قبل الانتهاء من عمليات البحث والإنقاذ، ومع نهاية اليوم الرابع بعد زلزال السادس من شباط (فبراير)، تجاوز عدد ضحايا الكارثة في جبلة 300 ضحية، أي ما يُقارب ربع العدد الإجمالي المُعلن للضحايا في مناطق سيطرة النظام السوري. ففي الرابع عشر من شباط، أعلن وزير صحة النظام، حسن الغباش، عن الحصيلة النهائية التي أحصتها وزارته لضحايا الزلزال، والتي بلغت 1414 ضحية. وبعد مرور خمسة أشهر على الكارثة، لم تُصدر حكومة النظام حتى اللحظة تقارير واضحة تشرح بشكلٍ تفصيلي مقدار الخسائر في كل قطاع، بل اقتصرت تحديثاتها على عناوين من نوع «ضرر كبير» و«خسائر هائلة».
أمّا تحديثات محافظة اللاذقية فشملت خسائر مدينة جبلة في أغلب الإحصائيات، مما يُصعّب عملية العثور على أرقام واضحة تحدد الخسائر في كل منطقة. ما تم تأكيده، بحسب رئيس مجلس مدينة جبلة أحمد قناديل، هو انهيار 19 كتلة بناء بفعل الزلزال، وحسب أحدث إحصائية صادرة عن غرفة عمليات محافظة اللاذقية، تم هدم 11 بناءً متضرراً من الزلزال في جبلة.

قبل السادس من شباط، كانت مدينة جبلة الساحلية بعيدةً عن عناوين الأخبار: مدينةٌ صغيرةٌ تابعةٌ لمحافظة اللاذقية وغير مستفيدةٍ من الامتيازات السياحية لموقعها على البحر المتوسط، فهي مُخصصةٌ لسكّانها وتخلو من المنتجعات الفاخرة مثل جارتيها اللاذقية وطرطوس. أما كورنيش جبلة البحري، المتنفّس الوحيد لأهل المدينة، فهو طريقٌ متواضعُ تتفرّع من قبالته شوارع فرعية ضيقة وأخرى أعرض تقود إلى سوق السمك وإلى وسط المدينة والقلعة، وكذلك إلى شارع الغزالات الذي سيصبح معروفاً على نطاقٍ أوسع نتيجة الخسائر القاسية التي لحقت به بفعل الزلزال.

فجر السادس من شباط، سقطت الأبنية على رؤوس ساكنيها مخلفةً ضحايا بشرية وأنقاضاً ورُكاماً لم تتم إزالته بعد مرور خمسة أشهر على الكارثة، وستصبح جبلة وجهةً رئيسيةً لوفودٍ حكومية وإغاثية ودولية.

استجابة «الدولة السورية»

في صباح السادس من شهر شباط، أطلق أهالي جبلة مناشداتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي لإنقاذ أحبتهم ومعارفهم من تحت الأنقاض، مع تحديد مواقعهم والتأكيد في كل مرةٍ على عدم وصول فرق الإنقاذ إلى المنطقة رغم استنفار وحدة إطفاء جبلة، لتظهر قلة الموارد البشرية والمادية بشكلٍ فاقع. بلغ عدد عناصر وحدة الإطفاء 56 عنصراً فقط، عمِلوا ضمن «الإمكانيات المتاحة» بحسب تعبير الرائد إياد محمد، قائد الوحدة في المدينة، والتي شملت «مقص هيدروليك ومطرقة وسيارات ذات سلالم وروافع استُخدمت في إنقاذ الأحياء وانتشال الجثث».

رغم شحّ الموارد الصريح، وصل وزير دفاع حكومة النظام إلى جبلة بعد عدة ساعات على الكارثة بيَدين فارغتين، فقط «ليتفقد آثار الزلزال». أثبتت حكومة النظام فشلها في احتواء الكارثة مع نهاية اليوم الأول، فدعت الأمانة السورية للتنمية «الأهالي وشركات القطاع الخاص من متعهدين ومقاولين ممن لديهم آليات تفيد في أعمال رفع وإزالة الأنقاض ضمن محافظة اللاذقية باستخدام هذه الآليات للمساهمة في الإنقاذ»، وضمّنت دعوتها 17 موقعاً في مناطق عديدة من مدينة جبلة.

لم يكن مُتوقَّعاً لعموم السوريين حدوث استجابةٍ تُذكر من قبل حكومة النظام، وهذا ما دفع المجتمع الأهلي والمدني والجمعيات المحلية للتعاضد في سبيل إيصال المساعدات الفورية وتأمين مساكن مؤقتة لمتضرري الزلزال دون المرور بمؤسسات السلطة خوفاً من سرقتها، ليُقابل النظام هذه المساعي بإصدار تعميمٍ بعد أقل من 48 ساعة، حصر فيه توزيع المساعدات من خلال «غرفة عمليات الإغاثة في محافظة اللاذقية» الخاضعة لنفوذه. ومنذ صدور القرار، أخذت المساعدات الدولية الواصلة تتكدّس في مستودعات المرفأ ومستودعات الجمعيات المرخصة، وأبرزها الأمانة السورية للتنمية وجمعية العرين العائدتان لأسماء الأسد، التي أطلت مع زوجها بعد مرور خمسة أيام على الكارثة من أمام ركام بناء «شارع المالية» الذي طحن الزلزال تحته عشرات الأجساد، مختارةً إطلالة باللون الأبيض الكريمي وتُجاورها ابتسامة زوجها وسط جمهرةٍ عسكريةٍ تهتف لحياته.

وبعد أكثر من عشرة أيام على تشريد آلاف العائلات التي لجأت إلى ريف جبلة، أعلن مدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في اللاذقية «أن المديرية ستفتح توطين مادة الخبز للعائلات التي انتقلت للسكن مؤقتاً في ريف جبلة لدى معتمدي الخبز التمويني الأقرب لمكان إقامتهم». فقبل القرار، ووفقاً لقوانين وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، لا يحقُّ للمواطن شراء الخبز المدعوم من الأفران الحكومية إلا بموجب البطاقة الذكية وبحسب مكان الإقامة وعدد أفراد الأسرة.

دفن موتى ووفودٌ تُشاهد

بعد 24 ساعة على الكارثة، كان فريق الصليب الأحمر اللبناني أول الواصلين إلى جبلة. ساعد الفريق في عمليات الإنقاذ وانتشال الضحايا، ثم وصل الدفاع المدني الإماراتي، كما ظهرت في صور عمليات الإنقاذ قواتٌ روسية بحكم تواجدها حول المنطقة، فالقاعدة الروسية الأشهر «حميميم» تقع على مقربة من المدخل الشمالي لمدينة جبلة.

مع مرور كل ساعة على عمل فرق الإنقاذ، كانت تتناقص فرص إنقاذ الضحايا الأحياء من تحت الأنقاض، وتتزايد احتمالية انتشال الجثث الذين امتلأت مقابر المنطقة بهم. فبعد يومين على الكارثة وجَّهت شبكة أخبار جبلة نداءً عاجلاً لكل شخصٍ يستطيع التوجُّه إلى مقبرة الفيض للمساعدة في حفر القبور. وقد دفع امتلاء المقابر عائلة «الداية» إلى تحويل أرضهم الزراعية إلى مقبرة لضحايا الزلزال، وبحسب أحمد الداية: «دفنّا خلال ساعتين فقط 12 شخصاً».

مثل المقابر، ازدحمت جبلة خلال شهر شباط بالوفود الأجنبية، وراحت هذه الزيارات تأخذ مكاناً بارزاً في عناوين وكالة سانا الإخبارية: وفد بيلاروسي يطّلع على الأضرار الناجمة عن الزلزال في جبلة واللاذقية؛ وفد ماليزي يزور جبلة والمشفى الوطني لبحث إمكانيات المساعدة؛ وفد عراقي رسمي يطلع على حجم الأضرار التي خلّفها الزلزال في جبلة. وذلك عدا عن صورٍ انتشرت من مواقع الركام لوزير الطوارئ الروسي، فيما حضرَ من دولة الإمارات وزير الخارجية الإماراتي ووزير الصحة.

وفي مطلع آذار (مارس) الماضي، انتشرت صورةٌ لزين شام الأسد وهي توزِّع المساعدات على أحد مراكز الإيواء في جبلة، وعلى سترتها شعار مؤسسة الأمانة السورية للتنمية العائدة لوالدتها.

وجاء في تصريحٍ لمدير الطيران المدني باسم منصور أنّ إجمالي عدد الرحلات الجوية التي وصلت إلى مطارات دمشق وحلب واللاذقية، والتي تحمل مساعدات للمتضررين من الزلزال، «بلغ 256 طائرة، بحمولاتٍ وصلت 7200 طناً»، ولا يشمل هذا الرقم المساعدات البرية والبحرية. سُلمت جميع المساعدات إلى النظام، ومن دون أي تفاصيل بمحتويات الحمولة أو تحديد المستفيدين منها، ورغم العدد الذي يبدو ضخماً إلّا أنه أدنى من المطلوب.

لجأ المتضررون في جبلة إلى مراكز الإيواء التي حددها النظام، والتي وصلتها مساعداتٌ في الشهر الأول بشكلٍ مباشر من المجتمع الأهلي أو المنظمات الإنسانية الدولية العاملة في مناطق سيطرة النظام. ولكن مع غياب الإحصائيات، فإن شهادات الأهالي أوضحت أنّ نسبةً كبيرة من متضرري الزلزال لجأت إلى بيوت أقاربهم في ريف جبلة، وأنّ شطراً كبيراً منهم لم يستلم أي نوعٍ من المساعدات حتى اللحظة. أمّا ما أكده جميع من قابلناهم خلال جولةٍ للجمهورية.نت في جبلة، فهو أن المساعدات التي تصل عن طريق جمعية العرين غالباً ما تكون عبارةً عن سِلال غذائية مُعادة التعبئة في صناديق جديدة تختلف عن صناديق المساعدات الأصلية.

أمّا عن عمل الأمانة السورية للتنمية، فقد أكدت بعض العائلات أن المؤسسة تواصلت معهم وأخذت بياناتهم أكثر من مرة دون أيّ مساعدةٍ مقدمة، ووحدها مساعدات «العتبة العباسية المقدسة» التي تضمنت مواد غذائية وملابس وحليب أطفال وصلت إلى مستحقيها بشكلٍ مباشر ودون وساطة، فضلاً عن قيام العتبة بدعم مستشفى جبلة وإعادة تأهيلها وتزويدها بالمعدات والمواد الطبية والعلاجية.

إنكار حكومي وحِداد خجول 

بعد خمسة أشهر على الزلزال، لن تظهر ملامح كارثة جبلة التي نجت من العمليات الحربية أمام عيون السوريين التي اعتادت حُطام الأبنية. لن تشاهد في المدينة لافتاتٍ تمنع الاقتراب أو أشرطة صفراء وحمراء تلف المباني المتصدعة والمتضررة لتمنع الأطفال والمارة من الاقتراب، بل على العكس، ستشاهد رجالاً يعبرون طريقهم بشكلٍ اعتيادي ليتوقفوا أمام مدخل بناءٍ غير آمن ويرفعوا رؤوسهم بصمت وحرقة ينظرون لما بقي من أعمدة في بناءٍ اعتادوا المرور بقربه. هناك أيضاً عمالٌ يواصلون العمل في ترميم بقايا بناءٍ دون أخذ أي إجراءات سلامة، وهو ما أدى إلى وفاة الشاب أحمد نابلسي إثر وقوع عارضةٍ أسمنتية فوقه من بناءٍ في شارع الغزالات «أثناء ترميمه لسقف أحد المحلات في البناء»، بحسب ما قاله للجمهورية.نت أهالي المنطقة.

في جبلة لن تقرأ كلمة الكارثة أو الزلزال إلّا إذا توجهت نحو «مقبرة ضحايا الزلزال»، التي لا تحمل اسماً أيضاً. عليك الاقتراب أكثر من شاهدات القبور لتقرأ عبارات: «ضحية الزلزال»، و«الشاب الغالي إثر الزلزال».

لا يحيط المقبرة سورٌ مثل باقي المقابر، بل تشبه بتموضعها وسط الحي الجْنيْنة الصغيرة التي تُزرع أمام الأبنية: مساحة مزروعة مفتوحة على ثلاث جهات، يركض فيها الأطفال أغلب الوقت ويلعبون، وفي أي وقتٍ تمرّ فيه من أمام المقبرة ستجد نساءً يرتدين الأسود يجلسن حول قبور أحبتهم يقرأن آياتٍ قرآنية، وقد تشاهد غريباً عن الضحايا يدخل المقبرة يتوقف عند كل قبرٍ من القبور يقرأ الفاتحة، يحاول حفظ كل الأسماء ويبكي بحرقةٍ عليهم جميعهم.

تبعد المقبرة عن الكورنيش مسافة دقيقتين، حيث المشي على الكورنيش بحدوده المُنارة فعلٌ عادي؛ رجال ونساء وشبان يتحدثون بصوت مُنخفض، لا قهقهات مرتفعة ولا ثياب تشي بالبذخ. وإذا غُضَّ البصر عن لوحةٍ وحيدةٍ لبشار الأسد على مطعمٍ تنتشر أمامه سياراتٌ فاخرة، لن تعرف أنك في مكانٍ تحت سيطرة النظام.

تحتاج أن تتوغَّل أكثر نحو الجنوب، وأن تمشي بمحاذاة الشاطئ لتجد في العتم ما تظنه نجوماً في البداية، تقترب أكثر في الظلام لتعرف أنها أضويةٌ معلقةٌ في قمة الخيم، حيث مخيم الفيض، الذي افتتحه الهلال الأحمر الإماراتي بقدرةٍ استيعابية لا تتجاوز 300 شخص بغرض إيواء المتضررين من الزلزال.

يُلاحظ أن الهلال الأحمر الإماراتي هو الأكثر حضوراً وفاعليةً في جبلة، ضمن عملية «الفارس الشهم 2» التي أطلقتها قيادة العمليات المشتركة في وزارة الدفاع الإماراتية «بتوجيهٍ من رئيس الدولة». كما أطلقت محافظة اللاذقية بالتعاون مع الهلال الأحمر الإماراتي مشروعَ بناء نحو ألف وحدةٍ سكنيةٍ مؤقتة مسبقة الصنع في اللاذقية، حصة جبلة منها حوالي 220 وحدة سكنية تتوزع على ثلاثة مواقع: الفيض، والنقعة، والفوار. ويتكون كل مسكن من غُرفتي نوم وصالون ومطبخ ودورة مياه، ويستوعب أسرةً من ستة أفراد. وقدَّمت الصين بدورها 228 وحدة سكنية مسبقة الصنع لمتضرري الزلزال في اللاذقية، لكن لم تحدد المحافظة عدد الوحدات التي ستُقسّم على 7 مواقع حددتها في اللاذقية وجبلة لإنشاء مساكن مؤقتة. وبينما تُسارع عددٌ من الدول إلى دعم النظام ضمن موجة التطبيع الأخيرة من خلال مساعدات دولية، تُقابِلُ الحكومة ما حصل دون أي جهدٍ يذكر في جبلة، وكأنها تسلب المدينة من خلال الاستفادة من نكبتها.بعد خمسة أشهر على الزلزال، ومن أمام الركام في الرميلة؛ الحي الأكثر تضرراً في جبلة، وحيث هدم الزلزال ست أبنيةٍ بشكل مباشر، يقول لنا الأهالي إن أحبتهم صاروا «ضحايا الفساد لا الزلزال»، ويتحدثون عن تربةٍ غير صالحةٍ للبناء، وعن أبنيةٍ تخالف معايير السلامة الإنشائية. ورغم وعودٍ حكوميةٍ بمحاسبة متعهدي البناء، فلم تصدر حتى اللحظة نتائج التحقيقات المزعومة، ولم يُحاسَب أحد، ولا يتوقع الأهالي محاسبة أحد.