاريخ.