نشأ مفهوما الحياد وعدم الانحياز في إطار عمل المنظمات الإغاثية، وبخاصّة الصليب والهلال الأحمر، وباتا جزءاً لا يتجزّأ من مبادئها. ويُقصَد بالحياد عموماً التمتُّع بثقة جميع الأطراف وعدم اتّخاذ طرف في النزاع؛ سواء كان إيديولوجياً، أم سياسياً، أم دينياً، أم عرقياً. أما عدم الانحياز فيعني عدم التمييز بين الأفراد في تقديم الخدمات، واتخاذ القرارات بموضوعية واستقلالية عن التموضع السياسي أو انتماء الأفراد العرقي أو الديني، أو السياسي، أو الجنسي، أو الطبقي.

يتطلَّبُ الحياد أن يتمّ التعاطي مع القضايا المستهدَفة بشكل موضوعي ومستقل عن أجندة الفرق السياسية. فماذا تعني حيادية مؤسسات المجتمع المدني؟ وكيف طُرح هذا المصطلح؟ وما مدى إمكانية الحياد في ظلّ الواقع السوري المعقَّد والمتداخل؟ 

نشأة مفهوم الحياد في السياق السوري 

منذ اندلاع الاحتجاجات وتزايد العنف ردَّاً على مطالب الثورة السورية، وقَعَت مهمَّة الاستجابة الإنسانية على عاتق الناشطين والناشطات. تشكّلت حينذاك مبادرات ومجموعات محلية للإغاثة وتقديم الخدمات، بدأ بعضها يتمأسَسُ تدريجياً على شكل منظمات. وفي ظل غياب التّجربة المدنيّة لدى أغلب مُقدِّمي الخدمة من النشطاء، بدأ الخلط بين مفهوم الحيادية في تقديم الخدمات، وهو معيار من معايير الاستجابة الإنسانية، والحيادية السياسية التي أخضعت المفهومَ الأول للتأويلات الشخصية لمُقدِّمي الخدمة. وتعمَّقَ هذا الخلط عندما بدأ المجتمع الدولي بإدماج مؤسسات المجتمع المدني في مسارات العملية السياسية، وإدخال عناصر وتشكيلات مدنية جديدة مدفوعة بأجندات محلية أو دولية، تسعى إلى التأثير على مجرى هذه المسارات، وبالتالي على مجرى العملية السياسية نفسها. 

إضافة إلى هذه العوامل الداخلية، المرتبطة بالنشأة، تُعاني مؤسسات المجتمع المدني السوري من افتقار الجهات الدولية المانحة إلى استراتيجيات متكاملة على المستوى الوطني، فيما يتعلّق بأدوار المجتمع المدني وآليات دعمه في سوريا، وتبنّيها استراتيجيات مجتَزَأة ومصمَّمة على أساس التوزع الجغرافي لهذه المؤسسات، وقوى السيطرة المختلفة التي تعمل في مناطقها. وتستند هذه الاستراتيجيات المجتزأة على التجاذبات السياسية الدولية ومواقف المجتمع الدولي تجاه القضية السورية وفق كلّ مرحلة؛ ما انعكس بشكل حادّ على هوية المجتمع المدني واستراتيجياته، وأدى إلى انحسار أو تبدُّل أدواره، بل وتشتّته أحياناً في العمل المحليّ، على أهميته، دون أي رؤية على المستوى الوطني.

يمكن فهم ما سبق بوضعه في سياق المجتمع المدني في بيئات النزاع. فمؤسسات المجتمع المدني بكل تنوّعاتها واختصاصاتها تبقى رهنَ النزاع نفسه؛ حيث تتغير وتتبدل أدوارها وفق المساحة المتاحة، والمستجدات السياسية، وكيف يفهم المجتمع الدولي هذه الأدوار أو يرغبها. هذا الواقع سبَّب لبساً في تفسير مبدأ الحيادية وتأويله، وفي تحديد من يمكن أن يكون حيادياً. 

معضلة الحيادية، ولماذا؟

الانقسام واضحٌ لدى أطياف مؤسسات المجتمع المدني: بعضهم يطالب بحياديّة المجتمع المدني تجاه أطراف النزاع، ويسعى إلى تعميم الحياديّة على كلِّ التشكيلات الناشطة في المجتمع المدني على اختلاف توجهاتها؛ في حين يعتبر آخرون وجود مؤسسات المجتمع المدني بحد ذاته فعلاً سياسيّاً.

هناك مجموعات انبثقت وتشكّلت بهدف نَسفِ وتغيير الواقع السياسي الذي تعيشه سوريا في الدرجة الأولى، وهي اليوم تلعبُ أدواراً سياسية حاسمة على مستويات محلية ووطنية ودولية. فمن جهة، تساهم في تعزيز أصوات الفئات المهمَّشة والمدافِعة عن قضايا العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أنها تعالج التحديات البنيوية التي تواجه التغيير وتسعى إلى مساءلة المجتمع الدولي والسلطات المحلية، وإلى تعزيز الشفافية وتعميم أسس الحوكمة. فكيف نطالب هذه المجموعات بالحياد السياسي؟

على صعيد آخر، ترى مجموعات أخرى أن دورها إغاثيٌ بحت، وتسعى إلى الحفاظ على برامجها ومتابعة تقديم خدمات لمجتمعاتها، وذلك على حساب الانخراط في النقاشات السياسية وكشف انتهاكات أطراف النزاع والقوى المسيطرة. فهل نُجبرها على التخلي عن مجتمعاتها رغم أنها وحدها من يستطيع الاستجابة لاحتياجات هذه المجتمعات اليوم بسبب صعوبة الوصول إليها؟ 

إضافة إلى ذلك، قد نجد مؤسسة إنسانية تعمل من تركيا يعلو صوتها ضد انتهاكات نظام الأسد، لكنها لا تتجرأ أن تنتقد أو تشير إلى انتهاكات تركيا لحقوق الإنسان، سواء في سوريا أم تركيا، لأنها تعلم أن هذا سيعني إيقاف برامجها وعملها في تركيا، وبالتالي إيقاف وعرقلة عملياتها في سوريا. فهل نقلل من شأن عملها ومحاولاتها في إحداث التغيير؟ 

إذن لا يمكن التعاطي مع مفهوم الحياديّة كمفهوم جامد حتى في العلاقة مع المنظمات الإنسانية. ولا بد من طرح الحيادية السياسية لمؤسسات المجتمع المدني كمفهوم مَرِن مرتبط بالتموضع والمساحة المتاحة لهذه المؤسسات، مقروء ضمن اللحظة الزمنية مع مراعاة التقلّبات المرحلية وتطوّرات النزاع، ومع الأخذ بعين الاعتبار جميعَ العوامل المحيطة في بيئة عمل المجتمع المدني، والسياقات السياسية والاقتصادية التي تحكم عملَه.

المؤسسات الاجتماعية السياسية ليست بفكرة جديدة. على سبيل المثال، في ألمانيا سبع منظمات مدعومة من الدولة، تابعة للأحزاب السياسية السبعة الممثلة في البرلمان الألماني. الميزة الرئيسة لهذه المنظمات أنها تقوم، إلى جانب أعمالها الاجتماعية، بأعمال حزبية في الإعلام من خلال الترويج لهوية الحزب الإيديولوجية. 

كلفة التقييد

عمليّاً، اشتباكُ المجتمع المدني مع السّياسة حتميّ في حال وجود مؤسسات ومجموعات مدنية تهدف إلى تغيير الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، وتضغط لتحقيق هذا التغيير. هذا الاشتباك مع السياسة لا يتعارض مع عدم الانحياز في تقديم الخدمات، لكنَّه يحفظ أدوار المجتمع المدني في التغيير السياسي. والمقصود بالسِّياسي هنا جميع المجالات التي تسعى إلى تغيير موازين القوى لتصبح أكثر عدالة ومساواة. ينطبق هذا الاشتباك على العديد من المؤسسات والمبادرات وروابط الضحايا التي تنشُط في فضاء المجتمع المدني السوري. 

وفي ظلّ انعدام الحلول السياسية اليوم، تتناولُ مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني السوري قضايا حسَّاسة ومفصليّة على الساحة السوريّة: الاعتقال والتغييب القسري، والتقاضي، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها استخدام الأسلحة الكيميائية، وحقوق الملكية والهوية، وحماية التراث اللامادي، وغيرها من القضايا. كما تسعى إلى تغيير السياسات المتعلقة بهذه القضايا محلياً ووطنياً ودولياً، وذلك عبر تنظيم أنشطة التثقيف السياسي، والتوعية بالحقوق السياسية والمسارات السياسية الدولية، وإنتاج المعرفة وإجراء الأبحاث والتحليلات، ورفع قدرات الأفراد على المشاركة والانخراط في العمل السياسي، وتنظيم المظاهرات والاحتجاجات، وإطلاق حملات للضغط، والمشاركة في تغيير القرارات الدولية في الشأن السوري.

لا تنحصر هذه الأدوار في مؤسسات المجتمع المدني ذات الطابع السياسي. في المناطق التي ترزح تحت الحصار ويصعب الوصول إليها، كان لكثير من المؤسسات ذات الطابع الإغاثي والتنموي أثر في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. من ذلك مثلاً مؤسسة الجمعية الطبية السورية الأميركية (سامز)، التي ساهمت في توثيق الهجمات العسكرية على منشآت قطاع الصحة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما وقَّعَت مذكّرة تفاهم مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وساهمت في توثيق الهجمات بالأسلحة الكيميائية في مناطق الحصار، وتحوّلت إلى مرجعية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وأصبحت بياناتها والمعلومات التي تقدّمها مصدراً أساسياً للمعلومات في تقارير بعثات التحقيق الدولية إلى سوريا، مساهِمةً بذلك في جهود العدالة والمحاسبة.

الجدير بالذكر أن تعاون سامز مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية هو الأول من نوعه في هذا السياق. ففي إطار اتفاقية نزع الأسلحة الكيميائية، يجري الاعتماد على البيانات الرسمية التي تقدمها الحكومة المحلية فقط. وفي مثال آخر، يشهد عمال وعاملات الدفاع المدني على الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في أماكن عملهم، لذلك فهم فاعل أساسي في أي عمليات عدالة مستقبلية. 

إن تقييدَ النشاط السياسي لهذه المجموعات هو حدٌّ من إمكاناتها وتأثيرها. فهو انتهاك للحرية السياسية للنشطاء في هذه المجموعات، وتقييد ممنهج لقدرتهم على التدخل في الشأن العام والتعبير عن وجهات نظرهم، وكذلك محاولة لقَصْر أدوار المجتمع المدني على القضايا الاجتماعية والإنسانية وتقديم الخدمات والإغاثة. ورغم الأهمية البالغة لهذه الأدوار، إلّا أن قَصْر المجتمع المدني عليها سيضيُّعُ فرصاً ثمينة للتحوّل السياسي الديمقراطي الذي قد ينجم عن تفاعل هذه المجموعات مع المسارات والقضايا السياسية، وسيُفقدها فرصاً مهمة للتأثير على القرارات السياسية والدفع نحو حلول أكثر تضميناً وعدالة. فعبر انطوائها على آراء جماعات مختلفة، تحوز هذه المجموعات على رؤى متنوعة ومبادرات عملية لإعادة بناء المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي تستطيع تزويد عمليات صنع القرار بمدخلات قد لا تستطيعها الأطراف السياسية، ما سيؤدي لإثراء النقاشات السياسية وربطها بالواقع المجتمعي، وفي النهاية تعزيز التضمين وتنوع الأفكار والحلول وتعزيز آليات المشاركة والشفافية والمساءلة.

وعليه فإن هناك ظروفاً وعوامل داخلية وخارجية لدى مجموعات العمل المدني تحدّ من تفاعل المجتمع المدني مع السياسة، ما أوجَبَ على المجموعات التي ترغب بهذا التفاعل، البحث عن مخارج مشتركة عبر التّضامن والتّعاون والتّشبيك والتّكامل العابر لحدود الأمر الواقع التي تقسم سوريا اليوم، بحيث يستطيع المجتمع المدني الوصول إلى أهدافه المشتركة في التغيير والعدالة.

مع ذلك، يجب أن نعترف بأنّ قرار المشاركة السياسية يرتبط أيضاً بتوجُّهات الفاعلين والفاعلات في المجتمع المدني. فهناك جزء من مؤسسات المجتمع المدني السوري اليوم ترغب في التركيز على القضايا الاجتماعية والاستجابة الإنسانية، ولا يرى أن هذا العمل سياسي، وبالتالي لا يرى أن معركته سياسية. وبالمقابل، هناك مؤسسات تدّعي تمثيلها لقضايا وفئات لا تملك بالضرورة وصولاً إليها، وبالتالي تفتقر إلى القاعدة الشعبية لإحداث تغيير، لكنها مع ذلك تمتلك المهارات اللازمة لخوض لعبة التمويل وإدارة المشاريع دون القدرة على إحداث تغيير حقيقي.

الاستقلالية لا الحياد السياسي

في سياق المجتمع المدني، الاستقلالية مفهوم يشير إلى قدرة مؤسسات المجتمع المدني على تصميم تدخلاتها وتخطيط برامج عملها بشكل مستقلّ عن أي جهة خارجية. وهذا الاستقلال يتطلَّب أن يتمتَّع الفرد أو المؤسسة بالحرية في اتّخاذ القرارات وتنفيذها دون تدخل أو تأثير من جهات أخرى سياسية أو تمويلية، داخلية أو خارجية. وتتضمن استقلالية المجتمع المدني ضمان استقلالية الأفراد والمؤسسات الفاعلة في التشكيل والتنظيم، والتمويل، والعمل البرامجي، ومن خلال تحقق الاستقلالية في هذه الجوانب تتحقق استقلالية التأثير. 

يعاني المجتمع المدني السوري اليوم من جُملة تحديات هيكلية وعملياتية تحدّ من قدرة المؤسسات على الاستقلال بصناعة الرأي وصياغة البرامج والمشاريع، وبالتالي من ممارسة أدوارها بشكل مستقل.

نقصد باستقلالية التشكيل والتنظيم أن يتمتع المجتمع المدني بالحرية في تنظيم نفسِه، وتحديد أهدافه وتدخلاته بما يتناسب مع أهدافه ورؤيته؛ يشمل ذلك تشكيلَ هياكله التنظيمية واتخاذ القرارات الداخلية بشكل مستقل. فرغم التطور العضوي لكثير من المبادرات والمجموعات خلال السنوات العشر الأخيرة، وتحوُّلها إلى مؤسسات استطاعت بشكل مستقل تشكيل نفسها وتطوير أجندتها واستراتيجيتها، لا يجب إغفال وجود جهات عملت في لحظات معينة على تشكيل، أو دعم تشكيل، مؤسسات معيَّنة لخدمة أجندات سياسية وإيديولوجية محددة، سواء دول متمثلة بوزراء خارجياتها أم قوى الأمر الواقع في جميع مناطق السيطرة، وذلك بعد إدراك هذه الجهات أن المجتمع المدني بدأ يحتلّ حيزاً في ساحة النزاع في ظل غياب الحلول السياسية. 

أما استقلالية التمويل، فالمقصود بها أن يكون المجتمع المدني قادراً على تأمين تمويل مُستدام ومستقلّ عن الأجندات السياسية، ومن مصادر متنوعة، ما يساعد مؤسساته على اتّخاذ القرارات بحرية دون الارتباط بأجندات سياسية. وقد تكون هذه المشكلة من أعمق المشاكل الهيكلية التي يعاني منها المجتمع المدني منذ بدايات تشكُّله حتى اليوم، وهذا ضمن واقع سياسي واجتماعي واقتصادي شديد التعقيد بعد 12 عام من الثورة السورية. فالجهات المموِّلة ما تزال تطلب من المؤسسات تحويل قضايا سياسية واجتماعية معقدة ومتشابكة، وتحتاج إلى تغييرات جذرية وهيكلية، إلى مشاريع قصيرة المدى وطويلة الأثر وقابلة للقياس. يحوّل ذلك تركيزَ هذه المجموعات إلى البحث عن موارد مالية لضمان استمراريتها، وهو ما عنى تلبية متطلبات التمويل لتنفيذ مشاريع في إطار هذا التوجه، بدل الانشغال بإحداث التغيير الحقيقي الذي تطمح له وتعمل استراتيجياً من أجل تحقيقه. ترك ذلك مؤسسات المجتمع المدني مستنزفةً، بلا وقت للبحث عن مخارج وحلول بديلة عن الامتثال للمانحين، وهنا يُطرح التساؤل عن مدى استدامة المؤسسات وقدرتها على إحداث التغيير.

وتعني استقلالية العمل البرامجي قدرة المجتمع المدني على تحديد أولوياته، وتصميم وتنفيذ برامج تستجيب لهذه الأولويات بشكل مستقل، وفقاً لرؤى ورغبات الأفراد الفاعلين فيه، دون تدخّل أو ضغوط خارجية. فحتى اليوم يتم فرض برامج على مؤسسات المجتمع المدني بموجب مساومات دولية، وتوجهات يحددها المجتمع الدولي حول الملف السوري، وهي توجهات قد لا تتطابق مع رؤى وتطلعات المجتمع المدني نفسه. من ذلك، التوجه نحو التعافي المبكر: فمن المعروف أنّ عمليات التعافي المبكر مرتبطة بمرحلة انتهاء النزاع، وهي مرحلة انتقالية تؤسس لعمليات إعادة الإعمار والتنمية، في حين أن النزاع في سوريا لا يزال قائماً. يستند هذا التوجه إلى الفقرة الرابعة من القرار رقم 2585 للعام 2021 لتجديد تفويض آلية إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود، والذي يشجع دعم مبادرات التعافي المبكر ووصول المساعدات الإنسانية من خلال جميع الطرائق بما في ذلك العمليات الإنسانية عبر الخطوط.

إن ضمان استقلالية التشكيل والتنظيم والتمويل والتخطيط البرامجي، يعني بالضرورة استقلالية المجتمع المدني بتحديد أولوياته واختيار الجهات التي يتفاعل معها ويستهدفها، وبالتالي استقلال تأثيره عن صانعي القرارات والسياسات العامة، ومن ثم حشد الجمهور حول هذه الجهود بعيداً عن المساومات السياسية والضغوط الخارجية. وقد يكون عدم توفّر هذه الاستقلالية مكلفاً جداً على المجتمع المدني، حيث يُضعف تأثيره ويحدّ من وصوله. ومن أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك خلقُ النظام السوري، بشكل ممنهج، «مجتمعاً مدنيّاً موازيّاً» في مناطق سيطرته تحت مظلة الأمانة السورية العامة للتنمية، وهو «مجتمع مدني» شارك في غرفة المجتمع المدني واللجنة الدستورية، واستطاع التأثير على صنع القرار عبر طرح أولويات لا تعبر بالضرورة عن رؤى واحتياجات المجتمع الذي يدعي تمثيله. وكل ما طرحه هذه «المجتمع المدني» يعكس أجندات النظام السوري ويساهم في تحسين صورته كنظام ديمقراطي يفسح مساحة للعمل المدني، ولا سيّما بعد إدراكه أهمية أثر المجتمع المدني في مسارات العملية السياسية وساحات صنع القرار في مكاتب الأمم المتحدة.

ختاماً، وفي ظلّ الاستعصاء السياسي الراهن، وتَعدُّد القوى والجهات الدولية المتدخلة في النّزاع السوري، وتضارب وتشعّب مصالحها، لا تنفصل تدخّلات المجتمع الدولي عن هذا الواقع، وعن أجنداته السياسية والتمويلية. لذلك فإن أكثر ما نحتاجه اليوم هو خلقُ مساحات للتفكير في كيفية مقاومة تأثير هذه الأجندات على أهداف المؤسسات وتدخلاتها وعملياتها، وإتاحة المساحة والموارد لإعادة التفكير باستقلالية المجتمع المدني، نظريّاً وعمليّاً.