في 1905 أُسّس الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ رسميّاً فكان أوّل الأحزاب الجماهيريّة والقاعديّة في بلده. ولئن حمل الحزب الاسمَ الذي لازمه حتّى 1969، «الفرع الفرنسيّ للأمميّة العمّاليّة»، فقد جاء تأسيسه تكراراً لما شهدته بلدان أوروبيّة عدّة في المرحلة ذاتها: فهو أيضاً أملتْه محاولة توحيد المجموعات الاشتراكيّة الكثيرة والمتناثرة. هكذا اتّخَذ التنظيمُ شكل فيدراليّة تجمع بين وحدات قطاعيّة ومناطقيّة مستقلّة، وإن حاول إخضاع ممثّليه وأعضاءه لنظام حزبيّ واحد على قدر من الانضباط.
ويعود تاريخ ما قبل التاريخ الحزبيّ إلى الثورة الفرنسيّة بالأفكار والعواطف التي أطلقتها. فقبل نشأته، ظهرت أحزاب صغرى ومحاولات حزبيّة استلهمت كلّها تلك التقاليد المبكرة، ومن بعدها نظريّات الاشتراكيّين الفرنسيّين الأوائل الذين عاش معظمهم (وليس كلّهم)، بين أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأوّل من التاسع عشر، كشارل فورييه وهنري دو سان سيمون وفرانسوا نويل بابوف وأوغست بلانكي ولويس بلانك، ممّن كان بؤسُ العمّال، تبعاً للتصنيع، أبرز محفّزاتهم فكراً وعملاً.
هكذا بدت الدعوات الاشتراكيّة، بما انطوت عليه من مساواة اقتصاديّة وتوكيد على حقّ العمل في أرباح الإنتاج، جزءاً متيناً وراسخاً من ثقافة الفرنسيّين السياسيّة.
غيسد وجوريس
كان أوّل الأحزاب الاشتراكيّة الصغرى «اتّحاد العمّال الاشتراكيّين في فرنسا»، الذي أُسّس في 1879، بعد ثمانية أعوام على هزيمة كوميون باريس التي نُفي مَن لم يُقتل من قادتها. وبسبب الهزيمة تلك تعرّضت الميول والاتّجاهات الاشتراكيّة لانتكاسة نسبيّة حملتها على الإقرار بتوازنات القوى الجديدة والعمل من داخلها. وفي قيادة «الاتّحاد» ظهرت أصوات تدافع عن إصلاحات تدريجيّة، بحيث عُرفَ الخطّ الذي يدافعون عنه بـ«الإمكانيّ» أو «الاحتماليّ» (the Possibilist).
وقائد التيّار هذا، بول بروسّيه، كان مناضلاً فوضويّاً قبل أن ينحاز إلى مبدأ «الإصلاحات المحدّدة والملموسة والتدريجيّة»، حيث الخدمات العامّة أوّل «الإمكان» الذي يمكن عبره البلوغ تدريجاً إلى «تشريك (socialization) أعرض»Jean-Numa Ducange, Jules Guesde: The Birth of Socialism and Marxism in France, Palgrave Macmillan, 2020, pp. 29 & 34. وتبقى تلك التجربة المبكرة، رغم محدوديّتها، دالّة إلى ما سوف تسجّله العقود التالية. فالأمثِلة، كائناً ما كان تقييمنا لها، سوف تتلاحق مشيرةً إلى الانتقال من الأكثر يساريّة إلى الأقلّ، ومن الأكثر أمميّة إلى الأكثر وطنيّة.
على أنّه سريعاً ما نشأ حزب آخر بالانشقاق عن «الاتّحاد»: ففي 1880 ظهر «حزب العمّال الفرنسيّين»، الماركسيّ الهوى والزاعم تمثيل البروليتاريا، بقيادة جول غيسد وبول لافارغ، صهر كارل ماركسكان ماركس شخصيّاً المساهم الأساسيّ في صياغة وإملاء برنامج الحزب في مؤتمر لو هافر في 1880، خصوصاً شقّه الاقتصاديّ، لكنْ بعد ثلاث سنوات تبنّى غيسد ولافارغ مواقف أكثر راديكاليّة من ماركس نفسه في ما خصّ تقبّل «الإصلاحات الممكنة في ظلّ الرأسماليّة»، وتعليقاً عليهما، وفي رسالة إليهما، كتب ماركس (قبيل وفاته) تلك العبارة الذائعة الصيت من أنّه إذا كانت تلك المواقف ماركسيّة فكلّ ما هو متأكّد منه أنّه ليس ماركسيّاً. أنظر:Karl Marx and Jules Guesde 1880, The Programme of the Parti Ouvrier. والحزب هذا، وإن حظي بدعم قطاعات عمّاليّة، غير أنه ظلّ بعيداً جداً من أن يجمع سائر الجماعات الاشتراكيّة والعمّاليّة ويقودها، سيّما وقد شهد هو نفسه انقسامات تردّدت في العقدين التاليين، ما أنهى تجربته التي أُعيد استئنافها في «حزب فرنسا الاشتراكيّ الثوريّ».
وعموماً اعتُبر غيسد «رجل ماركس» بين اشتراكيّي فرنسا، وهو الذي أقرّ إدوارد برنشتاين، وكان لا يزال ماركسيّاً قويماً، بأنّه كان «مُهرّب» النصوص الاشتراكيّة الألمانيّة إلى فرنسا، بحيث أُخذ عليه مبكراً أنّه لا يطيع إلاّ الأوامر الصادرة عن «زعيمه الحقيقيّ في لندن»Jean-Numa Ducange, Jules Guesde…, pp. 44 & 48..
لكنْ فضلاً عن ماركس وإنغلز، أقام غيسد صلات شخصيّة قويّة مع إشتراكيّين ألمان ككلارا زِتكِن، وخصوصاً مع وليم ليبنِخت، وكان بعض هؤلاء من المنفيّين في باريس. فمتى أضيفت معرفته بأوروبيّين وروس آخرين، كالروسيّ جورجي بليخانوف، تبدّى بوصفه الماركسيَّ الذي تتفوّق حساسيته الأوروبيّة، خصوصاً الألمانيّة، على محلّيّته الفرنسيّة.
وفي أيّة حال رأى البعض أنّ غيسد مثّلَ «الخطّ الألمانيّ» المتأثّر بالتجربة الحزبيّة هناك، بما فيها الأرثوذكسيّة الطبقيّة الصارمة. وهو بعد تردّد قليل، ومدفوعاً بمنظوره الطبقيّ ذاك، أبدى موقفاً متصلّباً في رفضه اعتبار قضيّة دريفوس، التي انفجرت في 1894، مسألة ثوريّة أو عداليّة. فقد رأى أنّ الانحياز إلى جبهة المدافعين عن الضابط اليهوديّ المتّهم زوراً بالتجسّس للألمان إنّما يجرّ قضيّة الاشتراكيّة إلى مستنقع البورجوازيّة وسياساتهاوهذا علماً بأنّ غيسد لم يتهاون في الحرب الإيديولوجيّة مع اللاساميّين، خصوصاً الصحافيّ والكاتب والسياسيّ إدوار درومون الذي أسّس في 1889 الرابطة المناهضة للساميّة في فرنسا..
وكان لأمميّة غيسد الثوريّة وراديكاليّته الطبقيّة القصوى (وتعرّضه للسجن) أن عزّزت عداءه للدولة أيّاً كانت، معتبراً أنّ اضطهادها الاشتراكيّين برهانٌ قاطع على انتفاء كلّ احتمال إصلاحيّ عنها. وهو منذ 1883 نشر نصّاً قصيراً ضدّ خصومه «الإمكانيّين» عنونَه بـ«خدمات عامّة واشتراكيّة»Jean-Numa Ducange, Jules Guesde…, p. 34.
ثمّ في 1890 نشأ حزب آخر هو «حزب العمّال الاشتراكيّ الثوري»، المناهض لكلّ مركزيّة أكانت في الدولة أم في الحزب، بقيادة جان ألُمان، بينما أسّس ورثة بلانكي، رمز التقليد الفرنسيّ الأكثر ثوريّة وتآمريّة في ثورات 1848، «اللجنة الثوريّة المركزيّة» بقيادة «النيو بلانكي» جان فايان، كما وُجد نوّاب اشتراكيّون مستقلّون كجون جوريس وألكسندر ميلران ممّن لم ينتموا إلى حزب.
ولا يتردّد ب. د. غراهام في تسمية هؤلاء جميعاً، على ما بينهم من اختلافات، «رومنطيقيّين ثوريّين»، تركوا تأثيرات مديدة وعميقة على الاشتراكيّة الفرنسيّة. وأمّا «رومنطيقيّتهم» فيُرى إليها من زاوية تناقضها مع الغيسديّة: فالأخيرة ذهبت في تقريريّتها إلى أنّ المسار المُفضي إلى الأزمة الثوريّة، وإلى الثورة بالتالي، قابلٌ للتوقّع، ولهذا عوّلت على واجب الانضباط الحزبيّ لتنفيذ أوامر التاريخ وقوانينه الحتميّة، كما أوّلت الاستيلاء على الدولة، كجهاز للبورجوازيّة، بوصفه مصدر تحويل المجتمع إلى الاشتراكيّة. أمّا «الرومنطيقيّون» فآمنوا، مدفوعين بتغليبهم العنصر الذاتيّ، بأوضاعَ ثوريّة يمكن لأعمال الجماهير العفويّة أن تخلقها، وبأنّ المبادرة التطوّعيّة والخلاّقة لتلك الجماهير هي ما يأتي بالتغيير الراديكاليّ، فيما وظيفة الحزب إعانة هذه العمليّة، بالاستجابة للفُرص وبتشجيع مبادرات الأعضاء. وأمّا الدولة الاشتراكيّة، عندهم، فتتشكّل خلال عمليّة الثورة نفسها، فيما يكون الناس يكتشفون طرقاً جديدة لتنظيم عملهم وحياتهمB. D. Graham, Choice and Democratic Order: The French Socialist Party, 1937-1950, CAMBRIDGE, 2006. 26-27.كان غوستاف هيرفيه (1871-1944) من أبرز رموز «الرومنطيقيّين الثوريّين»، وبعد وحدة الحزب في 1905 قاد جناحه الأشدّ تطرّفاً. لكنّه إبّان الحرب العالميّة الأولى انتقل إلى صفّ القوميّين المتحمّسين للحرب ولم يكتم إعجابه بالفاشيّة الإيطاليّة..
بيد أنّ العام 1902 شهد تطوّراً بارزاً، إذ اندمج هؤلاء المستقلّون، و«الإمكانيّون» الذين بدأوا حياتهم الحزبيّة في «الاتّحاد»، وكذلك «العمّال الاشتراكيّ الثوري» بقيادة ألُمان، ليشكّلوا «الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ» الذي تولّى جوريس قيادته ورئاسة كتلته البرلمانيّة. وهؤلاء مثّلوا الموقف الأقرب لأن يكون اشتراكيّاً ديمقراطيّاً مؤيّداً للمشاركة في «حكومات بورجوازيّة» ومناوئاً لغيسد وحزبه «حزب فرنسا الاشتراكيّ الثوريّ» الذي مضى في معارضته المُشارَكة.
وبفعل موقع جوريس القياديّ، ثمّ رئاسته تحرير جريدة لومانيتيه (الإنسانيّة) منذ إنشائها في 1904، وهي التي باتت جريدة الحزب الرسميّة، فإنّه بات الوجه الاشتراكيّ الأبرز، والأب المؤسّس لنزعة الدفاع عن الحرّيّات الفرديّة وعن العمليّة البرلمانيّة بوصفهما جزءين من مشروع اشتراكيّ واحد. فجوريس، وعلى عكس غيسد، كتب متبنّياً قضيّة دريفوس وضمَّ مؤيّديه إلى الحملة المدافعة عنه، جاعلاً هذا الاندماج تعبيراً عن الشراكة بين الاشتراكيّة والحرّيّة الإنسانيّة.
وبسبب دور جوريس وتجربته، غدا من الصعب الفصل بين التقليد الجمهوريّ الاشتراكيّ والحزب الاشتراكيّ غير الغيسديّ. ولاحقاً، غالباً ما تميّز الجمهوريّون الراديكاليّون والاشتراكيّون أنفسهم، داخل الحزب الاشتراكيّ، عن رفاقهم الغيسديّين، باستحضارهم ذاكرة جوريس وكونَه أراد الاشتراكيّة خلاصاً للبشر جميعاً، ورابطاً كونيّاً قبل أن يكون طبقيّاً، إذ الاشتراكيّة، عنده، قوّةٌ لتحويل المجتمع كلّه، لا جزءاً منه.
في الحالات كافّة، غالباً ما رُمز، وظلّ يُرمز، إلى الخطّين الرئيسين في الحركة الاشتراكيّة الفرنسيّة بجوريس وغيسد، ووفق الرواية اللاحقة والمتعاطفة مع أوّلهما «المعتدل»، فإنّه مثّلَ «روح الاشتراكيّة الفرنسيّة» وكان الأقدر على «تحشيد الناس معاً»، قياساً بثانيهما «العصبويّ» و«الدوغمائيّ» وصاحب الفكر الماركسيّ الذي لم يتراجع تحفّظُه على الجمهوريّة بسبب «برجوازيّتها».
هذا الجوّ المسموم الذي ساد علاقة المجموعات الاشتراكيّة تشكّلت خلفيّتَه في العقد السابق. ففي انتخابات 1893 أحرز الاشتراكيّون مجتمعين خمسين مقعداً نيابيّاً، وكان في عداد نوّابهم غيسد وجوريس وميلران. ويمكن القول، بمعنى ما، إنّ تاريخ الاشتراكيّة البرلمانيّة بدأ بهذه الانتخابات التي لم تُجرَ بمنأى عن مناخ متأزّم واستقطابيّ ساد الجمهوريّة الثالثة حينذاك. ففي 1888-1889، افتُتح التأزّم بتهديد الحركة اليمينيّة والشعبويّة التي قادها الجنرال إرنست بولونجير بانقلاب عسكريّ يطيح الجمهوريّة. وفي نهاية ذاك العقد شارك ميلران، عام 1899، في حكومة الجمهوريّ المعتدل بيار فالديك روسّو، فقاد غيسد جبهة الاعتراض الواسعة نسبيّاً على المشاركة، مدعوماً بمواقف الاشتراكيّين الألمان (كاوتسكي ولوكسمبورغ…)، وواجداً في فرنسا نفسها حلفاء بحجم فايان وبلانكيّيه من قدامى الكوميونيّين. فهؤلاء كان يستحيل عليهم دعم فالديك روسّو، خصوصاً أنّ وزير الحرب في حكومته لم يكن إلاّ الجنرال غاستون دو غاليفِتّ الذي سحق كوميون 1871.
وبالفعل، ففي أواخر 1899، وفي مؤتمر ضمّ جميع التنظيمات الاشتراكيّة، وأُريدَ له أن يكون تمهيداً لوحدتها، انفجر الخلاف حول مشاركة ميلران في الحكومة. وبأكثريّة 818 صوتاً مقابل 634، مرّر المؤتمر، في ما مرّر من مقرّرات، أنّ «الصراع الطبقيّ لا يسمح لاشتراكيّ بدخول حكومة بورجوازيّة»Jean-Numa Ducange, Jules Guesde…, p. 95-6..
هكذا، ومنذ بداياتها، اتّسمت الاشتراكيّة الفرنسيّة بالتناثر والتنازع والانشقاقات وكثرة الأجنحة ومنافسات «النجوم» بما فاق ما عرَفته أغلبيّة الحركات الاشتراكيّة الأوروبيّة، كما شكّلت المسائل السياسيّة والانتخابيّة، وخصوصاً المشاركة في «الحكومات البورجوازيّة»، أبرز مواضيعها الخلافيّة المستندة إلى مقدّمات إيديولوجيّة متعدّدة، طوباويّة وسنديكاليّة (نقابيّة) وثوريّة وإصلاحيّة، وهو جميعاً جاء مقروناً بالبحث عن القائد الكاريزميّ البارع.
مع ذلك، لم تتوقّف محاولات التوحيد التي بدأت مبكراً، لكنّ أيّاً منها لم يُكتَب لها النجاح حتّى 1905. فعامذاك، وفي مؤتمر غلوب بباريس، أمكن توحيد الحزبين في «الفرع الفرنسيّ للأمميّة العمّاليّة» المنضوي في الأمميّة الاشتراكيّة الثانية، من غير أن تغيب الملامح الخاصّة التي وسمت التنظيمات والجماعات المتّحدة. فالغيسديّون مثلاً، ممّن تركّزت قوّتهم في الشمال الصناعيّ، بدوا أشدّ صرامة في حزبيّتهم ومعتقديّتهم. وبسبب اختلافات النشأة والتشكّل، تحوّلت التيّارات إلى أجنحة في الحزب الجديد، ما سمح دائماً بإضعاف بُنيته التنظيميّة، وبتسهيل اختراقه من خارجه، لا سيّما من اليسار الأشدّ تطرّفاً الباحث عن الانتقال من الهامش إلى المتن، وعن الاختباء في المتن.
وكان للعاملَين هذين أن جعلاه أقرب إلى حركة زائغة في تحديد أهدافها، فيما لا تخلو علاقتها بالحياة البرلمانيّة من التباسDavid S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists: The Case of the French Socialist Party, Palgrave, 2014. P. 33. وبالفعل فقد حمل الحزب الجديد خلافات الماضي وحفظها، أكان بالنسبة إلى المشاركة في الحكومات، حيث سبق لجوريس أن أيّد مشاركة ميلران التي ناهضها غيسد وجميع الذين رأوا فيها «خيانة»، أم بالنسبة لقضيّة دريفوس التي رأى جوريس ضرورة التضامن معه ضدّ الرجعيّين، فيما رآها غيسد صراعاً بين جناحين من البورجوازيّة. وإلى ذلك اعتبر جوريس أنّ الجمهوريّة الفرنسيّة تنطوي على مُثل ليبراليّة وإنسانيّة ينبغي الدفاع عنها، وأنّ الاشتراكيّين يمكنهم، بالتعاون المحدود مع أحزاب البرجوازيّة في البرلمان والحكومة، إحراز مكتسبات لجمهورهم، فيما ظلّ غيسد يؤكّد على استقلاليّة الحزب وتمسّكه بتطلّعاته الثوريّة. وكان تركيب الحزب عاملاً غير مساعد على تضييق الفجوات القائمة. فالصوت البرلمانيّ والزعامة اللذان انعقدا لجوريس لم يشكّلا مرجعاً مُلزِماً لنقابيّي الحزب المتأثّرين يومذاك بالنزعة السنديكاليّة الثوريّة، وغير المبالين بالعمل من ضمن القنوات الدستوريّة.
هكذا استمرّ التنافر داخل الحزب الوليد، لا سيّما بين ليبراليّي الطبقة الوسطى وجمهوريّيها وبين السنديكاليّين الثوريّين الذين يركّزون على النضال النقابيّ و/أو على الاحتمالات الثوريّة المفتوحة. ثمّ أنّ تَقيُّدَ الحزب، ولو لفظيّاً، بضوابطه الإيديولوجيّة الموروثة، حيث للماركسيّة أثر كبير لجهة رفض «الإصلاحيّة البرجوازيّة» والملكيّة الخاصّة، لم يساعد مبدأ الوحدة، خصوصاً وأنّ الشقّ الأكثر راديكاليّة من برنامج الحزب وجد دعمه في العمّال وصغار الموظّفين والمعلّمين وبعض بؤساء القطاع الفلاّحيّ.
لقد استمرّ التنافر يحتلّ من المساحات ما لم تقوَ الوحدة على تذليله، فخرج من الحزب من سمّوا أنفسهم «الحزب الجمهوريّ الاشتراكيّ» الذي حسم أمره لصالح دعم المشاركة في «الحكومات البرجوازيّة»، وهؤلاء ومعهم «الحزب الراديكاليّ» الذي يعود تأسيسه إلى 1901، بدوا أشدّ إصراراً على تبنّي العلمانيّة وتوكيدهامثّل هذا الحزب، الأبكر تأسيساً، اليسارَ الجمهوريّ ذا المواقع القويّة نسبيّاً في الأرياف وبين طبقاتها الوسطى المتعلّمة. وهو دافع عن الجمهوريّة البرلمانيّة ومبادىء الثورة ضدّ خصومها المحافظين، كما تبنّى شعارات سيادة البرلمان ومناهضة الأكليروس وبرنامجاً اجتماعيّاً تقدّميّاً يستند إلى حقوق الإنسان والوطنيّة اليعقوبيّة، متمسّكاً بديمقراطيّة تنهض على المُلكيّة الخاصّة، ورافضاً النظريّات الماركسيّة حول الملكيّة العامّة لوسائل الإنتاج. كبند يتعدّى ما اعتبروه محدوديّة اقتصاديّة.
اغتيال جوريس وتحوّل غيسد
بقيادة جوريس، نما «الفرع الفرنسيّ» بسرعة وبات تأثيره ملحوظاً في الحياة السياسيّة. ففي انتخابات 1906 التشريعيّة صوّت له ما يقارب الـ900 ألف، كما أوصل أكثر من 50 نائباً إلى البرلمان. لكنّ العام ذاك، الذي شهد تبرئة دريفوس، كان يختم على زغل ذاك الانشقاق الوطنيّ العريض الذي ابتدأته تلك القضيّة قبل 12 سنة. إلى هذا، لم يكن قد انقضى غير عام واحد على حسم العلاقة الحادّة بين الكنيسة الكاثوليكيّة والدولة. فالأولى التي كانت تُدير معظم الكنائس والمؤسّسات الرعائيّة، وكان رجالها يتقاضون مرتّباتهم من الحكومة، إنّما ضُرب نفوذها العامّ باعتماد قانون 1905 في فصل الكنيسة عن الدولة وبعَلمنة التعليم الرسميّ والكفّ عن تمويل المؤسّسة الدينيّة.
ولم يَحُل هذا التأزّم الوطنيّ العامّ دون ارتفاع تمثيل الحزب بشيء من التواصل والمواظبة، بحيث وصل في 1914 إلى 1.4 مليون صوت و102 مقعداً برلمانيّاً. إلاّ أنّ التنافر داخله بين الخطّين المعتدل والراديكاليّ، حولَ المشاركةِ مع «الأحزاب البورجوازيّة» أساساً، ولكنْ أيضاً حول تأميم الصناعة والعلاقة بالنقابات، ظلّ يحدّ من تأثيره وفعّاليّته. وحتّى أواسط ذاك العام، وبما يوازن توجههم البرلمانيّ المعتدل، بقي الاشتراكيّون على معارضتهم داخل البرلمان، مشكّلين كتلة يساريّة لا تشارك في الحكومات. لكنّهم، من جهة أخرى، افتقروا إلى المدى النقابيّ، خصوصاً منذ 1906 حين أعلن «الاتّحاد العامّ للعمل» (CGT)، الذي تأسّس في 1895، استقلاله كطرف نقابيّ عن الأحزاب السياسيّة جميعاً. وجدير بالذكر أنّ التيّار النقابيّ الثوريّ الذي سرعان ما غدا «القوّةَ الدافعة» والمؤثّرة في صفوفه، كان تيّاراً رافضاً، وفي آن معاً، لأفكار جوريس وممارساته المطعون بطبقيّتها، وللتصوّر الغيسديّ عن الحزب حيث ينبغي أن تخضع النقابة له. وبينما غدا العداء بين النقابيّين والغيسديّين من المُحدّدات الملازمة للطرفين، بات عداء القطبين الاشتراكيّين، غيسد وجوريس، لأقصى اليسار، خصوصاً فوضويّيه وراديكاليّيه، من العناصر القليلة التي تجمع بينهماJean-Numa Ducange, Jules Guesde…, 2020, p. 76..
لكنّ غيسد لم يملك ترف غضّ النظر عن النقابات، خصوصاً لخشيته من صِلات جوريس بالدوائر الجمهوريّة الراديكاليّة، ما اعتبره تهديداً له من يمينه. هكذا بدا مهتمّاً «بتشديد قبضته على مَن هم على يساره» ممّن ينافسونه احتكاره السابق للرؤية الطبقيّة الحادّة التي ترفض الاندماج في الدولة أو المشاركة في حكوماتها. أمّا مغادرته هذا الموقع والانضمام إلى جبهة جمهوريّة موحّدة، ويمينيّة في التصنيف اليساريّ، فقد لا يفضي به إلاّ إلى الهامشيّة، خصوصاً أنّ جوريس هو الذي يملأ ذاك الفراغأنظر:B. D. Graham, Choice and Democratic Order…, p. 90.
وكانت الحرب العالميّة الأولى قد وضعت الحزب في أزمة: فـ جوريس الباسيفيّ اغتاله قوميٌّ متعصّب ومتحمّس للحرب ضدّ ألمانيا. هكذا، وبرغم خلفيّاتهم السلميّة، أيّد نوّاب الحزب، بعد إعلان ألمانيا الحرب على فرنسا، تمويل الجيش في حربه، وفضّل أغلب الاشتراكيّين تشكيل «اتّحاد مقدّس»، أي حكومة وحدة وطنيّة تضمّهم وأحزاب اليمين وأقصى اليمين. ولئن جدّ هذا التطوّر بعد استشعار الاشتراكيّين عجزهم عن تسويق عدائهم «الجوريسيّ» للحرب، وعن مقاومة موجة العسكرة التي تلت اندلاعها، ظلّ في وسع المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية أن تثير انشقاقاً بين الاشتراكيّين.
وكانت المفاجأة الأكبر، بل المدوّية، ذاك التحوّل النوعيّ الذي طرأ على غيسد، المعارض تقليديّاً لكلّ مشاركة في «الحكومات البورجوازيّة». ففي المناخ الجديد رأيناه، ومعه رفاق آخرون، يوافق على تولّي مناصب وزاريّة في حكومة الجمهوريّ الاشتراكيّ رينيه فيفياني. وإذ تسلّم وزارة الحرب تحديداً، تعالت أصوات متّهِميه بخيانة الاشتراكيّة والانحياز إلى البرجوازيّة وإلى الحرب معاً. وفي أيلول 1916، وكان غيسد لا يزال وزيرَ الحرب، طُرد ليون تروتسكي، القائد الشيوعيّ الروسيّ، من فرنسا، وأُبعد إلى الحدود الإسبانيّة، فوجّه إلى رفيقه الفرنسيّ «رسالة مفتوحة» حادّة النبرة، تصفه بالتنكّر لتاريخه بالتواطؤ مع «الدولة الرأسماليّة»، المذعنة للضغوط القيصريّة، كما تطالبه بالاستقالةIsaac Deutscher, The prophet armed – Trotsky: 1819-1921, Oxford, 1987, p. 239..
بيد أنّ الحركة الباسيفيّة داخل الحزب ما لبثت أن أجبرت المجموعة البرلمانيّة على التنصّل من الحكومة، فاستقال الوزراء الاشتراكيّون تباعاً، وفي 1917 انتهت تجربة المشاركة قصيرة العمر التي كشفت بعض خلائط الحزب، تعدّداً للرؤوس وخصوبةً في الانتهازيّة، والأهمّ، صعوبة التساوق بين قوّته الشعبيّة وفعّاليّته السياسيّة، وهو ما لا يلبث أن يرتدّ سلباً على تلك القوّة.
مؤتمر تور و… ليون بلوم
لئن استحقّ غيسد، في الأوساط الراديكاليّة، وصف «الشوفينيّ الاجتماعيّ»، سيّما وأنّه رفض الاستيلاء البلشفيّ على السلطة في روسيا، ثمّ، في 1920، كما سنرى لاحقاً، آثرَ البقاء في الحزب الاشتراكيّ ولم ينشقّ مع الذين أسّسوا الحزب الشيوعيّ، فإنّ انتخابات 1919 العامّة عبّرت عن مزاج وطنيّ مغاير. فقد لقي الاشتراكيّون المناهضون للحرب هزيمة كبرى، وظهرت أغلبيّة يمينيّة عُرفت بـ«الكتلة الوطنيّة»، ما مهّد لتشكيل حكومات يمينيّة متطرّفة في مطالع العشرينيات.
لكنّ الاشتراكيّين، في المقابل، شرعوا يجتذبون الكثيرين من الأعضاء الجدد، بمن فيهم متأثّرون بالثورة الروسيّة رأوا أنّ موجة التغيير الثوريّ ستكتسح أوروبا الغربيّة لا محالة. ومبكراً راح يبدو أنّ ثورة أكتوبر قد تنذر بإضعاف الوحدة الاشتراكيّة في فرنسا، تبعاً لانشقاق الاشتراكيّين حيالها.
ففي المؤتمر الثامن عشر للحزب الذي انعقد في مدينة تور، أواخر 1920، أيّدت ثلاثة أرباع المندوبين الانضمام إلى الأمميّة الثالثة التي أسّسها لينين. وأمام معارضة الأقلّيّة، انشقّ هؤلاء وأسّسوا الحزب الشيوعيّ. ثمّ في العام التالي، حصل انشقاق مماثل داخل الحركة النقابيّة، فغادرت الأكثريّةُ «الاتّحاد العامّ للعمل» (CGT) لتؤسّس «الاتّحاد العامّ للعمل الموحّد» (CGTU).
لقد ترك الانشقاق آثاره المدمّرة على غيسد، الذي حال تقدّمه في السنّ ومرضه دون حضوره مؤتمر تور. ومع أنّه بقي في الحزب الاشتراكيّ، ما عرّضه لمزيد من النقد الذي بدأ مع توزيره في 1914، فقد أحسّ، بكلماته هو نفسه، أنّه «ميّت ذو قلب مكسور»، متمنّياً لو أنّه توفّي قبل بضع سنين فلم يرَ «هذا المشهد الجحيميّ لبروليتاريا تنقسم على نفسها»Jean-Numa Ducange, Jules Guesde…, p. 48 & 164..
وبعد مؤتمر تور، نشأ حزب شيوعيّ يمجّد كوميون باريس، ويؤيّد بحماسة الثورة البلشفيّة عاملاً على توفير الدعم لها ونشر مبادىء لينين، فضلاً عن تبنّيه التحليل الماركسيّ الأرثوذكسيّ للصراع الطبقيّ. وكان من تحصيل الحاصل أن يقبل الشيوعيّون شروط لينين الـ21 للانضمام إلى الأمميّة الثالثة، بما فيها تبنّي المركزيّة الديمقراطيّة، ومناهضة المؤسّسات البرلمانيّة «البرجوازيّة»، والأخذ بنظريّة «ما العمل؟» في الحزب الطليعيّ المحترف. وعلى مدى العقد مضت «بلشفة» الحزب الجديد بعيداً، وراح يتصلّب نفوره من الوطنيّة الجمهوريّة «البرجوازيّة» لدى بعض أطراف اليسار.
لكنّ انشقاق تور لم يحل دون إعادة الحزب الاشتراكيّ بناء نفسه. ففيّ ظلّ قيادة ليون بلوم وبول فور (الذي انتهت حياته الاشتراكيّة بعد عقدين بانحيازه إلى ممالأة هتلر ثمّ حكومة فيشي)، حقّق الحزب نتائج باهرة في انتخابات 1924 متحالفاً مع الراديكاليّين الاشتراكيّين، ما تأدّى عنه تشكيل عدد من الحكومات الراديكاليّة والليبراليّة خلال 1924-1926. إلاّ أنّ التجربة هذه لم تبدّد التِباسَ الموقف الاشتراكيّ من التعاون مع الراديكاليّين، والذي بقي أمره خلافيّاً بينهم.
وفي محاولته شرح الظروف التي تبرّر للاشتراكيّين قبولهم تحمّل مسؤوليّة محدودة عن الحكومة وعملها، ميّز بلوم، نجم الحزب الصاعد، بين «ممارسة السلطة» ضمن إطار المؤسّسات السياسيّة القائمة، وممارستها في وضع ثوريّ. وقد عُدّ بلوم، المثقّف والناقد الأدبيّ والصحافيّ، امتداداً لخطّ جوريس الذي سبق أن شاركه العمل في الحملة لدعم دريفوس. وفي ما بين الحربين، بات المدافع الأوّل في حزبه عن الأفكار الراديكاليّة الجمهوريّة والاشتراكيّة، بمعناها الجوريسيّ. وبتأثيره، قرّر المؤتمر الحزبيّ في 1926 أن يتبنّى قراراً يعلن استعداد الاشتراكيّين لتولّي السلطة، إمّا وحدهم أو مع ممثّلي أحزاب أخرى، شريطة امتلاكهم الأغلبيّة و«الصوت المرجّح في القرارات»B. D. Graham, Choice and Democratic OrdONer…, p. 9..
لقد أحرز الاشتراكيّون والراديكاليّون، في 1924 و1932، نجاحات برلمانيّة ملحوظة، وتشارك الطرفان في ائتلاف يساريّ لم يكن دائماً مستقرّاً أو آمناً من التوتّر والنزاع. فالاشتراكيّون رفضوا الانضمام إلى حكومات ائتلافيّة برئاسة الراديكاليّين إدوار هيريو وإدوار دالادييه اللذين لم يستجيبا مطالبهم، وإذ فشل الطرفان في التوافق على السياسات الاقتصاديّة سقطت الحكومتان. والأهمّ، أنّ مسألة الاشتراك مع الراديكاليّين في حكومة واحدة إنّما أدّت، مطالع الثلاثينيات، إلى انشقاق من عُرفوا بـ«النيو اشتراكيّين» الموصوفين باليمينيّة. ذاك أنّ عدداً من نوّابهم بدا مستعدّاً لمنح حكومة دالادييه دعماً غير مشروط، وصوّت هؤلاء، في آذار 1933، موافقين على موازنتها العامّة بما فيها تقديماتها للجيش. ومجدّداً تبدّى الاختلاف بين قاعدة أشدّ يساريّة وكتلة نيابيّة أكثر انغماساً في العمل البرلمانيّ. هكذا انعقد مؤتمر استثنائيّ في نيسان، في أفينيون، تلاه آخر بعد أشهر مُسفراً عن طرد ستّة هم «قادة المتمرّدين» «النيو اشتراكيّين» ممّن وصفهم الحزب بالضعف حيال إغراءات التوزيرالمرجع السابق، ص. 10-11..
وكان معتدلو الحزب، وعلى رأسهم البرلمانيّ والصحافيّ بيار رينودِلّ، دعاة التورّط في السياسات البرلمانيّة، وصولاً إلى تشكيل حكومات ائتلافيّة مع الراديكاليّين. أمّا بلوم فكان أقلّ منهم تشديداً على تلك السياسات التي ترتدّ على صاحبها بصفة «اليمينيّة». وبالفعل ما لبث «النيو اشتراكيّين» هؤلاء أن اندمجوا مع «الحزب الجمهوريّ الاشتراكيّ»، المصنّف يسار التيّار الجمهوريّ الراديكاليّ ويمين الاشتراكيّين، لينشئوا معاً، في 1935، «الاتّحاد الاشتراكيّ الجمهوريّ» الذي ضمّ أعياناً ومثقّفين دون أن يغدو حزباً جماهيريّاً، بحيث كفّ عن الوجود بعد الحرب العالميّة الثانية.
«الجبهة الشعبيّة»
وبما يغري الاشتراكيّين بالخيار اليساريّ، غيّرَ السوفييت والشيوعيّون، في 1934، خطّهم العصبويّ، فالتقت أحزاب اليسار كلّها في «الجبهة الشعبيّة» التي فازت في انتخابات 1936، كما جاءت ببلوم كأوّل رئيس حكومة اشتراكيّ في فرنسا. وللمرّة الأولى حصل الاشتراكيّ في انتخابات ذاك العام على أصوات ومقاعد تفوق حصّة الراديكاليّين، وغدا الحزب الأكبر في البرلمان مُشكّلاً عمود الأكثريّة البرلمانيّة اليساريّة الفقريّ. وكان ملحوظاً أنّ المعتقديّة الماركسيّة التي بقيت تلازم قاموس الاشتراكيّين لم تَحُلْ دون إقرارهم الالتزام بالجمهوريّة البرلمانيّة والعلمانيّة مصحوبَتين بالوطنيّة اليعقوبيّة.
والحال أنّ هذه المشاركة في «الجبهة الشعبيّة»، ومن موقع قياديّ، أخرجت الاشتراكيّين من العزلة النسبيّة للعشرينيات، وحرّرتهم من مشكلة الاختيار بين المشاركة الحكوميّة والمعارضة، كما في 1932 و1933. لكنّ وضع الحزب في التحالف الجديد لم يكن سهلاً. فهو بدا مطالَباً أن يشرح لأعضائه أنّ الغرض من مشاركته الحكوميّة تحصين الجمهوريّة في مواجهة الخطر الفاشيّ ومحاولة تطبيق الإصلاحات التي اتّفق عليها المؤتلفون، دون أن يعني ذلك تطبيق السياسات الخاصّة بالحزب نفسه. كذلك كان عليه أن يواجه احتمالاً يمليه الصراع ضدّ الفاشيّة، وهو توطيد الصداقة، ليس فقط مع بريطانيا والولايات المتّحدة، بل أيضاً مع الاتّحاد السوفييتيّ، وهذا عِلماً بأنّ الحساسيّة الأقوى في القاعدة الحزبيّة كانت تحبّذ التوصّل إلى سلام دائم عبر نزع سلاح تشرف عليه عصبة الأمم. وإلى هذا، انطوت «الجبهة الشعبيّة» على درجة من التنافس المتواصل، إنّما الملجوم، بين مكوّناتها. ومع أنّ الاشتراكيّين بدوا على ثقة من تجاوزهم قوّةَ الراديكاليّين، فقد أبقوا أعينهم مفتوحة على الشيوعيّين، خصوصاً في البيئة النقابيّة والمناطق الصناعيّة، وبالأخصّ ضواحي باريس الشماليّة. وأخيراً، تخوّف الاشتراكيّون من أن يَحولَ التمسّك بحذافير النهج الاقتصاديّ والماليّ المعمول به دون تأمين التمويل للإصلاحات الموعودةالمرجع السابق، ص. 11-12..
ووفق غراهام، بدت ارتباكات الحزب الاشتراكيّ ظاهرة في مداخلات بلوم لدى مقارباته القضايا النظريّة، محاذراً تطوير أفكار نهائيّة وقاطعة. فهو بدا مستعدّاً لمناقشة بعض أفكار ماركس، بما فيها الماديّة التاريخيّة والعلاقة بين الطبقات ونظريّة القيمة، موافقاً على أنّ النظام السياسيّ القائم هو، بمعنى ما، نتاج البرجوازيّة، وأنّه لا بدّ من استبداله، في لحظة ما، بنظام جماعيّ جديد. لكنّ بلوم اعترض دائماً على «تطوير» لينين لتلك الأفكار، مجادلاً بأنّ ديكتاتوريّة البروليتاريا ليست هدفاً بذاتها. وهو لئن لم يرفض الفكرة بالمطلق، رأى أنّها قد تجد تبريراً ما إذا عُبّد طريقها مسبقاً عبر تعليم الطبقة العاملة وإحداث تغييرات استباقيّة في الاقتصاد حتّى يكون أيّ ترتيب انتقاليّ عابراً وقصيرَ الأمد. أمّا همّه الديمقراطيّ فقاده إلى رفض أفكار الحزب الطليعيّ والديمقراطيّة المركزيّة، معتبراً أنّ على حزبه أن يكون منفتحاً وديمقراطيّاً كي يتمكّن من تثقيف الطبقة العاملة بدورها المستقبليّ في المجتمع. ودون أن يشجب نظريّة الثورة كشرط ضروريّ للاشتراكيّة، ظلّ يعتبر أنّ الإصلاحات الأساسيّة ممكنة من داخل المؤسّسات البرلمانيّة في الجمهوريّة الثالثة.
لكنّ غراهام يَمضي خطوة أبعد في قراءته أفكار بلوم الذي لم يرَ في «الجبهة الشعبيّة» مجرّد تحالف سياسيّ مفيد. فهو رآها، في المقابل، وبالدرجة الأولى، ائتلافاً بين مجموعات اجتماعيّة لا يقف هدفها عند بلوغ برنامج إصلاحيّ، بل يتعدّاه للحفاظ على البنية القائمة للحقوق الفرديّة والمؤسّسات الديمقراطيّة. وكان شغب اليمينيّين المتطرّفين الذي عرفته شوارع باريس في شباط 1934، بُعيد وصول النازيّين إلى السلطة في ألمانيا وقبل سنتين على حكومة «الجبهة الشعبيّة»، قد نبّهه إلى أنّ الجمهوريّة نفسها في خطر، وأنّ واجب الاشتراكيّين هو أن يحكموا من داخل الوضع (الجمهوريّ والديمقراطيّ) القائم، بحيث يتجاوز عملهم تنفيذ الإصلاحات إلى الدفاع عن النظام البرلمانيّالمرجع نفسه، ص. 35..
على أنّ حظوظ «الجبهة» كانت سيّئة. ففضلاً عن الظروف الكئيبة، الأوروبيّة والدوليّة، التي استدعت وجودها أصلاً، ترافقت حكومتها مع كساد ضخم حدَّ من إمكانيّة الإصلاحات الاجتماعيّة. فقد تأدّى عن الكساد بطالة ما يقارب المليون ونصف المليون، فيما تكاثرت الروابط والتنظيمات الفاشيّة وشبه الفاشيّة التي سبق أن هدّدت، عبر أعمال الشغب التي أشير إليها، بإطاحة الجمهوريّة.
أمّا النتيجة الإيجابيّة التي تحقّقت لليسار فتمثّلت في إعادة توحيد الحركة النقابيّة استجابةً للخوف المشترك من الفاشيّة كما للتقاربين المستجدّين الشيوعيّ- الاشتراكيّ والفرنسيّ- السوفياتيّ. هكذا، ارتفعت عضويّة «الاتّحاد العامّ للعمل» (CGT)، بعد استعادته وحدته، إلى 5.3 مليون عضو في 1936، بينما لم يكن يتجاوز المليون لحظة استعادة الوحدة عام 1935. وفي قطاع التعدين وحده نما العدد من 50 ألفاً في شباط (فبراير) 1936 إلى 775 ألفاً بعد عامPAUL V. DUTTON, ORIGINS OF THE FRENCH WELFARE STATE: The struggle for social reform in France 1914-1947, Cambridge, 2004, p. 137.
وما بين حدّي الكساد ومحدوديّة القدرة الحكوميّة، وموجة التحرّكات المطلبيّة غير المسبوقة التي أطلقها الانتصار الانتخابيّ لليسار، توصّل بلوم إلى اتّفاقات مع النقابات رفعت الأجور لمعظم العمّال الصناعيّين ما بين 12 و15 بالمئة، علماً بأنّ ارتفاع الأسعار قضم معظم هذا الإنجاز، كما شرّع نوّاب الأكثريّة الاشتراكيّة- الشيوعيّة أسبوع عمل من 40 ساعة، وإجازات مدفوعة، وضمانات تحمي النشاط النقابيّ وتعزّز قدرته التفاوضيّة.
بيد أنّ قادة «الجبهة» وإن عَرفوا مبكراً الدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبه الفلاّحون والعمّال الزراعيّون في نجاحهم وفشلهم، فأفعالهم لم تدلّ، بحسب ديتّون، على أنّهم فهموا حياة الريف ومسائلها. ولا يلبث الكاتب أن يقارنهم بجوريس الذي كان له، قبل أربعين سنة، دورٌ بارزٌ في دفع الاشتراكيّين إلى موقع أشدّ تفهّماً للفلاّحين ذوي الحيازات الصغيرة، فيما لجأ بلوم ووزير زراعته الاشتراكيّ جورج مونّيه إلى إجراءات أخضعت المحصول الريفيّ، بطريقة فوضويّة وشديدة التحيّز، لمصالح عمّال المدن وحاجاتهمالمرجع السابق، ص. 145-6 و159..
غي موليه
سريعاً ما انهارت حكومة «الجبهة الشعبيّة» بسبب السياسة الاقتصاديّة كما بسبب الحرب الأهليّة الإسبانيّة. فالشيوعيّون لم يسامحوا بلوم على عدم تدخّله لصالح الجمهوريّين الإسبان، وعلى ميوله التسوويّة في ما خصّ العمل التشريعيّ لـ«الجبهة»، فضلاً عن امتعاضهم الضمنيّ من نجاحه في المحافظة على الحزب الاشتراكيّ وتقويته بعدما بدا، في تور، أنّه محكوم بالبقاء مجرّد حزب أقلّيّ.
وكان لانهيار«الجبهة» أن أدّى إلى انشقاق يساريّ داخل الاشتراكيّ قاده مارسو بيفير ونشأ عنه «الحزب الاشتراكيّ للعمّال والفلاّحين»، فيما تعرّضت القيادة الحزبيّة، والأكثريّة التي تُواليها، لهجمات عقائديّة تسند نفسها إلى مقدّمات نظريّة وفلسفيّة متشدّدة. أمّا النتيجة الأبرز للانهيار وما لازمه من تفتّت اليسار وتراجع معنويّاته، فكانت تنامي عجزه عن مقاومة انهيار الجمهوريّة الثالثة بعد الهزيمة العسكريّة أمام الألمان في 1940.
لقد صوّت معظم نوّاب الحزب ضدّ منح الجنرال بيتان مزيداً من الصلاحيّات، وخلال الحرب شارك كثيرون من الاشتراكيّين في المقاومة، متعاونين مع الجنرال ديغول. أمّا الشيوعيّون فاحتلّوا موقعهم الكبير فيها منذ 1941، بدخول الاتّحاد السوفييتيّ الحرب مع انهيار معاهدة مولوتوف- ريبنتروب الموقّعة صيف 1939. هكذا وبعدما أخرجهم الموقف السابق على 1941، ولو خطوة خطوة، من نطاق السياسات الوطنيّة، كما حُلّ حزبهم في أيلول 1939 وطُرد ممثّلوه من البرلمان مطالع 1940، عثر الشيوعيّون في المقاومة على رصيد يتجاوز كثيراً رصيد الاشتراكيّين.
وبناء على سجلّهم المقاوم منذ 1941، باتت حصّة الشيوعيّين الانتخابيّة خمسة ملايين صوت، وغدوا الحزب الأقوى في الجمهوريّة الرابعة. أمّا الاشتراكيّون الذين أَبعدوا من صفوفهم الباسيفيّين ومؤيّدي حكومة فيشي، فباتوا يحظون بتأييد أكثر من خُمس السكّان، محتلّين الموقع الحزبيّ الثاني. غير أنّ الوضع الداخليّ لحزبهم لم يكن على ما يرام. فمؤيّدو غي موليه، وهم يساريّو الحزب دون أن يكونوا حصراً كذلك، شكّلوا أحد الأجنحة الكثيرة التي ضمّت أصحاب مصالح وتطلّعات متنافرة تجمع بينها محاولة الوصول إلى السلطة بقيادة موليه، وهذا علماً بأنّهم لم يكونوا عديمي التذكير، عملاً بالتقليد الفرنسيّ، بموضوعات من طبيعة عقائديّة ومعتقديّة.
لكنّ كثرة الأجنحة والطابع الفِرَقيّ لعملها هما ما يردّه غراهام جزئيّاً إلى المعتقدات والأساطير الكثيرة والمتضاربة التي سادت الحزب في الثلاثينيات. فـ«أساطيره عن أصوله بدت شديدة التعقيد، تشمل صوراً عن ثورات 1789 و1831 و1848، بوصفها، وعلى نحو متزايد، تعابير تصوغ أفكاراً جماعيّة وتقدّم تأويلات خاصّة لكوميون باريس ولتأسيس الجمهوريّة الثالثة ولقضيّة دريفوس، وقبل كلّ شيء آخر، لتشكّلها هي نفسها في 1905». غير أنّ هذا التضارب في المصادر وفي تعقّلها وتخيّلها لم يردع الاشتراكيّين جميعاً عن المضيّ في إبداء الاحترام اللفظيّ للميثاق التأسيسيّ الذي وُضع عامذاك، وللتسويات التي رافقت الولادة، فضلاً عن استمرارهم في الإقرار بالأدوار الرياديّة لغيسد وجوريسB. D. Graham, Choice and Democratic Order…, p. 386..
فلئن حالت العشرينيات دون ظهور الأزمات الداخليّة، بسبب الانشغال بالانشقاق الذي أحدثه مؤتمر تور، فإنّ الثلاثينيات والأربعينيات غدت أشدّ ترشيحاً لانفجارها، كما ظهرت محاولة آيلة إلى استبدال الميثاق التأسيسيّ ببيان عقائديّ جديد. ولئن وَضعَ بلوم إعلان مبادىء وُزِّع على الحزبيّين عشيّة مؤتمر باريس صيف 1945، ليكون هذا البيان البديل، فإنّ الاعتراضات عليه أخّرت عرضه وعدّلته قليلاً، بحيث أقرّته الجمعيّة الوطنيّة للحزب في شتاء 1946. أمّا موافقة الأكثريّة عليه فجاءت نتيجةً لعوامل ضاغطة عدّة، منها الاحترام الذي حظي به بلوم والتعامل مع الوثيقة كأنّها «شهادته» الشخصيّة، والاعتقاد بأنّ سنوات الاحتلال وحكومة فيشي تتطلّب جديداً ما، إذ «تُمثّل قطعاً في استمراريّة التاريخ الفرنسيّ [بحيث] ينبغي إعادة بناء النزعتين الجمهوريّة والاشتراكيّة على أسس جديدة». وأخيراً، كان هناك التحدّي الذي طرحته قوّة الحزب الشيوعيّ ومحاولته «تشكيل حزب ماركسيّ موحّد» يقوم على مبدأ المركزيّة الديمقراطيّة وعلى الماركسيّة- اللينينيّة، ويكون عمليّاً بديل الميراث الديمقراطيّ والاشتراكيّ للاشتراكيّين. ذاك أنّ القلق الذي تسبّبت به قوّة الشيوعيّين، وهو ما سيبقى لثلاثة عقود عنصراً مقرّراً لسلوك الاشتراكيّين، أشعر الكثيرين منهم «بأنّ إظهار تميّز الاشتراكيّة الفرنسيّة الحديثة وراهنيّتها بات أهمّ من إحياء الماضي لأسباب عاطفيّة». لكنْ مع ذلك، أثارت الروحيّة الليبراليّة والإنسانويّة لإعلان بلوم حفيظة موليه والنيو غيسديّين ممّن هاجموا نصّه «بحجج مستقاة من صيغتهم الخاصّة بالأرثوذكسيّة الماركسيّة، والمبنيّة على معتقدات تقول بأولويّة الصراع الطبقيّ (…) وحتميّة الثورة السياسيّة»المرجع السابق، ص. 388-9..
دولة الرفاه
لقد شكّل ديغول، في غضون أسابيع على تحرير الحلفاء باريس، صيف 1944، حكومة وحدة وطنيّة امتصّت جزئيّاً نزاعات قوى المقاومة ومنافساتها، ضامّةً أربعة اشتراكيّين وثلاثة مسيحيّين اجتماعيّين وثلاثة راديكاليّين وشيوعيّين اثنين ومحافظاً واحداً وتسعة مستقلّين. وكان تشكيلها هذا إقراراً بقوّة اليسار كما بضعف اليمين في مناخ ما بعد التحرير.
وعاود الاشتراكيّ ظهوره متحالفاً مع الشيوعيّ، وكذلك مع «الحركة الجمهوريّة الشعبيّة»، وهي مسيحيّة ديمقراطيّة ذات نزعة إنسانيّة مناهضة للفاشيّة. وهو تحالف شكّل ركيزة بناء دولة الرفاه وقيام الجمهورية الرابعة، ما أطلق حقبة دامت ثلاثين عاماً «مجيدة» من النموّ والبحبوحة، فضلاً عن إعادة البناء.
فقد ساد حينذاك اتّفاق اجتماعيّ جمع اليسار إلى اليمين الديغوليّ حول إنشاء دولة الرفاه، علماً بأنّ ما كان يحرّك معظم الديغوليّين لم يكن المساواة بذاتها، بل إخراج فرنسا من تَخلُّفها ومن تراجع نسب الولادة فيها واستعادة دورها الأوروبيّ والعالميّ، خصوصاً بعد مذلّات الهزيمة والتعاون مع الاحتلال. ومن موقع قوميّ متفاخر بدا لِديغول أنّ برامج تشجيع العائلة وتحسين أحوال المواليد الجدد أساسيّة لتجديد «الأمّة» وإطلاقها.
وفي تأريخه دولة الرفاه، رأى بول ديتّون أنّ «المعركة بين الحرّيّة والواجب كانت الصراع الأظهر في خلق دول الرفاه الفرنسيّة والأوروبيّة الأخرى». فما حصل كان، في أحد وجوهه، معركة بين المُصرّين على رأسماليّة بلا قيود وقوى عديدة من الاشتراكيّين والكاثوليك الاجتماعيّين والتضامنيّينوجهة فكريّة وسياسيّة طرحها ودافع عنها السياسيّ ليون بورجوا (1851-1925) الذي موضعَ نفسه «بين الرأسماليّة والاشتراكيّة»، وهي ترتكز على مفهوم «التضامن» عند إميل دوركهايم. أفكار بورجوا، التي تركت تأثيرها على الحزب الراديكاليّ، دعت إلى ضرائب تصاعديّة ونظام ضمانات اجتماعيّة وتوفير فرص تعليميّة موسّعة. ممّن حبّذوا نُسَباً مختلفة من تدخّل الدولة خدمةً لهدف الرفاه العامّ. ولئن واظب كثيرون من القادة السياسيّين على رفض أيّ برنامج حكوميّ «يساعد العاملين الفقراء متى كانوا ذوي جسم سليم»، فقد بدت الكنيسة في وارد آخر ساهم في تعديل موازين القوى، مستندةً إلى موقف البابا ليو الثالث عشر حين أصدر في 1891 رسالته الدوريّة للمطارنة (encyclical) التي حملت عنوان «التغيير الثوريّ» وتناولت «حقوق وواجبات رأس المال والعمل»، طالبةً من كبار الصناعيّين أن يدفعوا «أجوراً عادلة» لا تُحتَسَب «تبعاً لقانون العرض والطلب على نحو صافٍ». وكان للموقف البابويّ أن أطلق حركة قويّة في فرنسا، رسمت رقعة مشتركة بين ليبراليّي «دعه يمرّ» والاشتراكيّين التدخّليّين، علماً بأنّ الأخيرين مضوا في انتقادهم الكاثوليك الاجتماعيّين لارتكاز أجندتهم على «المناشدات الموجّهة إلى حسّ الواجب الأخلاقيّ» عند أرباب العمل، ما يهدّد بأوضاع أبويّة لا توفّر للعمّال الضمانات الاجتماعيّة المطلوبة على نحو صارم ومُلزم. لكنْ يبقى أنّ الموقف الكنسيّ عبّد الطريق إلى تحالف سياسيّ ضيّق يقتصر على طلب الرفاه أنظر: PAUL V. DUTTON, ORIGINS…, p. 5-7.
على أنّ التحالف الاشتراكيّ الشيوعيّ لم يصمد. ففي أيّار 1947، مع مشروع مارشال وعشيّة اندلاع الحرب الباردة، فصل رئيس الحكومة الاشتراكيّ بول رامادييه الوزراء الشيوعيّين من حكومته. وتجاوباً مع الأوضاع الجديدة، اقترح بلوم بناء قوّة ثالثة تجمع اليسار واليمين الوسطيّين لمواجهة الشيوعيّين يساراً والديغوليّين يميناً. غير أنّ غي موليه، مدعوماً بيسار الحزب، تغلّب على دانيال ماير، المرشّح للقيادة كامتداد لخطّ بلوم والمهندس المحتمل لـ«القوّة الثالثة». وهكذا استمرّ موليه في قيادة الاشتراكيّين ما بين 1946 و1969، متحدّثاً بلغة ماركسيّة دون أن يطرح تساؤلات جدّيّة حول المسائل العمليّة كالتحالف مع الوسط ويمين الوسط. وفي الحالات كافّة فهو ذكّرَ كثيرين بغيسد وما نُسب إليه من «عناد ماركسيّ» تماماً كما سبق لبلوم أن ذكّرهم بجوريس.
لكنْ، وتكراراً لتجربة غيسد في 1914، بدا أنّ «العناد الماركسيّ» لموليه محكومٌ هو أيضاً بحدود يتّصل بعضها بمصالح الدولة، وفق تأويل معيّن لها، وبعضها يتّصل بمصالح الحزب.
فإبّان حكومة رامادييه، وقبل إبعاد الشيوعيّين، بدأت موجات إضرابات عمّاليّة، مطلبيّة وعفويّة، واجهها الحزب الشيوعيّ بالحذر إن لم يكن العداء. لكنْ بعد طرد ممثّليه من الحكومة، انضمّ الشيوعيّون إلى الحركة مضيفين إلى أهدافها المعلنة رفض مشروع مارشال. وإذ توسّع الإضراب ليشمل ثلاثة ملايين، راحت تتزايد الأصوات غير الشيوعيّة التي تربط بينه وبين سياسات الكومنترن في «إضعاف الغرب». وفي مواجهة التحدّي هذا ردّت الحكومة بخليط من رشوة ماليّة (علاوة قيمتها 1600 فرنك، ومبلغ 900 فرنك يُدفع مرّة واحدة) واستخدام متشدّد للقمع الذي مارسه آلاف الجنود. وكان من نتائج الحدث هذا أن انشقّ مجدّداً «الاتّحاد العامّ للعمل» فاختارت أكثريّته التمسّك بسياسات الحزب الشيوعيّ، فيما شكّلت أقلّيّته «الاتّحاد العامّ للعمل – القوّة العمّاليّة».
لقد كان على الحزب الاشتراكيّ، خلال الحرب الباردة، وبوصفه مدافعاً عن الجمهوريّة البرلمانيّة، أن يشارك في حكومات ضعيفة تنهض على ائتلافات تضمّ أحزاب الوسط، بهدف «الحدّ من مخاطر» القوى الموصوفة بمناوأة النظام، كاليسار الشيوعيّ واليمين البونابرتيّ الديغوليّ. وفي تلك الحقبة التي شهدت أوسع تعاون بين الاشتراكيّين والجمهوريّين الراديكاليّين، بدأت المزاعم الإيديولوجيّة الأرثوذكسيّة تتراجع أمام تقارب اشتراكيّ جمهوريّ يقابل تماهي الشيوعيّين مع يساريّة ثوريّة تواكب الموقف السوفييتيّ.
مع هذا المنعطف الذي لم ترافقه أيّة مراجعة نظريّة، وفي ظلّ قوّة الشيوعيّين والديغوليّين، شرعت عضويّة الحزب الاشتراكيّ، منذ 1945، تنخفض بصورة متسارعة لتستقرّ على 140 ألفاً في 1951، وفي الانتخابات التي أجريت في الأربعينيات والخمسينيات بدا كأنّ شعبيّة الحزب باتت تدور حول معدّل 15 بالمئة. وفيما راحت علاقاته بالشيوعيّين تتدهور، فإن مشاركاته في عدد من حكومات الخمسينيات الضعيفة وغير المستقرّة للجمهوريّة الرابعة لم تَعُد عليه بغير الضرر.
وفي هذه الغضون اهتزّت قيادة موليه حين انقسم الحزب، في 1954، حول مجموعة الدفاع الأوروبيّة. فموليه أيّدها من ضمن تصوّر متقدّم، ليس فقط في ما خصّ الدفاع عن أوروبا، بل أيضاً لاعتباره أنّ وحدةً أوروبيّة ما هي التي توفّر قاعدة لنموذج اشتراكيّ ديمقراطيّ أوروبيّ يقابل «الرأسماليّة الليبراليّة» للولايات المتّحدة و«رأسماليّة الدولة» في الاتّحاد السوفييتيّ. فإذ بدأت أوروبا، منذ اتّفاقيّة الفحم والقصدير أواخر الأربعينيات، تغدو شاغلاً للاشتراكيّين، حافظ يساريّو الحزب على معارضة الخطوات الاندماجيّة مع القارّة «التي تحكمها البُرجوازيّات».
لكنْ لاحقاً، ووسط هجوم شيوعيّ متواصل استهدف «تحالفات موليه اليمينيّة»، وردّ عليه الأخير بأنّ «الحزب الشيوعيّ ليس في اليسار بل في الشرق»، نجح الزعيم الاشتراكيّ في بناء ائتلاف ليسار الوسط، أو ما سمّاه القطب الراديكاليّ ورئيس الحكومة السابق بيار منديس فرانس «الجبهة الجمهوريّة».
ورغم الأحوال الداخليّة السيّئة لحزبه، تمكّن موليه من قيادة «الجبهة» الجديدة إلى فوز انتخابيّ سُمّي بنتيجته رئيساً لحكومة حظيت بأطول مدّة تحظى بها حكومات الجمهوريّة الرابعة، ونفّذت بعض الإصلاحات الاجتماعيّة. إلاّ أنّ سياستها في الجزائر، التي اتّسمت بفائض من القمع الوحشيّ، ما لبثت أن أسقطتها نتيجةً لاستقالة بعض وزرائها وعلى رأسهم منديس فرانس.
وكانت إحدى مسائل الاشتراكيّين الفرنسيّين، بل إحدى مسائل الحياة السياسيّة منذ الخمسينيات، موضوع «الرئاسيّة» التي ابتدأها ديغول والجمهوريّة الخامسة. ومع أنّ موليه كان أحد المساهمين في صياغة مسوّدة دستور الجمهوريّة المذكورة، كما أيّد مجيء ديغول إلى الحكم في 1958 بحجّة تجنيب البلاد الحرب الأهليّة، ثمّ انضمّ إلى حكومته وزيراً للدولة، فإنّ أكثريّة حزبه ومعظم اليسار عارضا، ولو بمقادير متفاوتة، الممارسة الرئاسيّة الديغوليّة، كما غادر بعض الاشتراكيّين حزبهم احتجاجاً. فإذا قُدّم ديغول مخلّصاً للأمّة من عدم الاستقرار الذي أغرق الجمهوريّة الرابعة، فإنّ ما قدّمه على هذا النحو لم يكن سوى انقلاب جاك ماسّو بالنيابة عن المستوطنين في الجزائر. وفقط بعدذاك جاء الاستفتاء تزكية أخرى له قبل أن يستكمل الانتخابُ شرعيّته.
وساهم الموقع النقديّ للقاعدة الاشتراكيّة في تسريع تحوّلها إلى «حزب جمهوريّ»، وبالتالي في تجذيرها كطرف برلمانيّ مدافع عن الديمقراطيّة والبرلمان. فالاشتراكيّون، كالحزب الراديكاليّ وآخرين يحتلّون مواقع «وسطيّة» في السياسة الفرنسيّة، اعتبروا أنّ الرئيس يكون غير شرعيّ حين يستعيد العمل بالشعبويّات الاستفتائيّة. ذاك أنّه، إذا ما كانت هناك حاجة إليه أصلاً، فلكي يكون شبيهاً بملك دستوريّ ينصح ويشجّع ويحذّر، لا أكثر. أمّا البرلمان فهو وحده ممثّل الشعب ومشرّعه والمالك الفعليّ للسلطة التنفيذيّة، يزيح الحكومات عند الضرورة ويستبدلها. فهو «السيّد» كونه يمثّل الإرادة الوطنيّة، فيما الشعب المصدر الأخير للشرعيّة.
وفي مناخ النقمة اليساريّة العريضة على سياسة موليه الجزائريّة وعلى موقفه من ديغول، وتذكيره البعض بالانعطاف الذي أقدم عليه غيسد حين تولّى وزارة الحرب، نشأ في 1960 «الحزب الاشتراكيّ الموحّد»، بنتيجة اندماج مجموعات اشتراكيّة متذمّرة ومجموعة شيوعيّة غادرت حزبها احتجاجاً على غزو هنغاريا في 1956. هكذا أدخل الحزب الجديد، الذي انتسب إليه 15 ألف عضو، مناهضةَ الاستعمار بنداً عريضاً في السياسات الاشتراكيّة الفرنسيّة، وهو سوف ينجب لاحقاً سياسيّاً سيكون له دور بارز في مسار الاشتراكيّة الفرنسيّة، هو ميشال روكار.
فرانسوا ميتران
في 1959 عاد الحزب الاشتراكيّ إلى المعارضة بعدما خيّبت سياسات ديغول الداخليّة آماله. لكنّ ستينيات الجمهوريّة الخامسة أنزلت به من الخسائر، تبعاً لتراكم سياساته المتذبذبة، ما فاق الخسائر التي تكبّدها في خمسينيات الجمهوريّة الرابعة. فبسبب معارضته مبدأ انتخاب الرئيس بالاقتراع الشامل والمباشر، ولأنّ إعادة انتخاب ديغول بدت حتميّة، لم يرشّح الحزب أحداً لانتخابات 1965 الرئاسيّة، مكتفياً بتأييد المرشّح فرانسوا ميتران. ومدعوماً بكافّة أحزاب اليسار، في أوّل تعاون اشتراكيّ- شيوعيّ منذ عقود، واجه ميتران منافسه الجنرال محرزاً نتيجة غير متوقّعة في الدورة الثانية جعلته أشبه بقائد «سرّيّ» لليسار غير الشيوعيّ. وبقيادته أسّس الاشتراكيّون والراديكاليّون والمجموعات الجمهوريّة اليساريّة «اتّحاد اليسار الديمقراطيّ والاشتراكيّ» مَوقِعاً ما بين الشيوعيّين والديغوليّة.
على أنّ سلوك ميتران يومذاك، والذي أعيد التذكير به بعد تولّيه الرئاسة في 1981، بدا لافتاً: فهو، في حملته، نسخ نمط السلوك الرئاسيّ لديغول وقدّم نفسه مرشّحاً فوق الأحزاب والكتل. هكذا نقلَ الإعلامُ خبرَ ترشّحه قبل أن يتبلّغه حزبا اليسار الكبيران الشيوعيّ والاشتراكيّ.
على أنّ «اتّحاد اليسار»، وقد وقف مرتبكاً أمام أيّار 1968 الذي فاجأ رموز السياسيّة التقليديّة وصدم حساباتهم، حصد نتيجة كارثيّة في الانتخابات التشريعيّة للعام نفسه، بحيث كفّ بعدها عن الوجود.
من جهة أخرى، وبحسب ناقد الشيوعيّة جان فرانسوا رِفِلّ، لم يتوقّع اليسار غير الشيوعيّ الأحداث التي جدّت في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. ذاك أنّه في أواخر تشرين الثاني 1967 نشرت مجلّة لو نوفيل أوبزرفاتور مقالة عن زيارة أدّاها ميتران ويساريّون غير شيوعيّين إلى براغ حيث التقوا الزعيم الشيوعيّ أنتونين نوفوتني. أمّا كاتب المقالة، كلود إستييه، الذي شارك في الوفد وأصبح لاحقاً، في 1972، الناطق بلسان الحزب الاشتراكيّ، فوصف نوفوتني بأنّه «اضطلع بالإشراف على مصير أمّته طوال عشر سنوات»، وأنّه «مصحوباً بجيل قياديّ جديد حيويّ ومستقيم الوجهة، غيّر البلد سياسيّاً وحوّل اقتصاده»Jean-Francois Revel, THE TOTALITARIAN TEMPTATION, Penguin, 1977, p. 81..
وفي 1969، بعد استقالة ديغول الذي هزمه الاستفتاء، لم يستطع المرشّح الاشتراكيّ للرئاسة، محافظ مرسيليا الموصوف باليمينيّة، غاستون ديفّير أن يجمع ما يزيد عن الـ5 بالمئة من الأصوات، عاجزاً عن بلوغ الدورة الثانية، ما أوحى بأنّ القوّة التي عرفها الحزب قبل عقدين باتت ماضياً ميّتاً. لقد خيضت المعركة، التي أرادت تقريب الاشتراكيّين من أطراف الوسط غير الديغوليّ، بكثير من الارتجال والفوضى، ولم يَستطِع ترشيح مانديس فرانس لنيابة الرئيس، إلى جانب ديفّير، وهو المرجعيّة الأخلاقيّة لعموم اليسار، أن يُحدث فارقاً يُذكر. وإذ لم تُثر الانتخابات حماسة القاعدة الاشتراكيّة والمتعاطفين معها، فقد رشّح الشيوعيّون جاك ديكلو الذي لم يصل، هو الآخر، إلى الدورة الثانية التي انحصرت بين رئيس مجلس الشيوخ الوسطيّ آلان بوهير ورئيس الحكومة الديغوليّ السابق جورج بومبيدو الذي فاز.
لكنّ الحدث الكبير الآخر للحزب عامذاك كان مؤتمر ألفورتفيل، حيث استُبدل اسم «الفرع الفرنسيّ للأمميّة العمّاليّة» بـ«الحزب الاشتراكيّ» الذي ضمّ أيضاً بعض جماعات يساريّة وجمهوريّة، فيما انتُخب آلان سافاري، الداعي إلى «حوار إيديولوجيّ» مع الشيوعيّين، أميناً عامّاً مدعوماً من موليه.
وبدا أنّ سافاري وجه انتقاليّ يمهّد لمنقذ، لن يكون سوى ميتران، ولو جاء من خارج الحزب. وهو واقع كرّسه مؤتمر إبيناي الحزبيّ في 1971، مع انضمام النجم الصاعد والوافد الجديد إلى الحزب واختياره، في الوقت عينه، قائداً له. هكذا بات المشروع الاشتراكيّ كلّه محكوماً، وقبل أيّ اعتبار آخر، بإيصاله إلى رئاسة الجمهوريّة.
على أنّ هذا التركيز الرئاسيّ جافى المعركة التي خيضت ضدّ الديغوليّة ومفهومها للرئاسة، حيث اعتُبرت الجمهوريّة الخامسة غير جمهوريّة، لا بل أحياناً غير دستوريّة، ما ينيط بالاشتراكيّين مهمّة تصويبها عبر الإمساك بهذا الموقع. ولم يكن الدور الموعود هذا بعيداً من طبيعة العلاقة بالشيوعيّين، إذ هي غير تنافسيّة في هذا الحيّز تحديداً تبعاً لاستحالة وصول واحد منهم إلى الموقع المذكور. وإلى ذلك، وفي الوجهة ذاتها، حظي ميتران شخصيّاً بدعم مؤيّدين غير مسيّسين بالضرورة، ولأسباب تخصّه بوصفه شخصيّة سياسيّة، كما حظي بفريق من المستشارين خاصّ به، لا بالحزبأنظر: David S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p. 83..
والواقع أنّ ما سهّل الميل إلى الشخصنة، في الحزب الاشتراكيّ، أنّ قائده ليس بالضرورة، أو دائماً، أمينه العامّ، فلا جوريس ولا بلوم كانا الأمينين العامّين لحزبهما. فهو قد يكون شخصيّة سياسيّة أو مرجعيّة أخلاقيّة يتمتّع بوزن يتعدّى النطاق التنظيميّ ويُقَرّ له بهذا الدور على نطاق وطنيّ. كذلك ما من سبب دستوريّ يوجب أن يكون الأمين العامّ هو رئيس الحكومة أو المرشّح الرئاسيّ للحزب، وهي قاعدة شذّ عنها موليه الذي تولّى أمانة الحزب العاّمة في 1946 ثمّ تولّى رئاسة الحكومة في 1956-7المرجع السابق، ص. 92-3 و47-8..
لكنّ قياديّة ميتران بدت أيضاً، وتبعاً لبراعة صاحبها، قابلة للتكيّف مع واقع الفِرَق والأجنحة الذي ميّز الاشتراكيّين الفرنسيّين منذ نشأتهم عن باقي أحزاب الأمميّة الثانية. هكذا، وكما سنرى لاحقاً، اصطبغت الحياة الداخليّة للحزب بمدى قوّة الأجنحة والرموز كما تستظهر نفسها في القرارات التي تُقرّ وتُعتمَد إبّان المؤتمرات الحزبيّة. وهذا ما وضع التضافر حول ميتران في جوار تناثرٍ لا يحول دون انفجاره سوى استمرار ذاك التضافر.
بيد أنّ قيادة «المخلّص» ميتران تسبّبت، مع هذا، بتعافٍ تدريجيّ راح يشهده الحزب الذي عثر على قائد واعد. فهو اعتُبر تجسيداً ناجحاً لإصرار اليسار على الفوز بالرئاسة، ما أتاح للاشتراكيّين استعادة تأييد قطاعات ملحوظة من الطبقة العاملة، محافظين على قواعدهم التقليديّة بين المثقّفين، ومحقّقين اختراقات في أوساط المزارعين والموظّفين ذوي الياقات البيضاء وصولاً إلى أصحاب دكاكين ومزارعين وكاثوليك مؤمنين. وفعلاً تضاعف عدد الحزبيّين في غضون سنوات قليلة.
وكان لبُّ الاستراتيجيّة الميترانيّة الحصول على الدعم الانتخابيّ لملايين الشيوعيّين عبر إغرائهم بحضور مباشر في متن النظام. فميتران عرَف المعروف من أنّ الاشتراكيّ لن يفوز بدون التحالف مع الشيوعيّ، إذ على عكس اشتراكيّي ألمانيا وبريطانيا، حيث الشيوعيّون قوّة هامشيّة، كان تحدّيهم ماثلاً بقوّة في فرنسا ومطروحاً دائماً على اشتراكيّيها.
هكذا تجاوز النجم الصاعد «الحوارَ الإيديولوجيّ» معهم إلى اقتراح برنامج انتخابيّ مشترك، وهو ما وُقّع فعلاً في 1972 بعدما ضُمّ إليه «حزب راديكاليّي اليسار» الجمهوريّ الليبراليّ الجانح يساراً (والذي ما لبث أن تقلّص قبل أن يتشرذم فِرَقاً يساريّة ويمينيّة صغرى).
وبرغم الاتّفاق الذي عبّر عنه البرنامج، لا سيّما لجهة توسيع دولة الرفاه وتأميم الصناعات الكبرى، ظلّ التوتّر الموسميّ يشوب علاقة الحزبين وينمّ عن شكّ كلّ منهما بنوايا الآخر. فالشيوعيّون مثلاً طرحوا أن يشمل البرنامج تعهّداً بحلّ الجمعيّة التشريعيّة في حال انهيار الاتّفاق بين الحزبين، ما يمنحهم سلطة التحكّم بحياة البرلمان نفسه، لكنّ مطلبهم هذا لم يُلبَّ فيما كانت صورة ميتران «الرئاسيّة» وقوّة تأثيره يواليان صعودهما وإلحاق الحياة السياسيّة لليسار بهماالمرجع السابق، ص. 86-7..
غير أنّ التحالف «الميترانيّ» حول البرنامج تمكّن من الصمود تبعاً لعجز طرفيه الرئيسين عن التخلّي عنه. فالتوصّل إلى هذا التحالف إنّما وُلد أصلاً من نتائج العجز الشيوعيّ عن بلوغ المتن السياسيّ ومن فشل الاستراتيجيّات الاشتراكيّة السابقة المحكومة باستبعاد الشيوعيّين. ذاك أنّهم حاولوا بدايةً تجريب بديل للديغوليّة يكون يساريّاً- وسطيّاً لا يضمّ الحزب الشيوعيّ، ويلتفّ حول المرشّح الرئاسيّ الاشتراكيّ ديفّير. لكنّ المحاولة لاحت قليلة الجدوى في 1969، سيّما وقد ترافقت مع اتّضاح الصعوبات التي تحيق ببناء تحالف مع الوسط المسيحيّ الديمقراطيّ المنزاح أكثر فأكثر إلى اليمين، ما يعني برنامجاً يحرم الاشتراكيّين كلّ قدرة على منافسة الشيوعيّين على أصوات الطبقة العاملة. ولم يكن سوى ميتران صاحب الاستنتاج المفارق والمبكر، والخبيث بمعنى ما، من أنّ الاشتراكيّين لن يستطيعوا منافسة الشيوعيّين إلاّ في ظلّ التحالف معهم.
لقد كان واضحاً من البداية أنّ الطرفين، الاشتراكيّ والشيوعيّ، يبغيان شيئين مختلفين، والمؤكّد أيضاً أنّ الشيوعيّين لم يرغبوا في مساعدة ميتران على إعادة بناء حزبه وتجديده بما يجعله منافساً لهم على الطبقة العاملة. وهم، بحسب مورتيمور، عرَفوا أنّ هذه بالضبط هي نيّة ميتران لأنّه أصلاً لم يُخفِها، لكنّهم ربّما ظنّوا أنّ حظوظ نجاحه في مهمّته ستكون ضئيلة. فالحزب الاشتراكيّ لم يكن في الستينيات حزباً نشِطاً ولا موضع تقدير شعبيّ عالٍ بسبب مشاركاته الكثيرة، بالمبرّر منها وغير المبرّر، في الحكومات، كما بسبب منافساته وصراعاته الداخليّة، خصوصاً وقد غادره عدد من كوادره العليا الموهوبة. أمّا غي موليه، أمينه العامّ منذ 1946، فكان اسمه غالباً ما يُربط بمساومات الجمهوريّة الرابعة وبالحرب الجزائريّة. وكان لمهارة موليه في المناورات الذكيّة أن أبقته على رأس الحزب، ثمّ جاء فشل ديفير ليقوّي قبضته كنجم أوحد، فيما لم يخلُ تأييده ميتران، مرشّحاً رئاسيّاً في 1965 ثمّ قائداً للحزب، من حسابات دقيقة، كما يرجّح مورتيمور: ذاك أنّ مرشّحاً رئاسيّاً من خارج الحزب لن يطرح أيّ تحدٍّ جدّيّ عليه في داخل حزبه، وهو يستطيع أن يمنع أيّة محاولة منه، أو من سواه، لإحداث تغيير في جسم سياسيّ ساهم في صنعه وعرفه كما يعرف كفّه.
وبدورهم ظنّ الشيوعيّون أنّ ائتلافاً كهذا يعطيهم الصوت التقريريّ، بحيث تُستأنف المسيرة التي بُترت في 1947 بسبب مشروع مارشال واستبعاد وزرائهم. أمّا أن تعاود الولايات المتّحدة الضغط لعزلهم أو إضعافهم فهذا سيكون أصعب كثيراً ممّا في 1947، أقلّه بسبب المناخ المتحفّظ على واشنطن والمتمايز عنها الذي أطلقته الديغوليّةفي ما خصّ «البرنامج المشترك» وخلفيّاته الفرنسيّة والدوليّة، يُنظر خصوصاًEdward Mortimer, ‘Un Socialisme aux Couleurs de la France: the French Communist Party’, in: Paolo Filo della Torre, Edward Mortimer and Jonathan Story (ed.), Euro-Communism: Myth or Reality, Penguin, 1979.
في هذه الغضون ارتسمت للحزب الاشتراكيّ صورة المؤسّسة التي تجمع كوادر من العمّال، وُسطى وعليا، إلى شبكات ونَوادٍ تلتفّ حول أعيان تحوّلوا سياسيّين يخوضون بانتظام المعارك الانتخابيّة، وإلى موظّفين، خصوصاً منهم المعلّمين، ذوي تكوين مؤسّساتيّ وبيروقراطيّ لا يخلو من صرامة الخدمة العامّة وتربيتها.
بهؤلاء وبمحيطهم الشعبيّ، خيضت مجدّداً بميتران، معركة الرئاسة في 1974، بعد انتخابات تشريعيّة أجريت في 1973 وأحرز فيها اليسار، لا سيّما الإشتراكيّ، قوة انتخابية ملحوظة. لكنّ الفارق بين 1974 وما سبقه جسّده انبثاق الترشيح، هذه المرّة، من الحزب حصراً، فيما المرشّح ليس سوى قائد الحزب الرسميّ. إلاّ أنّ حزبيّة الترشيح ظلّت أقلّ حضوراً من لون المرشّح، بحيث كُرّست الطبيعة الرئاسيّة للجهد الانتخابيّ، أكان بالشخصنة التي أُسبغت على المرشّح أو بالفريق الذي اختاره وحده. ولئن خسر ميتران المعركة بفارق ضيّق أمام فاليري جيسكار ديستان، فإنّ نتيجة الدورة الثانية (49،2 بالمئة) جاءت واعدة للمستقبلDavid S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p. 93.
ففي أواخر ذاك العام انضمّ أعضاء من «الحزب الاشتراكيّ الموحّد»، على رأسهم روكار، إلى الاشتراكيّ، ليمثّلوا يساره غير الشيوعيّ. وكان «الموحّد» منذ 1965 قد اقترع لميتران كمرشّح رئاسيّ، لكنّه، بخلاف باقي أحزاب اليسار، شارك في ثورة أيّار 68 الطلاّبيّة، وبنتيجة مشاركته حصد تأييداً وانتساباً طلاّبيّين ملحوظَين، وسط ضجيج حماسيّ عن بناء «الحزب الثوريّ». ومع توسّع مسافته الفاصلة عن الاشتراكيّ، رُشّح روكار، في 1969، للرئاسة، فنال أقلّ من 4 بالمئة في الدورة الأولى، كما لم يوقّع على «البرنامج المشترك» في 1972. هكذا عاد الأخير، مستشعراً ضعفه، إلى تأييد حملة ميتران في 1974 ضدّاً على موقف معظم القاعدة الحزبيّة التي أصرّت على التمسّك باستراتيجيّة التسيير العمّاليّ الذاتيّ للمصانع (Autogestion). وفي سياق السعي المتواصل والصعب إلى موقع فاعل جعلته انشقاقات «الموحّد» وسجالاته الداخليّة مستحيلاً، انضمّ روكار وبعض رفاقه إلى الحزب الاشتراكيّ، وباتوا يُعرفون بـ«اليسار الثاني» الذي يختلط في تعريفه بُعدان يساريّ وليبراليّأنظر مثلاً: IAIN STEWART, RAYMOND ARON AND LIBERAL THOUGHT IN THE TWENTIETH CENTURY, Cambridge, 2020, p. 216، فضلاً عن ثالث عالمثالثيّ موروث عن السنوات «الجزائريّة» الأسبق. ولم يفعل هذا التطوّر، على المدى الأبعد، سوى رفع نسبة افتقار الحزب الاشتراكيّ إلى الشكل المنسجم، خالطاً تقليد التسيير الذاتيّ اللادولتيّ، الذي رأى البعض أنّ جذره يضرب في البرودونيّة، بتقليد دولتيّ صارم، يعقوبيّ وماركسيّ.
تحوّلات السبعينيات
زادت في «لاعاديّة» هذا التمركز الاشتراكيّ حول ميتران علامات الاستفهام التي اجتمعت في سيرته: من صدورٍ عن خلفيّة وتعليم كاثوليكيّين، إلى عدم تماهٍ مع حكومة «الجبهة الشعبيّة» إبّان سنواته الطلاّبيّة في باريس، والأهمّ، انطواء حياته على سجلّ غامض وملتبس إبّان الاحتلال وقبل الانضمام اللاحق للمقاومة، فضلاً عن عضويّته، بعد التحرير، في حزب صغير ليسار الوسط، غير ماركسيّ وغير اشتراكيّ. ورغم أنّ تجربته الوزاريّة مهمّة في حساب الخبرة، تبعاً لشغله الوزارة 11 مرّة إبّان الائتلافات الوسطيّة للجمهوريّة الرابعة، إلاّ أنّ مصالحتها كـ«خبرة» مع قيادته للاشتراكيّين تبقى صعبة ومُشكَلَة، خصوصاً أنّ تلك «الخبرة» تضمّنت مشاركته في القمع الجزائريّ.
مع هذا فالعنصر الذي ربّما كان الأهمّ في وصوله إلى ما وصل إليه، وفق بيل وكريدل، أنّه كان «متحدّياً لا يساوم لشارل ديغول، من خلال مقاومته لعودته في 1958 ولنظامه الرئاسيّ». وهو لئن ظلّ يفتقر إلى عنصر واحد هو «الحزب المهمّ»David S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists.…, p. 149-150.، فهذا ما تحقّق له بانتسابه إلى الحزب الاشتراكيّ وتولّي قيادته.
على أنّ حقبة التوسّع في فرنسا، وفي الديمقراطيّات الأوروبيّة عموماً، شرعت تذوي أواسط السبعينيات، تحت وطأة الأزمة التي تسبّب بها ارتفاع أسعار النفط. وفضلاً عن الطبقة العاملة، انعكس التراجع الاقتصاديّ على الطبقة الوسطى التي غدا بعض قطاعاتها شديد القرب من الاشتراكيّين. وبدورهم عرف الشيوعيّون تحوّلاً ملحوظاً من طبيعة أخرى، قادهم إلى اللحاق بالحزبين الشيوعيّين الإيطاليّ والإسبانيّ في تبنّي «الشيوعيّة الأوروبيّة» تحت تأثير الغزو السوفييتيّ لتشيكوسلوفاكيا، كما جاء المؤتمر الثاني والعشرون لحزبهم يعلن التخلّي عن مبدأ «ديكتاتوريّة البروليتاريا» اللينينيّ.
وبدا التوجّه هذا متساوقاً مع مسارات المثقّفين الفرنسيّين الجديدة. ففي أواسط السبعينيات كان الأخيرون يقطعون مزيداً من أشواط الابتعاد عن الدوغمائيّات الماركسيّة التي سيطرت مع نهاية الحرب العالميّة الثانية. وكان لثورة أيّار 68 دورها المؤكّد: ذاك أنّ الكثيرين من يساريّيها غير الشيوعيّين باتوا مناهضين للشيوعيّة، يكتشفون بحدّة نضاليّة ومتوتّرة قيم الليبراليّة وحقوق الإنسان. وهؤلاء وجدوا من يشاركهم قناعاتهم الجديدة في مثقّفين شيوعيّين سابقين، وكتّاب يساريّين سابقين، باتوا أشدّ تقبّلاً لأطروحات تبدأ بـ«الليبراليّة المحافظة» لريمون أرون لتنتهي عند هذيانات معادية للمساواة لدى «اليمين الجديد».
لكنّ تلك التغيّرات افتتحت صراعاً مضبوطاً ومخفّفاً بين حزبي اليسار الكبيرين كان هدفه الضمنيّ تنظيم تحالفهما وتحديد التوازنات داخله، كما كان من تداعياته المنطقيّة مراجعة الإشكال القديم حول الطبيعة «المائعة» للحزب الاشتراكيّ نفسه.
بيد أنّ الانسجام والتناسق ظهرا، في انتخابات 1973 النيابيّة و1974 الرئاسيّة، أقوى من التباين، وفيهما حقّق التحالف قفزات كبرى. وفي انتخابات 1976 الكانتونيّة والبلديّة، نال الاشتراكيّ، للمرّة الأولى في الجمهوريّة الخامسة، أكثر من نصف الصوت الشعبيّ، مخترقاً على نحو خاصّ مناطق كاثوليكيّة تقترع تقليديّاً لليمين والوسط.
وما بين اطمئنانين غائمين ومحسوبين، واحد إلى التحالف مع الشيوعيّين، وآخر إلى الأجواء الفكريّة الأكثر تعدّداً والأقلّ دوغمائيّة، زاد تخبّط الاشتراكيّين. هكذا مثلاً ذكّرنا جان فرانسوا رِفِلّ بأنّ الحكومة الهنغاريّة دعت واستقبلت وفداً من الاشتراكيّين الفرنسيّين في 1976، وأنّ هذا الوفد أشاد بـ«نجاحات بناء الاشتراكيّة على يد الشعب الهنغاريّ في ظلّ قيادة الطبقة العاملة وحزبهاJean-Francois Revel, THE TOTALITARIAN TEMPTATION…, p. 330.»، فيما كان مَن هُم أقلّ راديكاليّة في الحزب، وهم الأقدر على تمثيل خطّه الرسميّ، يدافعون عن تموضعهم ضمن الاشتراكيّة الديمقراطيّة الأوروبيّة، أي القبول الصريح باقتصاد السوق.
فحين فاز «اتّحاد اليسار» في الانتخابات البلديّة عام 1977، بدأ الصعود الانتخابيّ للاشتراكيّين يقلق الشيوعيّين، وجعلت تتكشّف صعوبات تمنع تجديد «البرنامج المشترك»، فيما دان الأمين العامّ للشيوعيّ جورج مارشيه ما سمّاه «تحوّلاً نحو اليمين» لدى الاشتراكيّين. فالحزبان اختلفا حول المدى الذي ينبغي أن تبلغه التأميمات والمساواة في الأجور، وحول توزّع الحقائب الوزاريّة في حال تحقّق انتصار اشتراكيّ. وكانت استقصاءات الرأي كما النتائج الانتخابيّة بدأت تُظهر تفوّق الاشتراكيّ على الشيوعيّ للمرّة الأولى منذ 1936، وأنّه هو الذي صار حزب اليسار الأوّل، جاذباً أصواتاً عمّاليّة افترض الشيوعيّون طويلاً أنّها حكرٌ عليهم.
لكنْ، ورغم استقصاءات رأي مشجّعة، خسر «اتّحاد اليسار» الانتخابات التشريعيّة في 1978، فيما أحرز الاشتراكيّون، وللمرّة الأولى منذ 1936، أرقاماً وأصواتاً تفوق ما ناله الشيوعيّون ليُحسَم نهائيّاً أمر تحوّلهم إلى حزب اليسار الأساسيّ والأوّل. فقد حصلوا على 22.8 بالمئة من الأصوات، وكانوا قبل عقد واحد، وقبل أن يُعهد إلى ميتران بقيادتهم، 16.5 بالمئة فقطLine Rennwald, Social Democratic Parties and the Working Class New Voting Patterns, Palgrave Macmillan, 2020, p. 105.
وبحسب لاين رنوالد، بدت الصورة الطبقيّة للاشتراكيّ في 1978 مختلفة. فحضوره بين «عمّال الإنتاج» بدا أصغر كثيراً من ذي قبل، كما أنّ هؤلاء العمّال لم يعودوا في الحزب أوزنَ من أيّة فئة أو شريحة مأجورة أخرى. وكان من أبرز أسباب هذا «التداخل الطبقيّ» المتفاقم في الحزب، والذي انعكس في أدبيّاته، ترحيب الطبقة الوسطى به مقابل استمرار الحضور العمّاليّ القويّ للحزب الشيوعيّ الذي ظلّ حتّى ذاك الحين، ورغم انتكاسات جزئيّة، الحزبَ «الذي يختاره عمّالُ الإنتاج»، دون أن يعني هذا أنّ الشيوعيّ حزب عمّاليّ صافٍالمرجع السابق، ص. 40-41، كذلك بلغت النسبة المرتفعة في الاشتراكيّ لأبناء الطبقات الوسطى الذين يعيشون على عمل مأجور 28 بالمئة. ص. 43..
على أيّة حال تأدّت عن هزيمة 1978 لإجماليّ اليسار نتائج متضاربة. فَتحتَ تأثير ميتران، البراغماتيّ والساعي بدأب إلى الرئاسة، بذل الحزب جهوداً للتوسّع، لا سيّما في المناطق الكاثوليكيّة التي تأخّر تصنيعها، والتي لم تستسغ تقليديّاً نبرة الاشتراكيّين الجمهوريّة والمناهضة للإكليركيّة. كذلك حاول الاشتراكيّ الاستفادة من الأزمة الاقتصاديّة الحادّة يومذاك، ومن ضعف شعبيّة رئيس الحكومة ريمون بار وسياساته التقشّفيّة، وتنافر أطراف الأكثريّة اليمينيّة- الوسطيّة، فضلاً عن فضائح فساد كان مصدرها، المباشر أو المداور، رئيس الجمهوريّة نفسه.
ومن جهة أخرى، أحدثت هزيمة 1978 أزمة داخليّة في الحزب، فانبرى روكار يتحدّى قيادة ميتران ويشكّك في اعتماده مرشّحاً رئاسيّاً، داعياً إلى التخلّي عن «البرنامج المشترك» بوصفه متقادماً وغير واقعيّ، ومطالباً بـ«لغة جديدة» و«سياسات عمليّة متجدّدة»، وبتقليص الدولتيّة والدوغمائيّة. أمّا ميتران، سيّد الإمساك بأجنحة الحزب والتلاعب بتوازناتها، فأصرّ على تقديره الواقعيّ من أنّ اليسار لا يستطيع الفوز دون هذا التحالف.
وبدوره شهد مؤتمر مِتز عام 1979، فضلاً عن النقاشات الحامية بين الأجنحة حول طبيعة المجتمع وتحالفات الحزب، انتصار ميتران على روكار باختياره المرشّح الرئاسيّ لمواجهة 1981، ما استكمل تكريس «رئاسيّته». لكنّ ارتسامه كوجه بلا منافس في حزبه، لم يمنع ظهور روكار، ذي الشعبيّة الواسعة، بوصفه أقرب الآخرين إلى سوّيته. ومع هذا، تكشّف الاشتراكيّون، تحت سطح التوحّد وراء ميتران، عن ثلاث نزعات قويّة: فهناك الميترانيّون الأقحاح الذين لا يريدون القطع الكامل مع الرأسماليّة وإن تمسّكوا بإصلاحها اشتراكيّاً متحالفين مع الشيوعيّين، فيما أولويّتهم شبه المطلقة كسب الانتخابات. وهناك الروكاريّون ممّن يدمجون الاشتراكيّة الديمقراطيّة بدرجة بعيدة من التسيير الذاتيّ، ويحملون للحزب أفكاراً تجديديّة في ما خصّ الديمقراطيّة الصناعيّة والتخطيط الاقتصاديّ والإداريّ، وأخيراً، الملتفّون حول القطب الاشتراكيّ جون بيار شوفنمان، والمعروفون بـ«مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكيّة» (سيريس) الذي تأسّس في 1967، ممّن اعتبروا أنفسهم ماركسيّين. وهؤلاء لئن دعموا ميتران في 1971، فإنّهم بدأوا يرون، في أواخر العقد وخصوصاً في الثمانينيات، أنّ الاشتراكيّة بدأت تُسحب من أجندة الحزب، وأنّ الخطر الجدّيّ الممثّل في عُرْفهم بالشركات متعدّدة الجنسيّة، وبالولايات المتّحدة والوحدة الأوروبيّة، وبسيطرتها مجتمعة على الاقتصاد والسياسة الفرنسيّين، لا يحظى بما يستحقّ من عناية وتعبئة حزبيّين. أمّا التحالف مع الشيوعيّين فبقي لديهم أقرب إلى أولويّة لا تُمسّ.
إلى هذه المجموعات الثلاث، مثّلَ غاستون ديفير وبيار موروا خطّاً أقرب إلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة الكلاسيكيّة المتحفّظة على الشيوعيّة، وعبّر أقطاب اشتراكيّون كجاك ديلور عن أنّ لون القطّة لا يهمّهم بقدر ما يهمّهم اصطياد الفئران، بحسب عبارة دينغ هسياو بنغ الشهيرة، وأنّهم، بدل الإيديولوجيا، يستخدمون المقاربة التكنولوجيّة للمشاكل، كما تربطهم علاقات جيّدة بعالم البيزنس.
ميتران رئيساً
في 1981، على أيّ حال، كانت النقلة الكبرى مع انتصار ميتران على جيسكار ديستان وانتخابه أوّل رئيس اشتراكيّ للجمهوريّة، وأوّل رئيس يُنتخب بالاقتراع الشامل في الجمهوريّة الخامسة. وإذ بادر الرئيس الجديد إلى حلّ الجمعية الوطنيّة وأجرى انتخابات عامّة، نال الاشتراكيّون، للمرة الأولى في تاريخهم، أغلبية مطلقة و36 بالمئة من مجموع الأصوات. ورغم أنّ أحزاب اليسار حظيت بأكثريّة حجّمت ديغوليّي البرلمان وجيسكارديّيه، لم ينجح الشركاء الشيوعيّون دائماً في إخفاء غيرتهم وامتعاضهم.
على أنّ ميتران كان قد أوحى قبل الانتخابات بميله إلى توسيع المسافة عن الحلفاء الشيوعيّين، محاولاً إضعاف الحجّة اليمينيّة من أنّه، في حال فوزه، سيكون «أسير»هم. وكان قد وجّه تكتيكاته بحيث تخاطب مقترعين لا يصوّتون تقليديّاً لليسار لكنّهم لم يعودوا يحتملون ولاية أخرى لديستان، مخاطَبتها شبّاناً يئسوا من عجزه عن حلّ مشكلة البطالة المتفاقمة.
على أنّ النصر بدا لوهلة مربكاً للمنتصرين، إذ أنّ تجربة الاشتراكيّين في الحكم، منذ انتهاء الحرب العالميّة الأولى، كانت قصيرة ومتقطّعة. مع هذا سهّل «البرنامج المشترك» والجاهز اختيار السياسات والبدائل للفترة القصيرة المقبلة. وبالفعل سريعاً ما بدأ ميتران تعميق اتّجاهات التخطيط والتوجيه الدولتيّة (dirigiste economy) للاقتصاد. فعلى رأس حكومة مثّلت أحزاب اليسار كلّها، أمّم الاشتراكيّ بيار موروا معظم البنوك وصناعة التأمين والصناعات الدفاعيّة، ورُفعت أجور العمّال وزيدَ حدّها الأدنى كما خُفّضت ساعات العمل الأسبوعية إلى 39، وفُرضت ضرائب أعلى، ونُفّذت إصلاحات كاسحة أخرى شملت إيجاد ضريبة جديدة (ضريبة التضامن) على الثروة، واعتماد اللامركزيّة، والتمثيل النسبيّ في الانتخابات البرلمانيّة، وإدخال تحسينات على خدمات الضمان الاجتماعيّ، وتثبيت أسعار الكتب، فضلاً عن إلغاء عقوبة الإعدام. وهذا المكسب الأخير، وهو عادةً قليل الشعبيّة، بدا أقلّ شعبيّة مع تعاظم التردّي الأمنيّ آنذاك، والذي ردّه العنصريّون إلى الأجانب، ما أدّى إلى خسارة الاشتراكيّين بعض الأصوات الرجراجة.
لكنْ في العموم، أعطت تلك الإجراءات الجذريّة الاشتراكيّةَ وحزبها مزيداً من الشعبيّة مع أنّها لم تتغلّب على الأزمة الاقتصاديّة المتواصلة. فقد تسبّب رفع الأجور وبرامج الرفاه بتزايد في العجز، فيما لم يكن موفّقاً «علاج» الأكلاف التي رتّبها تأميم المصارف والصناعات بتصغير أسبوع العمل.
أبعد من ذلك أنّ الدولة، كائناً من كان سيّدها، بدأت تواجه تحدّياً من طبيعة جديدة غير معهودة في أشكال الرفض التقليديّة للتقليد الدولتيّ العريق في فرنسا. وعلى النحو الذي سوف يتوسّع ويزدهر لاحقاً، رأينا المجتمع يعبّر عن رغبات متلاحقة في التحرّر من دولة يُفترض أنّها خادمته. فالروابط «التوكفيليّة» من كلّ نوع جعلت تتكاثر، في مجالات السفر والترفيه والرياضة، ولكنْ أيضاً تناسلت روابط أهل التلامذة، ومحطّات الراديو الخاصّة، وجماعات حماية المستهلك، وبرامج تعليم الراشدين، والفِرق الفنيّة في المدن الأصغر والمناطق الأبعدأنظر Stanley Hoffmann, ‘Mitterrand vs. France?’, in: The New York Review of Books, 27/9/1984…. وفي هذا كلّه كان ثمّة ما يشي، لا بكهولة الدولة فحسب، بل أيضاً بكهولة الإيديولوجيّات القديمة المتمحورة حول الدولة، وفي عدادها الاشتراكيّة باختلاف معانيها.
لكنّ موضوعاً آخر، مباشراً وسياسيّاً، كان يطرح نفسه بقوّة من دون أن ينجح في إخفاء افتراقه عن الوجهات المجتمعيّة المستجدّة. ففي مناخ التمركز الاشتراكيّ والوطنيّ حول ميتران، أو «الله» في أحد ألقابه اللاحقة، كفّ الحزب تماماً عن نقد «الرئاسيّة» و«ديكتاتوريّة الجمهوريّة الخامسة» ممّا وُصف به ديغول، وعن وصم وصوله إلى السلطة بـ«الانقلابيّة» و«البونابرتيّة»، وتوقّفت الإدانات لذاك المبدأ الذي يُغلّب سلطة فرد على سلطة جماعات وطبقات وأحزاب ومؤسّسات منتخبةلكنْ إذا صحّ أنّ انتصار 1981 قلّص نقّاد الرئاسيّة في جبهة اليسار، بمن فيهم الحزب الشيوعيّ المؤتلف آنذاك مع الاشتراكيّ، فمع الولاية الثانية لميتران عزّز الشيوعيّون المستبعَدون شكوكاً قديمة بدأت تشدّد على العودة إلى «المبادىء الجمهوريّة» واستبعاد «السلطة الشخصيّة».. فالناقد السليط للديغوليّة الذي كانه ميتران، ما لبث، وقد غدا رئيساً، أن وحّد حزبه وحلفاءه اليساريّين، بمن فيهم الشيوعيّون، وراء رئاسة تنفيذيّة بعيدة السلطات والتأثير.
وكانت تجارب ميتران الانتخابيّة، منذ ترشّحه في 1965 و1974، ثمّ فوزه في 1981 ولاحقاً في 1988، قد راكمت بعض «العِبَر» لمعنى النجاح السياسيّ، وهي «عِبَر» يصعب أن تخدم تحديث الحزب. فقد تأكّدت عمليّاً الأهميّة الانتخابيّة لـ«الرئاسيّة» التي تتيح الوصول إلى الدورة الثانية من الانتخابات، وأهميّة كون هذا المرشّح «الرئاسيّ» على رأس حزب كبير فيما يكون الأخير قاطرته لبلوغ هدفه، فضلاً عن تمتّع هذا المرشّح – القائد بجاذبيّة شخصيّة وخبرة في الحكومة كاللتين امتلكهما ميتران.
كذلك بدأت تسود قناعة جديدة في أوساط الحزب، خصوصاً دوائره القياديّة، مفادها أنّ كسب مودّة الإعلام أهمّ من أيّ اعتبار في اختيار القياديّين والمرشّحين. أمّا البرامج ونقاشها فانحسرت أهميّتها لمصلحة مزيد من الشخصنة.
على أنّ العولمة والأوربة اللتين كانتا تباشران شقّ طريقهما، شرعتا تواجهان الإدارة الجديدة بأسئلة حارقة. وإذ هبّت موجة «ليبراليّة السوق»، الأميركيّة- البريطانيّة، والريغانيّة- الثاتشريّة، متلازمةً مع وصول ميتران إلى الرئاسة، قابلها الاشتراكيّون الفرنسيّون برفض مشوب بالارتباك وقلّة الحيلة، تماماً كما فعل باقي الاشتراكيّين الديمقراطيّين الأوروبيّين في البداية.
وفي 1982 بات الاختيار مُلحّاً بين بقاء فرنسا عضواً في النظام النقديّ الأوروبيّ، تلتزم تالياً بمبدأ الاندماج القارّيّ، والتمسّك بالإصلاحات الاشتراكيّة بمعزل عمّا يجري في أوروبا وعمّا تقرّره. وإذ اختار ميتران الطريق الأوّل فهذا ما بدا إقراراً حاسماً من الحزب الاشتراكيّ باقتصاد السوق وتتويجاً لوجهة لم تغب من قبل، إلاّ أنّها لم تكن صريحة وملزمة إلى هذا الحدّ.
وبالفعل ففي 1984 أوقف العمل بالإجراءات الاشتراكيّة، ولم تُفضِ محاولات التوفيق الصعب إلاّ إلى تخبّط نظريّ عبّر عنه ميتران عندما وصف برنامجه بـ«توسيع مساحات الحرّيّة» و«توسيع القطاع العامّ» معاً، وعندما رفض تطرّف «المتوحّشَين»، قاصداً بهما المشروع الحرّ والجماعيّة. ووفقاً للبعض كان التخبّط هذا عصارة المعضلة التي يصارعها بلد معروف بشغفين تقليديّين لا يتساكنان بسهولة، شغف بالحرّيّة وشغف بالدولة. وهو تنافر لم تعد تُذَلله، بعد تعاظم الضغط الذي يمارسه الواقع الأوروبيّ طلباً للحسم، العبارات الورديّة.
لقد حلّ محلّ موروا في رئاسة الحكومة الثانية لوران فابيوس، المصنّف بـ«يمينيّ الحزب»، والذي يقدّم «التحديث» على الاشتراكيّة، فاستقال الوزراء الشيوعيّون الذين فشل توزيرهم عام 1981 في إنتاج أيّ أثر ملحوظ، وتخلّوا عن استراتيجيّتهم في «المشاركة دون دعم»، بينما وافق حليفهم شوفنمان على تسلّم وزارة التعليم، هو الذي سبق أن استقال مطالع 1983 من وزارة الصناعة في حكومة موروا.
مذّاك، وبمعزل عن قرارات قليلة معاكسة وعابرة، بات ضبط الإنفاق في صلب السياسات الاقتصاديّة المتّبعة. وكان التضخّم الذي يضرب الاقتصاد الفرنسيّ عاملاً مساعداً على المضيّ في الوجهة هذه، مجبراً الحكم على تصعيد التراجع عن إصلاحات بات يطالها التقشّف المستجدّ. وبالتدريج تخلّى الاشتراكيّون عن التزامهم بالتأميم، ما أثار بعض الاستياء في أوساط بعض الحزبيّين وإن أكسبهم تأييداً أوسع خارج الحزب. وأغلب الظنّ أنّ ميتران، ملاحظاً بدايات ضمور الحزب الشيوعيّ، بدأ يتحرّر من منافسته ويتخلّى عن فكرته الأثيرة من أنّ وحدة اليسار شرط للوصول إلى ذروة السلطة.
أمّا وفق الكاتب اليساريّ ماثيو فولّا، فقد آلت السياسات الميترانيّة إلى «طلاق» بين الاشتراكيّة الفرنسيّة و«الوسط» الشعبيّ. وفضلاً عن التقارب الناشئ مع أطروحات المنظّمات الدوليّة كصندوق النقد والبنك الدوليّين، في ما خصّ التركيز على قوّة العملة، وفوائد المنافسة كسلاح ضدّ التضخّم، والانفتاح على العولمة والتحرير الماليّ، فإنّ التوجّه الأوروبيّ الذي جعله ميتران، منذ 1983، أبرز أهدافه، انطوى على إحلال «بارادايم السوق» محلّ «التحويل الراديكاليّ للمجتمع الفرنسيّ».
وحتّى هذا «الانقلاب» الميترانيّ كان التيّار العريض لأحزاب اليسار في فرنسا لا يزال يرى في تعاظم دور الدولة طريقاً إلى الاشتراكيّة، كما يفسّر الأزمات الاقتصاديّة، بأدوات ماركسيّة، كنتيجة من نتائج اقتصاد السوق. غير أنّ تلك الخيارات قادت أيضاً إلى «تحوّلات سوسيولوجيّة كبرى» تتّصل بالناشطين القاعديّين للحزب كما بقاعدته الانتخابيّة. وما دام أنّ الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ كان دائماً الحزب الأقلّ جماهيريّة وقاعديّة بين الأحزاب الاشتراكيّة الأوروبيّة، وأكثرها اعتماداً على النخب والأعيان والطامحين من رؤساء بلديّات، بدا من السهل تحوّله تنظيماً محكوماً، سوسيولوجيّاً وإيديولوجيّاً، بنُخب «تملك رأسمالاً ثقافيّاً واقتصاديّاً قويّاً»Mathieu Fulla, the rise and fall of French Socialism as a national party of government, in: The progressive post, April, 2022..
إلى هذا بدت السياسة الخارجيّة لميتران منسجمة مع سياساته الداخليّة المنفّرة لليسار. فقد ابتعد عن ديغوليّة التصادم مع أميركا، مهموماً بالنزعة العسكريّة السوفييتيّة وتوازن القوى في أوروبا. وهو حين زار موسكو في 1984 لم يتردّد في الحديث العلنيّ والاستفزازيّ عن العالِم السوفييتيّ المنشقّ أندريه زاخاروف الذي كان مسجوناً يومها. كذلك دفع التعاون الفرنسيّ الألمانيّ ورابطة الجماعة الأوروبيّة إلى الأمام، متخوّفاً من نموّ المشاعر القوميّة في ألمانيا، وقلِقاً حيال ضرورات تطوير القدرة الأوروبيّة على مواكبة الولايات المتّحدة واليابان في «الثورة الصناعيّة الثالثة».
مع هذا لم تظهر، في الحزب الاشتراكيّ، تيّارات كتلك التي عرفها حزب العمّال البريطانيّ لجهة الدفاع المباشر عن اقتصاد السوق، خصوصاً أنّ النهج الجديد لم يبدُ بدوره ناجعاً. ففي أواسط الثمانينيات كان يتواصل تدهور الصناعات التقليديّة الكبرى ويتصاعد، شاملاً القصدير والفحم والنسيج وبناء السفن، ومعها صناعة السيّارات. ولئن بالغت «كهرباء فرنسا» في الاستثمار في الطاقة النوويّة، ما أوقعها في ديون باهظة، فإنّ العجوزات وتراجع المبيعات ضربت مؤسّسات كـ«رينو» و«أيروسبيسيال»، أمّا «سيتروين» و«ميشلان» وسواهما فلجأت إلى تسريح العمّال بالآلاف.
وكان من الطبيعيّ، في ظروف كهذه، أن يتعاظم ضياع الهويّة الاشتراكيّة، وهو أصلاً كبير. فبقياس الاشتراكيّين الديمقراطيّين الألمان، والذين حسموا أمرهم منذ مؤتمر باد غودسبرغ في 1959، بوصفهم حزباً «للشعب كلّه»، غيرَ ماركسيّ وأطلسيّ الهوى والانتماء، يعتمد السوق حيث تكون «ممكنة» والدولة حيث تكون «ضروريّة»، لم يوضح الاشتراكيّون الفرنسيّون شيئاً، مكتفين بتجنّب مشكلة ترسيم الحدود بين الخاصّ والعامّ.
ومع تولّي ميتران قيادة الحزب في 1971، والإلحاح على التحالف مع الشيوعيّين كضرورة استراتيجيّة، تعاظمت اللفظيّة المناهضة للرأسماليّة مع تجنّبٍ، لا يخلو من شعبويّة، للتفاصيل. ومع أنّ المعارضة الروكاريّة منذ مؤتمر نانت في 1977، تحدّت مفهوم مركزيّة الدولة، إلاّ أنّها هُزمت، وإن دُفع الحزب بنتيجة ضغطها إلى تبنّي «الحقوق الفرديّة» و«أجندة ليبرتاريّة» تتعارض ضمناً مع الفلسفة الجماعيّة لليسار وتحاول بخجل أن تواكب الحساسيّات الاجتماعيّة الجديدة لزمنها.
أمّا البيئة الثقافيّة العريضة فتضاعفت حساسيّتها السبعينيّة في العداء للتوتاليتاريّة والاتّحاد السوفييتيّ والشيوعيّة، بل الماركسيّة أيضاً عند بعضها. وفي هذه الغضون كانت تتوسّع حلقة المتعرّفين إلى أهوال «الغولاغ» وأعمال حنة آرنت وجورج أورويل، كما تتفاعل تداعيات أحداث 1981 البولنديّة، فيما ترتفع أصوات أكثر من باسيفيّي الأمس مطالبةً بالردع النوويّ وبتقارب أكبر مع الولايات المتّحدة في السياسات الخارجيّة.
لكنْ لئن أطالت المنافسة المديدة مع الشيوعيّين عمر الغموض الاشتراكيّ، فإنّ كتلة «سيريس» وموجات اليسار الجديد المتتابعة في فرنسا لم تتسبّب بتقصيره. وهذا من غير أن ننسى أنّ الاشتراكيّين أنفسهم لم يكونوا تقليديّاً في منأى عن الإجماع الفرنسيّ حول دور الدولة في الاقتصاد وأهميّته. ذاك أنّ التيّارات السياسيّة العريضة في فرنسا لم تحضن أفكار الحرّيّة الفرديّة التي عُرفت بها الثقافة الأنغلوساكسونيّة، وهي رأت دائماً أنّ الدولة هي ما يعبّر عن الإرادة الجماعيّة. فحتّى المَلكيّون في فرنسا، دافعوا عن الدولة القويّة، وهو ما فعله أيضاً وسطيّو الحزب الراديكاليّ الذين بدت لهم الدولة الجمهوريّة، وقبل أيّ شيء آخر، تلك المؤسّسة التي توفّر التعليم العلمانيّ كمدماك للمواطنة. ويرجّح بيل وكريدل أن يكون كساد الثلاثينيات هو ما أسّس إسقاط مسائل الليبراليّة من أجندة الاشتراكيّين الفرنسيّين، معزّزاً فكرة مركزيّة الدولة ومستنهضاً فكرة الأصول اليعقوبيّة لليسار الفرنسيّ، ما لم يعرفه نظيره البريطانيّDavid S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p.107..
على أنّ الممانعة بدأت تضعف، فشهد منتصف عهد ميتران الأوّل، ومع التراجع عن «البرنامج المشترك»، بدايات «تمجيد لفضائل المشروع والمنافسة، وظهر لغط كثير حول قدرة الدولة على تجهيز الصناعات المتداعية، خصوصاً منها التي أُمّمت مؤخّراً»، مع الإيحاء بتفضيل عودتها إلى القطاع الخاصّالمرجع السابق، ص. 60..
وشهد العهد الاشتراكيّ الأوّل (1981-8)، على هذا الصعيد، إصلاحاً طال الدولة واشتغالها وتجسّد باللامركزيّة التي خُفّفت صلاحيّاتها الإداريّة، كما بخلق مجالس محلّيّة منتخبة. لكنّ هذه الإصلاحات التي يربطها بيل وكريدل بالتأثّر بالاتّحاد الأوروبيّ، لم تكن كافية لعبور الشوط كلّه وجعل فرنسا شبيهة بالنموذج الفيدراليّ الألمانيّ، سيّما وأنّ الفرنسيّين، مرّة أخرى، قاوموا بعناد الضغوط الأوروبيّة لإضعاف الدولةالمرجع السابق، ص. 7..
وعلى العموم بقيت النظريّة أشدّ ممانعة من الرغبات الفعليّة، فظلّ الحزب يصنّف نفسه «اشتراكيّاً»، لا «اشتراكيّاً ديمقراطيّاً»، وهو ما استمرّ حتّى مؤتمره في تولوز عام 1985المرجع السابق، ص. 107-108..
أوروبا وانتكاسات الميترانيّة
في هذه الغضون كان تطوّر بطيء آخر يفعل فعله. وهو لئن بدا أثره على الشيوعيّين قاتلاً وأشدّ مباشرة ممّا على الاشتراكيّين، فالأخيرون لم يكونوا بمنجاة من تأثيره.
فمفهوما الرأسماليّة والديمقراطيّة تعرّضا، ابتداء بالسبعينيات، لتحوّلات ليست في صالح اليسار. فإلى التعابير الجديدة للمجتمع المدنيّ وروابطه، شقّت طريقها ببطء عمليّة اختفاء الطبقة العاملة من ذوي الياقات الزرقاء، وهو ما حصل في معظم البلدان الصناعيّة. وراح ما عُرف بنزع الصناعة يخلّف انعكاساته على شروط العمل لدى فئات الشطر الأدنى من الهرم الاجتماعيّ وشرائحه. وفي الثمانينيات كانت فرنسا تدخل، كما سائر البلدان الغربيّة، طور «إعادة هيكلة البطالة» التي أضعفت تنظيم بُنى العمل الجماعيّة، خصوصاً النقابات. وبدوره ساهم هذا التهميش للوسائط ما بين اليسار والأوساط الشعبيّة في الانزياحات التي بدأت تضرب أعداداً متزايدة من العمّال فتُبعدهم عن الشيوعيّين، ولكنْ أيضاً عن الاشتراكيّين، وبدأت تولّي الأيّام التي كان تعاظم البطالة فيها يعني بصورة آليّة إقبال المتضرّرين الانتخابيّ على أحزاب اليسار. فكثيرون في هذه الأوساط إنّما عبّروا عن عدم ثقتهم بالديمقراطيّة التمثيليّة أصلاً، إمّا بالاحتجاب عن التصويت أو بتراجع الانتساب إلى أحزاب برلمانيّة، فيما قرّر البعض أن يصوّتوا لـ«الجبهة الوطنيّة» شبه الفاشيّة التي خاطبت مَن عجزوا عن التحوّل إلى القطاعات ما بعد الصناعيّة وإلى الخدمات على أنواعها، قبل أن تجد هذه الحالةُ تعزيزها في العداء للهجرة، حيث حمّلت «الجبهة» المهاجرين مسؤوليّة تقلّص فرص العمل وتردّي الأمن معاً.
وإذ اتّجهت أقلّيّات صغرى إلى تنظيمات اليسار الراديكاليّعن المرجع السابق، ص. 61.، جاءت نتائج الانتخابات الأوروبيّة عام 1984 مصداقاً لمخاوف الخائفين من القوّة المستجدّة لـ«الجبهة الوطنيّة».
ومجدّداً، وفي عبارات تتقاسمها البلاغة والمواربة، تحايل ميتران على ما يجري. فحينما سُئل، مطالع 1984، عن سبب الانتكاسات الانتخابيّة التي يتعرّض لها الاشتراكيّون وحلفاؤهم، أفتى بأنّ الفرنسيّين يصوّتون ضدّ العاصفة، لكنّهم لا يصوّتون بالضرورة ضدّ القبطان.
على أنّ العام 1986 حمل الانتكاسة الأولى، التي يصعب تغليفها بالكلام المنمّق، للميترانيّة وحزبها. ففي الانتخابات العامّة عامذاك فقد الاشتراكيّون أكثريّتهم في البرلمان، وكانت الهزيمة، إلى حدّ ما، نتاج سلوكهم الذاتيّ، خصوصاً سلوك ميتران الأقرب إلى التذاكي الواثق والسعيد. فهو اعتمد لتلك الانتخابات تمثيلاً نسبيّاً هدف من ورائه إلى تفتيت الصوت اليمينيّ، ومن ثمّ حرمان الديغوليّين الحصول على أكثريّة. لكنّ ما تأدّى عن هذا أنّ «الجبهة الوطنيّة»، واثقةً ممّا جنته في الانتخابات الأوروبيّة قبل عامين، كسبت أصواتاً ومقاعد حوّلتها طرفاً دائماً وراسخاً في الحياة البرلمانيّة.
وبسبب الهزيمة، اضطرّ ميتران إلى التعايش، أو «التساكُن» (cohabitation)، مع حكومة محافظة برئاسة الديغوليّ جاك شيراك. وهذه مشكلة فعليّة في فرنسا: فإذا صحّ أنّ النظام الرئاسيّ للجمهوريّة الخامسة يعطي الرئيس صلاحيّات قصوى، فإنّه لن يمتّعه بتلك الصلاحيّات إلاّ إذا حكم مصحوباً بأكثريّة برلمانيّة. فإذا لم تتوافر الأكثريّة رُدّ الرئيس إلى سويّة ملك دستوريّ، واستقرّت السلطة، بموجب دستور 1958، في يد رئيس الحكومة.
لكنّ ميتران أُعيد انتخابه رئيساً في 1988، بعدما أجمع عليه الحزب ولم يظهر من ينافسه، فجاء يحمل برنامجاً معتدلاً سُمّي «فرنسا المتّحدة»، تجنّبَ التأميمات كما تجنّب الخصخصة، مختاراً لرئاسة الحكومة أبرز الاشتراكيّين بعد الرئيس، وأكثر سياسيّيهم شعبيّةً ومرونةً: روكار. وبالفعل ضمّت حكومة روكار أربعة وزراء من يمين الوسط، لكنّها حقّقت، مع ولادتها، إنجازاً كبيراً هو برنامج الرفاه الذي عُرف بـ«الحدّ الأدنى من العوائد لتسهيل الاندراج في المجتمع» (RMI)، وذلك لمساعدة من هم في سنّ العمل ويتعذّر عليهم إيجاد عمل لكنّهم، مع هذا، لا يتلقّون أيّ تعويض عن البطالة.
وعلى رغم ما وصفه بعض مراقبي السياسة الفرنسيّة بكراهية ميتران لروكار، تبعاً لتجرّوئه المبكر على منافسته، ثمّ عدم تنزيهه عن الانتقاد، فقد عهد إليه، خلال عهده الثاني، بأمور الداخل السياسيّ لفرنسا، محتكراً لنفسه السياسة الخارجيّة ومسائل الاندماج الأوروبيّ.
ولم ينفصل اختيار روكار عن إحساس ميتران الصائب بأنّ في وسع رئيس حكومته مخاطبة «الصوت الوسطيّ» وجذبه، خصوصاً أنّ الأكثريّة البرلمانيّة التي تحقّقت للاشتراكيّين كانت نسبيّة وضيّقة. لكنْ يبدو أنّ وقوع هذا الخيار على روكار، وما أوحى به من أنّ الأخير سيكون وريث ميتران، استحضر حرب النجوم وصراع الأجنحة المعلن داخل الحزب ممّا كبتته حتّى ذاك الحين واحديّة ميتران وقوّته.
وبِقرب انقضاء عهده الثاني (1988-95)، انفجرت الحرب الأهليّة بين الاشتراكيّين. ففي 1991 أُبعد روكار بشيء من الجلافة، وجيء إلى رئاسة الحكومة بإديث كريسّون فمكثت عاماً واحداً حفّ بانتقادات كثيرة لنقص كفاءتها. وفي 1992، وبعد إحراز نتائج انتخابيّة هزيلة، تولّى بيار بيريغوفوا هذا المنصب، فيما كانت تتعاظم الشلليّة وتلحّ الحاجة التي لا تُلبّى إلى «وضوح إيديولوجيّ أكبر» يكرّس دمج الاشتراكيّين في الاشتراكيّة الديمقراطيّة الأوروبيّة، ويستكمل المُصالحة بين مبدأ السوق والأهداف الاجتماعيّة لليسار. لكنْ بينما عُلّقت الحلول، ظهرت فضائح (سيشار لاحقاً إليها) أمعنت في إضعاف الحزب، كما تبدّى في انتخابات 1993 حين لم ينل سوى 17،6 بالمئة من الصوت الشعبيّLine Rennwald, Social Democratic Parties…, p. 105..
والراهن أنّ الأكثريّة الحزبيّة الداعمة لميتران بدأت تفكّر في الخلافة والخليفة. هكذا قرّر ليونيل جوسبانجاء جوسبان من «التيّار اللومبرتيّ» التروتسكيّ الذي نشأ بنتيجة خلاف إيديولوجيّ وسياسيّ مع قيادة الأمميّة (التروتسكيّة) الرابعة.، الأمين العامّ إبّان الولاية الميترانيّة الأولى، دخول الحكومة بدل تولّي الحزب، ما فتح باب الصراع على الوراثة الذي أضاف إلى اسمَي روكار وجوسبان اسم لوران فابيوس. فالأخير الموصوف بأنّه الأقرب إلى الرئيس، والذي تولّى رئاسة الحكومة بين 1984 و1986، هو من رغب ميتران في توليته الأمانة العامّة، إلاّ أنّ مقاومة جوسبان الضارية لتسليمه مقاليد «حزبه» منعت ذلك. وعن هذا التنافس المرّ بين جوسبان وفابيوس تأدّى مزيد من تقسيم الحزب وتعطيل فعّاليّة العهد الاشتراكيّ الثاني.
هكذا، وضدّاً على رغبة الرئيس، وفي مؤشّر إلى النزاعات الداخليّة بعد انصرام عهده الثاني، اختير أوّل رؤساء الحكومة الاشتراكيّين بيار موروا للأمانة العامّة، بنيله 63 صوتاً ضدّ فابيوس الذي أحرز 54. يومها حظي موروا بدعم جوسبان وروكار وبعض الميترانيّين الذين انفكّوا عن الإجماع حول الرئيس. فموروا أقلّ ميترانيّة من فابيوس، بدليل تأييده روكار إبّان منافسته ميتران في السبعينيات، لكنّه أيضاً تسوَويّ يذهب ولاؤه لوحدة الاشتراكيّين، فيما يعوّل عليه البعض كموحِّد لحزب منقسم. وهو، مع أنّه شخصيّة مناطقيّة بارزة ومحترمة، كونه رئيس بلديّة مدينة ليل، ليس معروفاً بطموحات على مدى وطنيّ قد تستفزّ روكار وجوسبان. وتعويضاً لفابيوس، اختير رئيساً للجمعيّة الوطنيّة، وهو الموقع الذي لم يتكاسل في استخدامه لتعزيز مواقعه الحزبيّة، كما للتمتّع بحياة مرفّهة وكماليّة.
على أنّ المنافسات الحزبيّة وجدت تعبيرها الحادّ في مؤتمر رِنّ عام 1990 حيث تصادمت الطموحات والأطماع العارية مجدّداً وصولاً إلى حائط مسدود، حتّى أنّ دارسي الحزب يرون في المؤتمر المذكور مقدّمة مُلزمة لهزائم أخرى شهدتها التسعينيات. فإذ فقد ميتران السيطرة وبات عاجزاً عن فرض وريثه، بدت رغبة «التسوَويّ» موروا في التنحّي ذريعة للتنافس على القيادة. هكذا وجدنا روكار في مواجهة فابيوس ورئيس المفوضيّة الأوروبيّة جاك ديلور، فضلاً عن جوسبان وشوفنمان، دون أن تتوفّر لأيّ من هؤلاء أكثريّة تدعمه، علماً بضمور البند الإيديولوجيّ في المنافسة على نحو سوف نتبيّن لاحقاً نموّه وتعاظمه. وفيما كان انهيار الاتّحاد السوفييتيّ ومعسكره يُجدّد الإلحاح على إعادة التفكير في الأجندة الاشتراكيّة، كانت الانتصارات الكاسحة للنيوليبراليّة، توكيداً للمنافسة وحرّيّة السوق وتفكيك التدخّل الحكوميّ والخصخصة، تشدّد هذا الإلحاح.
وباقتراب استعادة الوحدة الألمانيّة، بانهيار جدار برلين، صارت مسألة أوروبا، المهمّة دائماً في حسابات ميتران، أشدّ أهميّة. هكذا نوقشت اتّفاقيّة أوروبيّة جديدة وأساسيّة هي ماستريخت التي رسمت الطريق إلى عملة اليورو. وجدّد الاتّجاهُ هذا تحريكَ الموقف الشيوعيّ المعادي المصحوب بعداء اليسار الاشتراكيّ (سيريس وشوفنمان). وبالفعل أجري في 1992 استفتاء ماستريخت الذي كان كفيلاً برفع جرعة الانقسام الاشتراكيّ، وتوطيد المعادلة القائلة إنّ اليساريّة والقوميّة في فرنسا حليفان وثيقان. هكذا خرج شوفنمان، مطالع 1993، من الحزب الذي تقلّصت رقعته فيه. وإذ أصابت سنوات الحكم الاشتراكيّ طموحاته اليساريّة بالإحباط، فقد أنشأ «حركة المواطنين» المناهضة للعولمة ولأوروبا. وبدوره افتتح خروج شوفنمان انشقاقات أصغر تعرّض لها الاشتراكيّ مع كلّ خطوة جديدة للاندماج في القارّة، وكان واضحاً أصلاً أنّ تأييد المحافظين والوسطيّين لماستريخت هو ما أمّن لها أكثريّة داعمة ضئيلة. لكنّ انشقاق شوفنمان افتتح شيئاً آخر هو انكشاف ضعفه وهامشيّته خارج الحزب، واستحالة تحوّله مرشّحاً رئاسيّاً بالتالي.
وإذ فاقم الوضعَ الحسّاس للاشتراكيّ تراجعُ شعبيّته، كان مرض ميتران، أواخر عهده الثاني، يحدّ من قدرته على التدخّل والتأثير، مؤكّداً الانطباع حول أزوف بداية نهاية الميترانيّة. فقد تلاحقت الفضائح التي دار أغلبها حول تمويل الحزب، بحيث أدان ميتران نفسه «المال القذر». وبِتداعي صورة فابيوس بسبب «فضيحة الدم الملوّث»، مع أنّه بُرّىء منها لاحقاً، انكشفت للعلن فضيحة تولّي ميتران منصباً في عهد فيشي، ممّا جرى التكتّم عليه سابقاً. وجاء هذا كلّه معطوفاً على الأزمة الإيديولوجيّة المستمرّة وانعكاسها على قاعدة حزبيّة مضعضعة وقليلة الثقة بنفسها.
وبوصفه أبرز الطامحين الرئاسيّين، بادر روكار إلى ملء الفراغات الكثيرة والكبيرة، فدعا في 1993، وكان تراجعُ شعبيّة الحزب بادياً، إلى «بيغ بانغ» سياسيّ يُعاد معه تأسيس اليسار، بحيث يُصار إلى تشكيل كتلة عريضة تضمّ الوسطيّين والبيئويّين ومنشقّي الحزب الشيوعيّ. لكنّ الانتخابات العامّة عامذاك حوّلت الأنظار نحو الكارثة التي ألمّت بالاشتراكيّين، حتّى أنّ روكار نفسه وبعض قياديّيهم البارزين كجوسبان رسبوا في الانتخابات، كما تقلّص التصويت للحزب إلى 18 بالمئة، عائداً إلى المعدلاّت التي كان يحصدها «الفرع الفرنسيّ» في الستينيات. أمّا الكتلة الاشتراكيّة البرلمانيّة فلم تتعدّ الـ53 نائباً بعدما كانت 260 في البرلمان السابق، فيما أحرز اليمين المحافظ 449 مقعداً من أصل 577.
وقبل الإبلال ممّا حصل، حلّت، في 1994، كارثة انتخابيّة أخرى حُمّلت مسؤوليّتها المباشرة إلى روكار، دون أن يكون توزيع المسؤوليّات بعيداً من صراعات الأجنحة ومكائد قادتها، بمن فيهم الرئيس المريض ساكن الإليزيه. فالحزب لم ينل في الانتخابات الأوروبيّة سوى 14 بالمئة، وما لبث أن أطاحه ائتلاف غير متجانس قاده هنري إيمانويللي الذي يُعدّ يساريّاً وميترانيّاً في الوقت عينه، وذلك قبل عام على انتخابات 1995 الرئاسيّة.
حينذاك بدا أنّ الحزب، الذي تتقاذفه صراعات قياديّيه، غير مهيّأ للمعركة، ولا يمتلك الوجه الرئاسيّ المطلوب: فروكار خسر معظم مؤيّديه بسبب هزيمة 1994 المدوّية، أمّا فابيوس فكان لا يزال يواجه «فضيحة الدم الملوّث»، فيما صُنّف إيمانويللي وجهاً يفتقر إلى المواصفات القياديّة. ولئن عُقدت الآمال على جاك ديلور، رئيس اللجنة الأوروبيّة الذي نوّهت استقصاءات الرأي بشعبيّته، فإنّه استنكف عن الترشّح لاعتباره أنّ الحزب أكثر راديكاليّة من أن يحتمل اعتداله.
وإذ ترافقت حرب النجوم وتراجع قدرة ميتران على التأثير مع ضمور العنصر الإيديولوجيّ المتمثّل بالماركسيّة، لا سيّما بخروج شوفنمان كآخر ممثّلي هذه النزعة، تزايدت القناعة بأنّ الخلافات باتت شخصيّة بحتة، ما عمل على صبغ الحزب، في نظر فرنسيّين كثيرين، بلون انتهازيّ منفّرأنظر David S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p. 58-9..
إلاّ أنّ عنصراً آخر شهدته التسعينيات، إبّان حكومة روكار في 1993-4، عكس نفسه على الحزب الاشتراكيّ كما على سواه من القوى. فقد تغيّرت قواعد تمويل الدولة للأحزاب، لناحية الضبط والمحاسبة على إنفاق المال العامّ. وكان لهذا التطوّر أن رفع تطلّب التنظيمات الحزبيّة للمهنيّين، بل ضاعف تمهين الأحزاب نفسها، ما منح الأمين العامّ سلطة إداريّة وتسييريّة أكبر. كذلك اتّسعت المسافة الوظيفيّة بين «السياسات العليا» والنشاط القاعديّ، فظهر نوعان منفصلان من الاحتراف الحزبيّ شرع اختلافهما ينافس الخلافات التقليديّة السابقة بين الأجنحة والنجوم. لقد أصبح «الموظّفون الحزبيّون» ذوي نشاطيّة سياسيّة أقلّ وانكباب إداريّ وبيروقراطيّ أكبرPhilippe Marlière, ‘Of What Use Is the French Socialist Party?’, In: Mouvements Volume 69, Issue 1, 2012.
وبدوره عاد جوسبان إلى الحلبة، هو الذي سبق أن أعلن عن تقاعده بعد خسارته مقعده البرلماني في 1993، مقدّماً نفسه المخلّص، وطالباً من أعضاء الحزب، وللمرّة الأولى، أن يسمّوا مرشّحيهم للرئاسة. ومستفيداً من صورة جيّدة في الاستقصاءات، ومن ولاء قويّ عُرف به للحزب، وصلةٍ وثيقة بميتران، أقلّه بين 1981 و1988، فضلاً عن تجربته في الحكم، تمكّن جوسبان من هزيمة إيمانويللي داخل الحزب، لينهزم في معركة 1995 الرئاسيّة أمام جاك شيراك.
لكنْ بالنظر إلى أزمة الاشتراكيّ، بدت النتيجة هذه أفضل من المتوقّع بحيث أعادته إلى الأمانة العامّة مصحوباً برهانات على توحيد الحزب الذي تعاقب على أمانته العامّة ما بين موروا في 1992 وجوسبان في 1995، فابيوس (1992-5) وروكار (1993-4) وإيمانويللي (1994-5). وبديهيّ أنّ هذه الكثرة المرفقة بقِصَر المدّة شهادة على استغراق الحزب في أزمته.
وبجوسبان وبنائه «اليسار المتعدّد» (plural left) في البرلمان كائتلاف يضمّ الأحزاب اليساريّة، أي الشيوعيّين والخضر وراديكاليّي اليسار ومؤيّدي شوفنمان، كُسبت انتخابات 1997 النيابيّة المبكرة، فاعتُبرت النتيجة «عودة لليسار» نال الاشتراكيّون بنتيجتها 255 مقعداً، وحلّ جوسبان في رئاسة حكومة «تَساكُن» آخر مع اليمين، شارك فيها الخضر والشيوعيّون.
لقد فُسّر الحدث هذا بالسياسات الاجتماعيّة غير الشعبيّة لرئيس الحكومة الشيراكيّ آلان جوبيه، وبتململ من طبيعة انتخابيّة، لا سياسيّة ولا إيديولوجيّة، من عهد شيراك. وبالفعل فقبل عامين على الانتخابات (1995) أعلنت النقابات إضراباً شهيراً حمل شيراك وجوبيه على التراجع عن مشاريعهما.
أمّا جوسبان فاعتمد خطّاً مرناً، مكّنه من أن يدير، بنجاح نسبيّ، العلاقات الصعبة مع شركاء ائتلافه. ذاك أنّ الخلافات بينهم استمرّت حيال الطاقة النوويّة ومخصّصات التقاعد وطول ساعات العمل والضمانات ضدّ التسريح وتأميم الصناعات، فضلاً عن مسائل النظام والقانون.
غير أنّ الحكومة تلك حقّقت إنجازات، كتخفيض ساعات العمل الأسبوعيّة إلى 35 واعتماد رعاية طبّيّة شاملة هي الأفضل في العالم، ومنح العمّال إجازة سنويّة مدفوعة لمدّة شهر، هي أيضاً الأعلى عالميّاً، وخفض البطالة بين الشبيبة ولو جزئيّاً، فضلاً عن تحسين طفيف في ميزان المدفوعات.
فرانسوا هولاند
مع هذا لم تحتفل البيئة اليساريّة بتلك المكاسب، إمّا لعجز «أستاذ المدرسة» جوسبان عن استنهاض مخيّلتها، أو لانشغال بعضها بالردّ على استغلال اليمين لماضيه التروتسكيّ، أو، وهنا السبب الأهمّ ربّما، لمضيّ تلك الحكومة في سياسات الخصخصة والاندماج الأوروبيّ. لكنْ إلى هذا، بدا الاشتراكيّون الذين يستولي عليهم تفسّخهم ومأزقهم الإيديولوجيّ المتواصل، غير قادرين على تثمير إنجازاتهم. فقد لوحظ أنّهم يومذاك راحوا يهاجمون السوق الحرّة الفالتة والنيوليبراليّة، لا الرأسماليّة نفسها، مقترحين فرض الضوابط على ذاك الفلتان، خصوصاً في مجال حماية البيئة. وعلى العموم، «بات في وسع أفكار السوق الحرّة أن تتحدّى الأسس الثقافيّة للاشتراكيّة دون أن تلقى أيّ جواب متماسك، لأنّ الاشتراكيّين قبلوا المنطق الاقتصاديّ للسوق فيما شجبوا آثاره»أنظر المرجع السابق، ص. 34..
هكذا استقال الشيوعيّون والخضر ممّن أحسّوا بأنّ مشاركتهم في حكومة «تسوويّة» تُضعفهم، كما استقال شوفنمان منها وانحلّ الائتلاف بالتالي. وفي نقد يساريّ لتلك التجربة، أنّ جوسبان، المنهمك في هندسة ائتلاف يساريّ يستطيع أن يحكم، راح يتخلّى عن الواجهة الاجتماعيّة لسياساته، مركّزاً على ما أسماه الملامح الجديدة في ممارسة الحكم، حيث تذهب الأولويّة إلى القضايا المجتمعيّة «التي يحبّذها جمهور مدينيٌّ آمِن ماليّاً ومتحذلق ثقافيّاً»، مع اعتماد إدارة «متزايدة القمعيّة» لآثار القلق الاجتماعيّ. وهذه المقاربات حملت اليساريّين على الجزم بقيام بليريّة ثانية على الضفّة الأخرى للقناةالمرجع نفسه، ص. 110..
في هذه الغضون أشرف جوسبان على الصعود الحزبيّ لفرانسوا هولاند الذي غدا، في مؤتمر بريست أواخر 1997، السكرتير الأوّل، مع أنّه لم يكن من أصحاب الأسماء المعروفة، إذ أعطاه قربُه من صانعه سلطته الحزبيّة. وهولاند، كحال جوسبان في 1981، لم يبدُ مُهدِّداً لأحد، فراعى دقّة التوازنات، دون أن يبني لنفسه قاعدة دعم خاصّة به. والأهمّ أنّ جوسبان بخوضه مجدّداً المعركة الرئاسيّة في 2002 في وجه شيراك، في ظلّ تكاثر المرشّحين المحسوبين على اليسار، انتهى في الموقع الثالث، بينما كان الخبر الجلل والخطير حلول زعيم «الجبهة الوطنيّة» جان ماري لوبين في الموقع الثاني، بحيث اضطرّ الاشتراكيّون وعموم اليسار إلى التصويت لشيراك. والنتيجة المدوّية والمهينة هذه، التي تبعها اعتزال جوسبان، فرّغت وِفاض الحزب من الأسماء الكبرى، جاعلةً عاديّة هولاند كافية لتقديمه وجهاً صالحاً لوحدة الحزب.
وزاد طين الاشتراكيّين بلّةً أنّ ما تبقّى من «يسار متعدّد» خسر انتخابات 2002 النيابيّة بعد شهرين فقط على الانتخابات الرئاسيّة. وبسبب الموقع المتقدّم الذي احتلّته في الأمزجة السياسيّة مسائل الأمن والخوف التي تجيد «الجبهة الوطنيّة» تحريكها وتوظيفها، حصدت الأخيرة ما يقارب المليون ونصف مليون مُقترع (وإن قلّص القانون الانتخابيّ تمثيلها إلى مقعد نيابيّ واحد).
ولوهلة بدا أنّ فابيوس الجريح هو آخر تذكير حيّ بماضي الانتصارات الميترانيّة، ما أوجب بعثه إلى صدارة الحياة السياسيّة، بل تراءى أنّه قد يكون المرشّح الرئاسيّ في موازاة استواء هولاند على رأس الحزب.
ففي مؤتمر ديجون في 2003 أعاد كبار أقطاب الاشتراكيّ انتخاب هولاند، ضدّاً على رغبة يساريّيه، كما وافق المؤتمر على مبدأ السوق مصحوباً بالالتزام بـ«الرفاه العامّ». مع هذا بقي الحزب على شيء من الحيرة في ما خصّ مدى التبنّي للعولمة ولخصخصة المشاريع العامّة واللامركزيّة. وكان للاختلافات حول هذه المسائل، ومعها الوحدة الأوروبيّة، أن ألقت أضواء كثيرة، وللمرّة الألف، على عوالم الحزب المتضاربة.
وفي الانتخابات المناطقيّة في 2004 لاحَ كأنّ انقلاباً يضرب أمزجة الفرنسيّين، إذ عاد الاشتراكيّون بقوّة إلى الضوء. فعبر تجديد التحالف مع «اليسار المتعدّد» كسبوا 20 منطقة من أصل 22 و4 مناطق عبر الحدود، ونالوا بالإجمال 31 مقعداً من أصل 78. والحال أنّ الحزب استفاد يومذاك من الغضب المتزايد على أحزاب اليمين لكنّه واجه مجدّداً صعوبات كبرى في بلورة بدائل عن سياساتها، خصوصاً في الموضوع الأوروبيّ. ففي أواخر ذاك العام وافق 59 بالمئة من أعضائه، على رأسهم القيادة الحزبيّة ممثّلة بهولاند، على الدستور الأوروبيّ المقترح، أو «المعاهدة الدستوريّة الأوروبيّة» (TCE)، لكنّ الكثيرين من قياديّيه المعروفين، ومعهم أقلّيّة وازنة، بمن فيهم فابيوس وإيمانويللي والوجه الصاعد جان لوك ميلونشون، طالبوا الجمهور بالتصويت بـ«لا» في استفتاء الدستور الأوروبي الذي يُفترض إجراؤه أواسط 2005، وهو الاستفتاء الذي رُفض فيه الدستور.
وكان لافتراق المواقف أن تسبّب بإبعاد فابيوس عن المكتب التنفيذيّ، بحيث ضعفت حظوظه مجدّداً، هو الذي رُدّ موقفه إلى أسباب تكتيكيّة تنسجم مع شخصه، إذ أفادت مجادلته بأنّ مشروع الدستور ليبراليّ أكثر ممّا يجب، وأنّه لا يأخذ في حسابه الموضوع الاجتماعيّ لأوروبا ممّا يُفترض بأحزاب الاشتراكيّة والاشتراكيّة الديمقراطيّة أن تتبنّاه.
هكذا ظهرت في مؤتمر لو مان، أواخر 2005، ثلاث مجموعات: أكثريّة في حدود الـ55 بالمئة تؤيّد أوروبا باعتدال، وكتلة فابيوس (20 بالمئة) التي بات قائدها راديكاليّاً على حين غرّة، ومجموعة ضمّت كتلاً صغرى من يساريّين ومتذمّرين، أكّدت على تجديد الحزب عبر سياسات أكثر يساريّة يرافقها إصلاح عميق للمؤسسات الفرنسيّة (25 بالمئة). وفي النهاية توافق الجميع على أجندة مشتركة تُصادق على موقع الأكثريّة المؤيّد لأوروبا إلاّ أنّها ترصّعه بتعديلات يساريّة متحفّظة.
وتزاحم المرشّحون الطامحون على انتخابات 2007: فرانسوا هولاند الذي لم يقنعه الاقتصار على المنصب الحزبيّ، ورولان فابيوس إيّاه، وكذلك دومينيك ستراوس كان وجاك لانغ ومارتين أوبري وسيغولين رويّال التي أشارت استقصاءات الرأي إلى أنّها المفضّلة.
واختار الأعضاء في أواخر 2006 رويّال بتأييد 60 بالمئة، فيما نال ستراوس كان 21 وفابيوس 19. أمّا في الانتخابات الرئاسيّة نفسها فحصدت رويّال أكثر من ربع الأصوات وتأهّلت للدورة الثانية، لتكون أوّل امرأة تحرز هذا الهدف، إلاّ أنّها، ومعها 46 بالمئة من الأصوات، خسرت المواجهة أمام نيكولا ساركوزي.
لكنْ مباشرة بعد الهزيمة، وكما حصل مع روكار، حمّلَ الكثيرون من قادة الحزب الطامحين المسؤوليّة لرويّال وحدها فيما قبل بعض «يمينيّي» الحزب الانضمام إلى حكومة الرئيس الجديد. أمّا في الانتخابات العامّة التي تلت فلم ينل الاشتراكيّون سوى 186 مقعداً، و40 مقعداً احتلّها أصدقاء لحزبهم، من أصل 577.
ومرّة أخرى تجدّدت حرب النجوم في مؤتمر رانس الحزبيّ، عام 2008، تكراراً لما كانته الحال في مؤتمر رنّ في 1990. فبعد نجاحات تحقّقت للاشتراكيّين في انتخابات 2008 البلديّة، ومع استقالة هولاند من قيادة الحزب، انفجر التنافس أواخر ذاك العام على السكرتيريّة الأولى، ما دامت معركة رئاسة الجمهوريّة بعيدة. فقد أعلن هولاند عن الترشّح مجدّداً، كما ترشّحت أيضاً رويّال ساعيةً لبناء تحالف سياسيّ مع حزب «الحركة الديمقراطيّة» الوسطيّ والمتحمّس لأوروبا الذي أسّسه الوزير السابق والمرشّح الرئاسيّ السابق فرانسوا بايرو، كما ترشّح رئيس بلدية باريس برتران ديلانو المدعوم من جوسبان والذي شاء أن يحيي صيغة «اليسار المتعدّد»، ومارتين أوبري، رئيسة بلديّة مدينة ليل وابنة القطب الاشتراكيّ جاك ديلور المدعومة من مؤيّدي فابيوس وستراوس كان، علماً بأنّ استراتيجيّتها لا تضيف إلى استراتيجية ديلانو سوى التوكيد على أهميّة المصالحة بين مؤيّدي حمْلة الدستور الأوروبيّ وخصومه، واليساريّ الشابّ بنوا آمون كذلك. وقُدّر، قبل التصويت، أن تكون رويّال الأولى، يليها ديلانو فأوبري فآمون.
وخلال المؤتمر الذي شابَهُ الكثير من التوتّر، عجز المتنافسون عن التوصّل إلى أكثريّة وتَوافُق، فاختار الأعضاء بالتصويت المباشر سكرتيرهم الأوّل. وإذ خاب أمل ديلانو فانسحب داعياً إلى التصويت لأوبري، ألحقت الأخيرة هزيمة بمنافستها رويّال بفارق ضيّق لا يتعدّى الـ42 صوتاً. يومذاك لاح للمهتمّين بإسباغ لون إيديولوجيّ على نزاعات الأقطاب الاشتراكيّين وصفُ رويّال باليمينيّة وأوبري باليساريّة، كونها الوزيرة التي ارتبط باسمها خفض ساعات العمل إبّان حكومة جوسبان (1997-2002). وإذ احتجّت رويّال وشكّكت بالنتيجة، تبادلت المتنافستان ومؤيّدوهما اتّهامات موحلة عن التزوير والتلاعب بالأرقام والحقائق، ما زاد في إضعاف صورة الحزب وصدقيّته.
لكنّ المؤتمر المذكور سجّل حدثاً آخر ظهرت أهميّته النسبيّة لاحقاً. ذاك أنّ ميلونشون الذي انتسب إلى الحزب في 1976، وانضوى في جناح شوفنمان اليساريّ، غادره آنذاك ليؤسّس «حزب اليسار». وميلونشون الذي سبق أن خاض في 1997 معركة الأمانة العامّة ضدّ هولاند المدعوم من جوسبان، لم يحصل على أكثر من 10 بالمئة من الأصوات، قانعاً بأن يشغل وزارة ثانويّة في 2000-2002، في حكومة المساكنة الجوسبانيّة.
ومرّة أخرى ترافقَ هذا التذرّر مع تواصل الارتباك الإيديولوجيّ، دون أن تكون هناك دائماً، وبالضرورة، صلة سببيّة قاطعة بين العنصرين. فعلى جبهة أقصى اليسار الاشتراكيّ استمرّ بالقوّة نفسها رفض أفكار السوق الحرّة والعولمة وساد الشكّ بأنّ هذا الإصرار المستجدّ على التنافسيّة سيجعل الاشتراكيّين رعاة تَرك الضعفاء والفقراء أمام غائلة السوق. أمّا الأنصار العلنيّون لرفض التدخّل والتنظيم ولخفض الضرائب، أي اعتماد المقاربة البليريّة، فظلّوا قلّة معزولة، كحال جان ماري بوكِل الذي استقال في 2007 من الحزب وأسّس حزب «اليسار الحديث» (أو العصريّ) قبل أن ينضمّ إلى ساركوزي، أو كحال فابيوس في هذه المرحلة أو تلك.
وإذ استمرّ الحزب يناقش مواقفه من السوق الحرّة وسياساتها وما قد يلازمها من إجراءات، فإنّ الفشل الانتخابيّ لرويّال وحزبها في 2007 وفّر مزيداً من الحجج لضرورة الحسم النظريّ والفكريّ. وأبدى، في هذه الغضون، بعض قادة الحزب البارزين محاولات «لتزويج الليبراليّة وتضامن الرفاه»، إلاّ أنّ هذا بقي أقرب إلى شعارات لا ترقى إلى نظريّة، فـ«ظلّ التوتّر بين أهداف الحرّيّة الفرديّة في السوق وإعادة التوزيع خدمةً لأهداف التضامن الاجتماعيّ غير مَبتوت». وبضياع وحيرة كاللذين عُرف بهما «الحمار الفلسفيّ»، واجه الحزب أزمة الأسواق الماليّة في 2008 التي أعادت الاعتبار لمبدأ التدخّل الكينزيّ، بقدر ما منحت يساره موقعاً سجاليّاً أقوى. بيد أنّ الدفاع عن التوفيق بين المساواة والتضامن الاجتماعيّ وبين الحرّيّة الفرديّة، على طريقة جوريس والاشتراكيّة الديمقراطيّة الإسكندينافيّة، لم يتحوّل سياسةً يُعمل بها، بل حصل العكس بالأحرى: فبالإفادة من أزمة الثقة التي ضربت الاشتراكيّ، اقترح أحد أقطابه، مانويل فالس (الذي تولّى لاحقاً رئاسة الحكومة)، التخلّي الكامل عن «الاشتراكيّة»، إن كمفهوم أو كتسمية، بينما شدّد قادة آخرون على إدانة «قيم السوق» دون أيّة بلورة لموقف واضح من «اقتصاد السوق»David S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p. 111-112..
أمّا بحسب نُقّاد اليسار الراديكاليّ، ممّن تعاظم اصطباغُ نقدهم بالندب، فإنّ الحزب لم يعد ينوي «تغيير الحياة» (changer la vie)، إذ كفّ منذ وقت طويل عن التحدّث عن الثورة لصالح إصلاحات «تنظّم» عمل الرأسماليّة أو تسيطر عليه. وفي 2008 تحديداً، حُسم الأمر نهائيّاً لصالح الإصلاحيّة، كما دلّ إعلان جديد للمبادىء ترافق مع صعود أوبري، وبات السؤال المطروح يدور حول المدى الذي يبلغه الحزب في تقبّل إصلاحات اليمين التي راحت تطيح عقوداً من الانتصارات الاجتماعيّة ممّا تحقّق بقيادة أحزاب اليسارPhilippe Marlière, Of What Use….
ومع أزوف انتخابات 2009 الأوروبيّة، لم ينجح الاشتراكيّ في استثمار ضعف شعبيّة الرئيس ساركوزي، فلم يحصل إلاّ على 16.5 بالمئة من الأصوات. لكنّ الحزب، في المقابل، عزّز شبكات الاقتراع المحلّيّ، ما مهّد له الفوز السهل نسبيّاً في الانتخابات القطاعيّة والمناطقيّة عام 2010، بما في ذلك في المدن الكبرى. وفي أيلول 2011، أي عشيّة الانتخابات الرئاسيّة، انتخب لأوّل مرّة منذ خمسين سنة اشتراكيٌّ هو جان بيار بِلّ رئيساً لمجلس الشيوخ المعروف تقليديّاً بسيطرة اليمين.
انتصار فهزيمة وهزيمة فانتصار
حيال ظاهرة التأرجح هذه، ما بين انتصارات عارضة وهزائم عارضة، ركّز بعض المراقبين على خدمات الاشتراكيّين، أي توفيرهم فرص العمل الإداريّة وفرص الطموح لطالبيها ممّن تحوّل كثيرون منهم إلى أقطاب وأعيان جدد منضوين في الحزب، فيما توقّف مراقبون آخرون عند تولّي الاشتراكيّين تنظيم العلاقات الاجتماعيّة لليمين الممسك بالسياسة الاقتصاديّة وترتيبها في ظلّ تراجع الفوارق الإيديولوجيّة بين الطرفين وانحصار الخلاف في ما هو إجرائيّ. وفي الحالتين، حقّقت ثقافة الإدارة والتسيير تقدّماً داخل الحزب واكب الميل الوطنيّ العامّ إلى التخفّف من الإيديولوجيا، فباتت المحطّات الانتخابيّة أهمّ أحداث الحياة الحزبيّة، إن لم تكن أحداثها الوحيدة، كما باتت السياسة والمواقف أشدّ ميلاً إلى الشخصنة التي ترتبط بالقادة الحزبيّين على المستويين الوطنيّ والمحلّيّ. لكنّ تلك التحوّلات لم تمرّ من دون رضّات طالت العلاقة بالنقابات والروابط الحزبيّة، كما ببعض المعلّمين والمثقّفين المتبرّمين.
والواقع أنّ أحوال الاشتراكيّين المزرية لم تعنِ أنّ حزبهم فقد كلّ قدرة على إحراز النجاح في انتخابات بلديّة أو نيابيّة، أو حتّى رئاسيّة كما سوف نشهد بعد عام واحد. ذاك أنّ تصدّعه لم يُفقده هيمنته على ما ظلّ يُسمّى باليسار، في موازاة اقتراب الحزب الشيوعيّ من الاضمحلال. وهذا ما جعله المحطّة التي يصبّ فيها الاعتراض على أيّة سياسة يمينيّة أو وسطيّة غير شعبيّة، من غير أن يُخلّ الاعتراض بما غدا من مألوفات السياسة «المحترمة». إلى ذلك، كان وراء الحزب تاريخ عريق من العمل في السياسات المحلّيّة وتسيير إدارات وسلطات مناطقيّة، يصحّ هذا في أبرز المدن الكوزموبوليتيّة كباريس نفسها، وكليون وتولوز وسواهما. وواقع كهذا يتضمّن الخبرة المديدة من جهة، والاندماج في التناقضات المحلّيّة، غير المؤدلجة بالضرورة، من جهة أخرى. وبالطبع يُستبعَد أن تتبخّر مرّة واحدة الشعبيّة التي توفّرت للحزب بسبب الإنجازات التي حقّقتها هذه الحكومة الاشتراكيّة أو تلك، في عهد ميتران وبعده، كتقليص ساعات العمل، والإجازات المدفوعة، ومكافحة «الفقر الجديد». وكان في مقدّمة تلك الإنجازات برنامج حكومة روكار للرفاه (1988)، والرعاية الطبّيّة الشاملة لآخر حكومات جوسبانعن قوّة الاشتراكيّين وضعفهمأنظرMathieu Fulla, the rise and fall of French Socialism….
بيد أنّ السياق العريض، في محصّلته، كان انحداريّاً ومتآكلاً. ففي أواخر العام نفسه (2011) انفجر التنافس، أيضاً وأيضاً، على الترشّح لانتخابات 2012 الرئاسيّة. ومع أنّه لم يعلن ترشّحه رسميّاً، بدا دومينيك ستراوس كان، الذي كان مديراً لصندوق النقد الدوليّ، الأكثر تأهيلاً ومقبوليّة وقدرة على إلحاق الهزيمة بساركوزي. إلاّ أنّ فضيحة التحرّش الجنسيّ في نيويورك أخرجته من المعترك ومن كلّ معترك عامّ.
وكان مجرّد طرح اسم ستراوس قد أثار حفيظة اليسار الحزبيّ، إذ من غير المقبول لإلحاق الهزيمة بساركوزي، «رئيس الأغنياء»، أن يتقدّم الاشتراكيّون بمرشّح هو «أشدّ انفصالاً عن الوقائع اليوميّة للفرنسيّين، ويرأس مؤسّسة تقبع في قلب الرأسماليّة الماليّة»، فضلاً عن أنّ نمط حياته لا يختلف عن نمط حياة ساركوزي، بحسب المنتقدين.
وستراوس سبق أن وافق على تسمية ساركوزي له رئيساً لصندوق النقد، حيث اكتسب صيت الإصلاحيّ المتعاطف مع البلدان الأضعف والأفقر، وإن لم يصل تعاطفه إلى الحدّ الذي كان يطالبه به يساريّو الحزب.
وعلى أيّة حال تولّت فضيحة نيويورك إبعاد هذه الكأس عن شفاه اليسار الاشتراكيّ، وحينما سقطت الاتّهامات الموجّهة له، صيف 2011، حافظ الحزب على استبعاده له كمرشّح رسميّ.
هكذا خاض هولاند، قائد الحزب بين 1997 و2008، المواجهة الرئاسيّة وتمكّنَ من هزيمة ساركوزي (51.6 بالمئة مقابل 48.3) ليغدو أوّل رئيس اشتراكيّ بعد ميتران، كما ضاعف فوزه بنيل حزبه أكثريّة مقاعد المجالس البرلمانيّة والمحلّيّة. فشعبيّة ساركوزي لم تضعفها أزمة 2008 الماليّة وذيولها فحسب، بل أضيف إليها فساد مصحوب بنهج نيوليبراليّ متطرّف، وخطاب عنصريّ مهموم بمناشدة بيئة «الجبهة الوطنيّة». وبمعنى ما يجوز اعتبار تلك الهزيمة محاسبة لليمين الدولتيّ، الذي يُعدّ تقليديّاً معتدلاً، لانقلابه على ذاك التقليد واتّباعه ما سمّي بـ«الخطّ الألمانيّ» لغيرهارد شرويدر، أي التقشّف والاقتطاع من الإنفاق العامّ والخدمات، وهذا فيما كانت الأزمة الماليّة تحرمه إنجازات استطاع أن يحقّقها قادة نيوليبراليّون آخرون.
لكنّ سنوات هولاند الرئاسيّة اتّجهت به، هو الآخر، يميناً. فبعد ستّة أشهر على تسلّمه الرئاسة، باتت «الليبراليّة الاجتماعيّة» مفهوماً حاكماً بوصفها مزاوجة بين الاشتراكيّة وأولويّة العرض بهدف رفع تنافسيّة السلع الفرنسيّة عبر خفض الضرائب. وجاء هذا الطرح ضدّاً على المبدأ الكينزيّ التقليديّ الممثّل بأولويّة الطلب ورفع الأجور المتدنّية لحفز النموّ. فقد وُصِفَ المبدأ المذكور بنقص الفعّاليّة، فيما كان يسود ميل، وإن غير معلن دائماً، إلى تكرار تجربتي بلير وشرويدر في بريطانيا وألمانيا، واعتماد «طريق ثالث» بالتالي.
وإذ باتت منافسة الحزب الشيوعيّ على الطبقة العاملة جزءاً من ماضٍ ميّت، تبعاً لضمور الطبقة العاملة التقليديّة واقتراب «حزبها الطليعيّ» من الاندثار، لم يعد مستغرباً أن يُعيَّنَ في صيف 2014 «الوسطيّ» و«التقنيّ» إيمانويل ماكرون، رئيسُ الجمهوريّة اللاحق، وزيراً للاقتصاد والصناعة في الحكومة الثانية التي شكّلها مانويل فالس. كذلك، وبحضّ من الأخير، تمسّكت الإدارة الاشتراكيّة بمبدأ الحفاظ على المؤسّسات والعزوف عن تغييرها، ما دام أنّها تبرهن عن قدرتها على التكيّف، ما صدم القاعدة الحزبيّة الأكثر أرثوذكسيّة، والتي درجت على مساواة حكم الاشتراكيّين بتغيير المؤسّسات.
وسريعاً ما أبدى نوّاب الحزب تذمّرهم، وحتّى المعلّمون، الذين كانوا على الدوام من حصون الحزب، شرعوا ينكفئون عنه. وبدوره وجد الاحتجاج دعمه لدى وزراء اشتراكيّين سابقين كبنوا آمون، ولدى أركان حزبيّين كمارتين أوبري التي انتزع هولاند منها الترشّح للرئاسة، خصوصاً وقد بلغت الإعفاءات الضريبيّة على الشركات الكبرى في 2017، آخر سنوات ولاية هولاند، 30 مليار يورو.
وإذ اقترح هولاند، أواخر 2015، نزع الجنسيّة عن الإرهابيّين مزدوجي الجنسيّة، تفاقمت الخلافات الحزبيّة الداخليّة وسط تراجع عامّ وكبير في شعبيّة الاشتراكيّين، فلم تأزف انتخابات 2017 الرئاسيّة حتّى عزف هولاند عن خوضها، مسجّلاً ما يقارب الاستثناء على قاعدة سياسيّة وانتخابيّة في فرنسا. ووفق رواية المحلّل اليساريّ لوران بوفي، الذي ينبذ فكرة ضمور الطبقة العاملة، فإنّ الحزب الاشتراكيّ تخلّى عن تلك الطبقة فتخلّت بدورها عنه وانجذبت إلى «الجبهة الوطنيّة». أمّا التخلّي الأوّل فمفاده تراجع الاهتمام بالمسائل الاقتصاديّة مصحوباً بالتجاهل لمخاوف العمّال البيض من الهجرة الملوّنة، علماً بأنّ الحزب لم يقتصد في مراعاة الحساسيّات الثقافيّة والجنسيّة لجميع الأقلّيّات، ما خلا الطبقة العاملةأنظر Kim Willsher, ‘Abandoned’ French working class ready to punish left’s neglect by voting for far right, the Observer, 22/3/2015.. ومنذ التسعينات لم يعد «الاتّحاد الفرنسيّ الديمقراطيّ للعمل» (CFDT) مقيّداً باستراتيجيّات الحزب الاشتراكيّنشأ في 1964 وانضمّ الكثيرون منه، قيادةً وقاعدةً، إلى الحزب الاشتراكيّ في 1974، متأثّرين يومذاك بروكار ومبدأ «التسيير الذاتيّ»، وباتوا يُحسَبون في عداد «اليسار الثاني».، تماماً كما لم يعد «الاتّحاد العامّ للعمل» (CGT) مقيّداً باستراتيجيّات الحزب الشيوعيّ.
والحال أنّ الحزب مذّاك، وعلى رغم انتخاب هولاند رئيساً، يسير في خطّ من التراجع، باحثاً عن فرانسوا ميتران ما لن يأتي. فقد ضمّ الاشتراكيّ 134 ألف عضو، في مؤتمره السادس والثلاثين عام 2013، ولم تكن نشوة الانتصار الرئاسيّ قد خمدت حينذاك، لكنّ نسبة الذين كانوا يسدّدون اشتراكات العضويّة لم تتجاوز الـ 54 بالمئة، في عدادهم 89 رئيس بلديّة. وبصورة عامّة، وكما لاحظ بلّ وكريدل، فإنّ نسق عضويّة الحزب وتطوّرها نسق بطيء إلاّ في أحيان الانتخابات الرئاسيّة حيث تؤدّي الحماسة للمرشّح الحزبيّ إلى الإقبال والانتساب، ثمّ لا يلبث التراجع أن يطغى ويسود. وإلى ذلك سبق أن انخفض الانتساب في 1994 إلى 97 ألفاً، ولئن عاود الارتفاع إلى ذروة بلغت 230 ألفاً في 2008، فذلك لم ينفصل عن تخفيض القسط الماليّ للعضويّة حينذاك في ظلّ منح الأعضاء فرصة المشاركة في اختيار مرشّح الحزب الرئاسيّ. ولم يكن قليل الدلالة ما حصل في 2010 حين أقدمت أوبري، الأمينة العامّة يومها، على حرمان 48 ألف عضو من تلك الفرصة لأنّهم لم يسدّدوا ما يتوجّب عليهم للحزبأنظرDavid S. Bell & Byron Criddle, Exceptional Socialists…, p. 39-40..
بيد أنّ الضربة القاصمة حلّت مع انتخابات 2017، حين فشل مرشّح الحزب الرسميّ بنوا آمون في جمع الاشتراكيّين وجهازهم الانتخابيّ وراءه، فاختارت أكثريّة نُخبه التصويت لماكرون، وذهبت أقلّيّتها إلى تأييد ميلونشون. هكذا لم ينل آمون أكثر من 6.36 بالمئة من الأصوات في الدورة الأولى، كما لم ينل الاشتراكيّون سوى 7.4 بالمئة من الصوت الشعبيّ.
ومع أنّ الحزب احتفظ بمواقعه في الحكومات المحلّيّة، فإنّ قائده الجديد أوليفييه فور لم يوفَّق في جمع رموز الأجنحة المتناحرة، ولا في التوصّل إلى بناء استراتيجيّة جديدة للتحالفاتMathieu Fulla, the rise and fall of French Socialism…، فيما باتت الأحداث التي تتتالى تؤكّد كلّها أنّ ما من فرانسوا ميتران آخر في الأفق، بل أنّ ميتران الأصليّ هو نفسه أحد أسباب امتناع التكرار.