في مكان يَصْعُب فيه على الفن فتْحُ جبهة صارمة ضد القيم الاجتماعية الراسخة، أو ضد السُلطة السياسية أو حتى الدينية، يُصبح نقلُ تلك المواجهات إلى الزوايا الفرعية للمنظومة القيمية الثابتة أفضلَ المُتاح لما يمكن أن يحققه مُنتَجٌ فنيّ، وتُصبح تلك المعارك بالسلاح اللطيف -الفن- من الأساليب المُعوَّل عليها لتحقيق تغيير ما، سواء مباشرةً من خلال إثارة القضية وتكوين جبهة فعّالة قادرة على التغيير المباشر، أو بمجرّد تحويل القضية إلى قضية عامّة بِرفعها إلى واجهة الجدل العام، وتحويلها إلى «ترند» عبر خلق اهتمام جماهيري فيها. بتلك السُبل تَحرّكَ مسلسل تحت الوصاية، الذي تم بثّ حلقاته الخمسة عشر خلال النصف الثاني من رمضان 2023، ليُغاير بشكله التقليدَ الدرامي الرمضاني المعتاد بـ 30 حلقة. 

تصدّى العمل لقانون الوصاية على القُصَّر؛ وهو أحد القوانين الراسخة منذ أكثر من 70 عاماً في مصر – والموجود في سوريا أيضاً –  والذي يَحرِمُ الأم علانية من الوصاية على أطفالها، في حالة وفاة زوجها، لصالح والد الزوج، بنصٍّ تُصرّح المادة الأولى منه بـ: «للأب ثم للجد الصحيح إذا لم يكن الأب قد اختار وصياً للولاية على مال القاصر، وعليه القيام بها ولا يجوز له أن يتنحّى عنها إلا بإذن المحكمة». وعليه فإن قانون الوصاية بشكله هذا يعني عدم أهلية الأم لإدارة حياة أبنائها، وأنّه لا حقّ لها في التصرّف بما لَهُم من مالٍ وَرِثوه عن الأب. وبمضمونها تتْبَع الأم أيضاً لوصاية الجد بشكل من الأشكال، فالتزامُها الأمومي بالأطفال سيَعني إرغامها على السكن في بيت الجد أو البيت الذي ينتقيه الجد، إضافة لكل تفاصيل الحياة الأخرى التي ستكون مجبرةً عليها بفعل وصاية والد زوجها على أبنائها.

تفقد حنان، الشخصية الرئيسية في العمل (منى زكي)، قُدرتها على الاستمرار بالرضوخ لخيارات الوصي قانوناً، مقابل قناعتها الداخلية الراسخة بضرورة وصايتها هي على الأطفال، وبأن القانون جائرٌ في كل تفاصيله؛ على الأقل يقف في وجه أحلام ابنها، ويُحوّله إلى عامل في ورشة الحديد التي يديرها جدّه، والتي تكاد تُفقِده عينَهُ بشظاياها.

تهرب حنان مع الأطفال، وتُهرِّب المركب الذي كان يمتلكه زوجها، لتخوض حربها الأخرى ضد «الريّسين والمراكبية» الذكور، الذين سيواجهون ظاهرة غريبة مستهجنة؛ امرأة تقود مركب صيد، تتحدّى قوانينهم، وترفض سلطة تجّار الجملة على السعر ومجمل محددات العلاقات في المهنة الجديدة، التي لم ترث منها عن والدها وزوجها إلا بعض التفاصيل غير الكافية.

معركة البطلة مع القانون، ومع المجتمع المحلي، إضافة للمعارك الفرعية الأخرى التي لا بد ستواجهها أرملةٌ بعمر صغير نسبياً في مجتمع ذكوري مَحمي مباشرةً بالقانون، لم تكن معركة مباشرةً تُقدّم فيها حنان مرافعات وخطابات ضدّ المجتمع، وهو ما منح العمل سحراً كان سيفتقده كلياً لو أنّه ساير نمطيّةَ المُواجَهة بين أطراف الصراع السائدة في غالبية منتجات الدراما المصرية. المواجهة هنا، تُلغي أحادية الشخصيات ككل؛ الأم هشّة بقدر ما هي صلبة، وكذا الصيّادون والرَبابين والمحبّون والأعداء، فيهم من الهشاشة ما يزيد على صلابتهم. هم أطراف صراع محسوم النتائج لصالح من في يمينه القانون والعُرف. لن ينتصر صاحب قضية عادلةً أخلاقياً وإنسانياً ما لم يكن القانون والعرف في صفّه، سينتصر القانون حتى بعد وفاة الوصي القانوني على الأطفال، على اعتبار أن الأم مُتّهمة بسرقة أموال أطفالها حين أقدَمت على خطف المركب وتشغيله دون تصريحٍ من صاحب الوصاية قبل موته. وسينتصر العُرف ويحترق المركب لأن «ريّس» المركب يجب أن يكون ذكراً، وقضاء امرأة ليلة كاملة في الصيد في أعماق البحر إنما هو ارتكاب «فاحشة». 

مُجمَل العلاقات التي يتضمنها العمل، تستقي من المصدر ذاته، ففي القصص الفرعية الموازية للحدث الرئيسي، لن تقدر العاشقة على العمل إلا  بإرادة عشيقها، ولن تقدر البنت على الاستمرار بخطوبة من تحب ما دامت أمها ترفض، وما الاستثناءات إلا نادرة، تكمن في تلك الثُنائيات التي بينها اتفاق عميق يسمح بتجاوز العُرف لصالح استمرار العلاقة. تمرُّ تلك الاستثناءات في المسلسل بشكل واضح المعالم، صريح بخصوص أنَّها استثناءات ليس إلا.

القضية التي يتبنّاها العمل غير كفيلة وحدها بالنهوض بمُنتَج قادر على الانتشار والتأثير، وإلا لكان وقعُ مقالة صحفية تنتقد قانون الوصاية على القاصر قادراً على فعل ما يفعله المسلسل، لكن رشاقة النص والحوارات، والاحترافية في صناعة الصورة كانتا الأداتين الأساسيّتين في تخفيف صلابة العمل والهروب من فخ التقليد: لن نجد مواجهة مباشرة بين الأم والجد موضوعُها رفض وصايته، إنما سنجد رفض الأم لقص شعر ابنتها من قبل الجدّة دون أخذ رأيها، ورفضها تشغيل الولد في الورشة بعيداً عن مدرسته دون عِلمها، وانتقادها استبعاد العاملين السابقين في المركب من قبل الأخ أيضاً دون أن يكون لها أي دور. دورها الوحيد هو انتظار الجميع في المنزل، وحصر النفقات المُباح لها التصرّف فيها حفاظاً على مستقبل أبنائها، مع أنه ومن حيث المنطق، يمكن لحياتها وحياة أبنائها أن تستمر بسويّة ماديّة مُشابهة لما كانت عليه قبل وفاة زوجها، فالمركب ما زال يجني ثمار البحر ويبيعها. المشكلة هي فقط في الوصاية، التي ستمنعها من كل شيء، حتى من قدرتها على نقل ابنها إلى مدرسة أخرى. مع صلابة هذا القانون، لا حلّ سوى هويّات جديدة مزوّرة، تمنح الأم الأهلية على كينونتها وقدرتها على امتلاك الوصاية.

بنى المسلسل حدثاً خصْباً في تكوين المَشاهد الدراميّة والحركة. فإن كانت قضية القانون الظالم هي موضوعُه، فإن سرقة المركب، ومجتمع الصيادين في دمياط، وهروب الابن، هي مواد دراميّة مَنَحت المسلسل ثيمة التشويق، وكَوّنت من المَشاهد ما يمكن وصفه بالمبالغ فيه فنياً أحياناً، إلا أن ما يشفع لتلك المبالغات أنها لم تكن تهدف إلى أسطرة البطلة، ووضعها في طريق النجاح في مواجهة المجتمع، ولا حتّى في طريق تحويل العدو إلى وحش. كانت جميع الشخصيات واقعيّة عاديّة، فيها من الخير والشر ما يمكن للظروف وللقوانين أيضاً أن تُعمّقه أو تشذّبه. فلا أصحاب الوصاية قانونياً شريرون لدرجة تحقيق مآربهم الشخصية بسهولة، ولا صاحبة الحقّ الإنساني قويّة وذكيّة لدرجة قدرتها على الانتصار. يخسر الجميع هنا لأن أحداً لا يمتلك أدوات النجاح، في ظل طبقة تنحدر من الوسطى إلى الفقيرة، طبقة تخضع، شاءت أم أبت، للدين والدولة بشكل جامد. يحترق المركب -موضوع الصراع- وتحترق معه آمال مختلف أطراف الصراع.

حاول العمل الابتعاد عن الشطط، وانحازَ لصالح عدم خلق علاقات وقصص فرعيّة، عادةً ما تُسهم في إطالة عُمر المسلسلات، والمباعدة بين الأحداث المحورية فيها لتناسب أيام شهر رمضان، ولعلّ الكاميرا فيه كانت الأكثر قدرة على ضبط وقعه، متفوّقة في كثير من المواقع على النص والحوار. لقطات ضيّقة كافية لرصد الانطباع بحذافيره، وأخرى واسعة ممتدة قصيرة الأمد، لم تقصد استغلال وجود البحر والسفن وما يمكن لبيئة كتلك من أن توّفره من حركات ذات مستويات متعددة للكاميرا، بل استخدمت تلك المكونات باقتصار هادف ومُحدَّد، ولعل من اللافت للنظر تلك اللقطات القريبة ضمن المواقع الواسعة، وداخل المركب؛ الحبال والشباك والأدوات والصناديق والاسطوانات والستائر القصيرة، والفوضى، كلّها مكوّنات مَثُلَت بتكرار متصاعد خلال العمل، أوحى بكل الأشكال بحصار يواجه البطلة، وفوضى لا يمكن ترتيبها، وتجربة شاقّة لا خيار لديها إلا خوضها.

نجا العمل أيضاً، بشكل ما، من مَغبّة المواجهة الأخيرة، وتوجيه كلمة مباشرة بحقّ القانون في المحكمة، إذ أن البطلة عندما خرجت من قفص الاتهام، بعد أن طلبت توجيه كلمة مباشرة للقاضي والحضور في المحكمة، لم تصرخ بأعلى صوتها ضد قانون الوصاية، ولم تُهاجِم المُشرّع أو المحكمة، لكنها أخبرت الجميع أن نوم ابنتها الصغيرة متقطّع، وأن ابنها لديه حساسية من الملوخيّة، وأن بعض التفاصيل يجب أن تعرف المحكمة بها لكي تخبرها من سيكونون الأوصياء على الأبناء.

على وقع العمل يشهد البرلمان المصري حالياً جدلاً بخصوص قانون الوصاية على القُصَّر، بعد أن قدَّمَ المُشرّعان محمد إسماعيل وأميرة العادلي طلبين منفصلين إلى رئيس مجلس النواب ووزير العدل لمراجعة القانون القديم، وهو ما يقع في صلب رسائل العمل، باعتباره دراما هادفة بالمعنى العملي لا السطحي. ولعلّ للفن في مصر تاريخاً عريقاً في الجدل مع القانون، بل والإسهام المباشر في تغييره، فلم يتم الإعفاء من تسجيل السابقة الجُرمية الأولى في الصحيفة الجنائية للأشخاص في مصر إلّا على وقع فيلم جعلوني مجرماً سنة 1954، وكذا كان لفيلم أريد حلّاً سنة 1947 أثرٌ مباشرٌ في صياغة قانون حق المرأة في الخُلع. وهناك غيرهما أيضاً مواد فنية مصريّة عديدة واجهت القانون، في بلد يعاني من قِدَم النصوص القانونية، ومن عدم قدرتها على مواكبة الحياة المعاصرة، وارتباط كثير منها بالعُرف والدِّين اللذين سيظلان موضوع الجدل الأساسي في رؤية وتقييم المجتمع المصري.