الاقتصاد التبادلي ابتداء من عام 2000 وبرنامج النفط مقابل الغذاء

عندما انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين العراق وسوريا عام 1980، إبّان الحرب العراقية الإيرانية، تضاءل التبادل التجاري بين البلدين، وبالتالي لم يوجد اقتصاد تبادلي حقيقي. ولكن فَتْحَ الحدود بين البلدين في 2 حزيران (يونيو) 1997 كان إعلاناً عن عودة التعاون الاقتصادي، وتتويجاً لمباحثات النائب السابق للرئيس السوري عبد الحليم خدام والسفير العراقي لدى قطر أنور صبري عبد الرزاق، والتي بدأت في 1996. استمرّت العلاقات بالتحسن، وفي عام 1998 تم إبرام اتفاقٍ لإصلاح خط أنابيب النفط بين كركوك، شمالي العراق، ومرفأ بانياس السوري.

بحسب بيانات مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية الفرنسي CEPII، وتحديداً قاعدة بيانات تدفقات التبادل التجاري بين الدول BACI، والتي يستند إليها مرصد التعقيد الاقتصادي OEC الذي أنشأته جامعة MIT، فقد بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2003 (العام الذي غزت فيه الولايات المتحدة العراق) بين سوريا والعراق، صادرات من العراق إلى سوريا بقيمة إجمالية قدرها 263 مليون دولار، جلُّها من الحبوب، أما صادرات سوريا نحو العراق، والتي كان قوامها مشتقات النفط والحبوب والمنتجات الاستهلاكية، فقد بلغت قيمتها الإجمالية 393 مليون دولار.

ومن باب المقارنة، كان التبادل التجاري بين الأردن والعراق في العام نفسه هو صادرات عراقية جُلُّها من النفط الخام بقيمة إجمالية قدرها 345 مليون دولار. أما صادرات الأردن فقد بلغت 542 مليون دولار، موزَّعة بين المنتجات الاستهلاكية (منتجات دوائية، منظفات، تبغ) والأجهزة الكهربائية وغيرها. 

لا تحتوي قاعدة البيانات السابقة على معلومات التبادل التجاري بين سوريا والعراق في الفترة التي تلت الانفتاح الاقتصادي أواخر التسعينيات وصولاً لما قبل 2003، وهي فترة مهمة جداً لفهم الآلية التي تعاون بها النظامان، السوري والعراقي، اقتصادياً بعد عقود من القطيعة. وهذه هي الفترة التي تخلّلتها مليارات الدولارات غير المشروعة التي تحصّلَ عليها العراق مقابل بيع النفط لدول الجوار مثل سوريا، متجاوزاً العقوبات المفروضة عليه وقيود برنامج النفط مقابل الغذاء.

تستند هذه المقالة على التقارير المفصّلة، الواقعة مجتمعةً في بضعة آلاف من الصفحات، والتي نشرتها في 2004 كلٌّ من لجنة التحقيق المستقلة في فساد برنامج الأمم المتحدة للنفط مقابل الغذاء والتي ترأسها بول فولكر (الرئيس السابق لمجلس الاحتياط الفيدرالي- البنك المركزي الأميركي) بتفويض من كوفي عنان ومجلس الأمن؛ بالإضافة إلى تقرير تشارلز دلفر (المستشار الخاص لمدير المخابرات المركزية الأميركية في حينه والمحقق في مجال الأسلحة). تُشير هذه التقارير إلى أن مصادر بياناتها هي المستندات المُصادَرة من الحكومة العراقية وقواعد بيانات قسم المحاسبة في شركة تسويق النفط العراقية (سومو) ووزارة النفط العراقية، إضافةً إلى مقابلات أُجريَت مع مسؤولين عراقيين سابقين. نَشرَتْ هذه التقارير جميع الوثائق والمعلومات وحتى قواعد بيانات سومو، التي امتازت بأنها مرتبطة بنظام متابعة إلكتروني يرصد قيمة الرسوم المفروضة والمحصَّلة، وأسماء الكيانات والأفراد المرتبطين بالعقد واسم الجهة التي تقوم بالدفع، كما نشرت ردود الأفراد والجهات المتورِّطة في الفساد المصاحب للبرنامج.

عن برنامج النفط مقابل الغذاء وأهم عيوبه

سَمَحَ برنامج النفط مقابل الغذاء للعراق بتصدير جزء مُحدَّد من نفطه ابتداءً من عام 1996، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية بإشراف الأمم المتحدة. بدأ البرنامج بتمكين العراق من بيع ما قيمته 1.6 إلى 2 مليار دولار من النفط كل 6 أشهر، ورُفِعَ الرقمُ إلى 5 مليار وربع عام 1998 بسبب عدم تغطية الأرقام السابقة الحاجات الطبية والغذائية للشعب العراقي، ليُزال السقف بعدها بعام بشكل كامل. توقَّفَ البرنامج إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

للبرنامج حوكمة مُفصَّلة ولجان وشركات تُراقب محاولات خرق العقوبات والقيود، وكانت عوائد البرنامج من النفط تُصرَف على الشكل التالي:

30 بالمئة، ومن ثم 25 بالمئة وصولاً إلى 5 بالمئة، مُنحت كتعويضات للكويت عبر لجنة أممية.

53 بالمئة، ومن ثم 59 بالمئة لشراء الحاجات الغذائية والطبية وغيرها.

13 بالمئة لشراء الحاجات الغذائية والطبية وغيرها لمناطق كردستان.

4 بالمئة لتغطية نفقات الأمم المتحدة في إدارة البرنامج وبعض الدول الأعضاء.

وبحسب الأرقام والعقود، حصد البرنامج منذ بدأ عام 1996 وحتى انتهائه عام 2003 ما مجموعه 64.2 مليار دولار من مبيعات النفط لـ 248 شركة. تم صرف 34.5 مليار منها للغذاء والمستلزمات الإنسانية والصحية وغيرها، اشترتها الحكومة العراقية من 3614 شركة. كما مَنحت الكويت تعويضات قيمتها 18 مليار دولار.

في السنوات الأخيرة من عمر البرنامج، كان ثلث إلى نصف النفط العراقي المُباع يذهب لصالح شركات أميركية ولكن عبر شركات طاقة وسيطة حول العالم، تحديداً الشركات الروسية، والتي بلغت قيمة عقودها 19.3 مليار دولار من قيمة النفط العراقي المُباع في فترة عمر البرنامج الأممي.

تضمّن البرنامج عيوباً جوهرية سمحت بما حصل لاحقاً من فساد واستغلال لعقود النفط وما عُرِف بالكوبونات؛ وهي إيصالات معتمدة من الأمم المتحدة تُتيح للمستفيد النهائي، كشركات الطاقة، الحصول على عدد محدد من براميل النفط. ولعلَّ أهم العيوب هي مَنْحُ النظام العراقي صلاحية اختيار المُشترين لنفطه وانتقاء الشركات المزوِّدة للبضائع والغذاء، إذ أتاح ذلك استغلال النظام العراقي هذه السلطة لترسية العقود على شركات «الدول الصديقة»، خصوصاً من تملِكُ عضوية دائمة في مجلس الأمن، سعياً لنيل دعمها في المطالبة بتخفيف العقوبات عن العراق.

بشكل أكثر تفصيلاً، مُنحت شركة تسويق النفط العراقي (سومو) حق التفاوض وانتقاء العروض المقدمة من الشركات الأجنبية لبيع النفط. وقبل إتمام الصفقة، يُعرَض العقد على لجنة أممية ضمن البرنامج لفحصه. بعدها، تُودِعُ الشركات مبالغ الصفقات في حساب بنكي (حساب ضمان Escrow Account) تراقبه الأمم المتحدة في فرع نيويورك الخاص ببنك بي إن بي باريبا BNP. ومع كل مرحلة من مراحل البرنامج (كل مرحلة مدتها 6 أشهر)، أُتيح للعراق شراء البضائع والخدمات مباشرة من المزودين والدفع عبر الحساب البنكي في نيويورك، بحيث يملك النظام العراقي صلاحية اختيار المزوِّد، وتطّلعُ لجنة أممية بدورها على الصفقة وتسمح بنفاذها. 

تفادي الحظر والتلاعب بالبرنامج عبر دول الجوار

استطاع النظام العراقي تجاوز الحظر المفروض عليه عبر ثلاثة مسارات أساسية: 

1- بيع النفط بشكل غير مشروع (خارج قيود البرنامج الأممي) لدول الجوار عبر استغلال اتفاقيات وبروتوكولات تبادل تجاري مع سوريا والأردن وتركيا.

2- استغلال ثغرات في برنامج النفط مقابل الغذاء، فُرِضت بموجبها إتاوات أو ضريبة إضافية (Surcharges) بقيمة 25-30 سنت للبرميل على الشركات المشترية للنفط. وقد أوضحت بعض الوثائق المُصادرة من شركة سومو قيام النظام العراقي بفسخ عقود من يتخلّف عن السداد، خصوصاً أن الإتاوة الإضافية على البرميل بدأت بـ 10 سنت، وزادت لتصل في فترة معينة إلى 50 سنت، ومن ثم عادت للـ 25-30 سنت. وبحسب تقرير لجنة التحقيق المستقلة، دفعت 139 شركة (من أصل 248) هذه الرسوم.

3- إتاوات على الشركات المزوِّدة للغذاء والمنتجات بمعدل 10 بالمئة من قيمة أي عقد. وبحسب تقرير لجنة التحقيق المستقلة، دفعت 2253 شركة (من أصل 3614) هذه الإتاوات والرشى. 

قدّرَ تقرير دلفر (وقَدَّمت تقارير لجنة التحقيق المستقلة أرقاماً مشابهة) قيمة العوائد غير المشروعة من مبيعات النفط المُهرَّب التي تحصّلَ عليها النظام العراقي بين 1990 و2003 بـ 10.9 مليار دولار، 8 مليار منها عبر التفاهمات التجارية مع كل من الأردن (4.45 مليار دولار) وسوريا (2.8 مليار دولار من عام 2000 وحتى 2003) وتركيا ومصر، بشكل مُتجاوز لبرنامج النفط مقابل الغذاء. وقد تم الحديث حينها عن برنامج عقوبات ذكية، مفاده مراقبة أممية لحدود العراق مع دول الجوار لمنع الأنشطة المشبوهة، ولكن الخطة تلقّت رفضاً واسعاً من الدول المحيطة بالعراق.

كما قدَّرت التقارير قيمة الإتاوات الإضافية على مبيعات النفط ضمن البرنامج بـ 228 مليون دولار، استناداً إلى قواعد البيانات والإيصالات والبيانات البنكية لشركة سومو التي حصل عليها المحققون. أما قيمة الرشى والإتاوات المفروضة على شركات البضائع والغذاء ضمن البرنامج، فقد قُدِّرت بـ 1.5 مليار دولار. بالنسبة لاقتصاد الحدود القائم على التهريب، بالتعاون مع شركات خاصة ومستفيدين، فقد بلغ 1.2 مليار دولار، ويشمل ذلك التهريب عبر النقل الأرضي والبحري، ليُضاف إليها الجوي ابتداءً من أيلول (سبتمبر) عام 2000، عندما نشطت حركة طائرات الشحن بين سوريا والعراق، والتي لم تكن تخضع لرقابة الجهات الأممية. من المهم توضيح أن برنامج النفط مقابل الغذاء يحظِر بيع النفط خارج إطاره، ولكنه لا يمنع النظام العراقي من شراء ما يحتاجه باستخدام موارده وعوائده غير النفطية. 

وبحسب التحقيقات، كانت العقود أحياناً لا تُوقَّع إلا بعد دفع الإتاوات الإضافية والرشى، والتي كانت تُدفع عبر حوالات بنكية لحسابات لشركة سومو في مصارف لبنانية وأردنية مُسيطَر عليها عراقياً، وعبر الدفع النقدي في سفارات العراق، خصوصاً في موسكو (وبدرجة أقل في هانوي وأنقرة ودمشق)، والتي تصل لاحقاً في حقائب وتودع في حساب شركة سومو بالدولار الأميركي في مصرف الرافدين الحكومي – فرع بغداد، بوجود مسؤولين من وزارة الخارجية العراقية.

كما فتح موضوع كوبونات النفط العراقي المعتمدة من الأمم المتحدة باباً آخر للفساد. كانت الكوبونات (أو الأذونات) مصممة لتُمنَح لشركات النفط (المستفيد النهائي)، ولكن قواعد بيانات شركة تسويق النفط سومو، التي كشفت عنها لجنة التحقيق المستقلة في برنامج الأمم المتحدة للنفط مقابل الغذاء، أوردت أن بعضها مُنح لأطراف ثالثة باعتها مقابل عمولات، ومن ضمن هذه الأطراف شخصيات سياسية ومنظمات رغب النظام العراقي بكسب ولاءها. وقد طالت فضيحة الكوبونات والعقود النفطية المسؤول الأممي بينون سيفان، المدير التنفيذي لبرنامج النفط مقابل الغذاء.

الفساد الأممي الذي صاحب البرنامج

خلُصت نتائج لجنة التحقيق المستقلة إلى أن سوء الإدارة والاستغلال الذي حصل في إدارة البرنامج الأممي شملَ العاملين والمتعاقدين على حد سواء. فقد كان واضحاً للمحققين تَربُّح مدير البرنامج، بينون سيفان، من الكوبونات العراقية وتسهيل حصول شركات نفطية على عقود مقابل عمولات، مثل شركة African Middle East Petroleum Co. Ltd AMEP. اللافت أن مالك هذه الشركة هو فخري عبد النور، أحد أبناء عمومة بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة (وقد أكّد الأخير هذه القرابة ونفى بعضَ المزاعم، ودعا الناس في شهادته على العصر لانتظار التقرير النهائي الذي لم يكن أصدره فولكر بعد)، والذي كان على رأس عمله في العام الأول من عمر البرنامج، قبل أن يتولّى كوفي عنان المنصب خلفاً له. أوضحت البيانات البنكية أن العمولات الخاصة بسيفان تمّت بدايةً عبر حوالات بنكية من حساب الشركة لحساب شخص يدعى فريد نادلر، اتّضح أنه شقيق زوجة بطرس غالي، والذي سحب المبالغ نقداً وسلّمها باليد في جنيف لسيفان، الذي أودعها بدوره في حسابه صُحبة زوجته في الولايات المتحدة في نهاية المطاف (147,184 دولار). كما نشرت لجنة التحقيق حوالات تفصيلية مجموعها 160 ألف دولار وصلت لسيفان من عمّته المسنّة في قبرص، والتي تقاعدت من عملها كمصورة فوتوغرافية في جهة حكومية، ونمط حياتها ومكان إقامتها المتواضع لا يبرّران امتلاكها مبالغ كهذه.

أما بالنسبة للمتعاقدين، فقد طالت التحقيقات شركاتٍ تُراقب شحنات النفط المصدَّرة في الموانئ (شركة Saybolt Eastern Hemisphere BV)، وشركات تُراقب شحنات البضائع والغذاء المستورَدة في الموانئ ونقاط الدخول (شركة Cotecna Inspections Limited وقبلها شركة Lloyd’s Register Inspection Ltd.). كان المشترك بينها جميعاً أن مهامها تقتصر على المراقبة فقط، دون التفتيش في البضائع الواردة. وهو ما أتاح أن تكون البضائع والمنتجات ذات جودة عالية في العقود، ولكن ما يتم تسليمه للعراقيين عملياً هو بضائع ذات جودة متدنية، أو أن تكون العقود مُضخَّمة أصلاً.

اتضح في تحقيقات اللجنة عددٌ من الخروقات لسياسات انتقاء المتعاقدين مع المؤسسات الأممية، وشمل ذلك الشركات الثلاثة، وحتى انتقاء بنك BNP لفتح حساب البرنامج، والذي اتضح أن بطرس غالي تدخل شخصياً لانتقائه من بين ستة بنوك مرشحة. وقد أفاد تقرير اللجنة بأن الحكومة العراقية رشّحت هذا البنك لأنه «أكثر مرونة» في التعاطي مع العقوبات المفروضة على العراق، كما أرفق التقرير وثيقة تظهر فيها البنوك الستة، ويتذيّل البنك الفرنسي القائمة بحكم تصنيفه البالغ B/C وهو الأقلُّ مقارنةً بالبنوك الأخرى.

كما كشفت التحقيقات تورُّط ابن كوفي عنان، كوجو عنان، في فوز شركة Cotecna بعقد مراقبة شحنات النفط، حيث كان يعمل كموظف، وقدّمت التحقيقات أدلة على أن الابن ضلّل أباه عمداً، وأن الأخير لم يُسائِل ابنه بالشكل الكافي عن علاقته بالشركة. وهذه الشركة (التي أسسها ويملكها إيلي جورج ماسي، رجل أعمال مصري سويسري) ليست حديثة عهد بالفضائح، فقد سبق وأن نشرت جريدتا فاينانشال تايمز ونيويورك تايمز وثيقة تحمل توقيع روبرت ماسي، ابن إيلي، يتعهد بتحويل 6 بالمئة من قيمة عقد ربحته الشركة في باكستان كرشوة لصالح شركة عابرة للحدود (أوفشور) تملُكها عائلة بينظير بوتو عندما كانت في منصبها كرئيسة وزراء الباكستان (تقدر الرشى بـ 11.8 مليون دولار). كما كشفت التحقيقات أيضاً تَورُّط موظف في شركة Saybolt، قام بتزوير مستندات حمولات شحن نفطية مقابل مبالغ مالية، مكّنت من شحن براميل إضافية عبر ناقلة اسمها Essex عام 2001.

الدور السوري في تجاوز العقوبات وتهريب النفط والسلاح وتلقي كوبونات النفط

كانت سوريا تشتري النفط العراقي بشكل غير مشروع، بحسب برنامج النفط مقابل الغذاء، عبر تفاهمات تجارية ثنائية (يشار لها ببروتوكولات تجارية وتم توقيعها في حزيران من عام 2000) بسعر مُخفَّض يصل أحياناً إلى نصف سعر السوق، ومن ثم تُكرِّر النفط العراقي وتستخدمه للاستهلاك الداخلي، بينما تُصدّر النفط السوري إلى الخارج بسعر السوق. حوّلت سوريا عوائد مبيعات النفط العراقي في حسابين لشركة سومو، أولهما في البنك التجاري السوري والثاني في البنك السوري اللبناني التجاري في بيروت. يُخصم من هذه الحسابات قيمة البضائع والأغذية السورية المُصدّرة إلى العراق، ويحوَّل الباقي إلى مصرف الرافدين الحكومي لاحقاً. 

مثّلت سوريا منذ العام 2000 وحتى آذار 2003 المصدرَ الرئيسي للعوائد غير المشروعة للنظام العراقي، حيث تطوَّرت العلاقة بين البلدين عقب وفاة حافظ الأسد مباشرة، وبعد عام من تولي الملك عبد الله الثاني سدة الحكم في الأردن، إذ ضيّقَ الأخير على الأنشطة التجارية غير المشروعة للنظام العراقي عبر الأردن. وقد تم تأسيس مكتب مخصص لتنظيم النشاط التجاري العراقي في ميناء طرطوس (بديلاً عن الدور غير الرسمي الذي كانت تلعبه شركة النورس التي يملكها محمد تلاد العيسى -Muhammad Talad al-’Isa- والذي لم نجد معلومات عنه)، وتأسيس الشركة العراقية السورية للنقل الأرضي، وتنظيم معرض المنتجات السورية في بغداد في شباط (فبراير) 2002. وفي عام 2001 أُلغيت تأشيرات الدخول بين البلدين. وبحسب مختصين أشارت لهم تقاريرُ التحقيق، تجنّبت الولايات المتحدة الأميركية الضغط على سوريا لإيقاف هذه العلاقة الاقتصادية غير المشروعة للإبقاء على سوريا كأحد الدول المتعاونة في الحرب على الإرهاب، واستمالتها مستقبلاً عند الحشد لصالح غزو العراق (وهو ما رفضته سوريا). 

كانت سوريا إحدى الدول العشرة الأعلى مبيعاً لمنتجات وأغذية للعراق ضمن مدّة عمر البرنامج الأممي. باعت سوريا ما مجموعه 1.5 مليار دولار (للمقارنة باعت روسيا ما قيمته 3.8 مليار دولار، مصر 3 مليار، الأردن 2.6 مليار). كانت الرشى والإتاوات تأخذ أشكالاً قانونية ليتمَّ تبريرها. فمثلاً، كانت الشركات المزوِّدة للمنتجات والأطعمة تدفع رسوماً عالية لدخول البضائع إلى الموانئ، ورسوماً مضخّمة لنقل البضائع إلى المدن. كما أن عدداً من هذه الشركات كانت واجهات للنظام العراقي، تستحوذ على عقود غذاء من الحكومة العراقية بموافقة الأمم المتحدة، وتمنحها لشركات شرعية في الباطن مقابل عمولات تنتهي في جيب النظام. كما أن الأمم المتحدة أعلنت مراراً عن أن صادرات العراق من بعض السلع لا تتطابق مع واقع الصناعة المحلية، ما فتح المجال لتساؤلات حول إعادة بيع النظام العراقي للمنتجات المشتراة بشكل يمنحه عوائد إضافية يحرم بموجبها الشعب العراقي من الوصول إليها، أو يُبقي الرديء منها للاستهلاك المحلي.

بحسب تقارير إسرائيلية وأميركية، شكّلت سوريا نقطة العبور والتهريب الرئيسة للأسلحة والعتاد الحربي الذي حصل عليه العراق. فمثلاً، تمَّ عبرَ سوريا تهريبُ محركات روسية للطائرات المقاتلة العراقية تم تحصيلها من أوكرانيا، ودبابات ومدافع باعتها بلغاريا وبيلاروسيا والتشيك للعراق. 

الواجهات التجارية: من الإمارات للعراق مروراً بسوريا

لم يكن النظام العراقي، أسوة بالنظام السوري، حديث عهدٍ في توظيف شركات الواجهة لتمرير أنشطته غير المشروعة من نهب واختلاس وفساد وغيره. فمثلاً، فرضت الخزانة الأميركية عام 1991 عقوبات على 52 شركة عالمية و37 شخصية من مختلف الجنسيات عملت كواجهة لصدام حسين شخصياً وأدارت ثرواته. 

كشفت نتائج التحقيق المستقل في فساد برنامج النفط مقابل الغذاء عن استخدام الواجهات التجارية بوتيرة منتظمة. فمن ضمن شركات الواجهة التي أوردها التحقيق، شركة عالية للنقل والتجارة العامة Alia for Transportation and General Trade (مسجلة في العراق والأردن ويملكها رجل الأعمال العراقي حسين الخوام مع وزارة النقل العراقية)، وشركة الهدى للتجارة العالمية Al-Hoda International Trading Co (مسجلة في الإمارات بملكية عائلة الخوام ووزارة المالية والنفط العراقية)، وشركة الوصل وبابل للتجارة العامة Al Wasel and Babel General Trading LLC (مسجلة في الإمارات ويملكها رجل الأعمال الإماراتي إبراهيم لوتاه ووزارة المالية العراقية). تتبَّعَ التحقيقُ الحوالات البنكية لهذه الشركات واتضح استخدامها لحسابات في بنك أبو ظبي التجاري لنقل الإتاوات غير المشروعة والرشى لحسابات في «بنك الأردن» تتبَع لأشخاص يمثلون البنك المركزي العراقي، الذين يقومون بعدها بتحويل الأموال إلى مصرف الرافدين العراقي – فرع الأردن. كما ورد اسم شركة الإيمان لمالكها رجل الأعمال والسياسي سطام الكعود، التي قامت بأنشطة تجارية وهمية وسهَّلَت وصولَ رشى لصالح النظام العراقي باستخدام شركات تابعة لها في الإمارات والأردن، مروراً بسوريا، مسجّلة بأسماء أفراد من عائلة سطام الكعود. وفي الملحقات الخاصة بالتقارير، ذُكرت الشركات الواجهة المستخدمة ضمن عمر البرنامج الأممي، وهي متوزِّعة بين العراق وسوريا والأردن والإمارات بشكل رئيسي.

أوردَ التحقيق عدة شركات استفادت بشكل كبير من عقود الغذاء والسلع العراقية لتوريد منتجات لا تصنعها بشكل مباشر، وإنما تستوردها من موردين آخرين متعاقدين بالباطن. من أبرزها مجموعات شركات بالحصا الإماراتية، المملوكة لأحمد سيف بالحصا، شريك رجل الأعمال السوري فراس طلاس في حينه.

تفاصيل عن الضالعين من سوريا… عن الأمن ورجال الأعمال والمثقفين

بحسب قاعدة بيانات شركة سومو، اشترت شركة Vitol نفطاً عراقياً خصصه طارق عزيز للكاتبة السورية حميدة نعنع لقاء تأليف كتاب عن العراق وقادته. وبحسب شهادة طه ياسين رمضان في 17 آب (أغسطس) 2005، كان سبب انتقاء حميدة نعنع هو كتاباتها الإيجابية تجاه العراق ومديحها لصدام وقصي وعدي، بحسب تحقيقات اللجنة. بلغت مخصصات حميدة نعنع من النفط العراقي عبر سبع مراحل من برنامج النفط مقابل الغذاء 12.3 مليون برميل نفط، استطاعت بيع 8.25 مليون منها مقابل عمولة لشركة Vitol (بحسب مراسلاتها مع ممثل الشركة Gilles Chautard) ولكن العقود عملياً كانت باسم شركة في بنما اسمها Devon Petroleum وشركات أخرى في سويسرا واليمن.

وبحُكم اتفاقها مع الشركة، كانت حميدة نعنع هي من تقوم بدفع الرسوم المستحقة على Vitol لشركة سومو بعد خصم عمولتها، وبلغ مجموع هذه الرسوم 710 ألف دولار وصلتها عبر حوالات دفعتها Vitol لحساب نعنع في البنك العربي في جنيف، ومن ثم نقلت الكاتبة المبالغ إلى حسابها في البنك العربي في عمان وحولتها لحساب شركة سومو في الأردن. وفي ردِّها على نتيجة التحقيق المشفوع بقوائم الحوالات البنكية التابعة لشركة سومو، نفت Vitol علمها بأن حميدة نعنع كانت تدفع إتاوات إضافية لنظام صدام حسين نيابة عنها، وأن الشركة لم تدفعها لفعل أي شيء من هذا القبيل.

أظهر التحقيق في ملفات فساد البرنامج الأممي تورُّط شركة SES International Corp (كان اسمها سابقاً شركة لما التجارية Lama Trading Company)، وهي شركة سورية مملوكة لآصف شاليش (أو آصف عيسى) وعمه ذو الهمة شاليش (أو زهير شاليش، زهير عيسى)، رئيس الأمن الرئاسي والحارس الشخصي لحافظ الأسد؛ والتي كان نشاطها الأساسي الإنشاءات وبناء الطرق، ولاحقاً نشطت في مجال التجارة. حصلت الشركة ضمن البرنامج الأممي على عشرة عقود قيمتها 217 مليون دولار، تضمّنت توريدَ مواد بناء وأخشاب وأغذية. كانت طبيعة عملها أقرب إلى الوسيط، حيث أنها لم تتعاقد مع مصنعين ومنتجين بشكل مباشر لضعف خبرتها بالتجارة العالمية، وإنما مع شركات توزيع في الأردن ومصر، تشاركها أرباحها بنسبة وصلت إلى خمسين بالمئة. عند مواجهته بإيصالات عليها توقيعه تُفيد بدفع شركة SES إتاوات للحكومة العراقية تُمثّل 10 بالمئة من العقود، أشار آصف شاليش للجنة التحقيق أن هذه الإيصالات تحديداً استخدمها شركاؤه في الأردن ومصر دون علمه (كان يعطيهم إيصالات على بياض موقعة منه لتسهيل أعمال التنفيذ)، ولكنه أكد اضطراره في مناسبات أخرى لدفع إتاوات للنظام العراقي مقابل عقود، عبر تحويلات بنكية من حسابه في BNP بيروت. قُدّرت هذه الإتاوات بنحو 16.2 مليون دولار.

عملت شركات سورية مثل SES ومجموعة ماس الاقتصادية (مجموعة «من أجل سوريا» المملوكة لفراس طلاس) كواجهات اقتصادية مع «إدارة المشاريع التجارية»، التابعة للفرع الخارجي – المخابرات العراقية (بقيادة طاهر جليل حبوش)، لشراء مواد ثنائية الاستخدام وأسلحة ومنتجات محظورة على العراق (مصدرها أوروبا الشرقية وكوريا الشمالية بشكل رئيسي). كما كانت تتعاون مع شركات واجهة تابعة للمخابرات العراقية، مثل شركة البشائر المحدودة للتجارة (أدارها منير الكبيسي، موظف لـ 15 سنة في المخابرات العراقية وعلى علاقة وثيقة بآل شاليش في سوريا)، التي وَرَّدت مواد محظورة لهيئة التصنيع الحربي العراقية. فرضت العقوبات الأميركية على شركة SES ومالكيها في 2005 للدور الذي لعبوه.

نقل تقرير دلفر عن مسؤول عراقي رفيع أن شركات واجهة سورية أخرى مملوكة لأشقاء آصف شوكت، مفيد شوكت ومحمد شوكت، وشركة نور الله للنقل (Nurallah Transportation Company) التابعة لرامي مخلوف، كانت ضالعة في تهريب الأسلحة للعراق. كما أشار التقرير لضلوع أفراد بصفتهم الشخصية في المساعدة بتهريب الأسلحة للعراق، مثل العماد مصطفى طلاس الذي كان يوقِّع على عقود استلام أسلحة تُخفي حقيقة المستفيد النهائي من السلاح، مقابل 12-15 بالمئة من قيمة العقد.

اشتملت القوائم والبيانات التي نشرتها لجنة التحقيق على بيانات مفصّلة لكمية العقود والرشى والرسوم غير المشروعة التي شاركت فيها الشركات والأفراد من حول العالم. وَرَدَت مثلاً العقود التي حصلت عليها شركة الهدى العالمية للتجارة المسجلة في الإمارات، ويرِد اسم فراس طلاس كأحد المستفيدين إضافة لاستفادته من شركة مصرية هي International Company for Petroleum & Industrial Services- INCOME وشركة يمنية مع رجل الأعمال اليمني شاهر عبد الحق (Shaher Trading Company Limited). كما شملت القوائم شركة ألتون التجارية لصاحبها رجل الأعمال سليم ألتون، الحاصلة على 4 عقود؛ وشركة أبناء أنور العقاد؛ وشركة عوض عمورة وشركاؤه المملوكة لرجل الأعمال السوري الفلسطيني عوض عمورة، واقترن بهذه الشركة، بحسب بيانات التحقيق، أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية أبو العباس. أيضاً، الكاتبة السورية حميدة نعنع، كما ذُكر آنفاً، وارتباطها بشركة بنمية صُحبة الإعلامي غسان زكريا وهي Devon Petroleum LTD وشركة سويسرية (Genmar Resources GMBH). أيضاً، ظهرت عقود لغسان الشلاح شقيق راتب الشلاح، لشركة بشار النوري للتجارة (عضو غرفة تجارة دمشق).

الأمرُ الفريدُ في شركة أبناء أنور العقاد وملّاكها (هاشم وعبد الكريم ومحمد سامر) هو استمرارهم في الحصول على عقود أممية حتى يومنا هذا، كما نشر مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية السوري في تحقيقه عقود مشتريات الأمم المتحدة في سوريا، بالرغم من كون هاشم مُعاقَباً من قبل الإتحاد الأوروبي، وبالرغم من تورُّطهم السابق في دفع إتاوات ورشى للنظام العراقي بحسب تحقيق اللجنة المستقلة، كما يظهر في الصورة أدناه.

تجدر الإشارة إلى أن حصول شخص أو شركة على كوبونات النفط وإدراجه في قاعدة بيانات شركة سومو لا يعني صرفها من قبل المستفيد بالضرورة. فمثلاً، هناك كوبون لصائب نحاس (شركة مدّثر) بمليون برميل ولكنه لم يستخدمه. يحسم موضوع الاستخدام من عدمه ورود أسماء المستفيدين في المرحلة التي تلي المرحلة التي مُنحوا فيها الكوبون من عمر البرنامج.

كوبونات النفط لشراء الولاءات السياسية

بجانب الشخصيات والشركات السورية، تُظهر قاعدة بيانات شركة سومو أسماء شخصيات عربية متعددة مثل خالد جمال عبد الناصر، سلطان بن خليفة آل نهيان، حمد بن علي بن جبار آل ثاني، توجان الفيصل (شركة أردنية Middle East Advanced Semiconductors Inc)، وليث شبيلات (شركة بنمية Incomed Trading Corp).

تواصلت لجنة التحقيق المستقلة مع الأشخاص والشركات التي وردت أسماؤها في قاعدة بيانات شركة سومو الخاصة بالرسوم الإضافية والإتاوات وكوبونات النفط، ونشرت ردود من استجابوا. من أبرزهم النائب البريطاني جورج غالاوي، الذي ورد اسمه في قاعدة البيانات مع رجل الأعمال الأردني المقيم في بريطانيا فواز زريقات مع عقدٍ ببيع 11 مليون برميل نفط يُخصّص ريعُها لغالاوي. أوضح التحقيق أن المنظمة غير الربحية التي أسسها غالاوي باسم «قافلة مريم» (Mariam Appeal) للمطالبة برفع العقوبات عن العراق تلقّت منحة ضخمة قيمتها 434 ألف باوند من فواز زريقات، الذي تحصّلَ على المبلغ نتيجة بيع براميل النفط العراقي عبر شركته. كما أفادت لجنة التحقيق بضلوع زوجة غالاوي السابقة، أمينة ناجي أبو زياد، ورجل الأعمال العراقي برهان الجلبي وشركته Delta Services، في تسهيل مرور المنح المَجنيّة من صفقات بيع النفط العراقي لصالح منظمة غالاوي. في رده على اتهامات اللجنة، نفى جورج غالاوي بشكل قاطع تلقيه أموالاً عراقية، كما نفى معرفته أو تورُّطه بصفقات النفط العراقي، مؤكداً أن منظمته استلمت منحاً من الشيخ زايد- الإمارات (500 الف باوند) والملك عبدالله- السعودية (100 ألف باوند) بالإضافة لزريقات، ولكن تعذّر عليه سؤال هذه الشخصيات عن مصادر أموالهم.

خاتمة

وقع الغزو الأميركي للعراق المُنهَك عام 2003، لتتغيّر بعدها التوازنات السياسية والاقتصادية بين سوريا والعراق. نرى عند مطالعة أسماء الضالعين من مسؤولين حكوميين ورجال أعمال في الداخل والخارج في الفساد، ومعاينة التغاضي والتواطؤ والتورُّط الأممي في العراق، أن ما حصل حينها يتكرر اليوم في منطقتنا والعالم، وكمثالٍ على ذلك نتذكّر كيف أظهر ذلك تقريرُ مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية المشار إليه سابقاً، والتقارير التي كشفت عن تورط منظمة الصحة في سوريا في دفع رشى وفساد مع الحكومة السورية. تدعونا استعادة الحديث عن ملف فساد برنامج النفط مقابل الغذاء، والاقتصاد التبادلي بين سوريا والعراق حينها، للتفكر في كيفية استفادة قلّة حاكمة من العقوبات وتجاوزها حين يلزم، بينما يعاني شعبها الأمرّين. كما نرى كيف تُوظِّف هذه الأنظمة كل شيء في سبيل الاستمرار في استبدادها، فكما استخدمَ العراق سفاراته في موسكو ودمشق لتحصيل الإتاوات المدفوعة نقداً، نجد أن النظام السوري قد جنّد سفاراته في الخارج للتجسس على المواطنين بحسب تحقيق المركز السوري للعدالة والمساءلة.واليوم، لا بد وأن نتساءل عن رجال الأعمال والمثقفين والصحفيين والأكاديميين الذين تلقوا «كوبونات سورية». كم كتاباً أسود سيُنشَر عن سوريا، على غرار «الكتاب الأسود» الذي أصدرته رئاسة الجمهورية في تونس، وتضمّن أسماء الصحفيين المتورطين بدعم بن علي. ستُفتَحُ الدفاتر قريباً.