لا تزالُ تبعات زلزال السادس من شباط (فبراير) مستمرةً في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، وشملت تهديدَ حياة آلاف المرضى السوريين الذين لم يعد بمقدورهم الدخول إلى الأراضي التركية للعلاج من أمراض مستعصية لا يتوفّر علاجها داخل هذه المناطق، وخاصةً مرضى السرطان الذين توقفت السلطات التركية عن السماح باستقبالهم على أراضيها. وبرّرت تركيا هذا المنع بالأضرار التي لحقت منشآتها الصحية نتيجة الزلزال، وخروج بعض مستشفيات ولاية هاتاي عن الخدمة، وهي التي كانت  تستقبل الجزء الأكبر من المرضى السوريين الذين يعبرون الحدود لتلقي العلاج.

ووسط غياب أي موقفٍ دولي ضاغط لأجل إنقاذ هؤلاء المرضى، واقتصار المناشدات الموجهة للسلطات التركية على دعواتٍ شعبية وأخرى من منظمات المجتمع المدني، وبعد اعتصامٍ دام لثلاثة أيام قبالة الحدود السورية التركية قام به مرضى السرطان وذووهم وناشطون ومتضامنون، أعلنت إدارة معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، صباح اليوم الثلاثاء، عن موافقة تركيا إدخال مرضى السرطان السوريين المُسجلين بعد الزلزال إلى المستشفيات التركية بدءاً من يوم غدٍ الأربعاء 26 تموز (يوليو)، دون ذكر أي معلوماتٍ عن مصير باقي المرضى من أصحاب الأمراض المزمنة أو التي يستعصي علاجها في مناطق الشمال السوري بسبب غياب التجهيزات والبنى التحتية اللازمة.

غرافيتي على جدار في مدينة بنش في ريف إدلب تضامناً مع مرضى السرطان الممنوعين من دخول تركيا للعلاج

بدورها، كانت مؤسسات الأمم المتحدة غائبةً طوال الفترة الماضية التي مُنع فيها المرضى من الدخول إلى تركيا، ولم تتفاعل مع القضية أو تحاول تأمين العلاج للمرضى، ولا حتى مارست الضغط على السلطات التركية لإدخالهم إلى أراضيها، رغم أن مئات المرضى يواجهون تهديداتٍ بالموت في حال عدم التدخل لإنقاذهم، لا سيّما أن عموم المشافي والمنشآت الطبية في الشمال السوري قد وصلت إلى حدود الاستيعاب القصوى منذ فترةٍ طويلة، وزاد الزلزال وتبعاته من تدهور الأوضاع بفعل الأضرار المباشرة وغير المباشرة على المرافق الصحية والنقص في المخزونات الاحتياطية من المواد الطبية.

وكانت السلطات التركية قد أوقفت إدخال عموم المرضى السوريين لتلقي العلاج عقب الزلزال مباشرةً، ثم استأنفت بعد ذلك إدخال مرضى السرطان الذين كانوا يتلقون العلاج في المستشفيات التركية قبل الزلزال، لكن دون السماح بدخول المرضى الذين تم تشخيص إصابتهم بالسرطان بعد وقوع الزلزال، والذين قدَّرت مصادر طبية في الشمال السوري للجمهورية.نت عددهم بأكثر من 600 مريضٍ ومريضة، منهم مَن فقد حياته بانتظار سماح تركيا بدخوله إلى أراضيها والحصول على العلاج. وهو ماحدث مع الطفل سليمان نشأت عيسى، الذي تُوفي يوم السبت الماضي في منطقة عفرين بريف حلب الشمالي. وكان الشاب أحمد عبدو كوري، من بلدة عنجارة في ريف حلب، قد تُوفي نتيجة السبب ذاته يوم الجمعة 21 تموز (يوليو) الجاري. وفي يوم 19 تموز الماضي، توفى الطفل غياث محمد رئيسي، من أبناء مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، بعد معاناته هو الآخر مع مرض السرطان وعدم السماح لذويه بإدخاله إلى المشافي التركية لتلقي العلاج.

مرضى السرطان في شمال سوريا أثناء اعتصامهم بالقرب من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية

وبحسب الطبيب بشير الإسماعيل، مدير التنسيق الطبي في معبر باب الهوى الحدودي، فإنّ زلزال السادس من شباط «تسبّب في تضرر القطاع الصحي في ولاية هاتاي والجنوب التركي، حيث كان أغلب المرضى السوريين يتلقون العلاج». ولكن ليس هذا السبب الوحيد بحسب الإسماعيل، فقد تسبّب «عدم وضوح سياسات التعامل مع المرضى السوريين ضمن النظام الإداري الجديد لتركيا في تعثُّر دخول المرضى». وليس هناك تفاصيل واضحة عن «النظام الإداري الجديد» الذي قصده الإسماعيل، ولكنه يشير إلى الإجراءات التركية الجديدة على الحدود السورية بعد الزلزال.

وأضاف الإسماعيل أن مكتب التنسيق الطبي في معبر باب الهوى سجّل أسماء حوالي 900 مريض-ة بحاجة إلى الدخول إلى تركيا منذ أيار (مايو) الماضي، بينهم 300 حالة من المرضى القدامى، دخل بالفعل 250 منهم إلى الأراضي التركية: «لكن يوجد 600 حالة إضافية جديدة شُخّصت إصابتها بالمرض بعد الزلزال، ويحتاجون النقل إلى تركيا، وننتظر من الجانب التركي إدخالهم».

مرحّلون من تركيا مصابون بالسرطان

حسين عبد الكريم القاسم، البالغ من العمر 36 عاماً، مصابٌ بسرطان الجلد والدم، بالإضافة إلى أنه يعاني من مرض الديسك، وهو لم يحصل على دوائه المنتظم منذ قرابة 3 شهور بسبب ترحيله من قبل السلطات التركية إلى إدلب أثناء تلقيه العلاج هناك، وذلك رغم امتلاكه كافة الأوراق الثبوتية التي تسمح له بالبقاء والعلاج على الأراضي التركية.

ويقول القاسم إنه أثناء ذهابه من مدينة هاتاي إلى مدينة غازي عنتاب في الجنوب التركي برفقة عائلته   لزيارة والدته المريضة والمقيمة هناك، ألقى الأمن التركي القبض عليه في كراج غازي عنتاب، وجرى ترحيله إلى سوريا مع عائلته، ليفقد القدرة على الوصول إلى العلاج رغم أنه أنهى الشطر الأكبر منه.

علاجات الأورام المتوفرة في الشمال

يوجد في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام خمسة مراكز طبية لتشخيص وعلاج الأورام السرطانية، أقدمها وأكبرها مركز الأورام في مستشفى إدلب المركزي، والذي افتتح عام 2018؛ وقسم الأورام في مستشفى الباب بريف حلب الشرقي؛ وقسم الأورام المفتَتح حديثاً في مستشفى باب الهوى؛ وعيادة تشخيص الأورام في المركز الصحي في جرابلس. وتحظى جميع هذه المراكز بالدعم أو الإشراف المباشر من قبل الجمعية الطبية السورية الأميركية (SAMS سامز). كما يوجد في المنطقة قسمٌ للأورام افتُتح حديثاً في مستشفى إدلب الوطني المدعوم من قبل وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام.

وقال الطبيب أيهم جمّو، رئيس مركز سامز للأورام في مستشفى إدلب المركزي للجمهورية.نت، إن مركز الأورام لديهم يقدم العلاج الكيماوي بشكلٍ مجاني لستة أصناف من أنواع مرض السرطان، بما فيها سرطانات الأطفال واللوكيميا، بالإضافة إلى تقديم جرعات مجانية لباقي أنواع السرطان: «هذا هو العلاج المتوفر حالياً في المركز، وهو يشكل حوالي 70 إلى 80 بالمئة من أنواع العلاج الكيماوي، وهو نتيجة دعمٍ تقدمه منظمات إنسانية وأصحاب رؤوس أموال في المنطقة».

مرضى السرطان أثناء تلقيهم العلاج في قسم الأورام التابع لمشفى إدلب المركزي

وبخصوص أنواع العلاج لمرضى السرطان التي يفتقدها الشمال السوري، أكّد جمّو على غياب العلاج الإشعاعي والعلاج المناعي بشكلٍ تام عن منطقة إدلب، مشيراً إلى أنّ العلاج الإشعاعي ينحصر وجوده في تركيا، وأمّا العلاج المناعي فمن الممكن توفيره ولكنه مكلفٌ جداً. وأوضح جمّو أن المركز الذي يديره «استطاع علاج قرابة 60 بالمئة من الحالات التي تحتاج العلاج الكيميائي منذ وقوع زلزال السادس من شباط»، والذي كان موعد إغلاق معبر باب الهوى أمام مرضى السرطان.

وشدّد الطبيب جمّو على ضرورة إدخال المرضى إلى الأراضي التركية، وذلك لوجود حالات أو أنواع سرطانات قابلة للشفاء في حال دخولها وعدم التأخر في علاجها داخل تركيا، مؤكداً على أن التأخير في إدخالهم قد يتسبب في انتشار المرض في أنحاء عديدة من أجساد المرضى ووفاتهم. وطالب جمّو خلال حديثة للجمهورية.نت جميع المعنيين بفتح ممرٍّ إنساني إلى تركيا، وخاصةً للمرضى المحتاجين للعلاج الإشعاعي والمناعي، بالإضافة إلى العمل على تأمين العلاجات الكيميائية وإنشاء مركز متكامل لعلاج الأورام في شمال غربي سوريا، وبتجهيزات قادرة على تقديم جميع أنواع العلاج الإشعاعي والمناعي والهرموني والكيميائي.

ويبلغ اليوم عدد مرضى السرطان في شمال غربي سوريا قرابة 6 آلاف مريض ومريضة، تمكّنت المراكز المحلية، بحسب جمّو، من علاج 2360 حالة منهم بالعلاج الكيميائي. ويستقبل مركز سامز في مستشفى إدلب المركزي قرابة 2000 مريض-ة شهرياً، منهم 3 حالات جديدة في الشهر الواحد.

اعتصام أمام الحدود التركية

في محاولةٍ لتسليط الضوء على معاناة مرضى السرطان، بدأ مرضى السرطان أنفسهم، بالإضافة إلى ناشطين وعاملين في المجال الطبي، اعتصاماً مفتوحاً بالقرب من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، مطالبين الحكومة التركية بفتح المعبر لدخول مرضى السرطان. 

اعتصام مرضى السرطان بالقرب من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية

وقال أحمد رحال، أحد منسقي الاعتصام، للجمهورية.نت: «هذه حملة شعبية يقوم عليها المرضى بمساعدة من ناشطين سوريين بهدف تسليط الضوء على قضية مرضى السرطان ولمناشدة الدولة التركية بإدخال 608 مريض-ة شُخّصت حالتهم بعد الزلزال. ناشد المعتصمون، بالإضافة لتركيا، كلاً من المجتمع الدولي والدول العربية لمساعدة مرضى السرطان وتأمين العلاج اللازم». وأكد الرحال أن الاعتصام سيظل مستمراً إلى حين حصول المرضى على حقهم في العلاج، وهو ما تحقّق صباح اليوم بموجب القرار التركي.

داخل إحدى خيم الاعتصام، كانت السيدة خديجة تحمل أوراقاً وتحاليل طبية خاصة بابنتها المصابة بالسرطان: «آمل بإدخالها إلى تركيا. ابنتي تذبل أمامي وتفقد حيويتها يوماً بعد يوم. فقدتُ الثقة بالجميع، ولكنّ الغريق يتعلّق قشة».

مرضى السرطان في شمال سوريا داخل إحدى الخيم الاعتصامية بالقرب من معبر باب الهوى على الحدود السورية التركية