بين فيزياء الكم والسياسة، يصعبُ تماماً تحديد موقع الجدل وماهيته، والبحث والتحليل هناك يبدو صعباً ومكلفاً على جميع الصُعد، لكنه جذّاب على صعيدِ ما قد يخرُج به من تجارب. كتجربة أوبنهايمر، أحدث أفلام الصانع كريستوفر نولان، محترف البحث خلف الأسئلة الخطِرة، التي يمكن أن تتأرجح بأجوبتها بين شر مطلق وخير مطلق، لذا فلا محاكمة منطقيّة يمكن أن تنتهي بجواب واضح، ولا بحكم تطلقه يمكن الإجماع عليه.
أي تَوقُّع مُسبَق عن الفيلم له مكانه في الساعات الثلاث التي تحتشد فيها عدة خطوط زمنية ودراميّة، لكل منها طريق متوازن مدروس ومنضبط، بينما تتباين في قيمها ومشاعرها وحتى في ألوانها. فإن توقَّعت محاكمة سينمائية ما للمسؤول الأساسي عن اختراع وتطوير القنبلة النووية، التي قتلت أكثر من مئتي ألف ياباني بشكل مباشر، سوى عن آثارها غير المباشرة التي أودت بحياة الآلاف فيما بعد، ستجد ذلك. إن كنت تنتظر تبرئةً له من الاستخدام الدموي لنتائج علمه، فستجد ذلك بطريقة ما أيضاً. أما إن كانت القصة المنتظَرة هي توثيق لحياة واحد من ألمع العلماء الذين مروا في تاريخ البشرية، فهناك ما يقع في هذا الموقع أيضاً من الفيلم.

خطّان دراميّان واضحان يشكلان المحكمة السينمائية التي شكّلها نولان لأوبنهايمر، هما خط «ما قبل»، وخط «ما بعد»، أما النقطة الفاصلة فهي استخدام القنبلة النووية على أرض الواقع. «ما قبل» يتضمّن الرحلات الأكاديمية للعالِم بين جامعات عدّة، والتكوين الفلسفي لأفكاره، وكذا تكوينه العاطفيّ، ومن ثم حياته المهنيّة وصولاً إلى توليّه الإدارة العلمية للبرنامج النووي الأميركي من خلال قيادة نخبة علماء الفيزياء في الولايات المتحدة في مشروع مانهاتن السري لتطوير القنبلة الذرية.

هذا الخط الدرامي يمثّل مرحلة صعود الشخصيّة في طريق ثابت نحو ما يُفتَرض أنّه «النّجاح». في هذا الطريق، ستبدو شخصيّة العالِم مضطربة بشكل كلاسيكي أحياناً، بمعنى اهتمامه العلمي، يقابله فشل في إدارة أسرته وعاطفته، لأنه يرى كل مكونات الحياة اليومية كتفاصيل تقع بين عينيه ومشهد الكون الواسع المكوّن من الذرّات التي يسعى إلى تفكيكيها أو دراسة انشطارها علمياً.

أما الخط الثاني المقابل، والذي يتداخل في الفيلم بمشاهده مع الخط الأول، فهو ما بعد الانفجار النووي، وهو سلسلة من المحاكم المباشرة والافتراضية التي يمر بها العالِم؛ المباشرة هي جلسات المحاكمة المهينة التي خضع لها، بعد سحب الرُخص منه وإبعاده عن لجنة الطاقة الذرية بل واتهامه بالتعامل مع السوفييت، ووسمه بالخيانة بشكل من الأشكال. تلك المحاكمة لم تكن سوى نتيجة موقفه الذي عاد فيه خطوة إلى الخلف، عندما لم تنفع العودة، رافضاً استمرار تطوير القنبلة فيما بعد، واحتكار السلاح لدى دولة واحدة. إضافة إلى تلك المحاكمة الإجرائية المباشرة، كان هناك محاكمة أخرى في محكمته الذاتيّة، والتي ترددت فيها أصداء التفجير في أذنه ومخيّلته، فرأى في الطريق بشراً تتشظّى أشلاؤهم وتحترق وجوههم، ويتقيأون أصفر السُمِّ الذي ابتكره. وكأنها محاكمة الضمير التي تبدو معها المحاكمة المباشرة مجرّد تفاصيل إدانةٍ بما لا قيمة فعليّة له.

للتبرئة مكانها في الفيلم، وبأساليب مباشرة فجّة في بعض الأحيان، لكنّها بلا شك انعكاس للمنطوق الشعبي أصلاً تجاه أوبنهايمر، أو تجاه أولئك العلماء الذين استُخدمت أبحاثهم في دمار البشريّة، وهو أنهم ليسوا سوى علماء، أما وأن أبحاثهم استُخدمت في مجازر الإبادة الجماعيّة، فهذا يتبع لقذارة السياسة. حاولَ الفيلم مراراً تخليص بطله من «وسخ السياسة» في مواقع متعددة، حين خلع سترة عسكرية ارتداها لدقائق قليلة، وكانت غير مناسبة له أبداً. كما أن الرئيس ترومان إذ لمس في عينيه الندم، قال له بشكل مباشر «أتعتقد أن أحداً يسأل عمّن اخترع القنبلة؟ إنهم يسألون عمن استخدمها، وأنا من استَخدَمَها».

يتّكئ الفيلم أيضاً بطريقة مباشرة إلى عرق العالِم كيهودي، وهو استخدامٌ استهلاكي مباشر، وُضِع فيه أوبنهايمر بصورة المُجدّ الذي يريد أن يفوّت الفرصة على النازيّين، فيخترع القنبلة قبلهم، لأنهم أحرقوا شعبه (تلك جملة يستخدمها لتبرير إقباله على تطوير القنبلة أمام أحد زملائه)، فالنازيون سيدمرون العالم إن امتلكوا هذه القنبلة قبل سواهم. وتلك أيضاً من مكونات الخطاب الشعبي لدى عامّة المدافعين عن ضرورة تطوير القنبلة واستخدامها في ذاك الوقت من قبل الولايات المتحدة. 

حاول الفيلم ألا يغفل شيئاً مرتبطاً بأي انطباع حول شخصية أوبنهايمر، وتكوينها النفسي والعاطفي، حين شكّل، وإن بعجالة أحياناً، «بازل» الشخصية المعقّدة، بمجمل تجاربها العلمية والاجتماعية والعاطفية التي ستُنتِج منه بنيةً نفسيّةً مضطربة، مبدعة وخلّاقة، لكنّها مدمّرة بشكل من الأشكال. هو بذلك نتاج تاريخه ومرحلته وتجربته. إنّ عالماً لامعاً إلى هذه الدرجة، جنّده الجيش الأميركي، لن يخرج بجريمة فردية، ولا حتى بمجرّد تفوّق فردي، إنما سيخرج بتفوّق مهول ينتج نظرية علميّة تؤدّي إلى تفجيرٍ يغيّر شكل التاريخ، ويعطي معنىً جديداً للحرب، معنى هو المسيطر على مخاوف كل البشر حين الحديث عنها أمس واليوم. الحرب قبل القنبلة الذرية، هي حرب، وبعدها هي احتمالُ زوالٍ للبشريّة.

في مجمل تداخلات فيزياء أوبنهايمر بالسياسة الأميركية في نهايات الحرب العالميّة الثانية، يلعب الفيلم بوضوح صارخ لصالح بطله، حين يوسّع تلك الهوّة بينه وبين من جنّدوه، حيث العلم كسياق نظري يبقى براءاً بشكل ما من السياسة، وبطبيعة الحال من الحرب. هناك في الفيلم مقابل ذكاء العالِم إيحاءٌ بضيق أفق السياسيين، ففي مواقف تَماسِّهم المتعددة مع أوبنهايمر، تظهر اللمحات الكوميدية الوحيدة التي مررها الفيلم بخفّة، والتي من مقاصدها بشكل ما استصغار قيمة السلطة أمام قيمة النظريّة. وهي أيضاً بلاشك تبرئة لنظرية انشطار الذرّة من تبعات انشطار الذرّة، باعتبار الأولى علماً والثانية سلطة.

السلطة تظهر قذرةً في الخط الثالث الذي ماشى الخطين الرئيسين في الفيلم، والذي بدا أكثر الخطوط التي يمكن وصفها بالمرهِقة خلال مشاهدة الفيلم، بل والدخِيلة أحياناً. ذلك الخط هو كفاح السياسي لويس ستراوس، الذي أدى دوره روبرت داوني جونيور، بإبداع متناه، خلال جلسات الاستماع التي خاضها لسحب الثقة من أوبنهايمر. ستراوس سياسي فاعل تاريخياً في المشروع النووي الأميركي، جاء من المؤسسة العسكريّة، ليمثّل بشكل ما الأداة السياسية البراغماتية التي تريد ليَّ ذراع العلم، وتسخيره بشكل أعمى في خدمتها. وتحديد أهليته للثقة من عدمها وفق سوق السياسة.

ينحاز نولان في الفيلم لصالح الموسيقى والمؤثّرات وصناعة الصورة. تلك التفاصيل التي طالما تفوّقت على باقي المكوّنات في الكثير من أفلامه. في أوبنهايمر، للصناعة كلمة فصل في مواقع متعددة؛ حركة الكاميرا السريعة في بعض الأحيان والمفاجئة، وزرع التفجيرات الجزئية، والرؤى الكونيّة، والإشعاعات المتعاكسة والمتسارعة، بين بعض المشاهد بطريقة خاطفة، كلها مؤثرات واكبت الشخصية والحدث ببراعة. 

خالفَ المخرج التوقّعات بصناعة انفجار ضخم مهول وهو المحترف بذلك، وفضّل صناعة الانفجار من خلال انعكاساته المباشرة على الجو العام والشخصيات، لا من خلال ضخامة صورته. جاء الصمت المطبق الواضح الذي لحق مباشرة تجربة القنبلة الشهيرة ترينتي في صحراء نيومكسيكو، كلغة مؤثرة تمنح الانفجار النووي شكله الاستثنائي، وتعطيه معناه بأنه أكثر من مجرّد سحب نارية وفطر دخاني في السماء، إنه صمت لثوان، لحظة خلق الفراغ العظيم الذي تصنعه القنبلة، قبل حرق كل شيء.

لم تُصنع الوجوه بمساعدة تقنيات الغرافيك، بل كان المكياج التقليدي في واحدة من أكثر تجلياته السينمائية إتقاناً، وكذا الانفجارات ومواقع الاختبار وكل المكونات الأخرى، لم يستَخدم فيها الغرافيك ولا مفاتيح الكروما. لقد أصر المخرج على صناعة كل شيء بأيدي فريقه المحترف، وأقر أن فيلمه خال من الصورة المولّدة عن طريق الكومبيوتر (CGI)، ليكون خالياً كلياً من أثر الصور الجاهزة والمؤثرات الافتراضية، في زمن تشهد فيه هوليوود شللاً مرافقاً لحركة الإضراب التي قام بها الكتّاب والممثلون اعتراضاً على أجورهم وعلى الذكاء الاصطناعي. كان الفيلم بلا شك ضربة في خاصرة الذكاء الاصطناعي بشكل من الأشكال، ضربة ربما ليست مؤثّرة أمام الفورة الحالية لتلك التقنيات في الوقت الراهن. لكن أوبنهايمر من الجانب الفني هو مادةّ مبهرة وغنيّة بصرياً تصب في صالح الفن المصنوع باليد، وفي صالح الصناعة متعددة الورشات والاختصاصات، وهي واحدة من مبادئ نولان في الصناعة السينمائية. وهذا لا يعني أن المخرج لم يستخدم في الفيلم إلا ما اعتاد عليه في أفلامه السابقة، بل إن السياق العاطفي في بعض المواقع، والجنسي أيضاً، حضرا على نحوٍ غير معتاد في ما يقدمه نولان عادة، حتى أن حضورهما بدا مبالغاً فيه بشكل من الأشكال، كأن تعبُر جملة «الآن صرت أنا الموت… مدمر العالم» خلال الممارسة الجنسية للمرة الأولى مع عشيقته. المعروف تاريخياً أن هذه الجملة وردت على لسانه باكياً في استذكار اختبار «ترينتي»، وهي جملة تَرِدُ في كتاب للتعاليم الهندوسية، عكف أوبنهايمر على قراءته في فترة من حياته.

تاريخياً، حصدت أفلام سير العلماء الذاتية متابعة جماهيرية عالية، وبعضها كان أوسكارياً بامتياز، ويبدو أن أوبنهايمر ليس بعيداً عن ذلك، خاصة بأداء كيليان مورفي وبقية طاقم الممثلين، الذين كان أغلبهم نجوم شبابيك حضروا في مشاهد قليلة من الفيلم. إلا أن ما يحمله هذا الفيلم من خصوصية عن باقي أفلام السير الكلاسيكية في تاريخ السينما الأميركية، هو استخدام السيرة الذاتية، كبوابة لمراجعة تاريخية، واستعادة ذاكرة، وإطلاق أحكام. الفيلم عن تاريخ القنبلة النووية، لا عن مجرّد سيرة عالِم.