تعد دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بين أكثر دول العالم التي تعاني ندرة المياه، ويعيش أكثر من 60 بالمئة من سكان المنطقة في حالة إجهاد مائي مرتفع أو مرتفع للغاية (الإجهاد المائي هو عندما يتجاوز الطلب على المياه الكميات المتوافرة والمتجددة)، مقارنةً بـ35 بالمئة كمتوسطٍ عالمي. ويتولّد أكثر من 70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في مناطق تُعاني إجهاداً مائياً مرتفعاً أو مرتفعاً للغاية، بينما يبلغ المتوسط العالمي 22 بالمئة. وفي حال لم تتبنَّ هذه البلدان سياساتٍ جذرية وعملية، فستعاني المنطقة من أكبر الخسائر الاقتصادية المتوقعة من ندرة المياه المرتبطة بالمناخ، والتي تُقدّر بين 6 و14 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، وهي من بين أعلى النسب العالمية المُتوَّقعة.
تتلقّى بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حوالي 2 بالمئة من هطول الأمطار السنوي في العالم، وتحتوي على حوالي 1.2 بالمئة من موارد المياه المتجددة في العالم، بينما تمثّل حوالي 6 بالمئة من التعداد الإجمالي لسكان العالم.
من سوريا إلى إيران ولبنان والعراق، تشهد هذه البلدان اضطراباتٍ أمنية وسياسية بسبب سوء إدارة المياه. في إيران، تعاني 97 بالمئة من مساحتها أزمة مياه، حيث يستهلك البلد 8 بالمئة أكثر من كمية المياه المتجدّدة، وتعتمد إيران في سياستها المائية على بناء السدود؛ حيث ساهمت هذه السياسة في تعزيز أزمة المياه بدل حلّها. فبالإضافة إلى أن للسدود آثاراً سلبية كبيرة على البيئة، ساهمت السدود الإيرانية في تعزيز أزمة المياه في محافظة البصرة جنوب العراق الذي دخل «المرحلة الحرجة»، وبدأ باستخدام «الجزء الميت» (المخزون الاستراتيجي) من مخزونه المائي نظراً لجفاف نهري دجلة والفرات بشكلٍ غير مسبوق، وهو ما يهدد أمنه الغذائي؛ إذ يعاني 37 بالمئة من مزارعي القمح و30 بالمئة من مزارعي الشعير من فشل المحاصيل بسبب الجفاف. كما تم تقليص المساحات الزراعية إلى النصف، وفقدت الأهوار نحو 80 بالمئة من مساحاتها المغمورة بالمياه، ما انعكس على الثروة الحيوانية وخاصةً الجاموس. وقد أعلن الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد في مؤتمر قمة المناخ أن أزمة المياه «أجبرت السلطات على تقليص المساحات الزراعية، وأن التصحر يهدد 40 بالمئة من مساحة العراق».
في لبنان، وفي شهر تموز 2021 حَذّرت منظمة اليونيسف من أن أكثر من 71 بالمئة من سكان البلد في خطر عدم القدرة على الوصول إلى مياه نظيفة. أما في سوريا، فإن الجفاف الذي ضرب البلاد عام 2008 ساهم في اندلاع انتفاضة العام 2011 كما سنستعرض لاحقاً. كما ساهم عدم تَوفُّر مياه الشرب النظيفة، واستخدام المياه كسلاح، في تفشي وباء الكوليرا في البلاد.
ملف المياه في هذه المنطقة بات يهدد إمكانية استمرار هذه المجتمعات في السكن في مدنها وريفها، وبدأ النزوح في العديد من المناطق، وهو ما يدركه جيداً أبناء أرياف حلب وإدلب في سوريا، أو أبناء الجنوب في العراق. إنّ الاعتماد المُفرط على الموارد غير المتجددة (مثل الآبار الارتوازية) ليس حلاً على المدى القريب، وبدأت تداعيات هذه السياسة غير العلمية تؤتي ثمارها المؤذية، فمدينة أربيل في كردستان العراق، على سبيل المثال، تعتمد بنسبة 75 بالمئة على آبار المياه الجوفية في تأمين حاجياتها، ويبلغ عدد الآبار في المدينة 1240 بئراً، إلا أن رُبع هذه الآبار (300 بئراً) قد جفّ مؤخراً. لا يقتصر الثمن على النزوح، بل قد يصل إلى نشوء صراعاتٍ مسلحةٍ داخل البلدان نفسها أو بينها، ولعل منطقة دارفور في السودان أبرز مثالٍ عما يمكن أن يُنتجه الجفاف من جرائم.
«الاستخدام غير المُستدام: في منطقتي شمال أفريقيا وغرب آسيا، تسحب بلدان كثيرة كل مواردها المائية المتجددة (100 في المئة) كل عام أو حتى أكثر من ذلك (يصل في بعض الدول إلى 1,000 في المئة)، وتعتمد على الموارد غير المتجددة لتلبية احتياجاتها من المياه، التي سوف يجف بعضها في نهاية المطاف، مثل المياه الجوفية المستخرجة من الخزانات الجوفية المحصورة. على الصعيد العالمي، يجري سحب 18.4 في المئة من مجموع موارد المياه العذبة المتجددة المتاحة. بيد أن هذه القيمة تخفي تباينات إقليمية كبيرة. وتزيد قيم الإجهاد المائي لدى ثلاث مناطق من مناطق التنمية المستدامة عن 25 في المئة، في الوقت الذي تسحب فيه دول غرب آسيا وشمال أفريقيا ووسط وجنوب آسيا أكثر من 70 في المئة من الموارد المائية المتاحة».
(المصدر: لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية، 2021: تحديث موجز بشأن التقدم المحرز في عام 2021 – الهدف 6 من أهداف التنمية المستدامة – توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع).
مستوى الإجهاد المائي الذي تعاني منه البلدان: سحب المياه العذبة كنسبة مئوية من موارد المياه العذبة المتاحة في عام 2018.
مستوى الإجهاد المائي في عام 2018 حسب المنطقة وعلى الصعيد العالمي. وتزيد قيم الإجهاد المائي في ثالث مناطق من مناطق التنمية المستدامة عن 25 في المائة، الأمر الذي يدل على وجود إجهاد مائي منخفض، أو متوسط، أو عالي، أو شديد.
تأثير انعدام الأمن المائي على الأمن الاجتماعي والسياسي
ستحاول هذه المقالة دراسة كيف أنّ انعدام الأمن المائي، الذي يزداد حدةً بسبب تغيّر المناخ والنمو السكاني، يلعب دوراً في زيادة الصراعات بين البلدان المتجاورة وداخلَ هذه البلدان. وستوضّح كيف تتعامل البلدان ذات الدخل المرتفع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع الإجهاد المائي ومقارنتها مع البلدان منخفضة الدخل، وسنَستخدم سوريا كدراسة حالة ونُقارنها بإسرائيل، لاستنتاج أن استراتيجيات الحكومة للتعامل مع الأمن المائي أمرٌ بالغ الأهمية لوضع دولةٍ ما على طريق الاستقرار أو الصراع.
عام 1998، واجهت المنطقة أسوأ ظروف الجفاف منذ 900 عاماً. وبين عامي 2003 و2010، فقدت أجزاءٌ من تركيا وسوريا والعراق وإيران على طول نهري دجلة والفرات 144 كيلومتراً مكعباً من إجمالي المياه العذبة المُخزّنة، ويعزو الخبراء 60 بالمئة من هذه الخسارة إلى ضخ المياه الجوفية بشكل غير مدروس.
يرى بعض الباحثين أن الجفاف في الأجزاء الشمالية والجنوبية من سوريا يُعدّ من الأسباب الرئيسية للانتفاضة السورية على نظام البعث في العام 2011، إذ ضربَ الجفاف سوريا بسبب تضاؤل نسب هطول الأمطار بشكلٍ كبير منذ سنة 2007، وهو يُعد الأسوأ منذ ستينييات القرن الماضي. وبلغت نسبة المتساقِطات 35 بالمئة، أي أقل من المعدّل الذي سُجّل بين 1961-1990. وتَعتبر ورقةٌ بحثيةٌ نشرها كيتلين إي ويريل وفرانشيسكو فيميا وتروي ستيرنبرغ في العام 2015، في مجلة كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكينز (SAIS Review of International Affairs)، أنّ تغيّر المناخ في سوريا في السنوات التي سبقت انتفاضة العام 2011 «تفاعلَ مع انعدام الأمن المائي والغذائي، فضلاً عن سوء إدارة الموارد الطبيعية، لإيجاد ظروف ساهمت في انعدام الاستقرار». وجادلت فرانشيسكا دي شاتيل بأن فشل الحكومة السورية في الاستجابة للأزمة الإنسانية التي أعقبت الجفاف «شكّل أحد أسباب الانتفاضة». ويتبنّى الخبير الاقتصادي السوري سمير عيطة الرأي نفسه، إذ قال لتوماس فريدمان في نيويورك تايمز إنّ «الجفاف لم يسبّب الحرب الأهلية في سوريا […] بل إنّ فشل الحكومة في الاستجابة للجفاف لعب دوراً كبيراً في تأجيج الانتفاضة». ووجد بيتر جليك أن مجموعةً واسعةً من العوامل أدت إلى اندلاع الانتفاضة السورية، من بينها التغيرات المناخية ومعدلات توافر المياه العذبة. وأشار إلى أنّ ظروف المياه والمناخ «لعبت دوراً مباشراً في تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا». ويشارك فاليريو كاروزو في استنتاجٍ مماثلٍ، ورأى أن «الجفاف لم يتسبّب بالحرب، لكنّه أشعل برميل البارود».
تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من كميات محدودة من موارد المياه المتجددة وزيادة الطلب بسبب ارتفاع معدل الخصوبة.
معدلات الإنجاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقارنةً بالمعدل العالمي
وتتلقى المنطقة، كما ذكرنا سابقاً، حوالي 2 بالمئة فقط من هطول الأمطار السنوي في العالم، وتحتوي على حوالي 1.2 بالمئة من موارد المياه المتجددة في العالم، في حين أنها تضم حوالي 6 بالمئة من سكان العالم. أدى هذا النمط إلى الاستخدام غير المستدام لموارد المياه (السطحية والجوفية على حد سواء) في العديد من البلدان. ومع ذلك، يُظهِر كلٌّ من العراق وسوريا أعلى زيادة في عدم استدامة المياه، تليهما ليبيا والمغرب والأردن (الخريطة 1).
المصدر تقرير البنك الدولي «ما بعد ندرة المياه: الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقي»: تحليل وحسابات من مجموعات البيانات الجغرافية المكانية التي طوّرتها جامعة أوترِخت. ملاحظة: يقيس مؤشر استدامة المياه الزرقاء نسبة الاستخدامات غير المستدامة للمياه، والمؤشر عبارة عن كمية بلا أبعاد، تتراوح بين 0 و1، وتعبّر عن نسبة المياه المستهلكة التي تُلبَّى من مصادر مياه غير مستدامة. أزرق=مستدام؛ أحمر=غير مستدام. ويُقدر استخدام المياه السطحية غير المستدام بأنه مقدار متطلبات التدفقات البيئية الذي لم يتم تلبيته نتيجة الاستخراج المفرط للمياه السطحية. ويُقدر استخدام المياه الجوفية غير المستدام بأنه الفرق بين استخراج المياه الجوفية وإعادة الشحن الطبيعي للمياه الجوفية زائد إعادة الشحن من تدفقات الري الراجعة.
وتعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واحدة من أكثر المناطق سخونةً وجفافاً في العالم. وتوصّلت دراسةٌ أجرتها وكالة ناسا (2016) إلى أن الجفاف الذي بدأ في عام 1998 في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط المشرق، والتي تضم قبرص وإسرائيل والأردن ولبنان وفلسطين وسوريا وتركيا، «من المرجح أن يكون أسوأ جفاف في القرون التسعة الماضية». ووفقاً لمعهد ماكس بلانك الألماني، سترتفع درجات الحرارة في المنطقة بمقدار 4 درجات مئوية بحلول عام 2050. ويشير الباحثون في المعهد أن عدد الأيام شديدة الحرارة في المنطقة تضاعف منذ عام 1970. ووجد الفريق أن الغبار الصحراوي في أجواء المملكة العربية السعودية والعراق وسوريا زاد «بنسبةٍ تصل إلى 70 بالمئة منذ بداية هذا القرن». ويُعزى هذا بشكل رئيسي إلى «زيادة العواصف الرملية نتيجة فترات الجفاف الطويلة». ومن المتوقع أن «يساهم تغيّر المناخ في زيادة العواصف، مما سيؤدي إلى تفاقم الظروف البيئية في المنطقة». ففي العراق، ارتفع عدد الأيام المُغبرّة من 243 يوماً إلى 272 يوماً في السنة لفترة عقدين من الزمن، ومن المتوقع أن تصل إلى 300 يوم مُغبرّ في السنة عام 2050، بحسب وزارة البيئة العراقية. وبحسب دراسة للبنك الدولي تحت عنوان «في مهب الريح»، فإنّ التكلفة الاقتصادية للعواصف الترابية والرملية في المنطقة تبلغ «أكثر من 150 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل أكثر من 2.5 بالمئة من حصيلة إجمالي الناتج المحلي لمعظم بلدان المنطقة». وتقدر بوابة معرفة تغيّر المناخ التابعة للبنك الدولي (CCKP) أن ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة تراوح بمقدار 0.2 درجة مئوية لكل عقد من 1961 إلى 1990، ومنذ ذلك الحين، ترتفع درجات حرارة المنطقة بمعدلاتٍ أسرع. وفي العام 2022، أعلنت وزارة الزراعة العراقية أن البلاد بحاجة إلى أكثر من 15 مليار شجرة لتأمين غطاء نباتي يقضي على التصحر ويحد من العواصف الترابية. وتبلغ مساحة الأراضي المهددة بالتصحّر 23 مليوناً و432 ألفاً و829 هكتاراً، ما يشكل نسبة 53.49 بالمئة من إجمالي مساحة العراق. ورغم إقرار السلطات العراقية بالحاجة إلى زرع مزيد من الأشجار، وإعلان عدد من المبادرات على مدى السنوات، إلا أن العراق يفقد تدريجياً غطاءه الشجري، فإقليم كردستان وحده فقدَ نحو 20 بالمئة من نباتاته منذ عام 2014، في حين فقد 47 بالمئة من أشجاره مقارنةً بعام 1999، وذلك وفق إحصاءات رسمية للإقليم.
الاستثمار في قطاع المياه
الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة – ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة بحلول عام 2030.
يوضح الشكلان التاليان النسبة المئوية للسكان الذين يمكنهم الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، حسب البلد والاقتصاد، وحسب المناطق الريفية والحضرية في كل بلد، وهي تشير إلى الاستثمارات في كل دولة في قطاع المياه. لماذا يجب أن توحي هذه الأرقام باستثمارات في قطاع المياه؟ بشكل عام، كل شخص لديه حق الوصول إلى الماء؛ خلاف ذلك، لا يمكن لأي إنسان أن يعيش. ينشر برنامج الرصد المشترك التابع لمنظمة الصحة العالمية (WHO) وصندوق الأمم المتحدة للأطفال (اليونيسف) إحصائيات التغطية لتعريفين لخدمات المياه المحسنة، كما يذكر تقرير للبنك الدولي. الأول هو الأبسط والأكثر مباشرة: «توصيل المياه بالأنابيب إلى المنازل». يشمل هذا التعريف كلاً من الصنابير ومياه الأنابيب التي يتم توصيلها داخل المنزل. والثاني هو «مصدر مياه مُحسَّن يحمي المياه بشكلٍ كافٍ، بحكم طبيعة بنائه، من التلوث الخارجي، لا سيما المواد البُرازية». العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متأخرة عن المتوسط العالمي، على سبيل المثال، ليبيا واليمن، والجزائر، والعراق، وسوريا.
المصدر: تقرير البنك الدولي استناداً إلى عدد من المصادر: ACWUA 2015؛ وبرنامج الرصد المشترك بين منظمة الصحة العالمية واليونيسيف لإمدادات المياه والصرف الصحي. ملاحظة: يُعرَّف مصدر مياه الشرب المحسَّن بأنه مصدر محمي، بحكم طبيعته أو من خلال التدخل النشط، من التلوث الخارجي، ولا سيما من التلوث بالبراز. البيانات الخاصة بليبيا وسوريا والجمهورية اليمنية مأخوذة من عام 2000.
المصدر: تقرير البنك الدولي استناداً إلى عدد من المصادر: ACWUA 2015؛ خدمات إمدادات المياه والصرف الصحي في المنطقة العربية (مبادرة + MDG)؛ برنامج الرصد المشترك بين منظمة الصحة العالمية واليونيسيف لإمدادات المياه والصرف الصحي. ملاحظة: بالنسبة لرصد الأهداف الإنمائية للألفية، يتم تعريف مرفق الصرف الصحي المحسن على أنه مرفق يَفصل بشكل صحي الفضلات البشرية عن الاتصال البشري. البيانات الخاصة بليبيا وسوريا والجمهورية اليمنية مأخوذة من عام 2000.
يتم تعريف كفاءة استخدام المياه من قبل برنامج الأمم المتحدة للمياه (UN-Water) على أنها القيمة المضافة بالدولار الأميركي لكل متر مكعب من المياه المسحوبة بواسطة نشاط اقتصادي معين. يوضح هذا المؤشر مقدار ما استثمره بلد معين في قطاع المياه مقارنةً بالدول الأخرى، والمتوسط العالمي هو 23 دولاراً لكل مترٍ مكعب. معظم دول المنطقة أقل من المتوسط (الشكل التالي)، وخاصةً سوريا والعراق وإيران ومصر واليمن وتونس وتركيا، في حين أن دولاً مثل قطر والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والكويت أعلى من المتوسط العالمي.
كفاءة استخدام المياه في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من 1988-2017 (دولار أميركي/ متر مكعب). المصدر: منظمة الأغذية والزراعة [2021].
ويوضح الشكل التالي العلاقة بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومصادر المياه غير التقليدية. مصادر المياه التقليدية هي موارد مائية متجددة، وهي متوسط تدفق للأنهار وإعادة تغذية طبقات المياه الجوفية الناتجة عن هطول الأمطار. بينما تُعرِّف منظمة الفاو مصادر المياه غير التقليدية بأنها الحجم الإجمالي للمياه التي يتم الحصول عليها من خلال تطوير تقنيات جديدة، «إنها أجيال مائية (إنتاج) تأتي إما من تحلية مياه البحر والمياه معتدلة الملوحة أو من تكرير مياه الصرف الصحي لإعادة استخدامها». وتشمل إنتاج المياه العذبة عن طريق تحلية المياه قليلة الملوحة أو المياه المالحة وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي الحضرية أو الصناعية. يشير هذا المؤشر إلى أن البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي المرتفع للفرد يمكن أن تَستثمر أكثر في تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي وبالتالي زيادة استخدام المياه المنتَجة في قطاعات مختلفة لتقليل الحاجة إلى المياه غير المتجددة.
المصادر: البنك الدولي، باستخدام بيانات من منظمة الأغذية والزراعة-قاعدة بيانات AQUASTAT. (ملاحظة: تشمل البيانات الخاصة بإمدادات المياه من مصادر المياه غير التقليدية تحلية المياه وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة. تأتي البيانات على المستوى القطري من AQUASTAT في منظمة الأغذية والزراعة من سنوات مختلفة، وبالتالي ينبغي تفسيرها بحذر. يتم التعبير عن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بالدولار الأميركي الحالي، وتم الحصول عليه من بيانات الحسابات القومية للبنك الدولي).
ويتبيّن لنا أن اليمن وجيبوتي وسوريا والعراق وإيران ولبنان ومصر والمغرب وتونس والأردن والجزائر من بين أقل البلدان استثماراً في إمدادات المياه غير التقليدية في العقد الماضي، وهي دول أقل دخلاً من الدول التي استثمرت بشكل كبير. يمثل الشكل التالي الدوافع المستقبلية لإجهاد المياه السطحية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وينقسم إلى محركين رئيسيين، المحرك الاجتماعي والاقتصادي، ومحرك تغير المناخ. ستواجه معظم البلدان التي لا تنتج كميات كبيرة من المياه غير التقليدية زيادات في الإجهاد المائي بحلول عام 2030، أكثر من البلدان الأخرى في المنطقة، وهذا ينطبق بشكل خاص على العراق وسوريا والمغرب ولبنان والأردن والجزائر، رغم أن بعض هذه البلدان تمتلك مصادرة متجددة أكثر من البلدان الأخرى.
المصدر: البنك الدولي. ملاحظة: يوصف الإجهاد المائي بأنه نسبة السحوبات المائية السنوية إلى متوسط توفر المياه السطحية السنوي في ظل RCP 8.5 (سيناريو مرتفع الانبعاثات) وSSP2 (سيناريو الوضع المعتاد فيما يخص التغيّر الاجتماعي الاقتصادي). يعكس مكان البلد على المحور الأفقي النسبة المئوية للتغيّر في الإجهاد المائي المدفوع بتغيّر المناخ (الأيمن) أو التغير الاجتماعي الاقتصادي (الأيسر). وتتم نمذجة التغير الاجتماعي الاقتصادي باستخدام سيناريو متوسط حيث لا تنحرف المسارات الاجتماعية الاقتصادية انحرافاً ملحوظاً عن الأنماط التاريخية، بمعنى سيناريو الوضع المعتاد في ما يخص الزيادة السكانية والاقتصاد (أونيل وآخرون 2015). لا تأخذ تقديرات إجهاد المياه السطحية في اعتبارها السحوبات من المياه الجوفية وإمدادات المياه غير التقليدية.
إلى جانب الإجهاد المائي، تواجه المنطقة انقساماً اقتصادياً كبيراً بين الدول الغنية والدول الفقيرة المجاورة، مما يساعد على زيادة فجوة التكيّف. تعتمد البلدان الأكثر ثراءً في المنطقة على ثرواتها وإمكانية وصولها إلى التكنولوجيا للتعامل مع الإجهاد المائي المتزايد. من ناحية أخرى، تعاني البلدان الفقيرة التي تفشل في تلبية الطلب المتزايد على المياه من ردود الفعل المتلاحقة الناتجة عن تغير المناخ وزيادة الإجهاد المائي. يوضح الشكل التالي أن ثمانية بلدان في المنطقة لديها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 10000 دولار في عام 2017؛ هذه الدول هي قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وعُمان والبحرين والكويت وتركيا. استثمرت هذه البلدان في إمدادات المياه غير التقليدية كما بيّنا سابقاً.
نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ، المصدر: منظمة الأغذية والزراعة (2021).
تشير الأرقام الموضّحة في الشكل التالي إلى نتيجة مشابهة، مع الإشارة إلى غياب الإحصاءات عن سوريا واليمن. تتجاوز إنتاجية المياه في قطر والكويت وإسرائيل والإمارات والبحرين وعمان متوسط الإنتاجية في البلدان ذات الدخل المرتفع عالمياً.
المصدر: البنك الدولي. البيانات الخاصة بسوريا والجمهورية اليمنية مفقودة. تم تقدير البيانات على أنها نسبة الناتج المحلي الإجمالي الثابت لعام 2010 بالدولار الأميركي (من تقديرات إجمالي الناتج المحلي للبنك الدولي) على الأمتار المكعبة من إجمالي عمليات سحب المياه من قاعدة بيانات منظمة الأغذية والزراعة AQUASTAT. ملاحظة: تشمل عمليات سحب المياه أيضاً المياه المسحوبة من مصادر الإمداد غير التقليدية، مثل تحلية المياه وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي. بالنظر إلى الهيكل الاقتصادي المختلف لكل بلد، يجب استخدام هذه المؤشرات بعناية، مع مراعاة الأنشطة القطاعية للبلد وموارده الطبيعية. MENA = الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ م3=متر مكعب.
سوريا والجفاف.. فشل سياساتي
كما أوضحنا سابقاً، تُعد سوريا من بين الدول الأقل استثماراً في قطاع المياه في المنطقة. البلدان الأخرى في هذه القائمة هي العراق، واليمن، ولبنان، والأردن، ومصر. تواجه هذه الدول صراعات داخلية و/أو خارجية. تمثّل سوريا المثال الأكثر وضوحاً لإثبات هذه الفرضية: عندما يواجه بلدٌ ما ضغوطاً على المياه ويفشل في الاستثمار في قطاع المياه، فمن المرجّح أن يكون لديه صراع داخلي و/أو خارجي أو أن ينتج صراعاً. من النادر أن تبدأ الصراعات لسبب واحد فقط. عادة، تنشأ النزاعات من مجموعة واسعة من الأسباب. يزيد الفشل في التعامل مع الإجهاد المائي من أخطار حدوث صراع خارجي أو داخلي.
تمثل استراتيجية سوريا وإسرائيل في التعامل مع الإجهاد المائي نموذجاً للاختلاف في طريقة استجابة دولة مرتفعة الدخل وأخرى منخفضة الدخل في المنطقة للإجهاد المائي. كلا البلدين يواجهان شحاً مائياً وموارداً مائية متجددة محدودة، على الرغم من أن الوضع السوري أفضل؛ تحظى سوريا بـ 919 متر مكعّب للفرد في السنة. وبالمقارنة، ينال الفرد في إسرائيل 213 متراً مكعباً في العام من المياه المتجددة، وهو ما يمثّل حوالي نصف الخط الأحمر العالمي للنقص «البالغ 500 متر مكعب للفرد سنوياً، والذي يحدد حالة نقص المياه».
مصدر البيانات: : منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة التابعتَين للأمم المتحدة
أفضل مؤشر لتوضيح الوضع في سوريا هو الرسم التالي الذي يُظهر أن عقداً من الجفاف الذي ضرب سوريا بلغ ذروته في العام 2008، وأدى إلى انخفاض إنتاج القمح. كان الجفاف أحد العوامل الرئيسية للانتفاضة السورية في عام 2011. في تموز 2012، دخلت الأجزاء الشمالية من سوريا (حلب وإدلب) من الجانب التركي. كانت ملاحظتي الأولى أن الأرض الزراعية التركية كانت خضراء ومروية، بينما تُركت الأرض الزراعية السورية غير مزروعة بسبب الجفاف وقلة الري. «لا يوجد مياه لري الأرض» هذا ما يقوله أبناء ريف حلب في العام 2012 وهذا ما يمنعهم من العمل في أرضهم، فتحوّلوا إلى عمال يوميين داخل مدن سوريا. وبحسب الأرقام الرسمية السورية الصادرة عن غرفة الصناعة في حلب، فإن 221 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في حلب مروية من أصل مليون و228 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة.
المصدر: البنك الدولي استناداً إلى بيانات هطول الأمطار من بوابة المعرفة المناخية التابعة للبنك الدولي. بيانات إنتاج القمح من وزارة الزراعة الأميركية (USDA) الإقتصاد والإحصاء ونظام معلومات السوق. بيانات المياه الخضراء من Kummu et al. 2014 ــ ملاحظة: تم تقدير الخلل هطول الأمطار السنوي باستخدام مجاميع هطول الأمطار السنوية 1900-2012. MT=طن متري.
ووفقاً لأرقام العام 2006، وظّف قطاع الزراعة 19.5 بالمئة من القوى العاملة السورية، بينما أشارت تقديرات أخرى إلى أن الرقم يصل إلى نسبة 40-50 بالمئة. تُجادل فرانشيسكا دي شاتيل في مقال نُشر عام 2014 في مجلة دراسات الشرق الأوسط بأن فشل الحكومة السورية في الاستجابة للأزمة الإنسانية، مع هجرة داخلية النطاق للسكان وسوء تغذية بسبب الجفاف، وفشل الحكومة بالتكيف مع تغير المناخ من العوامل في الانتفاضة السورية، التي تحوّلت إلى حرب أهلية بتدخل عسكري من أربعة جيوش (أميركا وروسيا وإيران وتركيا) ومليشيات من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان وآلاف المقاتلين المرتبطين بالقاعدة وداعش. قُتل أكثر من نصف مليون مدني (يقدر البعض أن عدد الضحايا أكبر)، ونزح أكثر من اثني عشر مليوناً، نصفهم داخل سوريا والنصف الآخر إلى دول الجوار وأوروبا. قدّر صندوق النقد الدولي (IMF) في عام 2016 أن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا أقل من نصف ما كان عليه قبل بدء الحرب، وقد يستغرق الأمر عقدين أو أكثر حتى تعود سوريا إلى مستويات الناتج المحلي الإجمالي التي كانت عليها قبل الصراع. وتقدر المنظمة الإنسانية الدولية وورلد فيجن الخسائر الاقتصادية في سوريا خلال عشر سنوات من النزاع بـ 1.2 تريليون دولار أميركي وخفض متوسط العمر المتوقع للأطفال السوريين بمقدار 13 عاماً.
تُظهر البيانات المأخوذة من التسلسل الزمني للنزاع على المياه (الجدول التالي) في سوريا أن الإجهاد المائي أدى إلى ست جولات من الصراع مع البلدان المجاورة بين عامي 1951 و1990 و38 جولة من الصراع بعد عام 2011، عندما كان النزاع على المياه أحد مسببات الصراع المستمر.
الجدول 1: التسلسل الزمني لنزاعات المياه في سوريا، بواسطة Trigger: المياه كمحرك أو سبب جذري للصراع، حيث يوجد نزاع حول السيطرة على المياه أو المياه أو عندما يؤدي الوصول الاقتصادي أو المادي إلى المياه، أو ندرة المياه، إلى العنف. Weapon: المياه كسلاح في الصراع ، حيث تُستخدم الموارد المائية أو أنظمة المياه نفسها كأداة أو سلاح في نزاع عنيف. Casualty: موارد المياه أو أنظمة المياه كضحية للنزاع
يوضح الجدول التالي مدى شدة الجفاف في سوريا بين عامي 2008 و2012 وكيف أثر على أجزاء مختلفة من البلاد. كانت محافظة درعا، التي تعرضت لجفاف شديد بين عامي 2009 و2011، هي المكان الذي أطلقت فيه رسومات الأطفال على الجدران الشرارة التي أشعلت فتيل الانتفاضة. ولا تزال مساحات كبيرة من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، بعد عشر سنوات، خارج سيطرة حكومة النظام السوري.
2- جدول الجفاف، مقياس لخمس سنوات في سوريا من 2008 إلى 2012. المصدر: Sternberg, Troy. «هل رأينا ذلك قادماً؟: هشاشة الدولة، وهشاشة المناخ، والانتفاضات في سوريا ومصر»..
في عام 2009، أفاد الصليب الأحمر الدولي (IRC) أن أجزاءً من سوريا تحوّلت من أراضٍ زراعية إلى صحراء. ألقت الأمم المتحدة (UN) ولجنة الإنقاذ الدولية باللوم على «مزيج من تغير المناخ والتصحر من صنع الإنسان ونقص الري» في الآثار الشديدة للجفاف، حيث أن 60 بالمئة من أراضي سوريا و1.3 مليون شخص (من سكان 22 مليون) تأثروا بنتائج الجفاف. خسر مئات الآلاف من الناس سبل عيشهم بالكامل. بحلول عام 2011، قدّر «تقرير التقييم العالمي للحد من مخاطر الكوارث» (Global Assessment Report on Disaster Risk Reduction – GAR) عدد السوريين الذين تركوا في حالة انعدام شديد للأمن الغذائي بسبب الجفاف بمليون شخص، وتشير تقديرات أخرى إلى أن حوالي 1.5 مليون شخص قد نزحوا بسبب فقدان سبل العيش الناجم عن هذا الانهيار الزراعي في الريف.
وفقاً لتقرير البنك الدولي «ما بعد ندرة المياه: الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، فإن 78 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي السوري و 76.6 بالمئة من سكان سوريا معرّضون للإجهاد المائي، ويبلغ الضرر السنوي المتوقع للممتلكات بسبب الفيضانات النهرية والساحلية 23 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويشير التقرير إلى أن عقوداً من سوء إدارة الموارد المائية والتخطيط «أدت بسوريا إلى أزمة مياه تميّزت بسحب المياه السطحية ونضوب المياه الجوفية».
سياسات الأب والابن المائية
لا تستطيع الحكومات السيطرة على موجات الجفاف، لكن يمكنها التحكم في إدارة المياه. فشلت الحكومة السورية في وضع سياسة مائية مستدامة وهو ما أدى إلى تعاظم آثار الجفاف على المجتمع. في مقال نشره كولين كيلي، وشهرزاد مهتدي، ومارك كين، وريتشارد سيجر، ويوشانان كوشنير، في دورية «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم» (PNAS)، تحت عنوان تغير المناخ في الهلال الخصيب وتداعيات الجفاف السوري الأخير، تم تسليط الضوء على أن السياسة الزراعية للحكومة السورية تبرز من بين العديد من العوامل التي أضعفت عدم قدرة سوريا على مقاومة الجفاف. أشار المؤلفون إلى أنه «على الرغم من تزايد ندرة المياه والجفاف المتكرر، أطلقت حكومة الرئيس حافظ الأسد (1971-2000) سياسات لزيادة الإنتاج الزراعي، بما في ذلك إعادة توزيع الأراضي ومشاريع الري، وأنظمة الحصص، ودعم وقود الديزل لكسب دعم المجتمعات الريفية». وخلَصوا إلى أن هذه السياسات أضعفت أمن المياه في سوريا من خلال إساءة استخدام موارد الأراضي والمياه المحدودة دون اعتبار للاستدامة. تشرح الورقة إحدى النتائج الخطيرة لهذه السياسات غير المستدامة، وهي انخفاض مستويات المياه الجوفية في سوريا. إذ شجعت حكومة الأسد المزارعين على استخدام المياه الجوفية بكلفة متدنية. ونتيجة لذلك، وبحلول عام 2005، وفّرت المياه الجوفية التي تم ضخها أكثر من نصف المياه المستخدمة لأغراض الري (60 بالمئة). يُعزى سوء استخدام المياه الجوفية إلى الجفاف الأخير لنهر الخابور في شمال شرق سوريا. ويذكر إيلي الحاج في ورقة بحثية نشرتها مجموعة أبحاث المياه في جامعة SOAS البريطانية بعنوان أزمة المياه المنزلية في منطقة دمشق الكبرى بسوريا أن «المياه الجوفية في دمشق قد انخفضت إلى عمق 150 إلى 200 متر بعد أن كانت على عمق 15 فقط. متر في عام 1985».
وفي آذار 2011، وعندما كانت التظاهرات في بدايتها، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الجفاف أجبر «الكثير من العائلات في الأعوام السابقة على مغادرة شمال شرق البلاد للاستقرار في المناطق الحضرية في دمشق وحلب وحمص». وفي نيسان 2008، نشر موقع زمان الوصل مقالا عن أزمة المياه في حمص حيث «تَكرّر انقطاع المياه مؤخراً في مدينة حمص، ليمتد حوالي 14- 18 ساعة متواصلة يومياً، بعد أن كان عدة ساعات خلال موسم الشتاء». وفي العام 2008، حاولت ألمانيا مساعدة سوريا في ملف إدارة المياه عبر دعم قطاع معالجة الموارد المائية في سوريا وإدارتها بمعونة تبلغ 130 مليون يورو، وينقل موقع «القنطرة» عن أنيلي كورته التي تعمل لهيئة التنمية الألمانية (دي أي دي) في سوريا أن «محطات التنقية الأربعة الكبيرة في سوريا لم يتم إدامتها بالشكل الصحيح»، وتضيف أنه «بدلاً من اتخاذ الإجراءات الاحترازية المناسبة فإن أعمال الصيانة لا تنشط إلا في حالة حدوث أعطال كبيرة فقط». وتراوحت تقديرات أعداد النازحين في شرق سوريا بسبب الجفاف قبل انتفاضة 2011، بين 300 ألف ومليون نازح وتقلص محصول المنطقة من القمح الى النصف، وازدادت نسبة الأمية بسبب إهمال نظام التعليم وانتقل كثير من الذين شردهم الجفاف الى دمشق وحلب وحماة.
بين عامي 1951 و1991، شهدت سوريا ستة صراعات مع دول الجوار على المياه (الجدول 1). في تسعينيات القرن الماضي، تصاعد التوتر بين سوريا والأردن بشأن بناء وتشغيل السدود السورية على نهر اليرموك. وهناك نزاع مستمر بين تركيا وسوريا حول إدارة نهر الفرات ومشروع جنوب شرق الأناضول التركي المعروف بـ GAP، الذي تم إطلاقه في السبعينيات من القرن الماضي ونتج عنه بناء 22 سداً على طول نهري دجلة والفرات بالقرب من حدود تركيا مع سوريا والعراق. بالإضافة إلى أسباب الصراع الأخرى التي أشعلت فتيل الحرب بين سوريا وإسرائيل في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت الخلافات حول المياه أحد أسباب فشل البلدين في التوصل إلى تسوية سلمية. اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب 1967، موشيه ديان، في مذكّراته بأنه لا يوجد أي منطق استراتيجي واضح لاحتلال مرتفعات الجولان بخلاف المياه والأراضي الزراعية الخصبة.
ومنذ انتفاضة 2011 – حيث كانت ندرة المياه أحد الأسباب التي أطلقتها – شهدت سوريا 38 صراعاً متعلقاً بالمياه، أو حيث تم استخدام المياه كسلاح في الصراع. وعليه فإنّ أي بحثٍ مستقبلي يتعلق بالاستقرار في سوريا يجب أن يدرس الأمن المائي كعاملٍ مهم في احتمالية السلام أو الصراع.
الاستراتيجية الإسرائيلية
بالمقارنة مع سوريا، الدولة التي لديها موارد مائية أكبر من إسرائيل، تُظهر الإحصائيات أن إسرائيل دولة متقدمة في إدارة المياه والاستثمارات. على سبيل المثال، تبلغ كفاءة استخدام المياه في إسرائيل 125 دولاراً أميركياً للمتر المكعب، بينما تقل عن دولار أميركي واحد في سوريا. إسرائيل هي إحدى الدول الرائدة في تقنية الري بالتنقيط، حيث توفر 70 بالمئة إلى 80 بالمئة كفاءة في استخدام المياه، مقارنة مع 40 بالمئة من الكفاءة التي تحققت مع الري المفتوح. قامت إسرائيل ببناء خمس محطات لتحلية المياه توفر ما يقرب من 80 بالمئة من مياه الشرب، وحوالي 90 بالمئة من مياه الصرف الصحي المعالجة في إسرائيل تستخدم للري في الزراعة. يبلغ معدل الهدر في الشركة الإسرائيلية التي تُدير المياه (Mekorot 2.5 بالمئة فقط، وهو من أقل المعدلات في العالم اليوم. يقدر الحاج أن المتوسط في سوريا يبلغ حوالي 50 بالمئة.
توزيع مصادر المياه في إسرائيل في الأعوام، 1985، 1995، 2005، 2014 ـ المصدر: تقرير البنك الدولي: إدارة المياه في إسرائيل: الابتكارات الرئيسية والدروس المستفادة للبلدان التي تعاني من ندرة المياه. الأزرق=مياه طبيعية؛ البنفسجي= مياه معالجة؛ البرتقالي= مياه مُحلّاة.
وجد تقرير للبنك الدولي، «إدارة المياه في إسرائيل – الابتكارات الرئيسية والدروس المستفادة للبلدان التي تعاني من ندرة المياه (2017)»، أنه «بعد سنوات عديدة من الإصلاحات والاستثمارات الضخمة، حقق قطاع المياه الإسرائيلي استقلالية مالية شبه كاملة إلى جانب توفير الأمن المائي. يتم الآن دفع معظم تكاليف الاستثمار وتشغيل البنية التحتية للمياه من قبل المستخدمين من خلال الرسوم الضريبية». واجهت إسرائيل عدة موجات جفاف كبرى قبل أن تتمكن الحكومة من إجراء إصلاحات مائية ملحوظة: في عام 1986، أدى الجفاف إلى خفض المنتجات الزراعية بنسبة 15 بالمئة؛ في عامي 1989 ـ 1990 حدث الجفاف الثاني، وفي عام 1998 «كانت أزمة أكثر حدة أمراً محتّماً […] عندما أثّر نقص الأمطار ليس فقط على الزراعة، ولكن أيضاً على البلديات والقطاع الصناعي، مع نقص حاد في المياه وتقنين في معظم المدن الإسرائيلية». يسرد التقرير تسع ابتكارات في مجال المياه من «قصة المياه في إسرائيل»:
«الابتكار الأول: نظام مياه وطني لربط جميع البنى التحتية للمياه.
الابتكار الثاني: إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المُعالَجة للري على نطاقٍ واسع.
الابتكار الثالث: تحلية المياه على نطاقٍ واسع من أجل تأمين استقلالية مياه الشرب.
الابتكار الرابع: استخدام طبقات المياه الجوفية كخزانات.
الابتكار الخامس: اعتراض جريان المياه السطحية الفائضة لدى هطول الأمطار أو خلال العواصف.
الابتكار السادس: تعزيز انتقائية المزروعات وواردات ‘المياه الافتراضية‘ (المياه التي تحتويها المنتجات).
الابتكار السابع: كفاءة تقنيات الري.
الابتكار الثامن: إدارة الطلب وحملة 2008 ‘لرفع الوعي حول ضرورة الحفاظ على المياه’.
الابتكار التاسع: خلق بيئة داعمة لابتكار المياه».
احتلال المياه
إلى جانب من قصة «نجاح إسرائيل»، وجد تقرير لمنظمة العفو الدولية أنه «في الوقت الذي تَعمَد إسرائيل إلى تقييد إمكانية حصول الفلسطينيين على المياه، فقد دأبت فعلياً على تطوير بنيتها التحتية المائية الخاصة وشبكة المياه في الضفة الغربية لاستخدامات مواطنيها في إسرائيل والمستوطَنات، وهي غير شرعية بموجب القانون الدولي». ويضيف التقرير، الذي يحمل عنوان احتلال المياه، أنه نتيجةً للقيود المستمرة «لم يعد أمام العديد من المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية من خيار سوى شراء الماء الذي يُجلب إلى الضفة بالشاحنات بأسعار أعلى بكثير، تتراوح بين 4 و10 دولارات أميركية لكل متر مكعب. وفي بعض المجتمعات الأشد فقراً، يمكن أن تصل أسعار المياه أحياناً إلى ما يعادل نصف دخل الأسرة الشهري». وأشارت منظمة العفو الدولية إلى أن السلطات الإسرائيلية تُقيّد إمكانية حصول الفلسطينيين على الماء بمنع أو تقييد الوصول إلى أجزاء كبيرة من أراضي الضفة الغربية.
الاستمرار بالسياسات الحالية مُكلِف
للانتفاضة السورية العديد من الأسباب الجذرية، لكن فشل الحكومة السورية في التعامل مع تداعيات الجفاف هو أحد هذه الأسباب، بالتوازي مع الأسباب الاقتصادية، وعلى رأسها السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية والخصخصة التي تبناها الرئيس حافظ الأسد، وتسارعت بعد العام 2000 مع صعود بشار الأسد إلى السلطة، فضلاً عن الأسباب الاجتماعية الأخرى. أدى سوء استخدام المياه الجوفية إلى الحد من قدرة الحكومة على التصرف في أوقات الجفاف، إذ لم تكن قادرةً على زيادة كمية المياه الجوفية المُستَخرجة. على النقيض من ذلك، خلال الفترة نفسها، عملت إسرائيل على إجراء إصلاحات مائية شملت الإدارة الرشيدة، ودعم الابتكارات المائية، وتصميم مشاريع إمدادات المياه غير التقليدية. تدعم المقارنة بين الحالتين السورية والإسرائيلية الفرضية القائلة بأن فشل الحكومات في البلدان التي تواجه ضغوطاً مائياً في تنفيذ سياسات وإصلاحات جذرية، ولكن علمية وصديقة للبيئة، سيؤدي -على الأرجح- إلى إشعال الصراعات في المستقبل.
يجب على دول المنطقة دراسة هذه الحالات والتنسيق معاً لوضع سياسات إصلاح المياه ودعم الابتكارات في مجال المياه. لا ينبغي للحكومات الاعتماد على مصادر المياه المتجدّدة فقط، خاصةً عند مواجهة التغيّرات المناخية التي ستؤثّر على هذه الموارد. يجب أن تعمل هذه البلدان أيضاً على زيادة كفاءة استخدام المياه، لا سيما في الزراعة، وهي المستهلك الرئيسي للمياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تستخدم معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 75 بالمئة إلى 90 بالمئة من مواردها المائية للقطاع الزراعي. تتطلب زيادة كفاءة استخدام المياه التعاون بين الهيئات الحكومية المختلفة والقطاع الخاص والمعاهد البحثية لخلق أفضل الأدوات المناسبة لهذه البلدان.
إنّ التنسيق بين الحكومات أمرٌ ضروري. تشترك بلدان المنطقة في العديد من طبقات المياه الجوفية، وجزءٌ كبيرٌ من موارد المياه السطحية والجوفية عابرٌ للحدود، مما يجعل التنسيق ضرورياً لحل مشكلة الإجهاد المائي. على سبيل المثال، فقد العراق 80 بالمئة من المياه الخارجية التي دخلت نظامه المائي مقارنة بعام 1975 بسبب «مشروع جنوب شرق الأناضول» التركي، مما عرّض الزراعة والموائل الطبيعية للخطر. كما تأثّر العراق سلباً بمشاريع السدود والتطورات الزراعية في إيران، ويواجه انخفاضاً في كمية المياه وزيادةً في المياه المالحة، مما أدى إلى اضطرابات أهلية في عدة مناطق، ونزوح داخلي للمواطنين.
ربما يجدر ذكر أن العام 2021 شهد «أول مجاعة ’كارثية‘ في العالم بسبب تغير المناخ في مدغشقر وراحت عائلاتٌ تأكل الحشرات للبقاء». المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي ديفيد بيسلي قال إن الوضع يشبه «فيلم رعب». وفي تشرين الثاني (أكتوبر) 2021، عانى أكثر من 1.1 مليون شخص من الجوع الشديد، 14 ألف شخص منهم على شفا المجاعة. وإلى جانب الآثار المباشرة للجفاف، كالمجاعة، كان هناك آثارٌ أخرى؛ مثل ارتفاع نسب العنف المنزلي ضد النساء وارتفاع معدلات الجريمة والنزوح والهجرة من المناطق التي تعرضت للجفاف.
بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد لا تكون بمنأى عن نتائج مشابهة إذا لم تسارع السلطات المركزية والمحلية والمجتمعات المحلية والقطاع الخاص والجامعات، إلى وضع استراتيجيات متنوعة؛ من حملات التشجير والتوعية، إلى معالجة المياه وإعادة استخدامها، واعتماد تقنيات حديثة في الري وتغيير أنواع المزروعات، وغيرها من السياسات القابلة للتطبيق، ولكن كل ذلك يحتاج في البداية إلى إرادة سياسية.