1- بحثاً عن كرة الصوف؛ رواية لروزا ياسين حسن
في عنوان هذه الرواية، الأحدث للروائية السورية روزا ياسين حسن (رياض الريّس، 2022)، إحالة لأسطورة ثيسيوس الإغريقية ومغامرَته في جزيرة كريت ومتاهَتها، المتاهة التي كانت مسرحاً لأحداث أساطير أخرى أيضاً، وشكّلت مصدر إلهام أدبي وفني متجدِّد يكاد لا ينضب، بما توَّفره كبيئة خصبة للاستعارات والترميز، تُلامس طيفاً من المواقف والمفاهيم والصراعات البشرية الأبدية؛ من مواجهة المظالم وأساليب بسط السيطرة والتَوْق إلى الخلاص والسعي إلى الحقيقة بثمارها المرّة، كما في مثال قصة البنّاء ديدالوس وابنه إيكاروس التي تدور أيضاً في المتاهة نفسها. في ما يخصُّ الأسطورة المُرتبطة بعنوان هذه الرواية، يتمكن ثيسيوس من التغلِّب على وحش المتاهة، المينوتور، والخروج من المتاهة متتبعاً خيوط كرة الصوف، هدية أريادن ابنة ملك كريت، في قصة نجاة منقوصة كما يوضّح تتابع أحداث الأسطورة التي تنتهي بمأساةٍ على شواطئ أثينا. ملاحقةُ أثرٍ مُنجٍ، كخيطِ الكرة الصوفية، في متاهات وتناقضات حياة المنفى السورية البديلة المفروضة قسراً، هي الثيمة الأساسية للرواية المُقَدَّمة ضمن بُنية مكثّفة يحدّها إطار زمني مُقفل على ثلاثة أيام، وفي قلب هذا الإطار تشعُّبات وخيوط تمتد إلى أزمنة سابقة من حياة الشخصيات، وأزمنة لاحقة أيضاً في تطلعاتها نحو ما سيأتي، في حياةٍ تدور أحداثها في هذا المكان الجديد، البديل، ألمانيا. الكتابة عن صُلب الحاجات والأسئلة المتولّدة عن صراعات استرداد العدالة والمساحات ومواجهة التهميش التي طالما كانت موجودة في الإنتاج الأدبي والتوثيقي للكاتبة السورية، سواء كان في انشغالاتها بالقضية النسوية والتعبير عنها أو برصد تجارب المعتقلات السورية، أو في تصديها في هذه الرواية لموضوع المنفى وما تُخلّفه تجربة الهجرة القسرية واللجوء من آثار وظروف على مُعايِشيها.
مقتطف من الرواية:
يوم ثانٍ في متاهة المنفى:
إنه الإنكار.. لا بل الحنين!
معظم من كان يقف على شارة المرور راح ينظر شزراً إلى شاب أسمر يبدو من مظهره أنه أجنبي، قَطَع الطريق راكضاً فيما شارة المرور ما تزال حمراء للمارة! مما أكّد لهم أنه أجنبي. الأمر الذي استفزّ امرأة عجوز لتصرخ بالألمانية وهي تشير إلى الشارة: Es ist rot!.
فرفع «يحيى العلواني» إصبعه الوسطى عالياً وهو يغذّ السير بعيداً، وصاح:
– هكذا يكون الاندماج!
فيما راحت العجوز تُبَربِر غاضبة، ثم نظرت إلى الصبيّة الواقفة بجانبها، وكمن يقول بَديهية مُسَلَّمة خاطبتها:
– إنهم لا يملكون شارات مرور في بلدانهم، لذلك لا يعرفون كيف تعمل! آه كم ينبغي علينا أن نعلّمهم؟! الكثير..
لم ترد الصبية، ظلّت تنظر إلى الأمام كأنها لم تسمع. لكن العجوز استمرت في توجيه الكلام إليها:
– أعتقد بأنهم لا يملكون مطارات ولا طائرات ولا… وربما لا يملكون سيارات.. من يعرف!
صارت الشارة خضراء فانطلقت الصبيّة مسرعة، وتبعتها العجوز ببطء وهي تستمر في الكلام، حتى تباعدت المسافة بينهما وارتأت أن تصمت لِئَلا يظنُّها الناس تُكلّم نفسها. بقيَتْ تتأفف وتهزّ برأسها غاضبة، ناظرة إلى كل من يمرّ علّها تلمح بادرة استماع صغيرة لتواصل حديثها. فيما كان «يحيى» قد أصبح على بعد شارعين منها يقطع شارة مرور حمراء أخرى راكضاً.
– لن تجعلوني عبداً لطريقتكم في الحياة.. لن تجعلوني.. ويلعن روحك يا حافظ كمان..
ينبغي أن أرفع صوتي أعلى كي يسمعني كل من في الشارع.
ثمة مُتعة غريبة وعميقة تحسّها حين تقوم بخرق قانون ما من جملة القوانين الكثيرة المقدّسة هنا في بلاد القوانين المقدّسة! مُتعة تُشبه نشوة النصر، كأنها متعة العصيان التي تحاول إجبار العالم على النظر إليك وعلى تقبّل رؤيتك. كأنك تصرخ: ها.. انظروا إليّ، لن أكون دجاجة أخرى في أقفاصكم، لن أكون عدداً زائداً نافلاً! على الرغم من أن أساليب العصيان هذه، في بلاد كهذه، هي أمر لن يكون مقبولاً أو مرحّباً به يوماً، وأنت تعرف ذلك، كما لو أنك تُغالي في الحقيقة كي لا تكون أساليبك مقبولة! معادلة معقدة أنت تدرك ذلك!
– لكن كيف يمكن أن يكون البشر ملتزمين بالقوانين إلى درجة تجعلهم أقرب إلى روبوتات مسيّرة مبرمجة منهم ببشر! لا يُعقل ألا يكون هناك من ينتصر حيوانُهُ البرّي الحر داخله، فيخرج في لحظة ما ليحطّم القوانين!
تأفّفَ «يحيى» كعادته وهو يرشف سيجارته مع كأس الشاي أمام صديقه «عيسى النديم».
– أزجر نفسي كي لا أتحسّس جسد كل من أصادفه علّني أعثر على أجهزة التحكّم في أجسادهم، كمثل فيلم ماتريكس! أتذكره؟! أشعر بأنني أعيش في الفيلم بكل تفاصيله أحياناً! حتى العيون تنظر في الفراغ غير آبهة بما حولها!
يضحك «عيسى» ويُعيد رأيه، الذي لا يتغير، بأن هذي البلاد ما كانت لتخرج من انهيارها الكامل بعد الحرب العالمية الثانية لولا هذه القوانين، ولم تكن ألمانيا هي ألمانيا لولا تلك القوانين.
– لتذهب إلى الجحيم بلاد الروبوتات.
صحتُ به مناكفاً، فضحك.
– أنت مُخطئ، راقبهم في أعطال نهاية الأسبوع والاحتفالات وسترى بأم عينك الحرية المجنونة داخلهم.. هذه بلاد الحرية يا صديقي.
لكني لن أسمح لهذه البلاد أن تدجّنني، أن تجعلني دجاجة أخرى في مدجنة كبيرة. لم نَثُر على نظام وحشي كنظامنا، نظام البراميل، لم أفقد كل شيء، عائلتي وأهلي وتاريخي وماضيي وكل عالمي القديم، كي أغدو دجاجة في هذا العالم الجديد.. لا! لن أكون يوماً دجاجة.
صحتُ به من جديد.
لكنها في الحقيقة بلاد جميلة رغم ذلك، الأخضر يعمّ كل شيء، النباتات سيدة الكون هنا، في الوقت الذي كان فيه الإسمنت سيد المكان في عالمي القديم. هناك كان يتمدد الإسمنت على مساحات الأمكنة كلها، على الأخضر والأزرق والأحمر، على الأرواح والعلاقات! اليوم أُفكِّر بأننا حوّلنا بلادنا الخضراء، التي تغنّى الشعر بجمالها لقرون طويلة، إلى بلاد إسمنتية!
أُراقب اللوحات القديمة عن مدينة هامبورغ المدمَّرة بعد الحرب، تلك التي تمتلئ الشوارع بها كأنها نذير يذكّر من يَنسى، لا يمكنني إلا أن أبكي! مشاهد الدمار الرمادية تلك تجعل مدينتي المدمّرة هناك تمتثل أمام عيني، وجثث أهلي المصطفة أمامي.. يا إلهي!
ما أقبحَ الدمار وما أقبح اللون الرمادي! وكم يُشبه الرمادي نفسه في كل زمن وفي أي مكان. هامبورغ سنة 1945 هي ذاتها «معرة النعمان» سنة 2015 أو حلب أو ريف دمشق أو الرقة أو أية مدينة سورية أخرى مدمَّرة! لكن التناقض الصارخ بين واقع هامبورغ الأخضر وماضيها الرمادي يجعلني أتخيّل كيف من الممكن أن يغدو حاضر الشام الرمادي أخضر مجدداً!
هل يمكن لسوريا أن تعود بلاداً لنا بعد كل ذاك الدمار؟ قلوبنا مقابر، والموت التصق بأرواح الناجين لا يرضَى فكاكاً!
– قلوبنا كانت مقابر أيضاً!
قالت معلمة اللغة الألمانية ببطء وتأكيد على كلماتها كي تجعَلني أفهم ما تقوله بالألمانية، وهي ترتشف من كأس قهوتها. هي سيدة شقراء في أوائل ستينياتها لا تفارقُ الابتسامةُ وجهها!
– أمي كانت طفلة كذلك في الحرب. فقدت والديها وطفولتها، ووالد زوجي فقد أسرته كلها.. تاريخ البشرية قصة طويلة كتبتها قلوب تسكنها المقابر يا صديقي..
– …
– ربما يجعلنا هذا نرى مصائبنا أقل وطأة.. ما رأيك؟!
قالت بأسى ونظرت في عينيّ.
هززتُ برأسي صامتاً.
لم تكن لدي القدرة على شرح ما أريد أن أقوله لها، ولا الرغبة. حزني أكبر من التعبير عنه، الكلمات لا يمكن أن تعبّر البتة عن حزننا. أنا أحسد كل من رحل في كارثتنا، تحرّرت روحه من موتنا الأرضي ورحل إلى السماء، نحن من بقينا هنا فحسب، سوريون مشتّتون في بقاع العالم، يجمعنا شيء واحد: التصاق الموت بأرواحنا الهائمة في متاهات المنافي! ذاكرة لا يمكن أن تفارقنا.. أحسدك يا يامو.. أحسدك! رحلت واسترحت من كل هذا الموت!
طالعتني غابة وسط المدينة!
سأدخلها قليلاً قبل أن أتوجّه إلى بيت «عيسى» الذي ينتظرني، وقبل أن أغرق في اكتئابه الدائم الذي يكاد يقتلني، ويجعلني لا أرغب برؤيته مؤخراً! كلما حاولت أن أخرج نحو الضوء يكبّلني بحزنه ويشدّني إلى العتم! هل يمكن أن تتحوّل الصداقة أيضاً إلى سجن؟! لم أعد أطيق البقاء طويلاً معه، وهو لا يرضَى أن يخرج لمرافقتي في سهراتي! يقول لي بأن الناس والضجيج يأخذون طاقته، يمتصّونها حتى النهاية ليتركوه فارغاً تماماً.. لكن هل تعتقد أنك الآن تمتلك أية طاقة؟! أسأله، وأخجل أن أقول له إنه أشبه بجثة تتنفس!
أمشي بين أشجار متشابكة على ممرّات تُرابية متشعّبة جعلتها الأمطار طيناً لزجاً، لا يمكن لأحد أن يتخيّل امتداد هكذا غابة في وسط مدينة ضاجّة كهامبورغ، وأن هذه البقعة بالذات كانت دماراً هائلاً قبل ما يقرب السبعين عاماً، وكانت نساء الحرب تحاول ترتيب المكان وأنقاضه! ها هنّ يطلَلن الآن عليّ من على لوحة كبيرة على باب الغابة تصوّرهن، مكتوب فوقها: Trümmerfrauen نساء الأنقاض.
في هذه اللحظة بالذات لا يمكنني إلا أن أتخيّل نساء مدينتي «معرة النعمان» وهنّ يحملن أنقاض بيوتنا وأرواحنا، ويرمينها بعيداً بعيداً إلى العدم. ستكون «أم محمد» أكثرَهنّ نشاطاً، هذا إن كانت ماتزال على قيد الحياة! أما «معينة» فستقضي الوقت في الثرثرة، وربما تسلّمت جارتنا «سعدية» إطعام نساء الدمار كل يوم، فسمعة طبخها معروفة في كل المنطقة.. على سيرة الطبخ تذكّرت بأني لم آكل شيئاً اليوم، ولربما أقنعت «عيسى» أن نخرج لتناول الغذاء خارجاً في مطعم سوري افتتح مؤخراً في شتايندام، يقدّم وجبات كطبخ الأمهات، وأنا أشتاق إلى صحن كبة باللبن، أو مقلوبة بالباذنجان.
تحت قدمي هناك جرف يطل على حفرة كبيرة وسط الغابة. شعوري بذلك الهبوط في قلبي كأني سأقع فيها الآن، حفرة مازلت أقع فيها منذ سنين، وكلما أمسكت بشيء ما كي يمنعني من السقوط يتلاشى بين يدي، غصن شجرة، صخرة، عشبة، كل شيء أمسكه يتبدد! وعليّ أن أنحدر إلى تحت، إلى تحت نحو أسفل نقطة، إلى النهاية.. لربما حينما أصل سالماً، مع الكثير من الخدوش والرضوض، ويمكنني وقتذاك فحسب أن أرجع وأصعد من جديد إلى الضوء!
2- مصيدة المكان؛ دراسة نقدية لمحمد جبالي
ما يُقدّمه الفنان والكاتب الفلسطيني محمد جبالي في هذا الكتاب (مدار، 2022) هو أوسع من دراسة نقدية مُتخصصة وتأريخية لحقل الفنون التشكيلية الإسرائيلي، كما قد يوحي للوهلة الأولى، بل يتصدّى الكتاب لأسئلة أكثر تعقيداً حيال هذا الحقل عبر محطاتٍ مختلفة في تاريخه؛ آفاق تأثيره واستلهامه الضاربة بين اتجاهين، ما هو عالمي، غربي بشكل خاص، و«المحلي». يتقصّى مساهمات هذا الحقل في إنتاج وتصدير وترسيخ صورة عن شكل الحياة اليومية والصراع وهوية البنية الاستعمارية التي انبثق عنها هذا الحقل بما يتضمن ويستوعب أيضاً الأعمال ذات النبرة النقدية لسلطة الاحتلال.
أحد الأسئلة المركزية التي ينطلق منها الكتاب: هل يمكن للفن الإسرائيلي أن ينفصل عن جذوره الاستعمارية مع استمرار وجود المشروع الاستعماري؟ ما يُميّز الكتاب كما لفت مُقدّمه، الكاتب والناقد الفلسطيني حكيم بشارة، هو امتناعه عن كتابة تاريخ الفن الفلسطيني، مُختاراً أن يسلّط عليه الضوء من زاوية الحديث عن فن «مُضطهدِه»، وهي النقطة التي يتناولها الكاتب في مقدّمته الخاصة موضحاً اختياره وأهمية قلب موازين الذات الفاعلة مقابل موضوع البحث: «لنضع أنفسنا كفلسطينيين في موضع الذوات الفاعلة والمحلّلة التي تقرأ موضوع البحث الإسرائيلي، بدلاً عن سرد رواية الفلسطيني كضحية للمنظومة».
مقتطف من الكتاب:
ما يوفّره الحقل الفني الحديث بالصيغة التي تتشكّل في نهايات العقد الأول لدولة إسرائيل هو المساحة التي يتم فيها تطوير شرعنة الكيان الإسرائيلي ككيان غربي مثله مثل باقي المجتمعات الغربية الأوروبية والاستعمارية في العالم الجديد، يحوي مساحة فنية تخدم الفن من أجل الفن وتطوير الذائقة الفردية لأعضائه بدون الخضوع لوظيفة خدمة السياسة بشكلٍ مباشر، بهذا المعنى يوفّر تطوير الحقل الفني بهذه الصيغة القدرة على الاستعلاء الغربي على كل أولئك الذين يحتاجون حضور المجتمع الغربي الإسرائيلي المتمثّل بالخدمات الفنية، التعليمية والتربوية التي يوفرها لكي يرقى بهم إلى ركب الحداثة التي لا يستطيعون وصولها بأنفسهم كونهم قادمين من مجتمعات غير حَداثية تفتقر إلى فهم أهمية تطوير الإنسان الحديث المتمرد والمعتني بالجمالي.
تصبح هذه الديناميكية ضرورية لتعزيز أساطير مهمة مثل أسطورة «الحروب الاضطرارية – الحروب الاختيارية»، وأسطورة المُحارب المُجبَر على العنف كدفاع عن النفس مقابل المحارب العطش للدماء.
بالإضافة إلى ذلك، تبدأ هنا داخلياً – داخل المجتمع الإسرائيلي – وظيفة الحقل الفني المتمثّلة بخلق الثنائيات الجمالية السياسية بين فئتين من المجتمع.
الأولى: أولئك الذين يهتمون بالحياة الحديثة في أرض إسرائيل ويبحثون عن المعاني حول المكونات الحداثية للشعب اليهودي، لا يأبهون بقدسية القدس وتهمهم دنيوية المتع اليومية في تل أبيب ويتمحورون حول: الشعب – الدولة – النظام الاجتماعي – اللغة العبرية – الحياة اليومية.
والثانية: أولئك غير الحداثيين الذين لا يستطيعون علمنة العلاقات الدينية واللاهوتية العميقة لتشابك: الشعب اليهودي – أرض إسرائيل – التراث اليهودي – التوراة.
تصبح هذه الثنائية ضرورية لكي يتطهّر الحداثيون الصهيونيون من عمق الجوانب المسيانية – صهيونية في تكوينهم من جهة، ولكي يتطهّروا من العنف المؤسس للنكبة الفلسطينية في كيانهم من جهة أخرى. أما الجوانب الدينية الغيبية والعنف السياسي الموجَّه لاحتلال الفلسطينيين فهي حصص التيار «القومي – الديني» في المجتمع الإسرائيلي.
تتحوّل النكبة عبر هذه الهيكلية لعنف عتيق جداً مُنْكَر ومُغيّب واضطراريٍّ خال من الإثم، وكأنه حدث تاريخي أسطوري أقدم من وعد الله لإبراهيم بمَنْح نسله أرض إسرائيل. أما وعد الله لإبراهيم فيتحوّل إلى معنى سياسي حداثي مُعاصر مسكوب داخل قالب حق الشعوب في تقرير مصيرها في دول حديثة سيادية جمهورية، على الرغم من أن قرية الفنانين في عين هود، على سبيل المثال لا الحصر، تقف يومياً في مباني عين حوض، وتنظر إلى المنظر الطبيعي الجميل من حولها في إنكار تام للقرية غير المُعترَف بها، القاطنة أمامها على سفح التلة المقابلة التي يسكنها أهل عين حوض الفلسطينيين، الذين حاولوا العودة إلى قريتهم ليجدوها مستوطنة من قبل الفنانين المحميين بالعنف العسكري. لم يتبق لدى أهل عين حوض الأصليين من خيار سوى إقامة مبانيهم المؤقتة، غير المرخصة، البدائية، غير المشبوكة بحداثة شبكات المياه والكهرباء، على سفح التلة المقابلة لقريتهم المسلوبة التي تحولت إلى حلم جمالي حداثي: قرية يعيشها فنانون إسرائيليون حداثيون يصْبون نحو المستقبل وحرية الإنسان غير خاضعين لأعراف المجتمع العتيقة!
3- تردّدات؛ مجموعة قصصية لمينا ناجي
الكاتب المصري الذي سبق وأن خاض مجالات الشعر والرواية والترجمة والكتابات السردية في كتب سابقة، منها عن الفقد والرهاب والجندب يلهو حراً في شوارع القاهرة وسحر حقيقي، يعود الآن لإصدار مجموعة قصص قصيرة بعنوان تردّدات (العين، 2023)، مكوَّنة من ست قصص مطوّلة، مُنفصلة في مواضيعها لكن صدى صوت كل قصة يتردد في الأخرى بلغة سردها الواقعية، ذات الجماليات القاتمة، المريرة، التي تطال مسارح أحداثها وحواراتها وشخوصها، ومع وجود ما يشبه خطاً بيانياً يتصاعد من الصفحات الأولى ذات الوتيرة الأبطأ، والوصف الأكثر برودة للوقائع حتى يصبح أكثر تجريديةً وصخباً وتماهياً مع صوت نبضٍ داخلي عند الوصول للقصة الأخيرة. ارتباكاتٌ وشخوصٌ تتواجد دائماً في المكان «الخطأ». من تجارب نفسية مع غرباء في غرفة عيادة، إلى أحاديث حرجة للإفصاح عن نوازع كينكي، وحتى التسلل غير المُشَجَع عليه إلى ساحاتٍ الرغبة بأم حبيبتك، لقاءات ليلية خاطفة بين غرباء تخلقها المصادفة وتُظلّلها أجواء الريبة والفضول، وقصة حب مرتبكة تتدخل فيها حملات حرق الساحرات على السوشَل ميديا.
مقتطف من المجموعة:
الليلة الرابعة والعشرون
[هو]
دروس الليل تَلوك على مَهَل. وكل رجل سيفه على فخذه. أما حياتي فشكلٌ غير مُحدَّد من الحب. ويحدث لي أحيانًا أن أرتفع وسط الجدب، بصورةٍ تكاد تكون كاملة، أي يكون هذا الحب هَدية في ذاته. أعني أحيانًا، في الهمَّ، في المحنة المتمدية للأيام، يفاجئني شيءٌ ما مثل الضوء. أرتفع وأحلِّق قافلاً من الهند فوق ملايين المنازل والمعابد وغيرها من المباني، حتى إن صيادًا شيعيّاً من مدينة مَشهَد المقدسة كاد أن يصطادني. لكنه بدلًا عن ذلك أصاب فيلي الجميل، ولا أجد ما يقلُّنيِ إلى أرض مولدي.
توقف الخط الأحمر المرسوم فوق الخريطة ولم يكتمل. سرتُ أميـالًا فوق أميال. وعلَقت سوسنة الوادي بحذائي المُبلَى. تمهلّتُ جانب نافورة. خلعتُ كل ملابسي. نزلت أسبح فيها ورأتني الأسمك أثناء تجوُّلي. أحاطت بي ترقبني في فضول الدهشة وأنا يدور بخَلَدي، وراء أخبار أحداث طالعتنا كأنها وقائع نهاية العالم، الشعوبُ والقبائلُ في الكتب المقدسة التي كانت على الجانب الخطأ من التدوين. الذين كانوا، لسوء حظهم، في المكان الصحيح والوقت الخطأ، فنـُكِبوا بالذبح والأوبئة والضربات الموجعة .شعوبٌ أدار اللـه وجهه عنها ولم يحزن عليها أحد. فقط ذُكِرَت مآسيها في سطور عابرة كديكور قصة أساسيَّة. يدور بخلدي رعبهم وفزعهم من الضرر ومن الفَناء، ومن استشراف مشاهِد قياميَّة تتجسَّد واقعًا. يدور بخلدي كتابٌ سيُكتَب في المستقبل عن الشعوب التي أصبحت أيضًا في المكان الخطأ. عن منطقة منكوبة بالحروب والصراعات والجهل والفقر. منطقة طفحت أبناءَها لاجئين على العالم مثل جراثيم وفيروسات يتم تحاشيها بكمّامة وقفَّازات طبية. عن اللـه، الذي خرج منها، وتركها خلفه تعاني. عن مؤمنيه الذين اختاروا الموت لأنهم لا يعرفون طريقة غيره للعيش. عن أنَّ كون الواحد على الجانب الخطأ من التاريخ هو أمر موجعٌ بلا خلاص. آمال وأحلام ثم فجأةً كل شيء يذهب أدراج الرياح كما لو بواسطة أعمل شيطانيَّة. لا أحد يخرج سالمًا من مجموع مثل هذه القرون. حتى دراكولا مات بصليب خشبي دُقَّ في قلبه. أو في صدره. تلك الأمور لا تهمُّ مساحةُ خطئِها. لما نما الأمر عبر الأزمان اختار كنيسة ليموت فيها من أجل التعب. وحين دخلوا ورأوا دقَّ الوَتدِ الخشبيّ ظنوُّا أنها جريمة نيكروفيليَّة. ربم بسبب الصرخة الشعواء التي انطلقت وقد تشابهت مع صرخةِ متعةٍ رافقَت خروج دفقات الدم الأحمر. يدور بخلدي، والسمك يتقدَّم مني بحذر، أنه في صميم التاريخ ذلك الوجع: الأجيال التي تُركت بلا عائل. بلا أحد يستمع لها .الأجيال التي تشعر بالوحشة بعد أن ذويت في الظلم، لتذوب مثل لحظةٍ في تاريخ الزمن. حافظت الحضارة على المعطوبين عن طريق الكيمياء والطب، رغم أوقات سابقة كان فيها التطور بآليَّاته العملاقة التي لا تتوقف ولا ترحم تُجهِز عليهم أولًا فأول قبل نشر حمَْضِهم النووي للأجيال الجديدة. فخَرَجتْ أعدادٌ ضخمة للعالم حاملةً تلك الأحماض النووية وزادت الحيوات المُلتاعة والمُعذبة. لا هي راحتْ في الوباء ولا هي مُشارِكة في الحياة ومندمجة فيها. وضعٌ غير مسبوق في التاريخ. وجود كل هذا العطب في المُجتمعات البشريَّة. أتاحت الإنسانية لنفسها كل وسيلة لعيشٍ رغيد، إلا الحياة الجيدة. استشرت العُصابيَّة والذُّهانيَّة حتى المُفعَّلة بالمخدِّرات والتكنولوجيا. ظرف تاريخي غريب.
وماذا لو أعطاك هذا الكابوس ركلة خلفية؟
4- بار ليالينا؛ رواية لأحمد الفخراني
صدرت عن دار الشروق (2022) الرواية السادسة للروائي المصري أحمد الفخراني. الهيكل العام للرواية وإطارها المقسم على فصولٍ معنونة بأسماء أفلام جماهيرية خالدة يبدو كعتبةٍ ممهدة لعملٍ، ليس مُقارِباً على نحوٍ ساخر لعوالم الثقافة والفن فحسب، بل كذلك هو معنيٌ بالدراما المشوّقة التي لا تُقاوَم للعبة الأقنعة والتمثيل والسلوكيات الزائفة. الرواية التي تسعى لسرد قصة عن «الرجال الصغار» زاخرةٌ بالالتقاطات الساخرة، فنجد شركةً لإنتاج أفلام صامتة تحمل اسم «الصمت الرهيب»، وبطلاً يتطلّعُ لترك بصمةٍ ما في العالم، ولكن هذه البصمة مهددة بأن تُطبَع على سراب مع نفوذه لإحدى دوائر المثقفين متمثلة في بار «ليالينا»، الذي هو حيّزٌ حافلٌ بعناصر الدُعابة وقوالب رسم الشخصيات الفكاهية لنماذج أَبديّة من المبدعين ومن يدور في فلكهم، لتنحدر قصة الطموح الإبداعي السامية مع تتابع أحداث الرواية إلى مُماحكاتٍ بين النفوس الصغيرة وأحقاد ومكائد ومحاولات انتقام.
مقتطف من الرواية:
تَعكَّرَ وجهه فآثرتُ أن تصمت، لكنه انتفض قائمًا، ثم قال بأداء مسرحي بدا كأنه يلقيه للمرة الألف:
«الماس للجميع يا هانم، للجميع. لولا الشر وجشع الإنسان لسقط على الناس من الأشجار، لوزِّع كهدايا مجانية على قسائم الشراء، لجمعه المتسولون من الخرائب وأكياس القمامة، لمد المرء يده والتقطه من أصيص في شرفته، لوجده إذا حفر سنتيمترات قليلة تحت قدميه، لو مضى عدة خطوات أبعد. الشركات ’الشريرة‘ هي من توهمنا عبر احتكاره بنُدرته، بسحره وضرورته، غسلوا أمخاخنا بشأنه، مثلًا يقولون إنه المادة الأقوى في العالم، لكنه هش جدًّا، إذا وجدت الطريقة والنقطة وأوتيت القوة المناسبة لطرقه سوف يتهشم، كالإنسان، أفضل ما خلقه الله، ووضع فيه سرًّا كماسة وسط الروث، لكن دائمًا ما تجد مطرقة الزمن التي لا تستثني أحدًا، تلك النقطة التي يتهشم فيها الإنسان، تخلخله، تمضغه، ثم تلفظه كبصقة وكومة من ترهل وخراء.
قد تسألين لمَ لا يعرف الجميع الطريق إلى الماس، لأن الشر يولد من الخير، لو صار الكل أغنياء لأصبحوا أكثر فقرًا، سيفقد الماس بريقه الذي يشق الظلمة، قواه التي توقف عمل الشيطان، سيكف عن أن يصير رمزًا للحب الأبدي، كما رَوّجَ الشر ليُعظّم أرباحه. كلما كانت الماسة أكبر وأنقى، كان حبك أكبر وغرامك أنقى ومكانتك الاجتماعية أعلى، الماس هو الحب، الخلود، التميز، الصفاء، النقاء. أكاذيب يا هانم، أكاذيب، لكن تلك الأكاذيب هي الحياة، لو توقفتْ لسقطت الأحلام، ففي الخير يكمن الشر، وفي شر الشركات التي تحتكره يكمن الخير، كالدودة في بطن ثمرة الجوافة الحلوة، الجوافة للجميع، وهذا ما يجعلها ثمرة طيبة، لكنها أيضًا شائعة ومحتقرة ومنبوذة وغلبانة، لو حظيت بأكذوبة التفاح، إن ثمرة جوافة كل يوم تبعدك عن الطبيب خطوة، لصارت كالماس».
لما انتهى من مونولوجه الذي ذَكَّرَها بأفلام الأبيض والأسود، قالت:
«معك كل الحق، الناس لا يهمها سوى المظاهر» لكن في سرها تأكدت من حماقة عقله، وقررت أن تغير الخطة من اللعب بأنوثتها إلى صفقة واضحة، تغتنم فيها قدر ما تستطيع، مغارة علي بابا مفتوحة وسهلة، لكن وجهه تكدر فجأة وتبدلت نظرته المغرمة بكراهية ربما أشد مما تكنه له، ثم قال:
«قبل عشرين عامًا رفضتني امرأة أحببتها من أجل قلادة ماس تافهة. ها أنا أحمل منه ما لا أكترث له».
ضرب الطاولة بعنف، كان بدنه كله يرتجف، جلس على المقعد وانفجر في البكاء:
«سامحيني.. تلك الملعونة أفسدت عليَّ حياتي».
بكى كرجل مهزوم متوسِّل. تلك هي اللحظة التي لا ترحم فيها نعمات، تغزو بكل عتادها وقوتها لتسحق من أمامها لولا طمعها أن تحتفظ بالقلادة، لكن على الأقل اكتشفت اليوم شيئًا إضافيًّا بجوار حماقة عقله، نقطة ضعف تستحق خطوة للوراء من أجل التفكير في استغلالها، لذا قالت بصوت يدَّعي الإشفاق:
«حتى لو كانت هناك امرأة رفضتك قبل سنوات طويلة عندما كنت فقيرًا، فعليك أن تتجاوز الأمر، أن تنسى الأحقاد، كي تتمكن من مواصلة حياتك».
حدَّقَ فيها بعينين مستسلمتين ثم قال:
«الأحقاد!! إنها كل ما أملك».
خرجت العبارة الأخيرة من فمه، كأنها تخرج من قاع روحه برنين صادق حد الزلزلة، ولم تجد ردًّا أبلغ من الصمت.
5- قاعدة الخوف الذهبية؛ رواية لدلير يوسف
في خيارٍ فني مُغايرٍ للإصدار المشار إليه في بداية هذه اللائحة، أي رواية روزا ياسين حسن، وحتى في نقلةٍ مختلفة عما حضر في سيرة كاتب الرواية نفسه سابقاً من انشغالات توثيقية في الكتابة والإخراج، يذهب دلير يوسف في رواية قاعدة الخوف الذهبية (خان الجنوب، 2021) إلى مغامرةٍ سردية تنظر إلى الواقع من بُعد فانتازي. تستعير الرواية ثيماتٍ مما هو مُعاش، الاستبداد والثورة على الترهيب وعلى ما هو سائد، ودور الإبداع وتسييس التدين، لكن في زمن ومكانٍ خياليين، في زمنٍ ما من تاريخ مملكة أرخبيل بينولي (هناك خارطة لها بالمناسبة على الغلاف)، زمنٍ حافلٍ بالتغيرات الجذرية والوقائع. يُوفِّرُ هذا الخيار ربما فرصة للتأمل والتخييل الحر على أساس مفردات ومفاهيم يومية دون عبء القرب اللصيق من الواقع، كما يشكل هذا الخيار قفزة توفر مساحة أمان عن فخ الاستغراق في التحديق بالذات وفي تفاصيل الحياة اليومية الأقرب، الأسلوب الذي صبغ نسبة كبيرة من النصوص السورية المكتوبة بعد 2011.
مقتطف من الرواية:
الفصل الثالث
قصة إسبانو العملاق
جلست ليلانة في الباص الصغير الذي يوصلها إلى الحي الذي تسكن فيه في ضواحي جزيرة ألفابينولي الجنوبية، وضعت الكتب الجامعية على الكرسي جانبها. كان الرحّالة جميلانو، الرجل الطاعن في السنّ، يجلس أمامها بعد أن عاد من رحلته الشهرية إلى وسط الجزيرة من أجل استلام الراتب الشهري الذي لا يكفيه إلا لعشرة أيام في الشهر.وخلفها كان يجلس عبدانو، جارهم الأمي الذي يحبها ولا يستطيع الإفصاح لها عن حبه خوفاً من العادات الاجتماعية التي تُحرّم الحب العلني.
كان السائق يحيانو يدندن كلمات الأغنية المُذاعة من راديو عربته القديمة – كانت أغنية شهيرة تقول: «ما للحب وما لقلبي، أما آن للعذاب أن ينتهي» – حين أوقفه إسبانو العملاق، طلب منه وضع أغراضه في العربة وإيصالها إلى الحي، هو سوف يسبقهم مشياً إلى هناك.
كانت أغراضه مؤلفة من سبعة مصابيح حمراء، وعشرين خشبة طولُ كلٍّ منها سالمة ونصف وعرضها نصف سالمة، ووسادتين، وثلاثة أعلام للجزيرة بمقاسات مختلفة.
قالت ليلانة: «انتبه إلى أماكن خطواتك هذه المرة»، مذكرةً إياه بالطفل الذي دهسه أمس خلال تجواله في الحي.
اليوم السابق كان يوماً حافلاً بالنسبة لإسبانو العملاق، فهذا الشاب اللطيف الذي لم يمتلئ بطنه منذ مئة وستة وعشرين عاماً – أي منذ ولادته – كان بانتظار مفاجأة كبيرة. لقد قرر أهل الحي الفقير التضحية ببعض أموالهم، وببعض النفقات الخاصة بالأطفال، والنفقات المتعلقة بمشروعاتٍ تحسين خدمات الصرف الصحي، من أجل توفير طعامٍ كافٍ لإشباعه. فاشتروا خمسين خروفاً من الرحالة المنتشرين في جهة الجنوب الغربي، وجلبوا صندوقاً كبيراً مليئاً بالسمك الذي اصطيد خصيصاً لهذه المناسبة من النهر الذي يبعد خمسين كيلومتراً شرقاً عن مركز الجزيرة، ومئة وخمسين وعشرين رغيف خبز، خبزتها جدات الحي الثلاث خلال يومين كاملين، ومئة دلو من اللبن البارد.
كان فرح الناس عظيماً برؤية إسبانو العملاق وهو يلتهم الطعام، كان يأكل كل خروف حي بلقمتين، ومن ثم يشرب بعض اللبن، وبعد ذلك كان يلف سمكة بالخبز ويبلعها مرة واحدة، هكذا دواليك حتى أتى على الطعام كله إلا رغيف خبزٍ واحد قدمه لطفلة كانت تنظر إلى طعامه بشهية.
سأل الرحالة جميلانو ذو العين الواحدة إسبانو العملاق: «ماذا تريد أن تفعل بهذه الأغراض يا إسبانو؟»، رد عليه: «لا أعرف يا جميلانو، طلب مني إسحانو نقل هذه الأشياء إلى الحي والتوجه إلى هناك»، قال الرحّالة: «لا بأس… لا بأس، لكن تَذكَّر ما قالته لك ليلانة، انتبه إلى أماكن خطواتك». لا يعرف أحدٌ من سكان الحي لماذا يكنى بـ«الرحّالة» وهو لم يرَ من العالم سوى الحي ومبنى تسليم الراتب الشهري، حتى إنه لا يعرف ماذا يوجد في الجهة الجنوبية الغربية.