تُشير طبيعة الاحتجاجات الجديدة إلى بداية موجة ثالثة للثورة في سوريا. الأولى انطلقت عام 2011 بتأثير الانتفاضات التي اجتاحت البلدان العربية وانتقلت بشكل متسارع إلى خمس دول خلال شهرين فقط، والثانية هي الثورة المضادة التي بدأت عام 2013 مع استخدام النظام للسلاح الكيماوي، والتراجع الأميركي بعد اجتياز النظام لخط أوباما الأحمر، وهو ما تزامن على المستوى العربي مع انقلاب السيسي في مصر بدعم سعودي إماراتي مباشر وموافقة أميركية ودولية.
رسمت الثورة المضادة منذ العام 2013 نهاية كل المفاعيل الإيجابية للثورة الأولى وفقدان الأمل بأي تغيير سياسي ممكن، لا سيما مع ظهور داعش في العام ذاته وسيطرة الإسلاميين بالمجمل على وجه الثورة المحلي والعالمي، بالإضافة إلى المخاوف الدولية من مشروع إخواني يمتدّ من تونس إلى مصر وصولاً إلى تركيا، والأثر الذي قد يتركه مشروع كهذا على إسرائيل.
أما الثورة الثالثة فقد بدأت في 20 آب (أغسطس) من السويداء في نوع من تكرار الثورة الأولى، لكنه التكرار الحامل لاختلافه الذاتي والموضوعي رغم كل أنواع التشابه مع الأصل. ومثلما كانت الثورة المضادة هي نتيجة انغلاق أفق الثورة السلمية والتغيير السياسي على المستوى المحلي، وانغلاق أفق الربيع العربي ذاته على المستوى الإقليمي، فإن الثورة الجديدة هي نتيجة لانغلاق أفق الثورة المضادة على المستوى المحلي والعربي والدولي.
سلسلة انغلاقات الثورة المضادة يمكن تبيانها على الشكل التالي:
على الصعيد الدولي، راهنت القوى الدولية الصديقة وغير الصديقة منذ العام 2013 على إعادة تمكين الأنظمة القديمة بصيغة جديدة، فأميركا الأوبامية لم يَعُد يعنيها من كل المنطقة سوى مصالح إسرائيل التي توافقت مع وعود أوباما الانتخابية باستكمال سحب قواته من العراق وأفغانستان بعد حربين فاشلتين، ومصلحة إسرائيل اقتضت بقاءَ الأسد وإجراء الصفقة الكيماوية وإضعاف حزب الله وإيران المتورطَين في الحرب السورية، وقطعَ الطريق على المشروع الإخواني الممتد من تونس إلى تركيا. وأوروبا عادت للتأقلم مع الإصدارات الجديدة للأنظمة العسكرية القديمة، بعد الفراغ والفوضى التي لاقتها دول المنطقة نتيجة التخلي الأميركي والصعود الروسي، وبعد موجات اللاجئين والإرهاب التي دفعت أوروبا ثمناً كبيراً لها، ليصبح أكثر ما يعنيها هو استقرار المنطقة بغض النظر عمَّن يحكمها. أما دول الاحتلال المباشر مثل إيران وروسيا فقد دفعتا الغالي والنفيس لإبقاء النظام السوري بوصفه الخادم الأكثر مُناسَبة لسياساتها من جهة، وعلى اعتبار أن بقاءه هو رمز لانتصار الأنظمة السلطوية التي تحتل روسيا موقعاً ريادياً في قيادتها عالمياً، في الوقت الذي تُعتبَرُ فيه إيران خط دفاع خلفي للنموذج السلطوي على المستوى الإقليمي من جهة أخرى.
باختصار، كل ذلك تغير وانسدّت آفاقه الاستراتيجية، بل بات واضحاً للجميع اليوم أن الرهانات الموضوعة على انتصار الثورة المضادة فشلت ووصلت إلى منتهاها، فلا السماح الأميركي بالتمدد الإقليمي لإيران أنتج اتفاقاً نووياً قابلاً للحياة، ولا الصمت عن ارتكابات الأسد ساهم في حل المشكلة الدولية التي تخلقها «سوريا الكبتاغون»، أو السوريون المهجرون في دول الجوار والعالم، بل إن النتائج جاءت بعكس التوقعات، فالمشكلة الإيرانية باتت مزدوجة: «مشروع إقليمي زائد مشروع نووي»، وعقدةُ الربط الأساسية في تلك المشكلة كلّها هي بقاء الأسد، فإبقاؤه بالقوة لم يحل مشكلة «الأصدقاء» ولا «الأعداء»، بل بالأحرى زادها عمقاً وتعقيداً.
على الصعيد العربي، لم تكن إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية إلا محاولة لتثبيت مُخرَجات الثورة المضادة، ورغبة من الأنظمة العربية في إعلان انتصارها النهائي عبر طيّ صفحة الثورات إلى غير رجعة، لكن التوازن الذي أرادته تلك الأنظمة كان مستحيلاً بذاته، فسحب النظام السوري من اليد الإيرانية لم يكن له أن ينجح بثمن زهيد مثل إعادته للجامعة، لأن انتصار الأسد الذي أراد العرب الاستثمار فيه لم يأت بجهودهم، بل بجهود الإيرانيين أولاً، وتعويمه دون حتى شُكرِه أو إعلانه بطلاً حقيقياً لطاقم الجامعة لم يكن كافياً ولو بالحد الأدنى له أو لحُماته. بكلام آخر، لم يكن ممكناً في الواقع انتصار الثورة المضادة على المستوى العربي دون انتصار إيران أيضاً، لكن انتصار إيران ذاته غير قابل للتحقق إلا بسيطرتها على النظام السوري الذي يريد العرب سحبه منها. هذه معادلةٌ مستحيلةُ الحلّ، وتناقضٌ لا يمكن تجاوزه، فأكثر ما يُقلق العرب (الخليج) ومعهم إسرائيل وفوقهم أميركا هو انتصار إيران الإقليمي الذي يشكّل الأسد عموده الفقري، فماذا لو كان فوقه مشروع نووي!
على الصعيد المحلي، خسرت الليرة السورية خلال ثلاثة أشهر منذ التطبيع العربي خمسين بالمئة من قيمتها. ثم خرج الأسد في مقابلة تلفزيونية مُصوَّرة لا ليعلن انتصاره وصواب ما فعله بالسوريين فحسب، بل ليخبرهم أن نهجه الكارثي «باقٍ ويتمدد»، وذلك معناه أن لا أمل أمامهم في أي حلّ سياسي، لا مع الأتراك ولا مع مبادرة الخطوة مقابل خطوة العربية والدولية، وبالتالي لا إخراج لمعتقلين ولا عودة للاجئين ولا إيقاف للكبتاغون ولا تطبيق للقرار السياسي 2254، وبالتالي فإن خط انسحاقهم في الفقر المدقع ماض بلا نهاية، وانتظارهم لأي انفراج اقتصادي أو سياسي مستقبلي ليس إلا انتظاراً للمهدي ذاته، أو للعبقري الصغير حافظ الابن.
لذلك كله، كانت قومة السويداء تعبيراً فعلياً عن حال «الأكثرية السورية»، أي التسعين في المئة الذين يعيشون تحت خط الفقر، وبهذا المعنى هي ثورة كل السوريين الذين لم يبقى لديهم أمل بإيقاف الإنهيار الاقتصادي ولا بالتغيير السياسي. وهي ثورة أغلبية بغض النظر عمّن استطاع المشاركة فيها أو تأخّرَ عنها، لأن شروطها الموضوعية موجودة في الواقع ذاته وباتت أقوى من أن تُقاوَم بالوعود والأوهام، وحضورها في الواقع اليومي لكل السوريين بات أكبر من أن يُعالَج.
ثورة السويداء باتت ثورة شعبية ولا يمكن الرجعة عنها، لكن نجاح أو فشل الثورات هو دائماً نسبي كما علمتنا التجربة والتاريخ، وبالحد الأدنى لا تنجح أي ثورة إن لم تتوافق موضوعياً مع توجّه المجتمع الدولي (بالأحرى توجّه الأقوى في المجتمع الدولي). وهذا ما يُعَدّ عنصراً جوهرياً في إمكانية نجاح الثورة الجديدة في قلب المعادلة السياسية، فإذا عدنا إلى ثورة 2011 سنجد أن انغلاقها عام 2013 كان نتيجة انفكاك توافقها الموضوعي مع المجتمع الدولي، فبعد سيطرة الإخوان في مصر وبداية تشكُّل ملامح المشروع الإخواني على مستوى بلدان الربيع العربي، لم تَعُد تلك الثورات مغرية أو مفيدة للقوى الغربية الداعمة نظرياً للثورات، وهذا بحد ذاته تَحوَّلَ إلى قوة بيد أصدقاء النظام وأعداء الربيع العربي وقادة الثورة المضادة في الداخل والخارج.
أما الثورة الجديدة فهي تتوافق أو تتساوق موضوعياً مع حال وتوجّه القوى الدولية الأكثر فعلاً وقدرة، فعلى المستوى الدولي تتوافق مع أميركا والغرب في إضعاف نفوذ روسيا، (ذلك النفوذ الذي كان قد سلّمَ أوباما قياده في المنطقة إلى روسيا وإيران، لتحقيق الاتفاق النووي من جهة وتسهيل انسحاب أميركا من المنطقة متوجهة نحو الصين وترك روسيا في أوحال الشرق الأوسط من جهة أخرى)، وعلى المستوى الإقليمي تتوافق مع مصلحة دول الخليج وتركيا وإسرائيل ولبنان (الدولة وليس الحزب) والأردن في إضعاف إيران من جهة، والتخلُّص من أزمة اللاجئين والكبتاغون وغيرها من الأزمات المتفاقمة بسبب الاستعصاء السوري الذي يرعاه بقاء الأسد.
هذا التوافق الموضوعي للثورة الجديدة مع التوجّه الدولي قد ينتهي فعلياً بتقسيم سوريا، المقسَّمة حالياً إلى ثلاث مناطق وثلاث سلطات، بإضافة قسم رابع إضافي، وذلك قد يحدث إذا كانت ردّة فعل الأسد ومن خلفه الإيرانيين وروسيا عنفيّة محضة؛ ولاسيما إذا لم تَثُر المناطق الأكثر خضوعاً لقبضة النظام المحكمة في الساحل ودمشق. لكنها قد تنتهي أيضاً بإنتاج ديمقراطية توافقية على مستوى سوريا، وذلك إذا ثار المجتمع المحلي في مناطق السيطرة المُحكمة. في كلا الحالتين، لن تترك الثورة الجديدة مكاناً للأسد على المدى المتوسط، لأن الخيار الأول سيقضم من سلطة الأسد الجنوب كله والشرق (بالإضافة إلى الشمال المقضوم مسبقاً)، وسيجعل من شرعيته الهشّة أصلاً أكثر هشاشة من أن يحملها نظامه أو شعبه أو داعموه، والخيار الثاني في «التوافق الديمقراطي» عبر الثورة الشاملة، سيترك حلفاء الأسد أمام إما القيام بضربة استباقية عبر إقصاء الأسد لملاقاة الحراك الشعبي والاستفادة منه، أو انعدام القدرة على حماية الأسد من طائفته ذاتها التي تعاني ما يعانيه باقي السوريين.
لا بدّ إذاً أن نتطلّع للممكنات الواقعية للحراك الجديد ورؤية صورته المُكثَّفة لسوريا والمصغَّرة عنها، وذلك لكي نستطيع الخروج بأفضل نتيجة سياسية ممكنة ضمن كل احتمال قد يمضي إليه الواقع. وبكلام آخر، لن ينفعنا التركيز فقط على ما يجب على الحراك فعله وحشوه بالتوصيات والمطالبات، بل التركيز أيضاً على ردة فعله المُمكنة في ظل ما قد يفعله النظام. فالخيارات الممكنة في حال إهمال النظام للحراك وعدم اللجوء للحل العسكري ستختلف جذرياً في حال اختياره للمواجهة بالعنف، وإن لم نُحضِّر ونفكر في الخيارات السيئة قبل الخيارات الجيدة سيتكرر معنا ما حصل عام 2011، أي سنصبح عبيداً للضرورات التي يقودنا إليها الواقع وتقودنا إليها الدول، ونتحول إلى وحوش مثل الوحوش التي تفترسنا، ونفقد كل قدرة على التحكّم بمصيرنا.
صحيح أن قوّة اللاعنف تتفوق سياسياً وأخلاقياً ونفعياً وإنسانياً على قوّة العنف، لكن إذا قلنا إن على الحراك أن يبقى سلمياً تحت أي ظرف كان، ستنقلنا تلك الوصيّة إلى خارج الواقع الذي لا رجعة عن تغييره، ولن يكون لها معنى إلّا في حال لم يعلن النظام حربه على السويداء، لكنها ستفقد كل معنى وكل ارتباط بالواقع إن بادر النظام إلى العنف، لأن الناس في تلك الحالة ستتجه للمقاومة المسلحة بغض النظر عمّا يجب أن يكون، وبغض النظر عن أي قيمة عُليا من أي نوع كانت. ومن طبيعة العنف أن يُحيّدَ النساء والنخب المثقفة والمظاهر المدنيّة ويعلي من شأن الرجال المقاتلين والأبطال والحُماة وقادة الفصائل، وذلك لأنه يشدّ العصب الجماعاتي ليصبح الديني هو السياسي، والعنفي هو الأخلاقي، والوطني هو الطائفي.
ما يُعَدُّ جوهرياً وإيجابياً وفي صالح الثورة الجديدة على المستوى الوطني، هو أن القصة الصانعة لمخيال الدروز أكثر من كل قصصهم الدينية، هي قصة أو سردية صناعتهم للوطنية السورية عام 1925، وهي سردية يشترك بها؛ ويتنافس عليها، الموالي والمعارض على حد سواء، والقصّة كما يخبرنا المؤرخ يوفال نوح حراري هي أكبر مُوحِّد للجماعات البشرية عبر التاريخ، ولكنها أيضاً أكبر صنّاع السياسة الواقعية، كون السياسة تُبنى على اللاوعي الجمعي المشترك. اللاوعي الجمعي عند الدروز مبني بالكامل على سردية بطولاتهم في الثورة السورية الكبرى ومشاركتهم التأسيسية في وحدة الكيان السوري ونشوء الدولة السورية، فلا تَعارُضَ أو تَنازُعَ في اللاوعي الدرزي المشترك بين الطائفي والوطني مثل ذلك التعارض الذي قد يوجد في اللاوعي الكردي مثلاً بين الوطنية السورية والقومية الكردستانية، أو التعارض الذي يحصل أحياناً في اللاوعي السنّي بين الأمة والدولة، أو ولاية الفقيه والدولة الوطنية لدى الشيعة. ولذلك لا طموح ولا حلم في المخيال الدرزي بدولة مستقلة أو أمة قومية خارج الدولة الوطنية التي شاركوا في صناعتها وصنعت مخيالهم الجمعي، ولا يمكن للدروز (كجماعة لا كأفراد) إلا أن يكونوا وطنيين حتى عندما يكونون طائفيين، والمسافة الحيادية التي أخذوها سابقاً (أيضاً كجماعة لا كأفراد) من الثورة ومن النظام، لم تكن إلا نتيجة خروج الصراع السوري كله عن إطاره الوطني.
لذلك كله لا بدَّ من رؤية موازين القوى الحاكمة للثورة الجديدة والكامنة في بنيتها الداخلية، وبناء استراتيجيات مدنية قوية لا تقوم فقط على تبرير التُّهم الطائفية المعروفة أو إثبات حُسن النيّة للنظام أو لغيره، ولا سيما أن عناصر القوة الموجودة في قَومة السويداء تنبني على ملاقاتها ومحاكاتها لرغبة جميع السوريين وفي كل المناطق وتحت كل الاحتلالات، وملاقاتها من جهة أخرى للتوجه العربي والدولي الذي لم يعد فيه مساحة للجثّة السياسية الحاكمة في سوريا.