«الحبّ ضربٌ من الحرب»، بهذه المقولة يَفتَح فادي عزام باب روايته بيت حُدُد (2017، دار الآداب)، ومنه يسلِكُ دروباً كثيرة كمن يُنقّب عن كنز مفقود، سرّ ما غائب، يلجمُ جماح غضبه علّه يحظى بنهايات تُرضيه، يَستعرضُ قصصاً عن الحبَّ العظيم، عن الأحداث الدائرة والمتشابكة مع شخوص مجتمع الرواية، مجتمع الواقع والخيال. يفتح باب الأسئلة والألم، ويُثير جدلاً بشأن ما قد يبدو غريباً أحياناً. لكن لا شيء يوازي في غرابته الفظيعَ الذي يُحدِثه طغيان البشر البارعين في افتعال الحروب.

يسرد عبر 463 صفحة تمتد عليها الرواية صورة من صور الواقع السوري في أولى سنوات الثورة، التي تحوّلت إلى صراع إيديولوجيات، متنقلاً على امتداد عدة فضاءات جغرافية وثقافية واجتماعية، تحتضن أمكنةٌ رئيسية فيها أحداثَ الرواية بين كل من سوريا والإمارات وإنكلترا. تحمل الرواية انحيازاً نسوياً في رصدها للطبقات المُركّبة من العنف المُمارَس بحق النساء في مجتمعاتٍ تسودها سلطة ذكورية مطلقة. حفلت الرواية التي دخلت القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2018، بأسماء لنساء كثيرات نتخيلهنَّ وكأننا نعرفهنَّ بمجرد المرور بأسمائهنَّ: رويدا، هيلين، ماريا، ليل، سامية، حنّة، لارا، مريم، ميسون، إلهام، فلك، رؤيا، عيوش. هؤلاء النسوة شاركنَ في صناعة الأحداث عبر مساراتهنَّ المختلفة التي عكس فيها الكاتب تجربة العيش، من منظورهن، في مجتمعات تحمل إرثاً ثقافياً- اجتماعياً مُجحفاً بحق النساء، يسعى لكتم أصواتهن حتى عبر الكتابة.

تُكثّف الرواية هذه السِمَة النسوية وتعيدها إلى الحياة، ففي الحرب كما في الحب تُصبح الممنوعات ممكنة. حين يغطي الألم والكآبة كل الأمكنة، ويصل إلى حدٍّ لا يُطاق، تصطدم المرأة بواقعها وتحاول أن تستعيد ذاتها أمام الفظيع الحاصل الذي لم يترك أحداً في حال سبيله. وعلى هذه الوتيرة يُتابع من أول الرواية.

جاءت شخصيات الرواية الرئيسية النسائية خارجة عن المألوف المُعتاد في الموروث الأبوي، حتى وهي مرتدية ثوب المعاناة المُعتاد، فهي متمردة لأقصى الحدود، موازية لمفهوم الثورة الذي تَصدَّر خطاب الرواية، التمرد الذي أصرّ الكاتب على إبرازه مُلبياً وظيفة نصية ضرورية أيضاً؛ الثورة لن تكون حقيقية دون ثورة النساء، ولن تؤتي ثمارها ما لم تحقق العدالة والحرية والمساواة. لن تؤجل النساء أي قرارات مصيرية شخصية تحت أي مسمى.

اختارَ الكاتب فادي عزام في روايته الخروجَ عن الرؤية الأحادية التقليدية للأمور في ما يخص مسارات الشخصيات النسائية، وظهر هذا الاختلاف واضحاً في ردود الفعل لدى القارئات والقراء إزاء هذا الخيار، وذلك في جلسة النقاش التي حضرها الكاتب نفسه في إحدى نوادي القراءة مع عدد تجاوز الخمسين قارئة وقارئ.

أكثر من عشر نساء وَرَدت أسمائهن في أحداث هذه الرواية، سوريات وغيرهن، وفي مواقع وأدوار مختلفة، عاشقات ومتزوجات ومتمردات وحقوقيات وعاملات جنس. ومن بين الشخصيات تبرز شخصية الدكتورة ليل، خصوصاً مع ارتباط مسارها بسياق الثورة السورية، معبِّرة عن أجساد وأرواح متألمة، عن أفكار يسارية تحررية تسعى لإحداث انقلاب اجتماعي سياسي لكنها كانت نائمة، ورغبة جامحة في تغيير ما هو سائد ومفروض بالقوة، ودعوة إلى المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة، حتى في نوع العلاقات والأطر الجنسانية التي تُفرَض على النساء وتُقيّد حركتهنَّ وتُحدد مسبقاً ما يجب أن يكنَّ عليه، بحدود لا يمكنهنَّ تجاوزها حتى لو كان الأمر متعلقاً بأجسادهنّ ورغباتهنَ الخاصة، فيكون تحررهنّ هو الحالة الاستثنائية.

مسار شخصية ليل، كنموذج على هذا الاستثناء الذي يشق طريقه في قلب ما هو سائد، حافلٌ بالأحداث وما يُرافقها من أسئلة؛ ما الذي يدفع امرأة باتجاه رجل غريب في كل شيء، بكل ما يحمله ذلك من مخاطرة على حياتها «المثالية»، كأم وزوجة. في سبيل التقارب مع ذلك الرجل، فيديل، الذي لا تعرف عنه سوى إنه إعلامي ثري ومشهور، تعترف له من أول لقاء حميمي بينهما: «أنا ومدينتي من زمان ناطرينك» ص139، وتعيش معه قصة خارجة عن نمطية ما هو مألوف في المجتمع، إلى درجة أنها في لحظة اختيار تُقرّر أن تضع أمومتها جانباً وتُفضّل البحث عن حبيبها. جاء على لسان البطلة في شرح رؤيتها للخيانة: «الخيانة كلمة اخترعوها الرجال لتصفية حساباتهم مع بني جنسهم من الذكور. النساء يوم عرفوا سرّها، صارت وسيلة يستخدموها لتلقين الذكورة دروساً في التواضع» ص158.

تورد الرواية، عبر ردّ فعل محيطها على هذه العلاقة، شكلاً آخر من أشكال العقوبة السلبية التي يواجه بها المجتمع أهلية النساء على خياراتهن، حتى وإن لم يتجه نحو خيارات عنفية. فاكتفى أهلها وزوجها بمعاقبتها بقطيعة أبدية، لا من باب الرأفة بل تجنباً لإثبات هذا الاتهام الموثّق بالصور، وحفاظاً على سمعة العائلة في المجتمع المُنشغل بما يحدث من حوله. موقف الشخصية الروائية إزاء هذه الأحداث هو الاستمرار في قرارها، وفي إدارة حياتها الشخصية والعاطفية كشأنٍ يخصها وحدها، وهو سبب يُفتَرض أن يكون كافياً لعدم مساءلة خياراتها كامرأة، ولكن من الجائز طرح السؤال من وجهة نظر مختلفة: ما الذي قد يمنع امرأة أياً كانت من البحث عن الحبّ؟ خصوصاً مع وجود عوامل كحياة زوجية وجنسية غير مُرضية، واستغلال مادي وتعمُّد تشويه صورتها أمام ولديها وزرع الكره لديهما تجاهها واستغلال طفولتها من قبل الزوج.

نتعرّف أكثر في الرواية إلى صفات عادل، زوجها المُنتمي إلى عائلة متدينة، وغير المرحَّب به في مجتمعها، واستغلاله لانتمائها للطائفة العلوية، وهي طائفة العائلة الحاكمة للبلد، لدعم مساعيه في جني مكاسبه وتوسيع شراكاته وتحقيق طموحاته الشخصية، مُستعداً للمقايضة حتى بزوجته مع شريكه الثري. إيراد هذه الممارسات كان بمثابة فضح للقيم الذكورية المهيمنة، وتواطئها مع السياسات الموجهة ضد النساء والحريات والعدالة تحت ستار القيم المجتمعية والدينية.

في خيار سردي يبدو تثميناً لنُبل هذه المرأة ومعلناً التضامن معها للنهاية، نجدها على الرغم من كل شيء تقف إلى جانب زوجها في مرضه وضعفه، حتى يتعافى ويعود لأطفاله، فيعودَ ليُجازيها بتركها دون عمل ومال ومأوى في دولة غريبة، والرحيل مع ولَديْها وكأنها شيء يُرمى، لتأتي المساعدة من فيديل كنوع من العرفان لها وتكفيراً عن ذنبه في إفساد حياتها التي كانت ستَفسُد به أو بغيره، ويكون لها سنداً إلى آخر لحظة في حياته التي دفعها فداءاً لتعيش ليل آمنة. 

ليل التي قرأت رسالته واستيقظ قلبها للأبد، فبدأت رحلتها باحثة عنه:

«بحثت طويلاً وهي تتفقد أنحاء المكان، كانت قد شارفت على الخيبة حين دخلت الحمام لتجد الرسالة الأخيرة بقلم حمرة يخصّها. نصُها جملةٌ سَمِعتها من قبل، هي تخصّ الشيخ ابن عربي ’الحبّ موتٌ صغير، وآن الأوان كي تستيقظي‘ وبدل أن تستيقظ أصبحت كقاطرة ومقطورة تكرج في طريق مُنحنٍ بلا مكابح» ص 298.

انتصر الحب، والقربان كان باهظاً، حين قرّرت الاحتفاظ بطفلها ثمرة اللقاء الأخير في ذاك المكان الفظيع، في وكر تنظيم الدولة الإسلامية؛ طفل فيديل الذي خبأته في أحشائها، وجدت فيه ضالتها كعرفان لأكثر من يستحق قلبها وجسدها، وتضحيتها بأمومتها التي عادة ما تكسر ظهر النساء، الأمومة التي أجبرتها يوماً على البقاء مع رجل تحتقره، رغم أنها سابقاً لم تتردد ولو للحظة في إجهاض جنين من رحمها في أول علاقة حبَّ عاشتها، حين اكتشفت نذالة الرجل الذي تركها بحجة السفر، لتتفاجأ به بمحض صدفة غريبة بين صفوف داعش، وساعدها في الوصول لحبيبها فيديل الذي تمّت تصفيته وإعدامه رمياً بالرصاص، بتهمة ممارسة الزنا مع امرأة، امرأة كانت حبيبته ليل التي اعترفت لهم بأنها زوجته.

من الشخصيات النسائية الأخرى في الرواية شخصية سامية، المرأة التي وصفها من أحبها: «صوتها من ريح، مخلوقة من مزاج الهواء». ص44، هي محامية وناشطة مدنية، شاركت في الثورة في بداياتها واعتُقلت، استطاعت تجاوز قيود المجتمع حتى قبل الثورة السورية في 2011، وأصبحت أكثر قوة وإصراراً على متابعة حياتها بتلك الطريقة، وبقيَتْ محتفظة بمبادئها، وكانت سمة النُبل فيها سبباً ليقع في غرامها الطبيب الثري أنيس، الذي قضى أكثر حياته في هدوء في بلاد الإنكليز، والذي وجد نفسه شريكاً في الإجرام الذي ترتعُ البلاد تحت وطأته، فاستغلّوا عمله في الجراحة لاستئصال الأعضاء البشرية لمعتقلين ومعتقلات أحياء في سجون النظام. تمَّ ابتزازه؛ حياته مقابل خدماته كجراح محترف لصالح النظام، إلا أن الكاتب منحه وسام النبل في آخر أيامه قبل تصفيته، كإشارة منه بأن الإنسان لا يتجرد من إنسانيته بالمطلق. الدكتور أنيس الذي غلبه الحبّ، وحاول أن يفوز بالوفاء للعلاقة مع سامية التي انجذب لها وأحبها، في لحظة انتقام من زوجته التي اعترفت له ذات يوم بخيانتها له. تنازل عن ثروة هائلة متمثلة في بيت حُدد الذي باعه لمجرم حرب، وقايض بذلك تحريرَ سامية من التنظيمات الإرهابية وبقاءَها على قيد الحياة. سامية التي تعلقت ببيت حُدُد ومالكه لأقصى حد:

«لم أكن أحلم يوماً أن أنعم بكل هذا الدفء وأنا أعود للصقيع، سأتذكر دائماً هذا البيت العظيم، وقدرته على منحي الأمان في هذه المدينة السجينة. هذا البيت الذي تريد أن تبيعَه هو المكان الوحيد الآمن في دمشق المحتلة» ص75.

 تمَّ إعدامه، بعد أن قدّم كل ما وقع في يده من وثائق وفيديوهات تم تصويرها لفيديل، والذي بدوره سلّمها للدكتورة ليل التي أرسلتها لابنه سامي، المواطن البريطاني الذي سيُقدمها كوثائق وبراهين لإدانة النظام على ما قام به من جرائم وانتهاكات فظيعة، ودلائل على انتهاكات داعش في أماكن سيطرتهم.

في هذه الرواية ينتصر الحبّ وتُرفع قيمة النساء اللواتي يُشيد الكاتب بنبلهنَّ، وهذا بحد ذاته تثمينٌ للعمل الروائي المنجز. وقد كان موّفقاً بتضمينه مقولة ابن عربي في نصه: «الحب موت صغير» يترك وراءه أثراً كبيراً يستحق أن يُروى.

ثمّة صور وَرَدت كإشارات للحبّ وما يُحدثه في النفوس. وما جاء في الصفحة الأخيرة من الرواية يتقاطع مع رغبة الكاتب وما يرنو إليه من تغيير، ولادة لقيم إنسانية أنتجتها الثورة وقيم الحب الإنساني الأصيل، حين اجتمعوا في المكان: مقبرة للموتى تحفظ أسماءهم.

قبر هيلين طليقة فيديل، الأرملة الإنكليزية وعرّابته إلى العالم الجديد، حين منحته فرصة الزواج بها مرة، وتركت له ثروة جاب بها الدنيا، كان رمزاً لانتصار الحب وقيمه. هيلين التي أقسمت لزوجها الإنكليزي بالوفاء قبل موته: «إني لن أخرج ماشية مرة أخرى خارج البيت، أقسمتُ أكثر من ألف مرة، محاوِلةً تهدئة وساوسه ومجاراة هذيانه. وقبل أن يفارق الحياة بثوان، كنتُ أقبّله فاتحة فمي لتخرج روحه مع آخر نفس إلى جسدي » ص64.

لا يمكن التغاضي عن أهمية ذاك المشهد والواقفين-ات فيه، تقفُ ليل، وتقفُ مريم طليقة فيديل الأولى، مع أولاد ليل بعد قطيعة كان الأب سببها، حضروا ليعلنوا حبهم لأخيهم، ثمرة الحبّ والثورة، الحرب والرغبة، الثمرة التي ضحَّت لأجلها ليل بكل ما تملك وتمسّكت بها لآخر لحظة من حياتها لتحافظ عليها حين تبعت قلبها. في حين تخلّى عنها أبناؤها الذين تحالفوا مع والدهم في أسوأ حالاتها وتركوها دون سند، في مجتمع يبرر للرجل نزواته ويجرم المرأة في خياراتها. هذا الانقلاب الاجتماعي السياسي هو في صلب ما تسعى الثورات لتحقيقه.