الفهرس

الفصل الأول: السلطة
الفصل الثاني: الخيبة
الفصل الثالث: الثورة
الفصل الرابع: القمع
الفصل الخامس: السلاح
الفصل السادس: الحرب
الفصل السابع: الرحيل
الفصل الثامن: العبرة

في الفصل الثامن والأخير، يتوقف الكتاب عند شهادات أشخاص لا يزالون يحاولون حتى يومهم هذا فهم ما مروا به من وحشية وفظاعة على يد النظام، رغم أن لمؤيدي الأسد أو أولئك الذين ما يزالون يعيشون تحت حكمه وجهة نظر أخرى في تلك الأحداث. يتّضح في هذا الفصل البعدُ الإنسانيّ للثورة السورية عبر أصوات الذين حلموا بالتغيير. خليط من الفخر والشعور بالذنب والوجع والشجاعة، وأخيراً الأمل. الألم في أصواتهم وكلماتهم يجعلنا نسأل أنفسنا: ماذا لو كنت مكانهم يا ترى؟ من سأكون لو عشت المراحل ذاتها من الثورة إلى الحرب فالمنفى؟ قد يتساءل المرء أيضاً، ماذا كان ليتغير لو سمعنا أصوات السوريين في وقت باكر؟ على كل حال، أن نتأخر في سماعهم أفضل من ألا نسمعهم أبداً.

أبو معن، ناشط (درعا)

نعلم أنّ للحرية ثمناً، وأن للديمقراطية ثمناً، لكن ما دفعناه كان باهظاً جداً وأغلى من الحرية وأغلى من الديمقراطية. هناك دوماً ثمن للحرّية لكن ليس كل هذا.

غيث، خرّيج جامعي (حلب)

أصبحت كلمة «لاجئ» اليوم إمّا مدعاة للشفقة أو تهمة. يستخدمونها بطريقة بشعة ليلصقوا مشاكل الأرض كلّها باللاجئين. كثافة سكانية؟ بسبب اللاجئين، ارتفاع الإيجارات؟ بسبب اللاجئين، جرائم؟ بسبب اللاجئين.

حين تصنّف البشر على أنهم لاجئون، تبقى هذه الصفة ملازمة لهم مدى الحياة، لذا تقوم المنظّمة التي أعمل معها بتسميتهم بـ«القادمين الجدد» لأنّهم بعد التأقلم والاندماج يصبحون جزءاً من المجتمع الجديد.

نحن الشرقيّين نحاول أن نُظهر حقيقتنا للناس هنا. نحن بشر عاديّون، لسنا ملائكة ولا شياطين. أنا لم آتِ إلى هنا لأخذ أيِّ شيء منك، بل جئتُ لأعمل معك وأؤدّي واجبي. هذا ما تعلّمناه في الثورة، القيام بواجبنا. عملْنا بجدّ وتعب في الثّورة، وكانت الثورة سلميّة ونظيفة قبل أن تتحوّل إلى حرب ويتدخّل الجميع لسرقتها. قُتل القادة الجيّدون، وتقلّص الجيش الحرّ إلى مجرّد جماعات تبحث عن التمويل، تُنفَّذ أوامر قطر حين يكون التمويل منها، وتُنفَّذ أوامر تركيا حين يأتي التمويل منها. وقد حصل ذلك لأن الحرب استمرت وطالت أكثر من اللازم.

يمتعض الكثيرون من قدوم اللاجئين إلى بلدانهم. لكن حين تُغلق جميع الأبواب في وجهنا فماذا تتوقّعون منّا؟ هربنا بطرق غير شرعيّة، ألا يكفي أن حكومتنا دمّرتنا وأننا خسرنا كلَّ شيء؟ بالتأكيد كنّا نفضّل أن نبقى في بيوتنا في بلدنا، لكن إن كنتم لا تريدون اللاجئين فعليكم مساعدتنا بإحلال السّلام في سوريا.

سامي، خرّيج جامعي (دمشق)

عائلتي مؤيّدة لنظام الأسد، وبالأخصّ أمي. أمّي مسيحيّة مؤمنة تماماً، تذهب إلى الكنيسة كلّ أحد، وتحبّ بلدها، ولا تفكّر في تركه. أعتقد أنّ أمّي تعلم أنّ النّظام ظالمٌ وقمعيٌّ ويعتدي على حقوق الإنسان، لكنّها تؤمن أنّه سيُقضى علينا إذا ما سقط. تقول «نعلم أنّ النّظام فاسد، لكنّه يحمينا، لذا علينا ألا ننتقده».

أنا أيضاً مؤمن، لكنّني لا أفكّر بتلك الطريقة أبداً. النظام لا يحمينا، بل يحمي نفسه فقط. حتى إنّه لا يحمي العلويّين، بل يقوم باستغلالهم. هو يتلاعب بمسألة الأقلّيّات لأنّه يريد البقاء في السلطة والأقليات من أهمّ الأوراق التي بين يديه.

أنا أنتقدُ القتلةَ من الثوار كما أنتقد النظام. لقد حدث انفجار في حيّنا ومات فيه أطفال، فنشرتُ الصور وكتبتُ: «أوقفوا الحرب» لأعبّر عن تعاطفي مع مَن ماتوا في منطقة محسوبة على النّظام. وحين رأى أصدقائي المعارضون منشوري ظنوا أنني أؤيد النظام. بعدها بأيام حدثت مجزرةُ الكيماوي، فنشرتُ أيضاً صور مَن ماتوا، فتعرّضت إلى أسئلة كثيرة من عائلتي.

أنا لست خائناً. أنا أحب سوريا ولكنني أؤمن بحقوق الإنسان، ولا أشعر بالانتماء إلى أيّ مجتمع يضطهد امرأة أو طفلاً أو أيّ أحد على أساس خلفيته الإثنية. القمع موجود لدينا في المسيحية أيضاً، وليس حكراً على الإسلام. لقد اشتُهِر العرب في التاريخ بإنتاج العلوم والجبر وغيره، لكنهم اليوم أصبحوا مشهورين بالقتل. لذا تقع علينا مسؤوليّة تحسين أنفسنا وصورتنا، لأنّه حتى لو غيّرنا النظام وحافظنا على ما نحن عليه ولم نغيّر من تفكيرنا وثقافتنا، فسيأتي النظام نفسه ويقمعنا، أي سيستمرّ مع اختلاف الأشخاص فقط.

خليل، ضابط منشقّ (دير الزور)

لن تستسلم الثورة. أتعتقدين أنّي سأعود إلى سوريا وأمجّد بشّار الأسد رئيساً لي؟ هذا مستحيل.

لكنّي شخصياً وصلت إلى مرحلة من اليأس، اليأس من كل شيء، من قيادة المعارضة ومن الدّول الدّاعمة. تكمن المشكلة أنّ كلّ الدول – السعودية وقطر والإمارات إلخ – كلها تبحث عن مصالحها في سوريا عبر دعم جماعاتها. لدى كثير من الدول مصالح في البلد وهي منسوجة ومتناغمة كأنها خيوط سجادة واحدة.

لا نعلم إلى أين ستقودنا هذه الحرب، كلُّ ما أستطيع فهمه أن هذه الدول لا تريد للأزمة في سوريا أن تنتهي. بل على العكس، يريدون استخدام سوريا لتكون عبرة لشعوبهم في حال فكّرت بالتغيير يوماً ما. لقد أرسلوا رسالة من خلالنا: إذا خرجتم في ثورة شعبية فسينتهي بكم الأمر مثل السوريين.

معظم الاتصالات التي أتلقّاها من سوريين يطلبون المساعدات، أيّ نوع من المساعدات. بماذا أجيبهم؟ أحياناً كثيرة لا أجيب على الهاتف، لأنّه ليس لديّ ما أقدمه. كثيراً ما أتمنّى بصدق أن أنسى كلّ شيء وأن آخذ زوجتي وأطفالي وأرحل إلى أيّ مكان آخر أستطيع العيش فيه مع عائلتي.

مرسيل، ناشطة (حلب)

أنتمي إلى جيل الثورة، وأفتخر بذلك جداً، لقد بذلنا جهدنا لصنع شيء، وواجهنا وحدنا الكثير بالحدّ الأدنى من الكره تجاه الطرف الآخر. لكننا فقدنا السيطرة. لم نعد نعرف ما الطريقة التي ستنجح. أعمل هنا في تركيا عشر ساعات في اليوم، وفي نهاية اليوم أسأل نفسي «هل أنجزت شيئاً؟ هل ما أنجزته سيغيّر شيئاً؟».

بالنسبة لي الثورة مثل طفلة لديها احتياجات خاصة، أؤمن بها ولا أستطيع التخلّي عنها. صحيح أنها لا تشبه ما حلمتُ به، وأننا أصبحنا في الثورة أحياناً ديكتاتورييها الجُدُد. لكن الثورة تبقى طفلتي، وعليّ رعايتها على أكمل وجه.

معظمنا محبط ومكتئب اليوم. في السنوات الثلاث الأولى كان دافعنا التغيير الإيجابي، لكن في السنوات الثلاث الأخيرة أصبح دافعنا الذنب فقط. الأشدُّ فقراً هم مَن يموتون، ولا أستطيع التخفيف من معاناتهم، لذا أشعر أنّ من واجبي على الأقل الرجوع إلى سوريا والمعاناة معهم. لا أحد، ولا حتى اللاجئون، يمكنه الاحتفال بمجرد النجاة. فإذا اعتبرنا النجاة ببساطة غاية من الغايات، هل هذا يعني أن أمّي ماتت بلا سبب؟ أن أصدقائي ماتوا بلا سبب؟

السوريون لا يتحدّثون عن شعورهم بالذّنب فعلاً. بل يتحدثون عن سوريا.. سوريا… سوريا، هذا كل ما يتحدّثون عنه. لا أحد يتحدّث عن نفسه أو نفسها. أنا أخشى أحياناً أن أنسى مَن أنا، أجد نفسي أحياناً أكتب «هي» حين من المفترض أن أكتب «أنا»، وكأنّني أروي قصّة شخص آخر.

أحاول أن أذهب هذه السّنة إلى مكان آخر أعيش فيه بسلام لأعود إنسانة مجدداً. لأنّ كل صداقاتي وعملي وقراءاتي وكتاباتي صارت سياسيّة فقط. أذكر مرّة أنّني ذهبت إلى موعد غرامي، وأوّل ما سألني الرجل كان «في اعتقادك هل ستذهب المعارضة إلى محادثات جنيف؟».

لا أريد أن أتحوّل إلى شيء سياسيّ فقط، أريد أن أضحك وأمزح وأستمع إلى الموسيقى. أريد أن أصبح شخصاً لديه أحلام وآمال وحبّ. في داخلي الكثير من الغضب، وأنا بحاجة إلى مساحة لأنفّس عنه وأشفى، أرغب بإيجاد تلك المساحة لأجد نفسي من جديد.

أيهم، مطوّر ويب (دمشق)

ما زلت أؤمن بأحقيّة الثّورة وما قمنا به. لكن للأسف آلت الأمور إلى كثير من البشاعة والإجرام.

لا أحاول تنزيهَنا ولا تمجيدَنا، لكن بالنسبة لي اللوم يقع على النظام. كانت مسؤوليّته الحفاظ على هويتنا الوطنيّة، فلم يفعل. كانت مسؤوليته حماية مصالحنا الوطنيّة، فلم يفعل. كانت مسؤوليته احترام اختلافاتنا الاجتماعيّة، فلم يفعل.

من المحزن جداً أنّه حين كان النظام يعلّمنا تأليهه، زرع فينا نوعاً من الفخر الزائف. الفخر بثقافتنا، باسمنا. كنا حين نقول «أنا سوريّ» نقولها باحترام.

نحن شعب نعمل بجدٍّ، ونعرف كيف نستمتع بحياتنا، حتّى الفقراء منا. الجميع يخرج للنزهات والشواء في الهواء الطلق، يسعى لامتلاك سيّارة جيدة، ويحرص أن يتعلّم أطفاله تعليماً جيداً. كان هذا من معالم فخر السوريين بأنفسهم. كبرنا ونحن نغنّي أغاني حزب البعث في المدرسة. أنا لا أؤمن بذلك الحزب رغم أنّ بعض مبادئه جميلة نظريّاً. «نحن فلاحٌ وعاملْ / وشبابٌ لا يلينْ / نحن جنديٌّ مقاتلْ / نحن صوتُ الكادحينْ…» إلى اليوم حين أغنّي هذه الأغاني مع أصدقائي أشعرُ بالانتماء.

تاليا، مراسلة تلفزيون (حلب)

عشنا أربعين سنةً تحت وطأة نظام ديكتاتوري، وتعبنا. تعبنا من النّفاق ومن عدم حصولنا على وظائف إلا من خلال واسطة. أردنا أن نتعرّف على ذلك الشيء الجميل المدعو «حرية». اليوم لو جلستِ مع ألف سوريّ وسألتِهم عن معنى الحرّيّة ستسمعين ألف تعريف مختلف. تسأل بعض النساء أنفسهنّ «إذا خلعت الحجاب هل سأكون حرّة؟»، في رأيي: لا. بالنسبة لي الحرّيّة تعني العيش في مجتمع يحترمني. الحرية هي أن أتمكن من التعبير عن نفسي. الحرية هي فرصة تقديم شيء يتذكّرني به الناس.

تعتمد النّساء في سوريا على الرّجال، السبب وراء ذلك هو حكومتنا الفاشلة، فلا توجد قوانين تحمي المرأة أو تضمن لها حقوقها، لذا فإنّ النساء لا يعين قيمتهنّ وحقوقهنّ في المجتمع. ثم جاءت الثّورة، وغيّرت ذلك، وأزالت حاجز الخوف لدى الناس. لم تعد النساء يخفن أزواجَهن، تستطيع المرأة الآن أن تقول نعم أو لا، تستطيع أن تثور.

حين وصلتُ إلى تركيا بقيت حبيسة المنزل سنة كاملة، وكانت حالتي النفسية في الحضيض. كنت أرغب بالانفصال عن زوجي لسنين قبل ذلك، لكنني أجّلت ذلك القرار كثيراً لأنّني لم أكن قادرة على اتخاذ تلك الخطوة بعد. بعدها صرت قويّة ومستقلّة مادّياً. كنت في بلد قانونها يحميني. ثم تركته وتركت المنزل وكلّ شيء خلفي، ولم آخذ معي إلّا أطفالي. وبدأت من الصفر مجدّداً.

عملتُ في إذاعة بضعة أشهر، وبعدها تقدّمت إلى وظيفة في إحدى القنوات الكبيرة. كان معظم المتقدّمين حاصلين على شهادات في الصّحافة، ولم تكن لدي مثل تلك الشهادة. لكنّني رغبت في تلك الوظيفة من كلّ قلبي. درّبت نفسي مدّة ثلاثة أشهر على الأداء أمام الكاميرات. كنت أقف أمام المرآة وأتحدّث مع نفسي. كما أسجّل صوتي وأقول كلمات بهذه الطريقة أو بطريقة أخرى إلى أن أتمكّن من تحسين صوتي ونطقي.

قابلتني المديرة وقالت لي إنها لا تريد تعييني، لكنني أملك موهبة لا يملكها معظم الصحفيين. قالت لي بالحرب: «تاليا.. أتمنى لو أنّك لم تكوني بارعة إلى هذه الدّرجة». وهكذا بقيت في بالها، ثم حصلت على الوظيفة.

اكتشفتُ أنّ لدي قدرة على التأثير في الناس. الثورة هي التي علّمتني كيف أكون مؤثّرة هكذا. كما أن الثورة هي التي مكّنتني من رؤية النّاس على حقيقتهم، وأظهرت لي أنّ في قلب كلّ سوري مئة قصة. كلّ سوري هو قصّة بحدّ ذاته.

آدم، منسق إعلامي (اللاذقية)

من الأشياء الأساسيّة والمهمّة التي تعلمتها من التجربة المسماة الحرب الأهليّة السوريّة هي: كونك تحارب الشيطان فذلك لا يعني أنّك ملاك، وكون أفعالك شيطانيّة لا يعني بالضرورة أنه لا خير فيك. تستنج في النهاية أنّه لا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مطلق. كل شيء من درجات الرمادي.

البحث عمّا يحتاجه بلد من البلدان ليس فعلاً مستقيمة وخالياً من التعرّجات. بالطبع لو كنت تعيش في بلد مستقرّ، ومؤسّساته تعمل بشكل مضبوط، سيسهل عليك امتلاك مبادئ أخلاقية ما. لكن عليك أن تتذكر دوماً أنَّ تلك المبادئ والقيم متاحة أمامك فقط لأن آخرين خاضوا مخاضات صعبة لإقامة نظام ما. لا يحب معظم الناس معرفة شيء عن هذه المخاضات لأنها لا تتناسب مع فكرتهم عن أنفسهم.

وفي رأيي ذلك ما يحاول البعض فعله عند رفع شعارات براقة من قبيل: «نحن نقاتل من أجل الحرية». كان علينا في سوريا ارتكاب الكثير من الأخطاء لكي تنال الأجيال المقبلة حياة مستقرة وممكنة أخلاقياً. وبهذه الطريقة يمكن لهذه الأجيال ألا تضطر للمساومة على الأخلاق كما توجّب علينا نحن.

هذا ما تعلمته من هذه التجربة المسمّاة بالحرب السورية. بالنسبة لنا، نحن الذين لم نملك ترف ولا حرية أن نكون خيّرين في ظروف طبيعية، اتخذنا قرارات خاطئة، وارتكبنا أموراً شرّيرة. ما أقوله بشع، لكن هذا هو الواقع. مما يثير السخرية أننا خرجنا في مظاهرات للقضاء على الفساد والممارسات الإجرامية والشرّ وأذى الناس، وانتهى بنا الأمر إلى إيذاء عدد أكبر من الناس.

فتحْنا صندوق باندورا. كان لدينا فضول طفل بريء يريد أن يعرف ما بداخله. كنّا نعتقد أنّ فيه هديّة، لكن خرج منه كلّ الشرّ الموجود في العالم. الآن كلّ ما نريده هو أن إغلاق ذلك الصندوق من جديد، لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت.

المهم في كل تلك العمليّة كلّها أنّك أنت نفسك غير مهمّ. أنت كفرد، بطموحاتك، بأفكارك عن الصح والخطأ، لا تعني شيئاً أبداً. وذلك ما يجعلني أتفهّم ذهاب البعض نحو التطرُّف. أولئك الذين ينضمّون إلى داعش أو القاعدة أو نظام الأسد أو حتى التنظيمات الكرديّة، أتفهّمُهم تماماً. أنت بحاجة ماسّة لسردية تفسّر العبثيّة هذه. لا بد أن يكون هناك مغزى. فتتحوّل إلى متطرّف. يجب أن يكون لتلك المعاناة غاية محددة، وإلا فالأمر مؤلم بشدة.

أعمل الآن مع منظّمة غير حكوميّة تدعم الإعلام والصّحافة الحرّة في الدّاخل السّوريّ. أحاول أن أساعد الصحفيّين على قول ما يريدون قوله. أرى أن وظيفتي مساعدة الناس على تحقيق أحلامهم، لكنّي أعتقد أني كبرت جداً على الحلم. سأبلغ السنة التاسعة والعشرين خلال شهر ونصف.

حسين، كاتب مسرحي (حلب)

منذ مدة أحاول التوقف عن الحديث في السياسة. الأمور لم تعد واضحة، كما أصبح من الصعب معرفة الصح من الخطأ. في كلّ مرة يقرّر أحد أصدقائي الرحيل إلى أوروبا لا أحاول منعه، لكن الأمر يحزنني جداً. حين يقوم أحد ببيع جميع ممتلكاته وأغراضه ويضع عائلته تحت خطر رحلة البحر إلى أوروبا، هذا يعني أنّه لا ينوي العودة أبداً. مَن سيبني سوريا إن رحل كلُّ مَن حلم بحرّيتها يوماً أو استشهد؟

لدي أمل أنّه ما زال هناك ناس يعيشون في سوريا ويريدون بناءها، نصف هؤلاء يعيشون في مناطق تحت سيطرة النّظام، وهم لا يؤيّدونه، لكن النزاع لم يعد يعنيهم. لقد دخلت الأسلحة والأموال السياسية إلى البلد، وأصبحت سوريا ملعباً تسدّد عليه دول العالم الأهداف. بشّار دمية بين يدي روسيا، ونحن دُمَى بأيدي الأطراف الأخرى. لم نتوقّع أن تأتي تلك المجموعات الظلاميّة إلينا وتدير أحجارَ اللعبة.

نتساءل أحياناً، هل نحن الذين تسبّبنا بكلّ تلك الفوضى في البلد؟ أعتقد أنّه كان علينا أن نكون أكثر تنظيماً واستعداداً لما سيأتي، وأن نكون أكثر حذراً بما يخصّ التوقيت. أنا حزين لكنّني غير نادم، بل فخور لأنّي كنت من أولئك الذين اختاروا التغيير، وأنّنا استطعنا تدمير ركائز الاستبداد.

وقد وقف بعض مَن يسمّون أنفسهم بالمثقّفين على الحياد وأخذوا دورَ المتفرجين ليعرفوا ماذا سيجري قبل أن يختاروا الطرف الذي سيدعمونه. وللأسف فإنّ بعض هؤلاء يشمت بالثورة اليوم، لكنني أرد عليهم «حين شاركنا في الثورة كانت ماتزال قويّة، ولو أنكم دعمتموها من البداية لما ضعفت الآن». يحارب بعض الناس النظام ليبنوا دولة إسلاميّة، وأعلم أنّهم يريدون السيطرة على حياتنا، لكن في رأيي أنّ هذا الأمر من الممكن تدبُّره لاحقاً، وأنّ ما نحتاجه وعلينا فعله الآن قبل أيّ شيء هو إسقاط النظام.

تغيّرت أحلامنا عبر مراحل الثورة، ما كنّا نحلم به قبلها اختلف عمّا تمنيناه خلالها، كما اختلف عمّا أصبحنا نحلم به اليوم. قبِلنا حقيقة أنّ على أحلامنا أن تكون صغيرة إذا ما رغبنا في الاستمرار في الحلم.