رحل الكاتب والمفكر السوري جورج طرابيشي عام 2016، تاركاً إرثاً قلَّ نظيره في المسيرة الفكرية لكاتب عربي، تأليفاً وترجمةً ونقداً. نعرف الكثير عن طرابيشي كاتباً وحاملاً لمشروعٍ ثقافي كبير، لكننا لا نعرف إلا النزر اليسير عن مسار حياته وتحولاته، من خلال القليل الذي كتبه هو نفسه، وتحديداً في مقاله الأخير ست محطات في حياتي.

بعد أربعة أعوام من رحيله، وتحديداً في صيف عام 2020، صدر عن «دار مدارك» كتاب أيامي مع جورج طرابيشي، اللحظة الآتية لهنرييت عبودي، زوجته ورفيقة دربه، ويتضمَّن ما يُفترض أنها السيرة الفكرية والشخصية للراحل بقلم الكاتبة والروائية السورية عبودي، إلى جانب حوار مطوّل معها أجراه ناشر الكتاب، تركي الدخيل، ومقال بقلم الكاتب الليبي محمد عبد المطلب الهوني، ويُختم الكتاب بالمقال آنف الذكر حول المحطات الست.

البدايات: جورج البعثي

تتحدث عبودي في الكتاب عن بداية العلاقة بينها وبين طرابيشي من خلال تبادل الكتب، وتطوُّر العلاقة بينهما وصولاً إلى الحب فالزواج (1963)، بالتزامن مع انخراط جورج، البعثي والقومي العربي في حينه، في العمل الصحفي في صحيفة البعث (1957) برفقة جمال الأتاسي وصلاح البيطار وميشيل عفلق وعبد الكريم زهور وسامي الدروبي وجلال فاروق الشريف. استُدعيَ جورج إلى دمشق بعد انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 (ثورة 8 آذار بحسب الكاتبة)، للمساهمة في حقل الإعلام، حيث صار عضواً في هيئة تحرير جريدة الثورة التي كانت قيد التأسيس، ثم مديراً للبرامج في إذاعة دمشق.

كانت خيبة الأمل كبيرة بالنسبة له مع اتضاح مسار حزب البعث بعد وصوله إلى السلطة: «عشت أترقّبُ اليوم الذي سيستلم الحزبُ فيه زمام السلطة، وها قد أتينا إلى الحكم، فماذا فعلنا حتى الآن؟! أين العدالة الاجتماعية التي كنا نتغنى بها؟ّ أين الديمقراطية التي طالما طالبنا بها؟ إن الاشتراكي صحيفة تصدر عن الاتحاد العام للنقابات العمالية، في ظل حكم اشتراكي، فبالاستناد إلى أي منطق يُخضعونها للرقابة؟». ذاك أن طرابيشي وبالتزامن مع عمله مديراً لبرامج الإذاعة ومسؤولاً في المكتب الثقافي للحزب، كتب أيضاً في صحيفة الاشتراكي معبراً عن شكوكه بالنهج «الثوري» للنظام الجديد، ما دفع بصلاح البيطار، رئيس الحكومة في حينه، إلى مراجعة كتابات جورج طرابيشي بنفسه قبل طباعة الصحيفة. 

تتابع هنرييت عبودي حديثها عن تلك المرحلة وبتفاصيل لا تخلو من دلالات كبيرة حول طبيعة النظام وأيامه تلك. فعلى سبيل المثال، وبمناسبة انعقاد القمة العربية، بثّت إذاعة دمشق أغنية جديدة عنوانها نهر الأردن ما بيتحوّل، وكانت تُبث بشكل شبه يومي ولاقَت رواجاً كبيراً، قبل أن يتصل وزير الإعلام سامي الجندي بجورج ويطلب منه الكفَّ عن بث تلك الأغنية بحجة أنها «سوقية وتلحق الأذى بالذوق العام». ومع إصرار الجندي على منع بثها، رد جورج ساخراً «نهر الأردن سوف يتحول، خلاصة القول!»، وقدَّم استقالته من إدارة برامج الإذاعة. بعد استقالته مباشرةً، ذهب إلى جريدة الثورة حيث تعمل عبودي ليعودا سوية إلى البيت، قبل أن يطرق بابهما أحد الجيران (بشارة حداد) ويبادرُه بالسؤال عن سبب الاستقالة وسط دهشته ثم سؤاله جاره عن كيفية وصول خبر الاستقالة إليه، فأجابه «سمعته من إذاعة إسرائيل». بثَّت إذاعة إسرائيل خبر استقالة مدير الإذاعة قبل نشره في دمشق، في ظل دهشةٍ وحيرةٍ تبدَدَتا لاحقاً بعد القبض على الجاسوس الإسرائيلي الياهو كوهين. «أُذيعت تفاصيل جلسات محاكمة كوهين، فقيَّض لنا أن ’نكتشف‘ أنه من تولّى تزويد إذاعة اسرائيل بنبأ استقالة جورج»، تقول الكاتبة. 

التحق بعد ذلك بالجناح اليساري للبعث، بقيادة حمود الشوفي، مع ذهابه باتجاه التأليف وإصداره كتاب سارتر والماركسية عام 1964، ثم انقطعت علاقته مع هذا التيار قبل أن يساهم في تأسيس حزب العمال الثوري، برفقة ياسين الحافظ والياس مرقص وطارق أبو الحسن. اعتٌقل بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها سليم حاطوم، دون أن يكون له علاقة بالتنظيم والمحاولة، وفشلت كل المحاولات لإطلاق سراحه، ثم أُفرج عنه في النهاية بوساطة من الباهي محمد (الجزائري في الغالب).

عشرون عاماً مع الجابري

تقول الكاتبة ما مفاده أنّ علاقتها مع جورج كانت علاقة ثلاثية، بوجود فرويد أو ماركيوز أو سارتر أو هيغل أو نجيب محفوظ أو عبد الرحمن منيف أو حنا مينا في حياتهما، لكنّ الكاتب الذي سجل الرقم القياسي في مواكبته حياتهما الزوجية كان المفكر المغربي محمد عابد الجابري.

فمع انتقالهما من بيروت إلى باريس، إثر تلقي طرابيشي عرضاً للعمل على إصدار مجلة الوحدة الشهرية، كان كتاب تكوين العقل العربي للجابري هو الكتاب الوحيد الذي حمله معه في الطائرة التي أقلّتهما إلى فرنسا، وكان لا يخفي إعجابه بهذا الكتاب الذي كتبَ عنه باكورة مقالاته في الوحدة. غير أنه «بدأ يكتشف أخطاءً وتفسيرات مغلوطة في كتاب الجابري… وأصيب بخيبة أمل عظيمة ولامَ نفسه على الثغرات الخطيرة في ثقافته وقاعدته المعرفية، لأن لولاها لما سارع يكيل المديح للكتاب، وكان هذا الشعور بالتقصير وراء انطلاق مشروعه الجبار نقد نقد العقل العربي، الذي بذل في سبيل إنجازه جهوداً هائلة وكرّس له عشرين عاماً من حياته. فلم يترك مرجعاً في التراث العربي الإسلامي إلا وعاد إليه… ولم يعد كتاب الجابري سوى ضربٍ من نابض، من ذريعة للإبحار في التراث العربي الإسلامي لتحقيق فتوحات في مضمار تفسيره».

هنا، وخارج كتاب عبودي، وربما بالإضافة إليه، يمكن للقارئ والمهتم أن يقع على نص لجورج طرابيشي، كتبهُ فور وفاة الجابري وحمل عنوان ربع قرن من حوار بلا حوار، يعترف فيه بمديونيته للمفكر المغربي بأن «نقَله من الإيديولوجي إلى الأبستمولوجي»، وفتح الباب أمامه للتبحر والعمل على التراث ضمن مشروعه نقد نقد العقل العربي، وهو نصٌّ جذّاب وساحر بقدر الملاحظات التي يثيرها، أقله لدى كاتب هذه السطور. فرحيل الجابري كان يستدعي بالتأكيد كلمة تأبينية من جورج طرابيشي، لكن السؤال هنا هو حول «سنّة» رائجة في الكتابة العربية، تقفز عن المغالطات التي أسست لمشاريع فكرية مليئة بالأخطاء (شأن مشروع الجابري)، وهي مشاريع لها مُريدوها ومحازبوها الذين يدافعون عن الأخطاء المعرفية والمنهجية الواضحة فيها، ويتخندقون إيديولوجياً في مواجهة النقاد، لدرجة أن كلام طرابيشي و«إقراره بفضل الجابري» عليه، استُعمِلَ من قبل كثيرين لتبييض صفحة مشروع فنّده المفكر السوري كلمة كلمة، أو «حذوَ النعلِ بالنعلِ» كما كان يحلو له القول، وتحوّل الخطأ المنهجي المقصود ومعه عدم الأمانة في التعامل مع النصوص والمراجع في حالة الجابري، إلى خلاف في الرأي لدى البعض، في محاولة لإعفاء الأكاديمي المغربي من المساءلة الفكرية، وهذه مسألة تستحق توقفاً ومقالاً مستقلاً يتناولها.

قتل الأب

يُقرَّ طرابيشي أن علاقته مع فرويد بدأت من خلال اكتشافه بعض السلوكيات لديه، والنابعة من علاقته المتوترة مع أبيه، كحالة «تفتيت الخبز على المائدة» التي تتحدث عنها هنرييت عبودي في الكتاب. يمكن لمن يقرأ الكتاب وكتابات أخرى لجورج نفسه، أن يقف أمام آباء كانوا مؤَمْثلين لديه، كالجابري وياسين الحافظ وغيرهم، واستطاع قتلهم أو تخطّيهم بالمعنى المعرفي والإيديولوجي، إلى جانب سارتر الذي تقول الكاتبة إنه «كان يمثل إلهاً بالنسبة لجورج». 

كان لتجاوز الرموز والأشخاص المؤمثَلين دوافع وجيهة في حالته (وفي حالة آخرين غيره)، فهو لم يتغير تجاه سارتر إلا لأن سارتر تغير، وأيضاً سيمون دي بوفوار، وتحديداً بسبب موقفهما من القضية الفلسطينية عام 1967 بحسب عبودي. غير أن طرابيشي نفسه كان يتغير أيضاً بدلالة القراءات والتجربة، ولم يركن إلى تغيرات الآخرين فقط في مساراته وتبدُّلاته الكثيرة. هنا، وخارج كتاب عبودي مرة ثانية، وضمن كتابات جورج نفسه، يمكن لما كتبه عن ياسين الحافظ أن يعطي فكرة وافية عن القلق المعرفي والضجر بالأيقونات، رغم أثر هذه الأخيرة عليه في مراحل ما. يقول طرابيشي في كتاب من النهضة إلى الردة- تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة:

لا بدَّ بادئ ذي بدء من أن أسجل على نفسي هذا الإقرار. فلو كان لي أن أحاكي سلامة موسى وأكتب بدوري «تربية جورج طرابيشي»، لكان عليّ أن أقرّ بأن مربيَّ الكبير كان ياسين الحافظ، مربيَّ السياسي حصراً، أو مربيَّ الإيديولوجي بتعبير أدقّ. فَعَن طريق التماسّ الشخصي والقرائي مع ياسين نجز في الستينات تطوري نحو الماركسية. الماركسية كشبكة مفهومية لقراءة الواقع. الماركسية، كما كان يحلو لياسين أن يقول، كـ وعي مطابق. لكن بعد تسجيل هذا الإقرار على نفسي -وليعذرني القارئ عن هذا الإكثار من ضمير المتكلم- لا بد من أن أضيف حالاً أن علاقتي الإيديولوجية بياسين كانت مشحونة بكل توتر العلاقة التي يمكن أن تجمع بين معلم وتلميذ. فقد كنت وأنا أتتلمذ على ياسين أصبو إلى اليوم الذي أستطيع أن أثبت فيه لنفسي، وللآخرين الذين هم القراء، أنني أمتلك القدرة المعرفية والنظرية للتمرد عليه.  ذلك أنني في الوقت الذي كنت أتحرك ضمن شبكة المفاهيم التي أسر تفكيري فيها، كنت أضيق ذرعاً – وأنا الذي يغلي فيّ هوى التمرد – بمعلّميته التي كانت تتعالى عليّ كسورٍ منيع. 

كانت تبدو لي «معلميّة» سادية، مثلها في ذلك مثل كل معلمية أبوية، ولم يكن في طبعي أن أقبع في دور الابن المازوخي.

والواقع أنه مع إقراري بتفوق ياسين النظري الساحق وبمعلميته التي لا تضاهى في مداورة المفاهيم وفي تصعيدها إلى مستوى علمي آسر، فقد كان ثمة، في سور العلاقة التي تشدني إليه، ثغرة أستطيع من خلالها أن أختطَّ لنفسي موقعاً نقدياً. هذه الثغرة هي ناصرية ياسين التي كانت -رغم حرصه على أن يبقيها نقدية- من طبيعة وجدانية. 

من ميشيل عفلق، أحد «الآباء» والنماذج السطحية والأبرشية الرثة التي تخلّص منها سريعاً، إلى ياسين الحافظ الذي أثر عميقاً في وعيه وفي وعي أجيال من المثقفين العرب، كان المفكر السوري يتمرْحل وينتقل من إيديولوجيا ونمط تفكير، إلى نمط تفكير آخر، وهي انتقالاتٌ كانت مسنودة بعدة نظرية متماسكة، سواء اتفق المرء معها أم لم يتفق، وبعيدة، بطبيعة الحال، كل البعد عن «النّطْوَطة» السياسية والفكرية لكثيرين من معاصريه ومعاصرينا.

ملاحظات على الكتاب

حاول هذا المقال الإضاءة على نقاط ومحطات في مسيرة جورج الإنسان والكاتب، على لسان هنرييت عبودي، والتعليق على بعضها والذهاب إلى كتابات ومواقف أخرى للمثقف السوري الراحل، بمناسبة الكتاب وحديث السيدة هنرييت فيه. ثمة نقاط ومواقف كثيرة في الكتاب تستحق الذكر، وهو ما لا مجال له هنا، لكن يبقى الموقف من ثورة عام 2011 في سوريا مسألة لا مناص من التطرق إليها، خصوصاً أن الكاتبة ومُحاوِرها (تركي الدخيل) تناولاها، وإن سريعاً.

كان موقف جورج من الثورة أو الانتفاضة الشعبية واضحاً منذ البداية، تَخوُّفَاً من مآلاتها حتى قبل أن تتحول، وإعجاباً بشجاعة الشعب السوري المنتفض، ونقداً جذرياً للنظام ودعوة له، كنظام غير قابل للإصلاح، إلى إصلاح نفسه بمعنى «إلغاء نفسه»، وإلا ستكون الحرب الأهلية هي الثمن. 

اعتبرَ كثيرون هذا الموقف من طرابيشي «ناقصاً»، واتهمه البعض بالوقوف مع النظام وتأييده للأسد في حربه على السوريين، علماً أنه لم يكتب سوى مقال واحد عن الحدث السوري حمل عنوان سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء ويتضمن موقفاً صريحاً من النظام. يقول طرابيشي إن حازم صاغية هو من شجعه على كتابة مقال رأي عن «الأحداث» في سوريا ونشْره في جريدة الحياة، فكان المقال المذكور أعلاه. كان موقفه المُعلَن في ذلك المقال ينسجم مع أفكاره وأطروحاته، وكان مُخلِصاً فيه لمساره الفكري. انتُقِدَ الرجل كثيراً، عن حق وعن غير حق، وخاصة فيما يتعلق بالثقافوية الواضحة في بعض أعماله، لكن بعض ذلك النقد للثقافوية والثقافويين كان يأتي من «سياسويين»، فغلبةُ الديني والثقافي عموماً في تفسيرات طرابيشي لأحوال مجتمعاتنا وضعف السياسي في كتاباته، كان يقابله نقد سياسوي في بعض الأحيان، يفسر كل شيء بالأنظمة فقط ويُعفي المجتمع والثقافة والدين نفسه من المُساءلة. «لا يدور الأمر حول كون طرابيشي مُحِقّاً في تحليله أم لا، ولا فيما إذا كان تطور الأحداث قد أنصف موقفه. بل إن ما يعنينا هنا هو بنية التحليل التي فرضت الصمت على صاحبه في أفضل الأحوال، فلا إمكانية أخرى تتجلى للمثقف العربي انطلاقاً من هذه المعضلة التي يؤسس تفكيره عليها» على ما يرى موريس عايق.

وكائناً ما كان الحال، يبقى ملفتاً للنظر ذلك الحضور الضعيف لسوريا في الكتاب، ولتفصيل موقف طرابيشي مما حصل فيها بعد عام 2011… والحديث العجول عن موقفه منها بكلمات عامة من قبيل «ألَمِه» و«حُزنِه» وهو ما لا جديد فيه، طالما أن الرجل عبّر عن هذين الحزن والألم، وعن أثر سوريا في شلله عن الكتابة بشكل واضح ومكتوب. ولا يُفهم، بالمناسبة، إصرار عبودي والدخيل على استحضار تفاصيل لعب جورج طرابيشي لعبة الورق «الكون كان» وطقوسها وردة فعل جورج لدى فوزه أو خسارته اللعبة أمام زوجته، وهي تفاصيل تتكرر مرات كثيرة لدرجة تبعث على الضجر، ويصرّ المحاوِر على معرفة تفاصيلها وعلى إعلام القراء بتلك التفاصيل، في مقابل حضور سوريا وآراء طرابيشي حولها حضوراً يرقى إلى «رفع العتب» لا أكثر ولا أقل.

أخيراً

يبقى كتاب أيامي مع جورج طرابيشي، اللحظة الآتية وثيقة مهمة في جزء منه، تشهد على حياة مثقف عاش تحولات كبيرة على الصعيد الشخصي، تنجدل مع تحولات كبيرة عاشتها المنطقة والعالم، كما يبقى حاملاً لتفاصيل تُبيّن حياته ويومياته وأجواء الكتابة والقراءة والترجمة التي أفنى حياته فيها، وعلاقاته الإنسانية مع عائلته وأصدقائه، على الرغم من التكرار وعدم الترابط في بعض محطات الحوار، وعلى الرغم من بعض القفزات والاستعجال غير المفهومين في السرد وبعض العموميات التي كان من الممكن، لو تم تلافيها، أن تعطي فكرة أكبر عن أستاذ ومفكر سيبقى أثره في الثقافة العربية كلها، مديداً.