من الممكن أن تأخذ الأسئلة التي نطرحُها اليوم حول الظروف المعيشية في سوريا شكلاً أكثر تعقيداً، خاصةً في محاولات التحايل على الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما تُمثّله الحاجة في مدينة مثل دمشق ضمن مشهد الانهيار في عموم سوريا. حوّلَ نقصُ الموارد الأساسية، وخصوصاً المحروقات والكهرباء، المدينةَ إلى مساحةٍ مفتوحةٍ للبحث عن وسائل بديلة يمكن من خلالها تأمين الأساسيات، ومن ذلك أنْ تَحوَّلَ حمام الملِك الظاهر التاريخي من مكانٍ للترفيه إلى حاجةٍ ضرورية، إذ شهد في الفترة الأخيرة، وخصوصاً أيام الشتاء، إقبالاً كبيراً يتجاوز سِعَته المعتادة في بعض الأحيان. 

يُعيدنا هذا التَحوُّلُ إلى سؤالٍ أكثر دقةً حول ما تُمثّله الحاجة في علاقتنا مع المدينة والتاريخ، وربما في علاقتنا مع أنفسنا، حين نبحث عمّا نحتاجه.

سيرة حمّام الملك الظاهر 

امتدّ المعنى العميق لحمّام الملِك الظاهر على تاريخٍ من التحولات التي غيّرت رؤيتنا للمكان، وهذه التغييرات باتت اليوم تعني الكثير، حتى في السياق الاجتماعي والسياسي، وفي علاقتنا مع سرد ما يُعَدُّ من ضمن ذاكرتنا الجماعية، وما يمثّله من فضاءٍ مفتوحٍ على احتمالاتٍ تجمع بين ما نعتبره ذاتياً، وما نستعيده من رؤيةٍ تَشمل تصوّراتنا عن السرد العام لتاريخ المكان.

في شارعٍ ضيقٍ ضِمن دمشق القديمة، وتحديداً في حي العمارة الجوّانية قرب المدرسة الظاهرية، تمّ بناء حمّام الملِك الظاهر عام 985 ميلادية خلال فترة الحكم الفاطمي، والتي كانت تعتبر مرحلةً مضطربةً. حمل الحمام عند إنشائه اسم العقيقي، نسبةً إلى بانيه أحمد بن الحسين العقيقي المدفون خارج مقبرة باب الصغير في دمشق عام 986 ميلادية، ليقوم بعد ذلك الملِكُ المملوكي السعيد ناصر الدين عام 1277م، بشراء الحمّام وتسميته نسبةً إلى والده الظاهر بيبرس المتوَفى في دمشق في العام ذاته، مع الحفاظ على الدور الاجتماعي للحمام ودون أي تعديلٍ في الطراز الهندسي، ليظل حمّاماً عامّاً يقصده أهالي دمشق للاستحمام مرةً أو مرتين في الأسبوع، وخلالها يناقشون قضايا سياسية واجتماعية، وربما تكون فرصةً لحلّ بعض الخلافات.

 

التحوُّلُ الأخير الذي حصل في مُلكية الحمام كان انتقالها لعائلة «أبو شاكر كبب»، شيخ كار حمّامات الشام، وشيخ الكار مُصطلحٌ كان يُطلق على عميد مهنةٍ أو حرفة. وتدير عائلة كبب الحمام منذ 145عاماً، إلى أن وصلَ إلى إدارته «بسام كبب» في الوقت الحالي. وخضعَ الحمّام، الذي يُعتبر من أقدم الحمّامات التي استمرّت بأداء وظيفتها دون انقطاع في سوريا والعالم، لعملية ترميمٍ قبل عشر سنوات، مع المحافظة على التربة الحلبية المستخدمة لتركيز الرائحة، والجدران المبنية من الجبصين والقش لمنع الرطوبة، وأيضاً مع الإبقاء على «الفمرات»، وهي نوافذُ من البلور المُعشّق والملوّن تغطي قبّة الحمام. كما لا تزال الأقسام الداخلية للحمام على تقسيمها القديم: «البرّاني»، وهو القسم الخارجي البارد من الحمام، ويتكون من منصة واسعة تُحيط بها مصاطب مع وجود بركة مياه في الوسط؛ و«الوسطاني»، ومساحته أصغر من البرّاني ويُعتبر حلقة وصل بين ما هو داخل الحمام وخارجه؛ و«الجوّاني»، وهو القسم الداخلي الساخن ويشمل قسم الاستحمام ويحتوي على «أواوين» من الحجر للاستحمام ومقصورات خاصة. 

أما القسم الوحيد الذي تم إلغاؤه مع الوقت فهو «القمّيم-الأمّيم»، وهو جناحٌ خارجي ملحق بالحمام يتم فيه تسخين المياه من خلال عمليات حرق الحطب والقمامة المجففة، كان يعمل فيه عامل يسمى «القمّيمي-الأمّيمي». وتم إلغاء هذا القسم لأن الحمّام صار يعتمد حالياً على تسخين المياه عن طريق ألواح الطاقة الشمسية إلى جانب المازوت. أما بخصوص تأمين المياه، فقد كان الحمام يعتمد على أحد فروع نهر بردى، ولكنه الآن يعتمد على بِئْره الخاص.

لم يُغيّر استمرار عمل الحمام دون انقطاع من أساليب اعتماده على الطاقة فحسب، بل بدّلَ أيضاً في معانيه وضروراته وحتى ما يُمثّله للمدينة وسكانها. فمع التطور الهندسي في التقسيم الداخلي لبيوت مدينة دمشق واحتوائها على حماماتها الخاصة، بدأ حمام الملِك الظاهر يتحوّل تدريجياً للاعتماد بشكلٍ أساسي على السياح، إذ على الرغم من أن الحمامات العامة منتشرة حول العالم، فلها في سوريا خصوصيتها وتقاليدها، متمثلةً بأدوات الاستحمام الخاصة كالمناشف وانتعال القباقيب الخشبية، والدخول إلى الوسطاني وسكب الماء بأوعيةٍ نحاسية، والتَلَيُّف بفرك الجسد بأكياس التنظيف الدمشقية، أو ما يعرف بـ«التكييس» الذي يختصّ به موظفون داخل الحمام. وتمتد خصوصية الحمام الدمشقي إلى الناحية العمرانية أيضاً، فالانتقال من الجوّاني إلى الوسطاني وحتى البرّاني ضمن هذا التقسيم الهندسي، يحفظ حرارة الجسد ويحمي الزبون من الأمراض. ويُعتبر البرّاني المرحلةَ الأخيرة، وفيه صالة الاستقبال التي تتوسطها بحرةٌ تضمّ نافورة مياه، حيث يجلس الزبائن لسماع الغناء واختيار مشروباتهم الساخنة وتدخين الأرغيلة.  

مع بدء الثورة السورية، بدأ الحمّام يذهب عميقاً في دوره وما يُمثلّه في حياة سكان دمشق، خصوصاً مع اشتداد موجة النزوح نحو مدينة دمشق وتدهور الوضع المعيشي في المدينة وتتالي أزمات المياه والكهرباء بين عامي 2015 و2017. يتمثّل التحوّل في لجوء كثيرين من سكّان دمشق لحمّام الملك الظاهر بشكلٍ لافت للاستحمام، بعيداً عن طقوس الترفيه التي كان يعيشها في السابق.  

من الرفاهية إلى الضرورة 

إن جوهر الأسئلة التاريخية للمكان فقدتْ معناها مع الوقت، فقد نزع التحول في السياق العام لمدينة دمشق عن حمام الملك الظاهر بعضاً من معانيه. يقول المؤرخ السوري منير كيال في كتابه الحمّامات الدمشقية، المنشور سنة 1964: «حمامات العاصمة كانت تعكس في السابق الوضع الاجتماعي والثقافي لزوّارها». ففي الماضي، كانت حمامات السوق تعتبر طقساً اجتماعياً وثقافياً، خاصةً كونها مساحةً للاحتفال بالمواليد الجدد، وإقامة الحفلات قُبيل الأعراس، ومساحةً تشبه إلى حدٍّ بعيد المقاهي التي يجتمع فيها الرجال بشكلٍ دوري للنقاشات العامة، وهو ما يعني أنها كانت تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والمعيشي. أما اليوم، فهي تعكس غياب الأساسيات في المدينة، كونها أصبحت مساحةً تعوّض أهالي دمشق عن تردي الواقع الخدمي في المدينة، خاصةً في فصل الشتاء، حيث يصبح الدفء والماء الساخن عاملاً أساسياً لتوفير أهم أساسيات الاستحمام.    

غابت عن الحمّام الطقوس العائلية، وتدريجياً فقد المساحة الأساسية التي كانت تُشكّل رمزاً تشاركياً ممتعاً، ليتحول الاستحمام في حمّام الملك الظاهر إلى فعلٍ فرديّ ضروري يقوم به بعض سكّان مدينة دمشق، بقصد الاغتسال الذي صار متعذّراً في البيوت أحياناً.

 

يملك خالد (45 عاماً) كراجاً لتصليح السيارات في مدينة دمشق، ويقول للجمهورية.نت: «يتطلّب عملي إني ما أقطع الحمّام، ونحن بثقافتنا نتعامل مع الحمّام كأنه فعل خاص إلو طقوسه، من الليفة وصابونة الغار الحلبية وغيرها. كل 100 يوم بتصلك جرة الغاز، فأديه ممكن تسخن مي على الغاز بفصل الشتاء؟ مافيك أكثر من أربعة ليتر فعلياً، وهدول ما بيكفوا شخص مثلي بمهنة صعبة لحمام كامل. ضروري روح على حمامات السوق. كنا بالماضي نروح على حمامات السوق بالمناسبات، نكون كتار ونغير جو، هلأ بروح لحالي، بدفع 25 ألف سوري (ما يعادل 4 دولارات تقريباً). أحياناً بتشوف كم سايح جايين مبسوطين، بينما أنا ما بفكر حتى كيف تغيّر بنظري هالمكان، صار المهم أتحمم بمي سخنه وأنزل كمل شغلي». 

وفي تصريحٍ صحفي على إحدى الإذاعات المحلية في دمشق، يقول «بسام كبب» مدير حمام الملك الظاهر: «إن الإقبال على الحمام زاد بنسبةٍ كبيرةٍ في الفترة الأخيرة، قد تصل في بعض الأيام إلى 70 شخصاً في اليوم الواحد». ولكنّ هذا العدد يتناقص مع تبدّل الفصول، إذ تصبح الحاجة للاستحمام مُلحّةً أكثر في فصل الصيف، ولكن الفارق أنه يمكن استخدام الماء البارد للاستحمام فيه، ما يعني حاجة أقلّ لحمّام السوق، إذ كان تسخين المياه السبب الرئيسي الذي قد يفرضُ الذهاب إلى الحمّامات العمومية في فصل الشتاء. 

كما أن الاختلاف الحقيقي يكمن في المواعيد التي تُظهر تغيّر عادات الحمام وتحوله إلى وسيلة ضرورية لسد خانة العجز الحكومي عن تأمين الأساسيات من ماء وكهرباء ومحروقات، إذ إنّ أغلب زوار الحمام باتوا يأتون صباحاً للاستحمام سريعاً والعودة إلى أعمالهم، وهو أمرٌ مغايرٌ للعادة التي كانت مُتَّبعة لدى سكان دمشق بزيارة الحمام ليلاً.

استطاعت الحمامات العامة في السنوات الأخيرة أن تُطوِّرَ عملها المزدهر مع استمرار غياب الأساسيات من ماء وكهرباء. ولكن مع ذلك، يضع حمّام الملك الظاهر قواعد يجب أن يخضع لها زوار الحمام للحدّ من الازدحام؛ مثل منع إدخال المأكولات أو المشروبات أو حتى جلب الأراغيل الشخصية للحمام. ولكن ظلّ حمام السوق خياراً متاحاً للفئات المقتدرة مادياً، في حين تعيش الأغلبية الكبرى من سكان دمشق ضمن خياراتٍ أضيق، تجعل من الاستحمام رفاهيةً لا يَصلِون إليها إلا بالتناوب وضمن أفضليةٍ دائمة للأطفال الصغار. تعلّق مريم (23 عاماً)، وهي طالبةٌ في جامعة دمشق: «الحمّام فعل سهل وبسيط بالعالم، شو يعني توقف تحت الدوش والمي تغسل جسمك. الفعل عفوي وطبيعي ويمكن حق من الحقوق، بس حالياً هو رفاهية بحاجة لتخطيط وتوفير موارد، وأحياناً كتير ما بتزبط معي لحتى آخد حمام. الأفضلية دايماً بتكون لإخواتي الصغار بالبيت، بعدين أنا لأنو بنزل على الجامعة بعدين أبي وأمي. فكرة إنو ننزل على حمام السوق كتير صعبة. إذا بدنا ننزل بدو يكلفنا شي 150 ألف ليرة، وإذا بدنا نقارن الأولويات، فالأفضل إنو نأكل فيهن».

ما يُحدِّدُ علاقة سكان دمشق مع حمّام الملك الظاهر هو تغيّر الفصول وازدياد النقص في الاحتياجات الشخصية والأساسيات من ماء وكهرباء ومحروقات، خاصةً أن الحمّام في الصيف يعود لحركَته المعتادة، وأكثرُ روّاده يكونون من الفضوليّين والسيّاح ومحبّي خوض تجربة الاستحمام في الأماكن العامة. يشكّل الصيف بالنسبة لسكان المدينة، رغم حرارته المرتفعة وحاجة الاستحمام المتكررة فيه، فصلاً أكثر أمناً من ناحية القدرة على الاستحمام في المنازل، خاصة بالنسبة للذين تتوفر المياه في مناطق سكنهم بشكل منتظم.

مهما بدا سردُ تاريخ حمام الملك الظاهر مثيراً للاهتمام، فهو اليوم حلٌّ مؤقتٌ لمشكلةٍ متراكمةٍ لطالما تعاملت معها الحكومة بإهمالٍ مستمر، خاصةً أن حمامات دمشق غالباً ما تُقفل أبوابها بسبب نقص الكهرباء والمحروقات. ومهما استمر الاعتماد عليها، فلن يكون بدون زيادةٍ مستمرةٍ في الأجر الذي تتقاضاه مقابل الخدمة التي تقدمها. تُجرِّد حكومة النظام، يوماً بعد يوم، نفسها من المسؤولية، وتطالب الشعب بالاعتماد على نفسه ليتجاوز أفراده النقص الدائم بالمواد الأولية. تعلَمُ الحكومة اليوم جيداً أن فعلاً بسيطاً مثل الاستحمام يبدو معقداً وصعباً في بلدٍ يدّعي «الانتصار».