بمناسبة ذكراها العشرين قبل نحو ثلاثة أشهر، في التاسع عشر من آذار (مارس) الماضي، استذكرت وسائل إعلامٍ كثيرة مشاهد الضربات الصاروخية الأميركية الأولى المُتَّجهة نحو العراق مُعلِنةً بدء معركة اجتياحه. بعدها بأسابيع قليلة، عُدنا لنرى مشاهد إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط العاصمة. عقدان مرّا في التاسع من نيسان (أبريل) على سقوط بغداد. بخطابه الانتصاري المُنتشي، أعلن جورج بوش بُعَيدَها «نهاية العمليات العسكرية»، إذ كان مكتوباً في سيناريو المحافظين الجدد أن تكون تلك المشاهد الانتصارية نقطة ختام، لكنها لم تكن كما أرادوا وخَطَّطوا. لقد ختمت تلك المشاهد بعض المسائل، ولكن فقط لتنطلق منها جملة أكبر وأعقد من المعضلات والأسئلة والهواجس – وحتى الأشباح، لِمَ لا- التي ما زالت ماثلة بقوّة في راهننا. 

عاش العراق مرحلة فوضى عُنفيّة عارمة، تخللتها حربٌ أهلية طائفية دامية طحنته بشرياً. ومنذ اللحظة الأولى وجدت التجربة الجهادية ساحة جديدة تؤثر فيها، فإذا بها تتأثر وتُعيد إنتاج نفسها بصورة أكثر ضراوة ودموية بحق «عوام المسلمين». وبسبب العنف والانهيار والفاقة الاقتصادية، خسرَ العراق وما زال يخسر آلافاً مؤلفة من طاقته البشرية، المُوزَّعة في منافي الأرض المختلفة. وسط ذلك، فرَضت إيران نفسها على العراق وهيمنت على مؤسساته، وبنت لنفسها مؤسسات حيث لم تصل الدولة العراقية العجائبية الما-بعد-صدّامية. داعش ظهر واحتل الموصل، الحشد الشعبي أُنشئ في وجهه، وبحُجَّته وُوجِهَ أيضاً كلُّ من كانت مواجهته لازمة؛ داعش حُطِّمت، فيما الحشد الشعبي باقٍ ويتمدد ويهيمن، رغم انتفاضة تشرين، ورغم مشاكسات مقتدى الصدر. العراق، البلد ذو المقدّرات الطبيعية الهائلة، ما زال بلداً مُفكَّكاً تحكمه دولة تابعة ينخرها فسادٌ فَلَكي الأبعاد. لا يبدو أن هذا الواقع مُرشَّح للتغيّر، رغم أن كل شيء في العراق يتغيّر: اقتصادياً، سياسياً، ديمغرافياً، بيئياً… خصوصاً بيئياً.

لكن السلسلة، التي ستُنشر موادها ظهر كل سبت اعتباراً من الغد، ليست عن العراق، بل عن سوريا. 

لقد كان غزو العراق واحتلاله حدثاً مزلزلاً، وقد بِتنا نتهيب من وصف أي شيء بالمُزلزل، سُمعَت ارتداداته في مختلف أرجاء العالم وبأشكال مختلفة. لكن ليس من المُجازِف قول إنَّ ارتداداته الأكبر كانت على جارته سوريا، ولا إنَّ ارتدادات كثيرة خرجت من العراق باتجاهات مختلفة مرَّت عبر سوريا. غيّرت مفاعيلُ احتلال العراق قبل عشرين عاماً الكثير في سوريا، وما زال بعض هذه المفاعيل حاضراً في راهننا السوري. هذه السلسلة هي محاولة للمرور على بعض الآثار التي خلّفها غزو العراق في سوريا خلال عشرين عاماً.

نفتتح سلسلتنا بشهادة غنية ومؤثرة لمينا الدليمي، ننشرها بالتعاون مع موقع جمّار العراقي. مينا لاجئة عراقية في سوريا لجأت منها مؤخراً إلى أربيل. لم تُرِد مينا أن تكون ابنة حرب، كما تُخبرنا في شهادتها، ومن باب أولى ترفض أن تكون ابنة حربين. من المفيد أن نستعيد تجربة اللجوء العراقي في سوريا مع عدسة جديدة أضافها اللجوء السوري على قراءتنا للواقع وللتاريخ، وهذا ما فعلته نائلة منصور في ثاني نصوص هذه السلسلة، مُستعيدةً مَشَاهدَ من اللجوء العراقي في دمشق تقرؤها اليوم على أنها كانت أشبه بالنبوءة.

أي آثارٍ تركتها التجربة الجهادية العراقية على الجهاديين السوريين؟ وكيف ألهمتهم وأثَّرت فيهم وتدخلَّت في إعادة صياغتهم؟ هذا موضوع مقال الباحث حسام جزماتي؛ تليه شهادة مسجّلة لدياب سرية ورياض أولر، أعدّها ملاذ الزعبي على شكل حلقة بودكاست، عن سجن صيدنايا في النصف الثاني من العقد الماضي، حين امتلأ السجن بمتهمين بقضايا جهادية متنوّعة، يجمعها تأثّرٌ بالساحة العراقية الملتهبة حينها وانفعالٌ معها. 

أحاديث عن الانتفاضة الكردية في سوريا، عن حلوها ومرها، وعن العام الذي سبقها والعام الذي تلاها بين القامشلي ودير الزور، عن جامعة حلب وحراك طلابها. هذه، وصورٌ أخرى من تلك الأيام، موضوعةُ مقال هيفين جقلي في السلسلة؛ بدوره، وبأسلوبه الساخر والعميق في آنٍ معاً، يقدم لنا هشام حاج محمد ملاحظات عن «الصدّامية الجديدة» الماثلة بقوة في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام. 

بعدئذٍ، سنمرُّ على عرض لأهم الفصائل العراقية المنخرطة في الساحة السورية بعد اندلاع الثورة السورية، وأثرها الحاسم في معركة النظام الأسدي للحفاظ على السُلطة من إعداد قاسم البصري؛ وعلى قراءة جمال منصور لضغط عُقدة «التدخل الخارجي» على الخطاب السياسي السوري المعارض بعد غزو العراق، بشكلٍ جعلَ الثيمة سلفاً موضوعاً رئيساً للنقاش السياسي بُعيد انطلاق الثورة عام 2011. وبالتعاون مع مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية-البرنامج السوري، سنعود إلى ما قبل اجتياح العراق، إلى فترة برنامج «النفط مقابل الغذاء» لنطَّلِعَ على الدور الاقتصادي السوري خلال فترة حصار العراق؛ اطّلاعٌ سيُرينا نماذج علاقات وشبكات نعيشُ أشباهها اليوم بالاتجاه المعاكس.

ختام سلسلتنا سيكون بالعودة إلى نقطة البداية، لحظة الاجتياح؛ وما قبلها وما بعدها بقليل، عبر ذاكرة الباحثة في مجال الصحة العامة خلود السابا. عاشت خلود لاجئة في العراق، حيث كانت «السورية»، قبل أن تعود إلى سوريا بعد الاجتياح لتكون «عراقية»، وسجّلت شهادة غنية وعميقة عن صور تلك الأيام في ذاكرتها وأفكارها.

إذن، ليست السلسلة التي نُباشر نشرها يوم غدٍ عن العراق، بل عن سوريا أساساً. لكن يقف خلفها تطلّعٌ كبيرٌ نحو معرفة سوريّةٍ أفضل بالعراق، راهناً وتاريخاً، ومجتمعاً وسياسة واقتصاداً، ليس فقط من باب الاستزادة في العلم، بل أيضاً لصعوبة تَصوُّر إمكانية معرفة عميقة بسوريا نفسها بوجود هذا الجهل بجارٍ نتشارك معه حدوداً طويلة جداً، وتداخلات اقتصادية وبشرية وبيئية هائلة الحجم. المعرفة الوسطية للمسيّسين-ات السوريين-ات بالعراق وتفاصيله ضعيفة جداً. جهلٌ ضارٌ مقابل علمٍ لا ينفع بدهاليز السياسة اللبنانية، خصوصاً وأنه يبقى عند متابعة شبه ترفيهية لاستعراضية سياسيي لبنان وإعلامييه، ولا يرقى لأن يكون معرفة أعمقَ بالبلد الجار وحيثياته. من الجائز قول إنَّ سوريا، عبر تاريخها القصير، قد أعطت ظهرها لأغلب جيرانها، تاركةً وجهاً غير الطيّب للبنان. في هذا، ولا شك، دورٌ كبير للحكم الأسدي الجاثم على صدر البلد منذ أكثر من نصف قرن… هذا اتهامٌ لازم، ولكنه غير كافٍ.