أعلنَ بيانٌ رسمي على موقع الأمم المتحدة في لبنان، في 8 آب (أغسطس)، وعلى لسان لانس بارثولوميوز رئيس الوفد من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عن تسليم داتا معلومات اللاجئين السوريين في لبنان إلى السلطة اللبنانية وفق المعايير الدولية لحماية البيانات، مع تأكيده على التزام الحكومة اللبنانية بعدم استخدام أي بيانات يتم مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي، ومع إعادة تأكيد التزامها بمبدأ عدم الإعادة القسرية وبالتزاماتها بموجب القانون الدولي والمحلي.
جاء ذلك بعد أن عملت السلطات اللبنانية، ومنذ تصاعد موجة الترحيل في شهر أيار (مايو) من هذا العام، على مطالبة الأمم المتحدة بتسليم داتا اللاجئين السوريين، وعلى تكثيف الجهود السياسية والإعلامية للضغط باتجاه حصولها على كامل المعلومات التي جمعتها الأمم المتحدة على مدار 12 عاماً، وسط تحريض ممنهج ضد اللاجئين السوريين، وتهديدات إعلامية واجتماعية وسياسية مباشرة تنتهك حقوقهم وتُشكِّلُ خطراً على سلامتهم الشخصية.
منذ بداية موجة اللجوء السورية إلى لبنان، تزامناً مع الثورة السورية عام 2011، عمِلت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة) على جمع بيانات اللاجئين السوريين أثناء تسجيلهم. أهم المعلومات التي تطلبها الأمم المتحدة من اللاجئين السوريين هي الاسم والكنية وعدد أفراد العائلة وأعمارهم، كما تضم الداتا معلومات شخصية جداً عن حياة اللاجئين؛ أسباب لجوئهم وظروف اللجوء، وفي بعض السياقات قد تضُم معلوماتٍ عن أوضاعهم الأمنية. لذلك أعلنت الأمم المتحدة منذ العام 2015، عن تحديث نظام حماية البيانات لديها، خصوصاً معلومات الأفراد الذين تقوم بخدمتهم، بما يتماشى مع المعايير الدولية.
تحتوي الداتا على معلومات تُشكّل خطراً على السوريين في حال تم تسليمها للنظام السوري، أو استخدامها ضد اللاجئين بما قد يعمق من هشاشتم ويزيدهم تهميشاً، إذ أنه إلى اليوم لا يوجد في لبنان مخيمات رسمية للاجئين السوريين نتيجة خلاف الفرقاء السياسيين على مكان إنشائها بحجج متنوعة؛ كالتخوّف من التغيير الديمغرافي أو هواجس التوطين أو تكرار تجربة اللجوء الفلسطيني. ولذا يتوزع اللاجئون السوريون، البالغ عدد المسجلين منهم لدى المفوضية حسب آخر تحديث لبياناتها 795.322 لاجئ، على المدن اللبنانية والقرى المحيطة بها، ومن ضمنهم 186.585 أسرة مسجلة بأكملها. الانتشار الأكبر للاجئين في سهل البقاع بنسبة 35.5 بالمئة، يليه شمالي لبنان، ثم بيروت، وأخيراً الجنوب اللبناني.
اختراق الخصوصية وتهديد سلامة اللاجئين
بدأت عمليات المداهمة والترحيل العشوائي للاجئين السوريين من لبنان، والتي نفذها الجيش اللبناني، في منتصف نيسان (أبريل) من العام الحالي في منطقة عاليه الواقعة في جبل لبنان، وانتشرت تباعاً إلى جميع الأراضي اللبنانية، وبدأت بالتزامن معها المطالبات الرسمية وشبه الرسمية للأمم المتحدة، بتسليم داتا اللاجئين السوريين والمعلومات التي جمعتها عنهم. وقد عملَ الإعلام اللبناني على التأكيد مراراً على حق امتلاك الدولة المعلومات الكافية عن اللاجئين المتواجدين على أراضيها، ورافقَ ذلك إطلاقُ حملة عنصرية تحت مسمى «الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري»، والتي شدَّدَ مؤسسها مارون الخولي، رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال، خلال أكثر من مؤتمر صحفي على ضرورة الضغط على الأمم المتحدة لتسليم كافة المعلومات التي تمتلكها عن اللاجئين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية.
لتخوض بعدها وزارة الداخلية اللبنانية والحكومة اللبنانية في الأشهر الماضية اجتماعات متتالية مع مفوضية الأمم المتحدة، وذلك للوصول إلى الصيغة الأفضل لتسليم البيانات، وهي البيانات التي ستستخدمُها السلطات اللبنانية على الأرجح لتسهيل مخططها لـ «العودة الطوعية» بالتنسيق مع النظام السوري، وذلك على الرغم من حساسية هذه البيانات لما قد تحتويه من معلومات عن عناصر الجيش والأمن المنشقين عن قوات النظام، وعن المعارضين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية.
حرصت الأمم المتحدة، منذ انطلاق الدعوات المُطالِبة بتسليم البيانات، على الإعلان بشكل دائم عن ضمانها سلامة الفئات الأكثر ضعفاً، وحرصها على الالتزام الكامل بالقانون الدولي وبنود حماية خصوصية المعلومات الشخصية للأفراد الذين تُقدِّمُ لهم الدعم، وهو ما أكدته متحدثة لدى مفوضية الأمم المتحدة للجمهورية نت في تصريح سابق عندما قالت: «يبقى هدفنا الأول والأخير حماية أولئك الأكثر ضعفاً في المجتمع المضيف كما اللاجئين، وضمان استمرارية الالتزام بمبادئ القانون الدولي. وتبعاً لمهمتنا الخاصّة بالحماية، تواصل المفوضية المشاركة في مقترحاتٍ بنّاءة لمعالجة وضع اللاجئين في لبنان وضمان حمايتهم، بما في ذلك القضايا المتعلقة بمشاركة الداتا والتسجيل وغيرها من القضايا المهمّة».
وعلى الرغم من أن التنسيق بين مفوضية الأمم المتحدة والأمن العام والبلديات والحكومة اللبنانية قائم حول المعلومات الضرورية التي تُعتبر أساسية لاستمرار العمل الإغاثي، فقد عمِلت جميع القطاعات اللبنانية السياسية والإعلامية على تصوير اللاجئ السوري وكأنه عنصرٌ مجهول، محميٌّ من قبل منظمات دولية تبتزُّ من خلاله السلطة اللبنانية، وتقدم له كاملَ الدعم لاستمرار لجوئه.
لم تقدم السلطة اللبنانية خلال فترة المطالبة بالداتا أي خطوات جدية تضمن سلامة اللاجئين السوريين، رغم أن لبنان مُلزَم بمبدأ عدم الإعادة القسرية في القانون الدولي الإنساني العُرفي، وبضمان حماية اللاجئين على أراضيه وعدم التحريض على العنف ضدهم. مع ذلك، هدَّدَ وزير الداخلية بسام المولوي في مقابلة صحفية مع جريدة النهار باستخدام القوة الأمنية والعسكرية لمنع وجود السوريين غير المسجلين وغير المستوفين لشروط الإقامة في لبنان: «رح تَسلِّم الداتا لأنو لازم تسلمها»، صرّحَ الوزير.
تعاملت السلطة اللبنانية مع اللجوء السوري إلى لبنان منذ بدايته بإهمال متعمّد وتخبُّط سياسي واضح، كما عملت على ابتزاز المجتمع الدولي للحصول على المزيد من المساعدات المالية، وسط غيابٍ كامل لاستراتيجية واضحة في إدارة ملف اللجوء، وغياب الموقف السياسي الموحد من الثورة السورية وأزمتها، والأهم هو غياب إقرار قانوني ينظِّم عمل المفوضية في لبنان. لذلك، عجزت الحكومات المتعاقبة عن تنظيم اللجوء السوري على أراضيها بسياسات واضحة، بل استغلت اللجوء السوري كورقة ابتزاز دولية ومحلية لتحصيل مكاسب سياسية في أكثر من خطاب وموقف سياسي.
وسط اجتماعات واتصالات بين ممثلي الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية، وتحذيرات من رئيس وزراء لبنان نجيب ميقاتي بقطع التواصل والتنسيق بين السلطة اللبنانية والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في حال عدم التعاون وتسليم الداتا، تم إقرار تشكيل لجنة تقنية في منتصف شهر أيار (مايو) بين المفوضية ومديرية الأمن العام البناني، على اعتبار أن موضوع الداتا هو موضوع تقني، على أن تكون اللجنة ضمن المعايير الدولية لضوابط مشاركة الداتا، وتم في المحصلة تسليم المعلومات إلى السلطات اللبنانية وسط تخوفٍ كبير من أثر ذلك على مصير اللاجئين السوريين في لبنان.
مصير مجهول وتحذيرات مستمرة
«من دواعي سروري أن أعلن اليوم عن توصّلنا إلى إتّفاق بين لبنان ومفوّضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين UNHCR حول تسليم الداتا التابعة لجميع النازحين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية. يأتي ذلك ختاماً لمسار طويل من التفاوض بدأ منذ عام تقريباً في لقاء ترأسه رئيس مجلس الوزراء بحضوري مع المفوّض السامي لشؤون اللاجئين Filipo Grandi، حيث توصّلنا بموجبه إلى وعد مبدئي بتطوير التعاون بين الجانبين الأممي واللبناني».
بهذه الكلمات أعلنَ وزير الخارجية اللبناني، عبدالله بو حبيب، التوصُّل إلى اتفاق مع مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يقضي بتسليم بيانات جميع اللاجئين السوريين في لبنان إلى الحكومة اللبنانية، معلناً بذلك انتهاء مرحلة شاقة وصعبة من المفاوضات التي استمرّت «أكثر من عام» على حد تعبيره، ومؤكداً على أن هذا الاتفاق يخدم الطرفين اللبناني والأممي، مُشدِّداً في اجتماعه مع المفوضية على انتصاره في تحقيق حق لبنان السيادي.
علي مراد أستاذٌ جامعي في القانون العام في كلية الحقوق، وباحثٌ قانوني في كلنا إرادة التي أصدرت ورقة عمل حول اللجوء السوري في لبنان، اعتبرَ في تصريح للجمهورية.نت أن «الدولة اللبنانية فشلت في إدارة ملف اللجوء السوري منذ اليوم الأول للأزمة السورية. فقد قررت التوقف عن تسجيل اللاجئين، والتنازل عن حقها الدستوري في معرفة المواطنين الموجودين على أراضيها، وتركت الموضوع لمفوضية اللاجئين. تتحمل الدولة اللبنانية مسؤولية أساسية في الفشل في إدارة هذا الملف، وعدم قدرتها على تقديم رؤية واضحة لهذه الأزمة التي يواجهها المجتمع اللبناني، لا سيّما بعد العام 2011. إن تصوير الحصول على الداتا بصفته إنجازاً من جهة، أو تصويره على أنه حقٌّ كانت الأمم المتحدة تمتنع عنه، يناقض القانون الدولي الذي يحمي المعلومات المتعلقة باللاجئين».
ويضيف مراد أن «الدولة اللبنانية كانت تستطيع القيام بجمع المعلومات وتحديثها، كما أن الحصول على الداتا لا يعفيها من مسؤولياتها، طالما أن الحصول على هذه الداتا، سواء كانت كاملة أو غير كاملة، يفرض على الدولة اللبنانية التزامات بضمان عدم وصول الأسماء إلى النظام السوري من جهة، وضمان أمن اللاجئين السوريين من جهة أخرى».
من جهتهم، عبَّرَ لاجئون سوريون كُثُر عن مدى قلقهم من مشاركة معلوماتهم الشخصية مع الدولة اللبنانية، ومدى خطورة أوضاعهم الأمنية وسلامتهم الشخصية، خاصة مع انتشار تقارير كانت قد وثَّقت الانتهاكات التي تعرَّضَ لها اللاجئون العائدون إلى مناطق سيطرة النظام السوري. وكانت منظمة العفو الدولية قد وثقت في عام 2021 إخضاع لاجئين سوريين للتعذيب والاغتصاب والإخفاء إثر عودتهم إلى سوريا، وذلك في تحقيق لها حمل عنوان أنت ذاهب إلى الموت، وكان السبب المباشر للانتهاكات هو احتمال انضمام اللاجئين للمعارضة السورية أو مشاركتهم السابقة في الثورة السورية، مع التأكيد على عدم وجود منطقة آمنة في سوريا لكي يعود اللاجئون إليها.
يؤكد هذا أن محاولات السلطة اللبنانية لإنهاء ملف اللاجئين بعد سنوات من الإهمال والاستغلال، وعلى حساب سلامة اللاجئين أنفسهم عبرَ تعمُّد ترحيلهم، وفي النهاية امتلاك معلوماتهم وبياناتهم الشخصية، هو تهديد مباشر لأكثر الفئات هشاشة في لبنان. لذلك، يرى الأستاذ علي مراد أن: «لبنان بحاجة إلى سياسة خارجية فعّالة. لا يمكن للدولة اللبنانية أن تنسى أن واقع اللجوء والتهجير مرتبط بحرب، والمسؤول عن هذه الحرب هو النظام السوري وحلفاؤه في لبنان. لذلك، إن أي إيحاء بأن التواصل مع النظام السوري سيسهل من عملية حل ملف اللاجئين، هو وهمٌ يُباع للمجتمع اللبناني، على اعتبار أن المسؤول عن تهجير السوريين وقتلهم يريد عودتهم ويجب التواصل معه، وهذا أمر غير صحيح. المسألة مرتبطة بأزمة مفاوضات دولية وإقليمية، على الدولة اللبنانية أن تحدد أولوياتها بما يضمن الموازنة بين المصلحة الوطنية من جهة والتزامات لبنان من جهة أخرى».
وسط تعقيدات سياسية واقتصادية يعيشها لبنان اليوم، يدخل ملف اللجوء السوري منعطفاً يعتبر الأخطر حتى الآن، خاصة أن طريقة استخدام معلومات اللاجئين من قبل السلطة اللبنانية غير واضحة، ولا يوجد ضمانات لحماية هذه المعلومات وطريقة التعامل معها بما يضمن سلامة اللاجئين، أو ضمان لعدم استغلالها في مفاوضات مباشرة مع النظام السوري، خاصة أن السلطة اللبنانية أوضحت في تحركاتها الأمنية والسياسية أنهاء تريد إنهاء ملف اللجوء السوري في لبنان بأي ثمن، حتى لو كان الثمن حياة اللاجئين.