ليس قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل، المعروف باسم أبو خولة، شخصيةً ذات سمعةٍ طيبة في أرياف دير الزور التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعمٍ من التحالف الدولي. فقد دأب الرجل طوال سنوات نفوذه على التجبّر وإهانة الوجاهات الاجتماعية والعشائرية في المنطقة والتهجّم عليها، وعلى النشاط في عمليات التهريب والتسلّط على أرزاق الناس، وصولاً إلى خطف عناصره لتجار من المنطقة وسلبهم أموالهم، علاوةً على اتهاماتٍ بالتحرش والاغتصاب طالته شخصياً. وبالفعل، طالب سكان المناطق التي ينشط فيها الخبيل بعزله مراراً، ولكن من دون استجابةٍ من جانب قوات سوريا الديمقراطية التي يتبع لها رسمياً. وعلى العكس من ذلك، كانت قيادات قسد تصمّ أذنيها عن الشكاوى من سلوكه وتصرفاته، كما لو كانت راضيةً بها طالما أنها تؤمّن من خلاله السيطرة على ريف دير الزور. أما قرار عزله مؤخراً، فدافعُه هو كشفُ تواصلاتٍ له، قالت قسد تارةً إنها مع الجانب الإيراني ونظام الأسد ونواف البشير الذي يتزعم ميليشيا الباقر على الضفة المقابلة من نهر الفرات، وتارةً مع الجيش الوطني وتركيا، وقد لا يكون كلا الأمرين مستبعداً. والحال أن قرار العزل جاء على خلفية سعي الخبيل إلى قرارٍ مستقلٍّ عن قسد، بحيث تكون له اليد الطولى في مناطق دير الزور شرقيّ نهر الفرات. لذا لم تعزل قسد الخبيل استجابةً لمطالب الناس أو نتيجة سلوكه القمعي تجاه أهالي المنطقة، كما ادّعت جزئياً، وإنما فقط لأنه صار يُشكّل خطراً على نفوذها ومصالحها.

ينتمي أحمد الخبيل إلى عشيرة البكيّر، وهي إحدى أكبر عشائر قبيلة العگيدات الأكثر عدداً في أرياف دير الزور التي تحكمها قسد، وينتمي الشطر الأكبر من مقاتلي مجلس دير الزور العسكري الذي كان يتزعمه الخبيل إلى هذه العشيرة، التي بالفعل يقاتل أفرادٌ منها ضد قسد حالياً انتصاراً للخبيل. إلا أن جميع البيانات والتصريحات والمقاطع المصورة القادمة من عشائر المناطق المتمردة حالياً على قسد تنفي كونها معنيةً بأحمد الخبيل ومصيره، وترى قرار عزله شأناً قسدياً داخلياً لا تقف عنده كثيراً، بل هو أقرب إلى مصلحتها باعتبار أن تركة الرجل جزءٌ من مطالبات هذه العشائر لقسد، بالإضافة إلى جملة مظالم تتعلق بالعدالة والأمن وتوزيع الثروة والتمثيل المتكافئ ومطالب الحكم المحلي وتأمين البنى التحتية.

لقد استغلت العشائر قضية الخبيل لتعلن عن تمردها على قسد ولم تكن تنتصر له على الإطلاق، إلا أن قسد في مواجهة هذا التمرد، وعوضاً عن البحث في الأسباب الكامنة وراء التوتر الحقيقي وتمرّد العشائر، راحت تتهمهم بالانتماء لداعش أو التبعية للنظام أو العمل بموجب أجنداتٍ إيرانية تريد العبث بالمنطقة. وهذا المنطق القسدي لن يحل المشكلة أو يخفّف من حدّة الغضب العربي تجاه القيادات الكردية الُممسكة بالسلطة في الجزيرة السورية، بل سيؤججهما. لا تستوي هذه التهم لأنّ المتمردين العشائريين ليسوا هم الذين يروحون ويغدون إلى قاعدة حميميم الروسية، وليسوا هم الذين يستضيفون مربعاتٍ أمنية للنظام السوري في مناطق سيطرتهم، ولا هم الذين سمحوا لحزب الله اللبناني وللحرس الثوري الإيراني بافتتاح مقراتٍ في عقر دارهم، ولا هم شركاء ميليشيا القاطرجي في تجارة النفط. بل على العكس، هم أكثر حماساً من القيادات الكردية لقتال النظام والميليشيات الإيرانية وطردها -على الأقل من القرى السبع التي تسيطر عليها شرقي النهر-. ولا تغيب شكاوى الأهالي من عدم اهتمام قسد الكافي بحمايتهم من غزوات تنظيم الدولة على بلداتهم وقراهم، وفرض عناصره ضريبة «الزكاة» على ملّاك الأراضي وأصحاب الأموال ضمن منطقةٍ يُفترض أنها تحت حماية ونفوذ قسد المباشر.

لقد انتصر حل قسد العسكري في دير الزور، وكان واضحاً منذ بداية التمرد أنه لا يمكن للقوات العشائرية التي تقاتل بمبدأ الفزعات ودون تنظيم عسكري وبأسلحة خفيفة ومتوسطة أن تنتصر، ولكن قسد خرجت منهزمةً على أية حال طالما أنها لجأت فوراً إلى تخوين مَن يفترض أنهم شركاؤها في «إخوّة الشعوب» واستعملت العنف ضدهم، لأن هذه العشائر لن تفوّت أي فرصة مستقبلية للثأر من قسد، وهي تعيش في جغرافيا مترامية الأطراف تتيح إقلاق الوجود القسدي واستهدافه في كل وقت. كذلك فإن هذه التصرفات تتيح مساحةً لتنامي شوفينية قومية ضد الكرد وبيئةً مؤاتية لعودة التنظيمات الجهادية للمنطقة، خصوصاً أن قسد كانت بهذا القدر من العنف والصلف في أول تحدٍّ داخلي جدي يواجه مشروعها «الديمقراطي».  

طوال الأعوام الماضية، كانت قوات سوريا الديمقراطية وذراعها السياسي المتمثل بمجلس سوريا الديمقراطية يجهدان في عقد ندوات ومؤتمرات حوارية في دول أوروبية عديدة، ويسعيان للتلاقي مع أحزاب وتيارات يسارية سورية وأجنبية، وهذا أمرٌ جيد، على أنهم أبقوا باب الحوار شبه موصد أمام سكان المناطق التي تسيطر عليها قواتهم، سواءً كانوا كرداً أم عرباً. الأَوْلى بالحوار هم الناس الذين تحكمهم قسد فعلياً، إذ من غير المفيد تجاهل وجودهم عبر إجراءات شكلية مثل وضع شخصيات غير ذات وزن على رأس ذراعها السياسية بوصفها ممثلةً للعرب، سيما أنها لا تتيح لهذه الشخصيات على أرض الواقع هامشاً للتحرك يتجاوز أن يكون الواحد منهم ناشطاً فيسبوكياً، هو نفسه يحتاج إلى «بطاقة وافد» حتى يعيش في الدوائر التي تدير منها قسد مناطق شرق وشمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها.

خلال المعارك الجارية حالياً، وفي الظهور الإعلامي الأول لمظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، لم يستخدم أي خطابٍ يطمئن سكان المناطق المتمردة بأن هناك مطالب محقّة ستسعى قواته إلى تلبيها، بل استغل هذا الظهور لكيل الاتهامات وتخوين المتمردين من سكان المنطقة، وتوعد شيخ قبيلة العگيدات بالمحاسبة. هذا منطقٌ ضد الحقيقة وضد إرادة الاستقرار، فهؤلاء المتمردون ليسوا دواعش ولا خونة كما تريد قيادة قوات سوريا الديمقراطية تصويرهم، ولكنهم أناس لهم مطالب محقّة لا بد من سماعها والعمل على تنفيذها. إن الحرص الواضح لقسد على إظهار أن لا مشاكل عربية كردية في الاقتتال الحاصل حالياً هي محاولة للتعمية على الحقيقة وكنس الغبار تحت الطاولة، إذ تسيطر قوات سوريا الديمقراطية منذ سنوات على مدن وقرى وبلداتٍ واسعة الامتداد في الرقة وريف حلب ودير الزور لا وجود كردياً فيها، ومن غير الممكن أن تضمن استقرار هذه المناطق دون القبول بتمثيل مُختلَف سكان هذه المناطق في صفوفها وبشكلٍ حقيقي يتجاوز ادعاءات التمثيل الحالية ويحد من نفوذ «الكوادر» المتسلطة والأجنبية عن المنطقة، وبما يتيح لهم المساهمة في إدارة مناطقهم بموجب «الإدارة الذاتية» التي تتبنّاها قسد في حديثها عن نفسها. فالواقع حالياً هو أن هذه القوات مُسيطرٌ عليها ويتسلط على قرارها أكراد معظمهم من خارج حدود سوريا، ومن شأن أية إدارة ذاتية تحترم نفسها أن تُتيح أكبر قدرٍ من الحكم المحلي اللا-مركزي وبمشاركة شخصياتٍ وقوى سياسية ومدنية من سكان المنطقة المحليين.

تفيد قراءة الأحداث الأخيرة أن لقوات سوريا الديمقراطية منهجاً في التعامل مع سكان هذه المناطق يبدو أنها لا تريد تغييره، وهو دعشنة أي معترض على سياستها. هذا يضيف إلى ماضي العلاقة بين الأهالي وقسد طبقةً أخرى من المظلومية، فلا يغيب عن ذاكرة سكان هذه المناطق الطريقة عديمة الإنسانية التي تعاملت بها قسد في مخيماتٍ أشرفت عليها لاستقبال العوائل الفارّة إبان المعارك مع تنظيم الدولة. كما يشعر الأهالي العرب اليوم بغياب العدالة عند مقارنة حجم الأموال التي تنفقها الإدارة الذاتية في الحسكة والقامشلي مع أحوال مناطقهم التي تغيب عنها أبرز مقومات الحياة وحيث يسري الفساد في جسد مؤسسات قسد الرسمية ومجالسها، رغم أن الثروة تتركّز فعلياً في هذه المناطق من دير الزور أكثر من غيرها بكثير.

قبل الأزمة الأخيرة وعلى مدى سنوات، ومن خلال قراءة عناوين المُعرّفات الرسمية لقوات سوريا الديمقراطية والإدارات الذاتية، نرى كيف أن الأخيرة كانت حريصةً على التعامل مع سكان هذه المنطقة على أنهم مجرد عشائر، دون أن تفسح المجال لأي نفوذٍ مدني وأهلي وحزبي يتجاوز السلطة العشائرية التي حاولت قسد العبث بها من خلال تقديم أشخاص وتأخير آخرين بمعزل عن إرادة عشائرهم. لا تريد قسد في هذه المناطق مجتمعاً مدنياً ومؤسساتٍ لا يمكن السيطرة عليها من خلال بضع شخصياتٍ عشائرية تدين لها بالولاء، كما لو أن المنطقة بالفعل مجرد عشائر، ولا يمكن لها أن تكون سوى ذلك ولا أن تنتج أجساماً سياسية ومدنية تتجاوز القبيلة وتراتبية العلاقة فيها.

تحكم قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور أغنى مناطق سوريا بالثروات وأكثرها افتقاراً للبنى التحتية ومقومات الحياة، ومن دون العدالة والأمن وعدالة التمثيل وتقديم الخدمات ومراعاة أولويات التنمية الحقيقية، لا يمكن لهذه المنطقة أن تعرف الاستقرار. إن أفضل ما يمكن أن يحدث لهذه المنطقة في المدى المنظور هو الحفاظ على حضور قوات سوريا الديمقراطية وعلى حماية التحالف الدولي، ولكن مع عدالة في التمثيل وتوزيع الثروة بشكلٍ يسمح للمنطقة بالاستقرار. وبدون ذلك، فإن السيناريو الممكن هو مزيد من التدخلات الإيرانية والأسدية وتغلغل المليشيات التابعة لهم عبر استغلال مظلومياتٍ مُحقة لسكان المنطقة وتغذيتها، أو ربما أن يعود تنظيم الدولة الذي ليس بعيداً عن هذه المنطقة على أية حال.