أعادت موجة الاحتجاجات الجديدة في سوريا إحياء الأمل بالتغيير السياسي في البلد، كما أنها فتحت الأبواب على نقاشات واسعة بشأن ثورة 2011 ورموزها وشعاراتها وأساليبها، وبشأن المسار الذي قاد البلد إلى ما هو فيه اليوم من استعصاء وخراب. ولكن قبل ذلك؛ ما هي الاحتمالات الممكنة نظرياً للوصول إلى التغيير المأمول في سوريا؟
الاحتمال الأول هو احتجاجات سلمية وإضرابات في مدن سوريا الكبرى، ومن بينها العاصمة دمشق بالضرورة، تُعطّل البلد كلياً وتُجبر النظام على تقديم تنازلات وتغيير نفسه بنفسه، وقد فشل هذا الخيار في العام 2011 وليس هناك بوادر جديّة تشير إلى إمكانية حدوثه ونجاحه في المدى المنظور.
الاحتمال الثاني هو أن يقبل النظام بالسير في عملية انتقالية لوقف التدهور الرهيب في أوضاع البلد، ولدينا مسارٌ معروفٌ لهذه العملية تم تحديده في قرارات أممية، وتعهداتٌ دوليةٌ برفع العقوبات والبدء بإعادة الإعمار بعد بدء هذا المسار، غير أنه لم يصدر عن النظام ما يوحي باحتمال سيره على هذا الطريق، بل يصدر عن بشار الأسد وأعوانه ما يوحي بتفضيلهم حروباً لا تنتهي على ذلك.
الاحتمال الثالث هو تَغيّرُ الأوضاع الإقليمية والدولية بما يفضي إلى التخلص من بشار الأسد، على يد قوى غربية أو على يد أحد حلفائه في إطار ترتيبات جديدة في الإقليم أو العالم. هذا الاحتمال يبقى وارداً دوماً، إلّا أنه لا معلومات موثوقة عن نضوج ظروفه الآن، ولا سيطرة للسوريين عليه، وسيقع عليهم التعامل مع نتائجه دون المشاركة في تقرير كيفية وتوقيت حدوثه.
ويبدو أنه ما يزال يدور في بال البعض أن ثمة احتمالاً رابعاً ممكناً هو وصول مسلحين معارضين إلى قلب دمشق وإسقاط النظام بالقوة، ولكن هذا لم يعد احتمالاً وارداً اليوم حتى على المستوى النظري، ذلك أن عودته إلى دائرة الاحتمالات تحتاج معجزة هي انسحاب الدول الأجنبية، وترك المسلحين السوريين يتقاتلون دون أي دعم خارجي مباشر لأي طرف.
لدينا احتمالات ثلاثة إذن على المستوى النظري، وبينما يتجدد الحراك الاحتجاجي في سوريا اليوم، ويبلغ ذروة كبرى في احتجاجات السويداء الشجاعة التي تُذكِّرُ بأيام الثورة السلمية وساحاتها في 2011، فإنه لا بوادر تشير إلى قرب حدوث أيّ من هذه الاحتمالات، لكن ثمة في هذه الاحتجاجات ما يمكن الرهان عليه لفتح الأبواب على تحقق واحد منها، أو فتح الواقع على احتمالات أخرى لا نعرفها اليوم.
ثمة عنصرٌ قد يطرأ على المعادلة فيغيّرُ من مسار الأحداث، وهو تَحوُّلٌ واسعٌ في صفوف أنصار النظام، وعلى وجه الخصوص المنحدرين من الطائفة العلوية، بما يُفضي إلى تخلّي غالبيتهم عن دعم النظام وانخراط بعضهم في النضال ضدّه، ويمهد لبدء عملية التغيير سواء عبر تصدع نواة النظام الصلبة أو عزلها كلياً عن المجتمع. يحتاج هذا نَفَسَاً طويلاً وصَبوراً، ولكن بدونه فإنه لا مجال للتغيير السياسي في سوريا إلّا بتدخل دولي قد لا يحدث أبداً.
يحتاج حدوث هذا التحوّل ظروفاً موضوعية عديدة، ليس من بينها دعوة الناس المُتعجّلة لمواجهة الموت في الشوارع، ولا تلك التصورات التي يأمل أصحابها رحيلاً سريعاً للنظام بضربة خاطفة. بعض هذه الظروف يوفرّه النظام نفسه بوحشيته وفساده وفشله في تأمين الحد الأدنى من الكرامة والخبز للناس، وبعضها الآخر يحتاج عملاً وطنياً منظماً وظروفاً دولية وإقليمية مواتية، لكنه يحتاج أيضاً جهوداً من معارضي النظام الحاليين وجمهور ثورة 2011 داخل سوريا وخارجها، وعلى رأس هذه الجهود يقع التخلي عن خطاب «أين كنتم حين كنا؟»، والكفّ عن تعيير المحتجين بجوعهم عبر مقارنات فارغة بين «ثورة جوع» و«ثورة كرامة»، والقبول بأن محاسبة المجرمين من سائر الأطراف تأتي بعد الانتقال السياسي وفي سياق برنامج عدالة انتقالية، وبأن رواية الثوار عن ثورتهم لا يمكن أن تَحوز إجماعاً وطنياً في أي وقت، وبأن راياتهم وشعاراتهم لا يمكن أن تُمثّل جميع السوريين ولا حتى جميع السوريين الراغبين في الخلاص من النظام، وقبل كل هذا التخلي كلياً عن خطاب الجهادية الإسلامية وعن الرهان على فصائلها ومعاركها وسلاحها.
ثمة مؤيدون للنظام يغيرون مواقفهم، وثمة أجيالٌ جديدة من صبايا وشباب كانوا أطفالاً في العام 2011، وثمة قطاعات واسعة كانت على الحياد وقد تجد نفسها معنية اليوم بالانخراط في كفاح من أجل التغيير، ولن ينخرط أغلب هؤلاء في النضال ضد النظام تحت العلم السوري الأخضر. والحال هذه، يحتاج ثوار 2011 أن ينظروا إلى أنفسهم كجزء من حركة التغيير في سوريا، وليس كممثلين عنها ولا كآباء روحيين لها.
لا يعني هذا أن نتخلّى عن حكايتنا ورموزنا وتُراثنا الكفاحي، بل يعني أن نتواضع ونعترف بالهزائم والتقديرات الخاطئة ومرور الزمن وتحولات الواقع، ويعني أن نتذكر أن الهدف ليس انتصار روايتنا عن أنفسنا بل الخلاص من الأسديين وطيّ صفحتهم الدامية الطويلة، ثم السير على طريق الحياة الكريمة والعدالة ومحاسبة مجرمي الحرب وبناء بلد صالح للعيش.
تحضر روح 2011 وشعاراتها بوضوح لا تخطئه عين في الموجة الاحتجاجية الراهنة، لكن ما لا ينبغى أن يحضر بحال هو ما فشلَ من أساليبها وخطابها ورهاناتها، وما لا ينبغي أن يحضر بحال هو استمرار تقسيم السوريين على أساس موقفهم منها. نحتاج اليوم أن نتقدّم خطوات نحو إنجاز التغيير في بلدنا، وسيكون لدينا بعدها ما يكفي من الوقت للدفاع عن حكايتنا ورموزها، ولرواية قصتنا داخل سوريا نفسها على مسامع سوريين لا يعرفونها، وعلى مسامع سوريين آخرين يعرفونها وينكرونها دون أن يكونوا قادرين على إسكاتنا بسلاحهم وأجهزتهم الأمنية.