تُركّز سلسلة زيارة في الاستديو على المكان وأثره في عمل الفنان، لكن نَودُّ البدء بنقطة تقنية قبل ذلك، بمناسبة استماعنا إلى تراك كامل أمين ثابت، الاسم المُزيّف للجاسوس كوهين ذي الاسم المُلفت، فهل هو نموذج لكيفية كتابة نصوص الأغاني، أن تلفتك عبارة أو جملة وتبني عليها كلمات الأغنية؟

شَدّني الاسم. إلى أي حدٍّ على مستوى سيكولوجي هو أمرٌ ملفتٌ ومليءٌ بالخداع، كامل أمين ثابت، كاسمٍ لجاسوس؟ هذا التراك هو جزءٌ من ألبوم تراكم/ الخروج إلى الداخل، والذي عملتُ عليه سنة 2016 حتى صدَرَ في العام الذي يليه. جمعتُ حينها نصوصاً كتبتُها بعد أن خرجتُ من سوريا وأنا على الطريق. كنتُ في البداية، بمعزلٍ عن الاسم، أفكرُ في تراك أَنتقدُ فيه «السيّد الرئيس» بشكل مباشر، بشخصه ونظام حكمه وتصرفاته، بسخرية واستهزاء، على أن تتحوَّل هذه السخرية في نقطة ما إلى تعبير عن الغضب.

تواصلتُ مع جندي مجهول وهو منتِجُ التراك، أخبرتُه عن الفكرة غير المُكتملة بعد، وكنتُ أبحث عن الموسيقى التي يمكن أن تَحمِل هذه السخرية وكذلك الغضب. على نحوٍ مفاجئ أتى الإلهام وأنا أتصفّح الإنترنت أثناء فترة إقامتي في السويد، حيث كنت مقيماً في مكانٍ لا يتّصل بالإنترنت وكنت أذهب إلى المكتبة لأتصفّح الإنترنت وأتواصل مع منتجي الأغاني. يومها لسبب ما تعثّرتُ بالاسم أثناء التصفُّح. كامل أمين ثابت. أحسستُ كم هو الاسم غشّاش، وأيضاً كيف أنظرُ لرؤوس السلطة من قادة ورؤساء وملوك على أنهم جواسيس من نوعية خاصة أيضاً.

ومن هنا جاء التراك الذي يبدأ بـ: «كلُّ مَلِك كلُّ رئيس كامل أمين ثابت» وبتهكُّم، باستخدام الاسم المزيَّف للجاسوس، تنقلبُ النبرة فيما بعد لتصبح أكثر حِدّة، تُذَّكرُ بخروج مدينة بأكملها مثل حماة إلى الشوارع، حين كنا لا زلنا نرفع العلم الأحمر في المظاهرات: «سيادتك مليت؟ رح نفتح بجمجتمك بيت، نخبي فيه الجسور اللي كتبتها باسمك، نبني بيوت بلا جلدك، ابني يروح عمدرستُه مو مدرستك. ابني يروح ابني يرجع». هذا هو مستوى الحلم الذي طَمِحنا به؛ أن يعودَ مَن فُقدوا لنا، أن يخرج أحدٌ من منزله ويعود.

أذكر يوم غَيّبوا ابن عمتي، كان ذلك في اليوم التالي لأخد الخاطر عند وفاة أبي. 18 كانون الأول (ديسمبر) 2012. حتى اليوم لا نعرف عنه شيئاً. جاء في التراك نفسه أيضاً «كل شي سجون نحطها فيك، جوا صدرك، كل حريق كل غريق»، كنتُ أيضاً متأثراً بتجربة السفر بالبحر. هذه هي الطريقة التي وصلتُ بها إلى أوروبا. لم أتمكن من تحصيل منحة فنية أو ما شابه. ركبتُ البلم ومشيتُ في مقدونيا وصربيا مع أخي. كان عمري 19 عاماً.

كان لديَّ شكوكٌ تجاه هذا التراك في البداية، وسألت نفسي هل هذا النوع من السخرية هو ما أريد فعله؟ هل التراك رخيص؟ حتى أقنعني أحد الرابرز الذين أُقدّرهم، وهو زقاق، بضرورة تضمينه في الألبوم، وأنا مُمتنٌ له على ذلك.

لنعُد قليلاً إلى ما قبل مرحلة الخروج هذه، وإلى البدايات في سوريا

بداية العلاقة مع الراب بالنسبة لي ارتبطت بالكتابة، كنت أكتبُ منذ صغري، كتابة عادية، مواضيع تعبير. وأُحبُّ كتابة الشعر وأُدبِّجُ القصائد بمديح الوطن والوطنيين، إذ أُعرِّفُ عن نفسي كفلسطيني سوري. التقيتُ في فترة ما برابرز مثل بو كلثوم وجندي مجهول والدرويش، كان اسمه حينها السيد درويش، وانتبهتُ أنني كنت أكتب الراب حتى أحسّ بحالٍ أحسن وأقوى كمراهق كان عمره 14 عاماً، أضعُ تقويمَي أسنان، داخلي وخارجي، ونظارات طبية ذات مظهر مضحك، كان مظهري دعوة للتنمر. اكتشفتُ أنني أستطيع توظيفَ كتابة الراب في حياتي وأنا أشاهدُ فيلم 8mile، وتعرّفت إلى تجارب الراب الموجودة عندنا، مثل شام إم سيز ولاجئي الراب، وصرنا على دراية بإنتاجات الراب الفلسطيني مثل فرقة دام وإم دبليو آر وغيرهم.

في هذه الفترة وعندما كانت منطقة القِشلة، حيث أُقيم، قد تحوّلت إلى مرتع خصب لـ«الجنتريفكيشن». كنت قد اعتدتُ أن أخرج و«أعمل شوية فري ستايل وأرجع» وكان هناك فنانون آخرون يأتون إلى المنطقة، فتعرّفتُ أكثر على تجارب من هم أكبر مني ببضعة سنوات، وكيف يختارون أن يعبّروا عن أنفسهم؛ مثل بو كلثوم وجندي مجهول وهاني (الدرويش)، وكانت لهم أسماء مختلفة في ذلك الوقت. أثّر ذلك بي بشكل مباشر.

كنت أتعامل مع كتابة الراب كمسارٍ منفصل عن الكتابة التي أكتُبها في المدرسة، وفكّرتُ أنني أريد أن أجمع المسارين سوياً، وبت أُفكر بالكلمة بطريقة مختلفة. هنا كانت الثورة السورية قد بدأت وشعرتُ بروح وطاقة جديدتين لأكتبَ وأُعبر.

أول تراك سجلته حمل عنوان لبسيني اسمك، منذ عشر سنواتٍ بالضبط  عام 2013 بعد وفاة والدي. أذكرُ حتى الآن كيف اتصل بي حينها هاني (الدرويش) وكان في لبنان، وكان كل من جندي مجهول وبو كلثوم في سوريا. كانوا قد شكّلوا فرقة باسم لتلتة ودعوني لتسجيل أول تراك. جمعتُ نصوصاً كانت حتى ذلك الحين عشوائية جداً، وسجّلناه في الاستديو، وفي توقيت قريب كانوا قد أصدَروا تراك بعنوان واحد تنين تلاتة، وأرى أنه نقطة هامة في تاريخ الراب السوري، خصوصاً مع ارتباطه بأحداث الثورة.

التحقتُ فيما بعد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، في قسم السينوغرافيا. ابتعدتُ قليلاً عن الراب ولكن استمرّيت في الكتابة إلى حين أخذنا قراراً بالخروج من البلد. أثناء السفر وحتى وصولي إلى السويد أدركت رغبتي بجمع كل ما تراكمَ خلال هذه السنوات التي توقفتُ فيها من نصوص، لكن ضمن فكرة واحد ناظمة. أنا في الخارج ولكن ما يحدث في سوريا مستمر بالحدوث، كانت هذه العبارات المتعاكسة في المعنى مثل الخروج إلى الداخل أو الصعود إلى الهاوية في رأسي، وأعرفُ أن فيها نوعاً من الابتذال، ولكن ذلك ما كنتُ أفكرُ فيه في الحقيقة؛ كيف كانت علاقتي لا تزال بما هو «جوا» وأنا خارج المكان، وبأي صيغة أستطيع الكتابة عنه.

تحدثتَ عن وجود مسارين مختلفين بين كونك مراهقاً يعبّر بالكتابة الشعر في المدرسة، وهاوياً للراب يَكتبُ بلغة مختلفة. ولكن يوجد تراكات مثل «لبسيني اسمك» وما أنتجتَه في الفترة نفسها، يبدو فيها هذا الحاجز أقل صلابة بين الاثنين وتتسلّل إلى النص لغة الولد الذي يكتب شعراً في المدرسة.

صحيح، قبل أن أبدأ بكتابة الراب، كنت أنزل إلى الشارع وأقول ما أريد قوله فقط، أستهزئ ربما بمن يقف قبالتي في تحديات نخوضها ضد بعضنا بالكلام. لم يخطر ببالي أن عليَّ قول ما هو أدبي أو فصيح إلا بهدف الاستهزاء. كنتُ أحاول القول أن وراء قامتي القصيرة هذه هناك إنسان قادر على رد الأذى عنه. عندما جرّبتُ الكتابة للفري ستايل كنتُ أرتبك، وكان الشعر هو ما ساعدني. اعتدتُ أن أُمرّن نفسي على قصائد أُحبها وأُجرب غناءها بشكل رسمي، مثل أبيات معلَّقة عمرو بن كلثوم، وأتمكن من إيجاد الإيقاع فيها.

أذكرُ وجود ديوان شعريّ في منزل أهلي بعنوان ديوان الأرض المحتلة، فيه قصائد لشعراء فلسطينيين مثل محمود درويش وسميح القاسم وفدوى وإبراهيم طوقان وراشد الحسين. كنتُ أحبُّ هذه القصائد، وكنتُ أيضاً أسمع أغاني «الفن الملتزم»، وتأثرتُ بهذا الجو قبل أن أكبُرَ أكثر وأفهم «الحياة كيف ماشية» وكيف يتعامل فنانو الفن الملتزم مع الشؤون المادية على عكس ما يغنون لأجله. ولكن بالتأكيد تأثرتُ بكل هذه القراءات الشعرية، الكلاسيكية منها والأكثر حداثة في التراكات الأولى، مثل رؤى ولبسيني اسمك. وظللتُ أُجربُ الكتابة بين العامي والمَحْكي قبل أن تتضح هويتي أكثر. أكيد كنت متأثراً من جهة بجميع الرابرز العرب الموجودين، ولكنني أيضاً كنتُ أحاول إيجاد هذه التوليفة الخاصة بي، بين الشعر المَحكي والفصحى والفري ستايل مما كنت أجربه في الشارع.

كنتَ موجوداً بين الحضور في جلسة حوارية عُقِدت في برلين حول تحديات العمل الثقافي الفلسطيني في ألمانيا، وقدّمتَ مداخلة موجزة. إلى أي حدٍّ تلمس وجود هذه التحديات؟

لم يحدث معي أي شيء مباشر حتى الآن، ولكن لا شك هناك ضغطٌ وإحساسٌ أن على المرء أن يُبرّر نفسه على الدوام، ويُبعد عنه تهمة معاداة السامية. ما يبدو غير مفهوم لمن يفعلون ذلك أننا كفلسطينين تربينا في مكان لم يكن لدينا مشكلة في العيش المشترك مع اليهود، ولا هم كان لديهم مشكلة. من أتى وارتكب المجازر كان بمعيّة الاستعمار الغربي، ونحن تهجَّرنا ولجأنا على هذا الأساس. ولكن حتى بعد الهجرة واللجوء والشتات الفلسطيني في سوريا، عاشت كلٌّ من عائلة جدي والناس مع اليهود السوريين في حي اليهود في دمشق.

أنا كفلسطيني، أرى أن حقي بأرضي، حقي بانتهاء حالة الشتات، ليس مُرتبطاً بمعاداة السامية، هذا الربط بين معاداة السامية والحق الفلسطيني غير منطقي. لي الحقُّ في قول ما أريد وقول رأيي، وحق احترام هذا الرأي في سياقه، وإلّا فما معنى كلمات مثل الحرية والديمقراطية وقيمة الفرد. نحن نتعرَّض للإلغاء، هناك إلغاءٌ يستهدف الفلسطينين على أي نحوٍ كانوا ومَن كانوا. الكثير من الجهات تقدّمت بطلبٍ لترخيص مظاهرات في ذكرى النكبة، وتمَّ منعُ كل المظاهرات حتّى تقدّمت الرابطة اليهودية بطلب، فتمَّ السماح لهم بالتظاهر. ومن ثم عندما شاركنا بالمظاهرة ظهرت عناوين في الصحافة الألمانية تتحدث عن اعتداء فلسطينيين على مظاهرة يهودية. وصلنا إلى يوم نقول فيه الحرية لفلسطين من الذنب الألماني.

أنا اليوم كفنان فلسطيني لدي حقٌّ في كلمة ونضال غير مرتبط بالتاريخ الألماني. وأستغرب كيف يعمُّ خطاب النضال التقاطعي والتقاطعية في بلدانٍ مثل ألمانيا، ولكن في الحالة الفلسطينية يُسلَب هذا الحق ونعامل بإلغائية مطلقة. حتى جدودي ممن انضموا إلى الفدائيين كانوا يعيشون في منفاهم في دمشق في حي مختلط الأديان ومنها اليهودية، فلا أعرف ما الذي يظنه الناس في ألمانيا أنه بإمكانهم تعليمنا إياه بخصوص العيش المشترك.

المشكلة أن هذا الوضع مُربِك لأننا لا نملك أدوات للتعامل معه بعد، كونه خارج عن سياقنا. وربما قبل البحث عن حلٍ فاعل يجب أن نجد طريقة لتجميع أنفسنا بطريقة أفضل، وأن نخوض كل هذه الحوارات وما يمكن فعله، وألّا تقتصر الأنشطة على مظاهرات يحضرها الناس من باب الواجب.

نتحدث الآن عن برلين، كمكان لإقامتك ولمعظم أنشطتك منذ عام أو أكثر بقليل. كان لك حضور في عدة حفلات، ومنها حفة بويلر روم العام الماضي. كيف أثَّرَ هذا البعد عن سوريا وعن لحظة 2011 الثورية أيضاً، والتي رافقت بداية عملك الفني، على المواضيع ولغة الكتابة؟

لم أشعر بوجود مسافة حقيقية بيني وبين سوريا إلّا في برلين. حتى عندما كنت في السويد، وسجّلتُ ألبوم تَرَاكُم، لم أكن بعد قد شعرت بالمسافة، وكنتُ أشعرُ أنني لا زلت موجوداً هناك، في سوريا. 

هنا في برلين فهمتُ إلى أي حد كنت أعيش في عزلة دون أن أدرك ذلك. تجاوزَتْ أفكاري الآن موضوع وجود رسالة أو واجب علي القيام به. ما يحدث في سوريا لم يتوقف، كذلك في فلسطين ومنذ 75 عاماً. وجدتُ نفسي بين جمعٍ من الفنانين الآخرين من الموجودين هنا، وفكرتُ أنني إن أردتُ النجاة لنفسي، لا بالمعنى الحَرفي وإنما بإيجاد هويتي والخط الخاص بي، فعليَّ أن أذهب باتجاه فردانيتي. ساعدتني برلين على أن أَنظُرَ لنفسي من الداخل، ومن هنا جاء قرار إنتاج الألبوم الأخير الذي سيحمل عنوان شفّاف، وثِيمته العامة ببساطة هي اضطراب ما بعد الصدمة، والذي تبدأ أعراضه بالظهور فور حصول المرء على فسحةٍ من الاسترخاء أو الراحة بعد الصدمة. بدأت هذه الأعراض بالظهور منذ فترة الإقامة في السويد، ولكنها ازدادت مع زياراتي إلى برلين حيث ازداد تواتر الكوابيس الليلية، ودفعني ذلك لكتابة نصوصٍ عن برلين والكوابيس. عرفتُ بعد ذلك أن المُحفزّ هو ما تحمله برلين كمكان من احتمالات، أن أرى لافتات شارع بالعربية للمرة الأولى منذ خروجي من سوريا، أن أمشي مع شخص رأيته للمرة الأخيرة في سوريا، في القشلة؛ شارع العرب في برلين كأنه شارع لوبية في مخيم اليرموك أو شارع فلسطين في مخيم فلسطين.

أثَّرَ ذلك فيّ إلى حد بعيد، وأدركتُ ما يحدث معي. أخذتُ مسافة عن كل شيء في برلين التي أيقظت في أفكاراً وذواكر، سواء العائلية منها وفقدان أبي منذ عشر سنوات، أو علاقاتي بأصدقاء الحي وبالموسيقى. المفارقة بالنسبة لي كانت أنني وعندما ذهبتُ باتجاه فردانيتي إلى هذا الحدّ في الألبوم الجديد، أي باتجاه علاقتي بأمي وأبي أنا وليس علاقة الفرد عموماً بعائلته، شعرتُ أن الناس يشعرون بصلة أكبر مع الأغاني. لا يعني ذلك طبعاً أنني في المراحل السابقة، عندما كتبتُ أشياء مثل كامل أمين ثابت، كنتُ أحكي عموميات وأنني كنتُ كذب. سأنشر مع الألبوم بوكليت يتضمن قصة كل تراك، وكيف كان فرصة للتأمل في نفسي وفي علاقاتي بمحيطي، علاقات ملأى بالعنف ونقيضه من مشاعر دافقة في الأسرة على وجه الخصوص.

في حفلة بويلر روم المذكورة كنتُ ضيفاً على فقرة جندي مجهول، غنيتُ في تراكين فقط، ولكن كان مهماً لي أن أتواجد مع رابرز متل بوكلثوم ومالكوم وتمّان وجندي مجهول، وأن أرى ما يقدمونه وأرى نفسي كجزء من المشهد. صار لدي دافع أكبر أن أكون أنا نفسي. عندما كنتُ وحيداً في السويد، كنتُ مدفوعاً أن أكون مثل البقية أكثر، معهم وأشبه ما يفعلونه، وذلك لأنني كنت بعيداً. عندما اقتربتُ أكثر، أصبحتُ أبحث عن نفسي أكثر وعمَّا يشبهني. لا نَقدِرُ أن ننمو إن لم نكن في قلب مجتمع ينمو أمامنا أيضاً، من باب الأثر والإلهام الذي تُقدّمه مجموعات كهذه. أذكر مقالة أخيرة لياسين الحاج صالح نُشرت في الجمهورية عن التفكير. الفكرة تنتهي خطورتها، ولكن التفكير هو المهم. نحن اليوم نقول «يلعن الاسد» بصوت عالٍ، لم يعد ذلك خطيراً بالنسبة لنا هنا الآن، ولكن لحظة كتابة العبارة على حائط في دمشق كان من أكثر اللحظات جدّية في حياتي. يجب أن نستمر في التفكير، وذلك يكون أكثر فاعلية بوجودك حول ناس يساعدونك على أن تُنتج أكثر.

بين البدايات في دمشق وتَبلوّر تجربتك أكثر في برلين هناك تجربة السويد، مع تحدياتها وتجربة العزلة فيها، لكنها كانت مرحلة تسجيل الألبومين الأولين، وكانت ذات خصوصية من حيث الأثر على عملك، أليس كذلك؟

أنتجتُ في مرحلة إقامتي في السويد ألبومي تراكم وكليم، ولكني توقفت عن الإنتاج لفترة غير قصيرة. كنتُ أُنتج تراك في السنة على مدى سنتين، كنتُ مستغرقاً في دراسة اللغة وفي الجامعة، وكانت السوشَل ميديا هي فسحة لقائي مع رابرز آخرين. كان تواصلنا يعتمد على غروبات أنشأناها لتبادُل الآراء والنقاشات، ثم تطورت هذه النقاشات فيما بعد إلى ورشة كتابة ضمت 12 رابر. كُنّا نحاول إيجاد صيغة نُجرّب فيها الكتابة بتمارين ممزوجة باللعب. عندما انتهت الورشة، كُنّا سبعة أشخاص وشَكَّلنا تَجمُّعاً تحت اسم رامادا، كنتُ جزءاً منه في فترة سابقة. كانت آراؤنا متوافقة بخصوص أمور، ولكننا اختلفنا بخصوص غيرها. كانت تلك أيضاً فترة الكورونا، وكنتُ أقيمُ في سكن جامعي، فكان مكان التواصل والنقاش والعمل افتراضياً مع رابرز آخرين ممّن شاركوا في ورشة الكتابة، متفرقين بين شتى دول العالم، بين سوريا وفرنسا والعراق والنمسا وهولندا والكويت.

حتى الآن يبدو التركيز في شغلكَ وفي ما تحدّثنا عنه على الكلمة، النصّ، وكيف تَبدّا أثرُ المكان عليها، ولكن ما الأثر الذي لحقَ بعملك على المستوى الموسيقي، وعلى مستوى عملك على الإيقاع، مع الزمن ومع عملك مع منتجين موسيقيين مختلفين؟

كنتُ متأثراً بالراب الأميركي موسيقياً كبداية، أو بالأحرى كان هو ما تعرضتُ له في البداية، وهكذا تعرّفتُ على فن الراب، بغض النظر عمّا إذا كان كثيرون يعتبرونه غير مهم أو بدأوا مشوارهم من مناطق أخرى. أذكر في البدايات موقفاً طريفاً؛ أنني كنت في بداية دراستي الثانوية في الصف العاشر، ومتحمس للراب. تعرفت على صديق أيضاً يحب الراب ويُجيد الإنكليزية. قَرَّرنا أن نتعاون على مشروع فني: «فرقة تخرب الدنيا». ولكن لم يكن لديَّ أدنى فكرة عن كيفية إنتاج أغنية. الإيقاع الوحيد الذي كنت أحفظه هو دم دم تك. كنتُ حين أَخرج لجولات الفري ستايل في القشلة، أطلبُ من الناس أن يؤدوا هذا الإيقاع وأؤدي الراب على صوتهم، لم يكن هناك (beat). عندما قرّرتُ مع صديقي إنشاء فرقة وتأليف أغانٍ، سألته: «بس في الإيقاعات. من وين بدنا نجيبها؟» هيك حرفياً. قالي والله ما بعرف. وقَرَّرنا سؤال متجر السيديهات قرب المنزل. كنتُ أدرس الثانوية في مدرسة يوسف العظمة في الخطيب، ذهبتُ إلى متجر قريب وقلت له: «معلم، بدي سي دي إيقاعات راب». ليس عندي إنترنت في البيت ولا كمبيوتر، كل ما كان لديَّ هو الجهاز الذي يُشغّل سي دي ديهات وDVD. قال لي صاحب المحل: «شو يعني؟»، قلتُ له: «ما بعرف، بدي سي دي فيو موسيقى بدون كلمات». أعطاني سي دي فعلاً، تَبيَّنَ أن فيه إيقاعات أفروبيتس «afrobeats»، وفيه أيضاً إيقاعات أرجنتينية ربما. لا أعرف حتى الآن ما إذا كان قد ضحكَ عَلَيّ، أم أنه حاول جهده فعلاً. لم يكن السي دي كما توقعت أو تخيلت، وكنا قد بدأنا نتخلى عن فكرة مشروعنا الفني هذا أصلاً، حتى تَعرَّفنا على شاب آخر في المدرسة وعَرَّفني على فكرة الإنترنت، وكيف أنّه يمكن للمرء أن يدخل مواقع متخصصة فيها إيقاعات؛ حتى اليوتيوب كان في بداياته. لم أَستوعب حينها كل تقنيات الإيقاع، واعتدتُ على تخزين إيقاعات في موبايلي الذي لم يكن يتّسع لأكثر من أربع أو خمس أغاني، وكنت أُبدِّل بينهم وأُجرِّب. 

تعرفتُ أكثر في تلك الفترة على الراب العربي، صرتُ أَستمعُ إلى الأغاني وأَحفظها، من أَحببتُ عملهم ومن لم أحبه أيضاً، خصوصاً مغني الراب من فلسطين؛ كانت لهجتهم تَشدُّني وأشعرُ بالألفة معها. في مخيم اليرموك تعرّفتُ إلى تجارب راب موجودة هناك منذ مدة، كان هناك أربع أو خمس فرق بالإضافة إلى الأكثر شهرة مثل لاجئي الراب. بعدها جاءت الفترة التي تعرّفتُ فيها على جندي مجهول وبوكلثوم والدرويش، وكانوا أيضاً يعطونني إيقاعات. أحياناً كانت تتم هذه المشاركة على الإم إس إن مَسنجر، مُجرّد القدرة على إنتاج إيقاعات كانت بالنسبة لنا شيئاً عظيماً، حتى أن تراك 1 2 3 أُنتجَ بالضرب على طاولة بمساعدة خشخشة مفاتيح ومُسجِّل في استديو منزلي. بعد خروجي من سوريا، جرّبتُ الشغل على إيقاعات وأوقفتُ ذلك، أردتُ أن أتركها كهواية وألّا أقع تحت ضغط أنني أريد إنتاج الموسيقى بنفسي. في كل التراكات كان هناك أحدٌ آخر مسؤول عن الجانب التقني، ممن ذكرتهم سابقاً أو غيرهم، سواء كان جندي مجهول والراس وأسلوب وشعراب ومولانا. ومن ثم في ألبوم كليم عملتُ مع wardenclyph، وهو مُنتِج سوري عظيم. وعملت كذلك مع فصام من تونس. في برلين كانت هناك فرصة للعمل على ألبوم مع وجود دعم مقبول، أما في السابق فكان كل ما اشتغلت عليه دون أي تغطية مالية. تعرّفت أيضاً على ميلاد خوّام، سمعتُ له تراك براري، سَحرني وأحسستُ بألفة معه ملائمة لفكرتي عن ألبوم شفّاف الذي يحمل قرباً مني. وله ألبوم صدر حديثاً بعنوان جنازة على القمر، رغبتُ في العمل معه وتَحقَّقَ لي ذلك الأمر، وقدّمَ لي تجربة مختلفة تماماً في العمل بين النصوص والموسيقى وإخضاع التراكات لعدة مراحل إعادة إنتاج قبل المرحلة النهائية. سعدتُ بالعمل مع موسيقي عنده فهم نظري للموسيقى، ولديه خبرة كلاسيكية موسيقية، ولديه الجرأة للخروج على ما هو كلاسيكي في الوقت نفسه.

بالعودة إلى سؤال المكان والعلاقة به، وختاماً، تبدو العلاقة بالمكان في التراكات القديمة مثل رؤى ولبسيني اسمك أقرب؛ تبدو علاقة وثيقة أكثر؛ تحضُر أسماء أماكن بعينها مثل مخيم اليرموك وقبر عاتكة، وربما تكون أجواء الثورة السورية قد عمّقت العلاقة أيضاً بهذا المكان. كيف تحوّلت هذه العلاقة، وأي أشكال اتَّخذَتْ بعد الخروج من سوريا؟

كانت العلاقة بالمكان وثيقة حتى في تفاصيل التسجيل نفسه أيام دمشق. أول تراك سَجّلْتهُ في استديو كان عند بو كلثوم. تعاونا بعد ذلك أنا واثنان آخران من مُغني الراب، عقضحي والنرد، على شراء عدة؛ مايك وميكسر وسماعات. حتى عملية نقل العِدّة إلى المنزل كانت تبدو مخاطرة وتجربة مُخيفة في دمشق التي كانت مٌقطّعة بالحواجز في كل مكان، كان ذلك كلّه عام 2013. جمعنا نقود مصروفنا واشترينا عدّة رابر كان يُريد بيعها لأنه مسافر. بعد ذلك كانت تجربة التسجيل دون أن ينتبه الجيران، ودون استخدام صوت عالٍ، تحدياً آخر.

كنتُ حينها أتعاون مع رائد غنيم، الذي عاش حصار مخيم اليرموك، وكانت الأحداث التي تركّزت في مخيم اليرموك ذلك العام تحديداً حافلة بأسباب الغضب والمرارة. في ذلك العام تم قصف المخيم بطائرات الميغ، وتوفي والدي قَنصاً في المخيم، وحاصر النظام مخيم اليرموك. كنا حينها أولاداً غاضبين، أقول ذلك لأنني أُراجع نفسي اليوم بخصوص كلمات تم استخدامها في تراك هناك هناك الذي سجلناه تلك السنة؛ لم تكن تلك الكلمات هي الخيار الأفضل ولم تكن حسّاسة ربما. كنتُ حينها من باب الحيطة أَستعينُ بصديق لي لرفع التراكات التي أُسجلها من مكان إقامته في الدانمارك على قناة اليوتيوب الخاصة بي، لا أعرف حقاً مدى جدوى احترازٍ كهذا. ما أعرفه، أنه لم تحدث في حياتي ما ساهم في تشكيلي كرابر ممّا يُمكن مقارنته بالثورة السورية.

الشتات، وهو أمرُ سابق على الثورة، هو جزءٌ لا يتجزأ من هويتي أصلاً، ولا أظن أنَّ ذلك سينتهي يوماً إلا بانتهاء الاحتلال. ولا أريد أن أفقد الروابط بهذه القضية كما أرى في حالة مهاجرين قدامى ممن فقدوا أي صلة بما يحدث. جاءت الثورة السورية وأمدّتني بالمزيد من المعنى ومن طاقة البحث عن الجدوى، وكنتُ منتمياً لها على نحو حاولت أن أُبرزه بشكلٍ واضح في أغانيّ، وما أتفاعل معه ممّا كان يحدث حتى وأنا في قلب دمشق.

أذكر يوم مجزرة الكيماوي. تَجمّعنا بعدها بفترة في حديقة خولة بنت الأزور، ألقيتُ نصاً كتبته على إثر المجزرة في التجمُّع الذي صوّره أحدٌُ ما، وتَظهر جملة «لا تصوِّر» في بداية الفيديو. يبدأ النص كما يلي: «النجوم أقرب من الناس، هالليلة واسعة المدافع ناصعة، السواد كاحت الولاد راحت، تورجي الرب عحلاها وقعت السما بأيديهم السما داخت». كنت أُفكّرُ كم هو جنونيٌّ قُربُ المجزرة منّا، من حيث كنتُ مقيماً، هذه المسافة نفسها كثيراً ما نقطعها مشياً في برلين الآن مثلاً. أمدّتني الثورة السورية بطاقة مختلفة دون شكّ؛ أن نقاتلَ من أجل شيء ما، على الأقل فكرة أننا نستحق حياة كريمة.