فشلت المعارضة السورية في توحيد نفسها ومطالبها، وفشلت في إنتاج مشروعٍ وطني يطمئِن الشرائح والمكونات المُرتابة من احتمالية وصولها إلى السلطة، وفشلت في إدارة المناطق التي سيطرت عليها، وفشلت في حربها العسكرية والسياسية ضد النظام، وفشلت في التصدي للحركات الإسلامية الراديكالية، كما أنها انخرطت في صراعاتٍ أهلية، وروّعتْ وقتلت المدنيين. يُكرّر ما سبق من كلام، وهو صحيح ومحق بطبيعة الحال، عموم السوريين الجذريين في موقفهم المعارِض لنظام الأسد، ولعلّ الشريحة الواعية بالفشل المريع لأجسام المعارضة السياسية والعسكرية هي الأوسع بين عموم السوريين. ولكن من غير المعقول أن يصدر الكلام نفسه عن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية في سياق تبريراتها لمسارات التطبيع مع السيرة الإبادية لنظام بشار الأسد وإعادة العلاقات معه دون أن يكون نابعاً من مزيجٍ من تصفير عدادات الذاكرة وتعطيل الضمير.
والحال أنه قد كان لأشقائنا العرب، مع تركيا، السهم الأكبر في صناعة المعارضة ومن ثم المعارضات السورية، وفي ديناميات عملها وتمثيلها وتمويلها وتسليحها، بقدر ما كان لهم دورٌ مماثلٌ في تمزيقها وتفتيتها إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي الأكثر رثاثةً واستتباعاً للأجنبي على الإطلاق؛ إذ حرص «الأشقاء» و«أصدقاء الشعب السوري» في تعاملهم مع هذه المعارضة على أن يكون رافضو الاستتباع والخضوع للإملاءات هم الأقل تمثيلاً والأكثر هامشيةً فيها، وعلى إغراقها بشخصياتٍ وتشكيلاتٍ ترتضي الارتهان لمشاريعهم ومصالحهم على حساب أي مصلحةٍ وطنية سورية، إلى حد أن تندلع المعارك وتُفتح الجبهات بين فصائل المعارضة نتيجة خلافٍ على المصالح بين دولتين خليجيتين، أو أن تتوالد فصائل وأجسام سياسية نزولاً عند رغبة الأشقاء، وأن تكون للأشقاء الكلمة الفصل في السلاح وحمَلته ووجهته والمعارك المسموح استخدامه فيها.
دفع هذا السلوك، العربي الأكثر فجاجةً على وجه الخصوص، جلّ المعارضين والمعارضات ممن لديهم تاريخ طويل في معارضة نظام الأسد ويمثّلون شرائح شعبية من السوريين إلى الخروج من تشكيلات المعارضة نأياً بالنفس عن مشاريع الدول الشقيقة والضغوط التي مارستها لاستتباعهم، بل وصَوناً لكرامتهم من التلوّث بأموال ومشاريع الأشقاء «المتهاوشين» فيما بينهم، وسعيهم الحثيث لشراء الذمم أو حذف أصحابها من خارطة أي عمل سياسي وعسكري ممكن في حال تعذّر ذلك.
وإزاء فشل المعارضة الذي ما هو حقيقةً إلا فشل الأشقاء العرب، وبعد اثنتي عشرة عاماً دمويةً من الصراع، اكتشفت الأنظمة العربية التي ضاقت بفشل المعارضة وجعلت منه قميص عثمان، أن ما ارتكبه النظام السوري مجرد «أخطاء» ضد شعبه، وهي أخطاء يجب أن «تُصحّح» حتى تستعيد سوريا «مكانتها ودورها العربي الفاعل». مذهلٌ كيف يمكن اعتبار استخدام الأسلحة الكيماوية ضد بشر عزّل وتعذيب عشرات الألوف وتغييبهم في السجون وتدمير مدن بأكملها وسحق أهاليها بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وإطلاق يد عشرات الجماعات الإجرامية المتوحشة أخطاءً. إذا كان ما سلف من أفعال النظام السوري لا يعدو كونه أخطاء، فلا يمكن أن تكون الجرائم ضد الإنسانية بمقاييس أشقائنا أقل من إبادة سكان الأرض جميعاً، وعليه فإن كلَّ فشلِ المعارضة لا يتجاوز الابتعاد عن «الكمال» في صراعها مع النظام وتمثيلها لمصالح السوريين.
ارتكب النظام الإبادي السوري من الجرائم ما لا يمكن طيّه أو تجاوزه إلى الأبد، وإن أية معاذير تقدّمها أية دولة أو جماعة سياسية ليست إلا تحايلاً مفضوحاً وإمعاناً في إنكار مذبحة علنية راح ضحيتها مئات ألوف البشر، وهو أيضاً ممّا لا يمكن تجاوزه أو التسامح معه، وسيبقى محفوراً في الذاكرة السورية.