قبل ساعاتٍ من آخر هجومٍ صاروخيٍّ إسرائيلي على محيط دمشق، اختَتَم الفنان التونسي صابر الرباعي مهرجان ليالي قلعة دمشق وسط احتفالاتٍ بالألعاب النارية، رغم حملةٍ أطلقها مؤيّدو النظام السوري، دَعَت إلى إلغاء الحفل إثر إعادة نشر صورة صابر الرباعي برفقة ضابطٍ إسرائيلي تعود إلى العام 2016.

انتهت الحملة بدعوى قضائية قدّمتها مذيعة التلفزيون العربي السوري، فاطمة جيرودية، تحدّثت في ثلاث صفحاتٍ منها عن صمود الجيش والقيادة المتمثِّلة ببشار الأسد، وضمّنتها شكوى ضد الجهة الداعية؛ مينا للفعاليات الثقافية والفنية وكل مَن «سهّل وتهاون» في ارتكاب هذا «الجرم» بحسب تعبيرها.

انطلقت أولى حفلات الدورة الرابعة من مهرجان ليالي قلعة دمشق مساء الأربعاء 2 آب (أغسطس) الجاري، بتنظيمٍ من شركة مينا للفعاليات الثقافية والفنية، وبالتعاون مع وزارة السياحة ووزارة الثقافة في حكومة النظام ومحافظة دمشق، وبرعايةٍ حصرية للسنة الثانية على التوالي من شركة سيريتل، في ظل النفوذ المتزايد لأسماء الأسد التي أزاحت رامي مخلوف من سوق الاتصالات وحلّت محله. 

وتزامن بيعُ بطاقات الحفل مع انهيارٍ متسارع في قيمة الليرة السورية، وبالتالي خسارة في سعر البطاقات أيضاً، إذ تراوحت أسعارها بين 75 إلى 100 ألف ليرة سورية بحسب صفّ الحضور، أي ما يعادل تقريباً الراتب الشهري لموظفٍ حكومي، في حين وصل سعر البطاقة درجة الـVIP إلى 300 ألف ليرة سورية؛ أي ما كان يعادل 30 دولاراً أميركياً تقريباً ليلة الإعلان عن الحفل، انخفض إلى 23 دولاراً خلال أسبوعين.

وبضجيجٍ إعلاميٍّ أقل، أعلنت شركة MTN-سوريا للاتصالات عن رعاية مهرجان روزا داماس على أرض معرض دمشق الدولي القديم؛ من تنظيم شركة زوما بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية-السورية للحِرَف.

على عكس شركة مينا المتخصصة في الفعاليات الثقافية، والتي تُروِّج لحفلاتها عبر صفحاتها على منصات التواصل الاجتماعي، لا توجد صفحاتٌ على مواقع التواصل الاجتماعي لشركة زوما؛ التي صادقت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك على نظامها الأساسي وفقاً للقرار رقم /819/ لعام 2021، وتعود ملكيتها مناصفةً لكل من إبراهيم خليل زغيبي وحازم أحمد محمد. يقول قرار الترخيص إنه يحقّ لها استيراد وتصدير المواد المسموح بها ودخول المناقصات والمزايدات وتمثيل الشركات والوكالات المحلية والعربية والأجنبية، فضلاً عن النشاط في الحقول البرمجية وقطاع الاتصالات.

وكان سعر البطاقات في حفل زوما يساوي نصف السعر الذي طرحته شركة مينا لحضور مهرجان ليالي قلعة دمشق، إلّا أنه لم يحظَ بإقبالٍ ملحوظ، لتعلن شركة MTN عن عروضٍ للفوز ببطاقاتٍ مجانية وصلت إلى حدود شراء بطاقةٍ والحصول على أُخرى بالمجان، عدا عن عروض باقات إنترنت مجانية عند شراء البطاقة. وكان من المخطط إحياء ليلتين: الأولى 27 تموز (يوليو) للموسيقي غي مانوكيان والمغنية مايا دياب، لكنّ الأخيرة اعتذرت عن الحضور قبل ساعاتٍ من الحفل «بسبب تسمّمٍ حادٍّ تعرضت له» بحسب تغريدةٍ نشرتها على موقع تويتر، لتقتصر الليلة الأولى على مانوكيان، في حين غنى ملحم زين في الليلة الثانية كما هو مُقرّر.

أمّا مهرجان ليالي القلعة والوادي في حمص، والذي يقدّم أهل الوادي الدعم المادي واللوجستي لإقامته وتغطية كافة التكاليف والنفقات المادية، في حين أن دعوات الإعلان عنه تشير إلى أنه تحت رعاية رئيس حكومة النظام حسين عرنوس ومحافظة حمص ووزارة السياحة؛ فهو الآخر لم ينجُ من تبعات الأوضاع الاقتصادية المتردية، فأعلن المكتب الصحفي لمحافظة حمص عن تأجيله «نظراً للأوضاع الاقتصادية الحالية التي تمر بها البلاد وموجة الحرائق التي تتعرض لها عددٌ من المحافظات السورية».

مهرجان ليالي قلعة دمشق: الناجي الوحيد

منذ انطلاق الحراك الشعبي في سوريا، يُعتبر تنظيم أي فعالية ثقافية أو فنية تجمعُ حشداً جماهيرياً عمليةً صعبةً ومعقدة، لما تتطلّبه من موافقات أمنية وحكومية، وكثيراً ما تبوء المحاولات بالفشل. لذلك يبدو تعاون الأمانة السورية للتنمية العائدة لأسماء الأسد في مهرجان روزا داماس بديهياً، وهذا ما يفسر بالطبع استحواذ شركة مينا على فعاليات قلعة دمشق، المملوكة من قبل رياض محمد نذير الكناية، الذي كان مديراً للعلاقات العامة في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008، ويمتلك 990 حصة في شركة مينا (أي نسبة 99 بالمئة)، والتي يحق لها القيام بأعمال الاستيراد والتصدير والعمل في مجال التعهدات والاستثمارات وبيع وشراء المواد الغذائية، فضلاً عن إدارة المطاعم والفنادق وتنظيم الأعراس والحفلات. ويُرجّح تبعاً لتطابُق الاسم بأنه شقيق لينا محمد نذير الكناية، معاونة وزير شؤون رئاسة الجمهورية ورئيسة مكتب أسماء الأسد بين 2001 و2008.

تأسست شركة مينا للفعاليات الثقافية عام 2009، وافتتح زياد الرحباني أولى حفلاتها في قلعة دمشق، لتعود بحفلٍ آخر عام 2010 مع مرسيل خليفة قبل انقطاعٍ دام حتى العام 2018؛ تاريخ انطلاق الدورة الأولى من فعاليات مهرجان ليالي قلعة دمشق. اعتمدت الشركة خلال فعالياتٍ سابقة على استقدام المغنين ذاتهم الذين لم ينقطعوا عن الغناء في فنادق ومطاعم دمشق، وأبرزهم مروان خوري وملحم زين وجوزيف عطية، واعتبر فارس هزيم، المدير التنفيذي للشركة، حفلَ صابر الرباعي الحدثَ الأضخم هذا العام، إذ أنه يغني في سوريا بعد غيابٍ دام 12 عاماً.

وتُصنَّف مينا كشركةٍ «خاصة»، إلّا أنها تسعى إلى تصدير صورة سوريا الآمنة من خلال استقطاب مغنين ومغنيات من جنسياتٍ مختلفة، حتى لو كلّفها ذلك دفع مبالغ طائلة بالدولار الأميركي، وهذا ما فسَّر غياب الفنانين السوريين خلال الدورة الماضية عن المهرجان رغم استنكار بعضهم؛ ومنهم «أول من غنّى لبشار الأسد وجيشه»، وفيق حبيب، الذي أعلن مؤخراً عن دوره في طرح فكرة مهرجان ليالي قلعة دمشق مع اللجنة المنظمة واستعداده للغناء مجاناً في أي قلعة سورية، ولكنه لم يُستدعَ للغناء. في حين عبّر الموزّع الموسيقي آري جان سرحان عن «خيبته لتغييبه عن حفلات سوريا»، رغم محاولاته التواصل مع منظمي الحفلات ومديرية المسارح والموسيقا والأوركسترا السورية.

تبقى أجور الفنانين الأجانب مخفيةً رغم مشروعية السؤال عنها، واعتمد هزيم العام الماضي على ابتزاز الفنانين الأجانب بالشعارات لخفض أجورهم: «كل المشاركين في هذه الدورة فضّلوا، والكل قدموا تنازلات كرمال هالبلد. وكمان بتمنى من باقي الفنانين للأعمال القادمة يعني كمان يراعوا وضعنا وما رح قول غير هالكلمة». وبالفعل، بيّن صابر الرباعي في المؤتمر الصحفي قبل حفله في هذه الدورة أنه «لم يضع أي شروط، ولم يهتم بالتفاصيل المادية واللوجستية، وكان همه التواجد في سوريا فقط».

تبدو مساعي النظام في ترسيخ سردية الانتصار من خلال هذه المهرجانات واضحةً للعيان، لا سيما مع كمّ الاحتفال الإعلامي بهذه الفعاليات التي تُقام بغطاء حكومي. غير أنه في المحصلة، لم ينجح منها إلا مهرجانٌ واحدٌ وبشكلٍ نسبي، إذ وُجهت ضده دعوى قضائية، ما يلقي الضوء على فشل هذه المساعي في تحقيق الغايات منها.   

أشكال للحياة في مدينة ميِّتة

مع كل حدثٍ من هذا النوع، ينقسمُ مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي حول ما إذا كانت هذه الفعاليات تصُبُّ في سياق تعزيز سردية النظام عن «عودة سوريا الآمنة بعد الانتصار على الإرهاب»، وخاصةً في حالِ دفعِ الأموال لفعالياتٍ تُقام بالتعاون مع وزارتين في حكومة النظام؛ الثقافة والسياحة. إذ حملت وزارة السياحة على عاتقها منذ مطلع عام 2016 الترويجَ للانتماء والانتصار وعيش الحياة في سوريا من خلال إنتاج أفلام قصيرة دعائية ونشرها عبر حساب الوزارة على منصة يوتيوب، بما يخالف تماماً واقع الأحوال في البلاد.

بينما يعتبر آخرون المهرجانات فرصةً لصناعة الذكريات وقضاء وقتٍ ممتع، خاصةً بالنسبة لمَن يعجزون عن تحمّل تكلفة حفلات المطاعم والفنادق التي قد تصل إلى مليوني ليرة سورية، في حين من الأيسر عليهم توفير تكلفة بطاقات حفلات المهرجانات.

نقلتُ هذا السؤال إلى مجموعةٍ من المحيطين بي داخل سوريا لأسمع منهم، لأجد الآراء أيضاً متفاوتة.
ليان، إحدى الشابات التي تشعر أنها تسكن في «بلدٍ ميت» لا يُعاش فيه، ورغم أنها لا تحب هذه الأجواء ولا تفكر في الذهاب، ترى أنها لو ذهبت فلن تشعر بأنها تفعل شيئاً لصالح النظام؛ بل على العكس، تفعل ما يسمح لها بعيش لحظةٍ ممتعة: «قد تحملُ هذه الاحتفالات الترويجَ للشام الرائعة الآمنة، لكن مَن يُصدّق وزارة السياحة أو المؤثرين على تطبيق أنستغرام الذين يسوقون لهذا؟ سيبدو ذلك كمن يرى بشراً يأكلون في مطعم فيقول: خالصة. أمن وأمان».

لا تتوقف ليان عن الحديث دون التطرق إلى «النجوم» الذين شعروا أنه من المقبول والمسموح إحياء مثل هذه الحفلات بعد موجة التطبيع وحضور بشار الأسد القمة العربية الأخيرة في جدة، وترى أن «وجود نجم مثل صابر الرباعي يعني تغطيةً إعلاميةً تؤكد على الوضع الآمن. لكن بالنسبة لي كمُقيمة داخل دمشق، فهذا المهرجان لا يختلف عن حفل رأس السنة الذي يُعرض على الفضائيات الحكومية أثناء انقطاع التيار الكهربائي».

بعكس ليان، يرفض سعد رفضاً قاطعاً التواجد في هذا المهرجان، معتبراً أن هذه الفعاليات «ليست فنيةً حتى»، بل فعالية «للتنفيس». أمّا عن سببه الرئيسي لمقاطعة المهرجان، فهو أن «المُنظّمين والرعاة والممولين جميعهم من رؤوس السلطة أو متواطئين معها» بحسب تعبيره. يضيف سعد: «هذه فعاليةٌ تيسّرها الحكومة لتعكس بطريقةٍ ما قبول الواقع. بالنسبة لي، أبشع وجهٍ للذل هو الوجه السعيد في فعاليةٍ تنظمها الحكومة لتسرق الشعب، وشخصياً لا أحب أن أشارك بترسيخ فكرة القبول».

الجمل بليرة وليرة ما في

في العام الماضي، أكدت الشركة المُنظمة لمهرجان ليالي قلعة دمشق في كل ظهورٍ إعلامي لأحد أفرادها أن سعر التذكرة في متناول الجميع، ويتراوح بين 25 و35 ألف ليرة سورية، أيّ ما يعادل ربع راتب الموظف الحكومي آنذاك. إلّا أن المدير التنفيذي فراس هزيم أطلّ هذا العام على إذاعة ميلودي المحلية مؤكداً على أن سعر التذكرة يعادل سعر الفروج (الدجاج)، ومع ذلك لا يستطيع أصحاب الدخل المحدود والذين لا يمتلكون مورداً آخراً غير رواتبهم من الحضور.

أبو نوّار موظفٌ حكومي وأبٌ لخمسة أولاد، يُعلّق ساخراً على حديث هزيم بالقول: «وقت يتأمن حق الفروج نشتري فروج…الأغاني ما بتطعمي خبز». يتوقف أبو نوّار عن الكلام ثم يحمد ربّه أن أولاده لا يطالبون بحضور هذا النوع من الحفلات، ويختم حديثه بأسفه على شبابهم.

تُعتبر بطاقة حضور حفلٍ فني بسعر 7 دولاراتٍ أميركية للصف الأول من الأرخص عالمياً، إلّا أنها بعيدةٌ جداً عن القدرة الشرائية في ظل الواقع المعيشي لمعظم السوريين والسوريات، فبحسب تقارير جهاتٍ دولية عديدة، من بينها بيانٌ نشرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر «يعيش ما يقارب الـ90 بالمئة من السوريين اليوم تحت خط الفقر، ويحتاج أكثر من 15 مليون شخص إلى مساعداتٍ إنسانية».

بدأت حملات التسويق والإعلانات لهذه الاحتفالات في دمشق منذ بداية الصيف، بواسطة الإعلانات الطرقية وصفحات التواصل الاجتماعي وبرامج إذاعية تستضيف المنظمين والمنسقين، بالإضافة إلى رسائل ترويجية وصلت إلى مستخدمي خدمات شركتي الاتصالات سيريتل وMTN: «نجوم منحبهم وأجواء مميزة بحفلات أرض المعرض القديم»، «جاهزين لأضخم حدث فني بسورية لعام 2023؟».

حضر مهرجان ليالي قلعة دمشق أكثر من عشرين ألف متفرِّج على مدار الليالي الخمس، وتراوح عدد الحضور في الليلة الواحدة بين 3500 و5000 شخص، وأكثر الحفلات التي لاقت إقبالاً هي حفل الافتتاح مع زياد برجي ومحمد مجذوب، وحفلات جوزيف عطية ومروان خوري. ومع كل ذلك، لم تهتم شريحةٌ واسعةٌ من السوريين والسوريات بالحدث، لا تعالياً ولا انفصالاً عن الواقع السوري، إنما انغماساً كلّياً في الواقع اليومي المُعاش، فحين سألت الصيدلانية نور عن رأيها في الاحتفالات أجابت بدهشة: «عنجد ما بعرف شو هاد!».