يطرحُ اتساعُ الفجوة بين الدخل والإنفاق في سوريا أسئلةً كثيرةً عن الأوضاع المعيشية وازدياد نسبة الفقر وغياب الخدمات وتأزّم الوضع الاقتصادي. فَتَحَت هذه الأحوال البابَ أمام إعلاميين سوريين لصناعة محتوى تقوم فكرته الأساسية على إيقاف الناس في الطرقات للتحدُّث معهم عن صعوبة تأمين لقمة العيش، والأساليب التي يتحايلون من خلالها على الجوع وغياب التنوع الغذائي وغلاء الأسعار، وذلك مقابل هِباتٍ مالية أو عينية تُعطى لهم بعد المقابلة مكافأةً على الإجابة عن سؤالٍ بسيط لا يحترم عقولهم، مثل سؤال شادي حلوة المتكرر عن حاصل جمع عددين من منزلة الآحاد.
ينتشرُ هذا النوع من المحتوى بشكلٍ واسع، إلا أننا سنتناول نموذج شادي حلوة الذي يُقدِّم برنامج الناس لبعضها على يوتيوب، وذلك على هامش عمله كمراسل للتلفزيون السوري الرسمي في حلب. تتقاطع فيديوهات حلوة مع المحتوى الذي يقدمه آخرون في طبيعة الأسباب التي يدّعي المقدّمون أنها أدّت لوصول السوريين إلى هذا الوضع المعيشي المتدهور، في حين تختلف أنواع الهِبات التي يقدمونها للناس الظاهرين أمام الكاميرات بين النقدية والعينية. وتكمن خصوصية شادي حلوة في المباشرة وفي طبيعة اختيار أهدافه من الفقراء وكيفية إيقافهم في الشارع وطريقة الحوار معهم.
قدّم شادي حلوة ضمن ستة مواسم متتالية ما يزيد على 250 فيديو، تحاول جميعها أن تقدّم أمثلةً عن معاناة الشعب السوري جرّاء الحرب المستمرة منذ أكثر من 10 سنوات. لم يتبدل المحتوى مع الوقت، ففي أي فيديو سوف تجد أرملةً أو يتيماً، وكثيراً من الأحيان رجلاً أو امرأةً في السبعين من عمرهم بعيون متورّمة من البكاء. تتطور أحداث عموم الفيديوهات بسرعة، فتنسدل صورة شادي حلوة باستمرار بعد أن خلع البدلة العسكرية لانحسار مضمونها ليرتدي سحنة العمل الإنساني؛ هيئة تبدّلت جذرياً عن صور مرافقته عناصر وضباط جيش النظام لسنوات، حتى تلك التي كانت الأكثر دمويةً برفقة العقيد سهيل الحسن الملقب بـ«النمر».
مواجهة الناس ضمن وضعهم المعيشي الصعب، وافتعال الانتماء لهم والرغبة في مساعدتهم، جعل من هيئة البراءة التي انسابت فجأةً إلى أسلوب الحوار وتقديم المساعدات، واضحةً في كونها استغلالاً للمعاناة من خلال الاستعراض الدعائي للعطاء. إلا أنه عند مشاهدة المزيد من حلقات البرنامج، يظهر مدى حاجة الناس للكلام، وربما لشيءٍ أعمق وهو الإنصات؛ أن يشعروا أن لمعاناتهم قيمة وهناك من يُنصت لها وقادرٌ على تقديرها، حتى لو كان هذا الإنصات عبارةً عن مجاملةٍ فضفاضة تنتهي بمبلغٍ ماليٍّ بسيط لا يُعتبر حلاً أبداً، ولكنه يحميهم من العوز بضعة أيام في مرحلةٍ تخلّت فيها السلطة السورية عن دورها والتزاماتها المعيشية. مع ذلك، لم يتردد شادي حلوة، في جميع حوارات برنامجه، في تقديم معاناة السوريين كسببٍ وليس كنتيجة؛ كسبب لخيارات سياسية واجتماعية يدفعون ثمنها اليوم، وليس كحصيلة أعمال حربية لميليشيات ومحاور وطائرات وبراميل دمرت اقتصاد البلاد ومقدّراته وهجّرت شعبه.
إذاً، يقدِّم شادي حلوة في فيديوهاته نتيجةً منطقيةً لدولةٍ تنتصر على شعبها ثم تتنصَّل من مسؤوليتها المباشرة تجاهه. وبدلاً من تشخيص المشاكل الحقيقية، يُكرر حلوة في حديثه الكثير من الكلام على «الصمود» و«الانتصار» ليبرّر غياب الدولة المشغولة بما هو أهم من أحوال الناس ولقمة عيشهم. وهو لا يبرر غيابها فقط، بل قدرتها على التجاهل وطمس فئات شعبية كاملة تعاني الفاقة. ونرى أيضاً في هذه الفيديوهات المعنى العميق لما تركته وراءها جملة «سوريا الأسد»، إذ نرى ساكنيها بعيداً عن الإعلام الرسمي المشغول بالقضايا الكبرى؛ نراهم يستسلمون للنحيب المتقطع، مرةً بالخجل ومرةً أخرى بالاحتجاب خلف ابتساماتٍ غير كاملة وهم يجيبون على أسئلة بسيطة جداً لا تحتاج إلى تفكير، ولكن ليس قبل سرد معاناتهم وخسائرهم وضحايا عائلاتهم والمختفين من أفرادها، ليحصلوا في النهاية على المبلغ الرمزي وضحكة شادي حلوة العريضة، كما لو أنه استطاع من خلال الهبة المالية البسيطة أن ينهي معاناتهم، وأن مأساتهم المتجذرة في واقعهم المعيشي لن تعود مجدداً.
يظهر جلياً كيف أن الخير بالنسبة لشادي حلوة لا يعدو كونه وسيلة ظهورٍ تنتهي بعدم تقدير معاناة السوريين الفعلية والإنكار الفج للحقيقة وعدم الاعتراف بالتسلط الحكومي وغياب دور الدولة أمام الواقع المعيشي والاجتماعي الصعب في سوريا، وتجاهل ما خلّفته الحرب من طبقات لأمراء الحرب ومحاسيب للنظام هم جزءٌ أساسي من الفاقة التي تستعرضها الكاميرات. كما لا يتردد حلوة في تقديم نفسه كحلقة وصلٍ تستطيع خلق روابط اجتماعية واقتصادية بين السوريين المقيمين داخل سوريا والسوريين في خارجها، من خلال الإرسال المستمر للمبالغ المالية عبر شركات التحويل التي يسيطر عليها النظام، وهو الشكل الأمثل لما يتوقعه النظام عندما يتعرض لانتقادات حول الأوضاع المعيشية داخل سوريا. يحرص حلوة على التذكير بأن المبالغ التي يوزعها على الناس الذين يقابلهم في برنامجه قادمة من سوريين خارج سوريا، أولئك الذين ظنوا أنهم تحرروا من دور الرهينة بخروجهم من البلاد.
استنزاف المزيد من السوريين من خلال إرسال الحوالات المالية من الخارج للتخفيف من مشاكل المقيمين في البلاد ليس أسلوب شادي حلوة فقط، بل أسلوب النظام السوري فعلياً، حيث قدَّر الباحث عمار يوسف أن نسبة السوريين الذي يعتاشون على الحوالات المالية يبلغ 70 بالمئة من مجمل سكان سوريا، يحاول من خلالها اللاجئون والمغتربون مساندة أقربائهم وعائلاتهم بتأمين الأساسيات فقط، وهم يعلمون أن الاستغلال المادي وغياب الأمان الاقتصادي قد كرّس هذا النهج كفكرة ثابتة لدى أغلب العائلات السورية، مفادها أن من يسندهم في أوضاعهم المعيشية الصعبة هم اللاجئون والمغتربون، وما يفعله شادي حلوة هو ما يفعله مئات آلاف السوريين دون أي بطولة أو استعراض، بل بصمت تام وخجل أحياناً، غير أن شادي لا يدفع من جيبه، بل من الجيوب نفسها التي تؤمن حياة مئات آلاف الأسر الأخرى الفقيرة في البلاد.
لم يتردد حلوة في إعادة تلميع نفسه من جديد من خلال تكريس الهشاشة، وإعادة عرضها كمحتوى يبحث من خلاله عن المزيد من المشاهدات. لقد فعل ما يفعله دائماً؛ ادعاء البطولة والانتصار الفج، لا على نفسه أو على السوريين أنفسهم، بل على الحقيقة من خلال حجبها بالتكتم أو التسليع. تعيش أغلب العائلات السورية على مبلغٍ قدره نصف مليون ليرة، بينما تقول جريدة قاسيون المحلية إن تكلفة معيشة الأسرة المكونة من خمسة أفراد تصل إلى 6 ملايين ليرة سورية، ما يعني أن أغلب العائلات تعيش على 8 بالمئة فقط من تكاليف معيشتهم، وهو ما أكدته الأمم المتحدة في تقريرها الأخير حول الوضع المعيشي في سوريا، حيث قال برنامج الأغذية العالمي إن حوالي 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينما يحنّ عليهم شادي حلوة بابتسامته بعد أن يعرض هشاشتهم من خلال الكاميرا التي انتقلت من غبار المعارك إلى استعراض المأساة التي خلّفتها هذه المعارك.