الست والريّس 

في شباط (فبراير) 1966، تجمّع المئات من رجال الدولة والعسكريين وطلاب كلية الشرطة في أكبر قاعة في جامعة القاهرة للاحتفال بيوم الشرطة الوطني. بينما كان الموسيقيون يدَوْزنون آلاتهم الموسيقية، وكاميرات التلفزيون الحكومي تطوف في القاعة المُزينة بلافتة تحمل شعار «وحدة، اشتراكية، حرية»، وصفت مقدّمة الحفلة أهمية الحدث في رحلة مصر في سبيل التحرر: 

أيها السادة، إن أيام كفاحنا قصيرةٌ في عمر التاريخ ولكنها كبيرةٌ وعميقةٌ في حياة هذا الشعب الذي وصلت به تجاربه إلى عقائدَ واضحة لا تحتاج إلى مدلول أو تأكيد، لأنها تفرض وجودها في ضمير كل إنسان حرّ كريم، عاش التجربة وشارك في صُنعها ودلَلّ على أصالتها، لأنها نابعة من مطالبه واحتياجاته. لقد حطّم الشعب قيده، إذ انطلق بقيادته النابعة من وجوده، يحقّق ثورة اجتماعية حقيقية، إلى جانب ثورته السياسية، يغذّي بها معالم الحياة. فقد حطّم الإقطاع، وصفّى الاستعمار، وانتصر في معركة السويس، وقضى على سيطرة رأس المال، ونبذ الأحلاف بكل أشكالها، وكسر احتكار السلاح، وبنى الجيش الوطني القوي، وأقام بناءً صناعياً ضخماً، وأرسى دعائم الثورة الاشتراكية السليمة، ثم أقام تحالف قوى الشعب العاملة التي تقود النضال المستمرّ للقضاء على الرجعية وأساليب الاستعمار الذي يحاول دائماً أن يجددّها من حولنا…أيها السادة، مع رجال الشرطة في فترة من فترات كفاحهم يخلّدون بها هذه الذكرى، نسهر معهم في هذا العيد الذي تحييه كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم…أيها السادة، دخل الآن السيد الرئيس جمال عبد الناصر. وبعد قليل يَرفع الستار مرةً أُخرى عن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم في وصلتها الغنائية التي سنستمع فيها لـ«أمل حياتي»، من تأليف أحمد شفيق كامل وتلحين محمد عبد الوهاب.

لم يكن غريباً أن تغني أم كلثوم  في مناسبات يرعاها عبد الناصر. كانت الاحتفالات الرسمية فرصةً مزدوجةً لعبد الناصر لاستعراض انتصارات مصر ووَحدتها، والمدّ الثوري المتمثّل في حرب الاستقلال الجزائرية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك على إيقاع غناء أشهر مُغنية عرفها العرب.

كان ذلك زمن أم كلثوم التي استطاعت أن تستحضر روح العصر. فمن خلال تعاونها مع أبرز شعراء وملحني عصرها، نجحت في التعبير عن طموحات الذات العربية والمصرية في مرحلة التحرّر القومي. كانت موسيقاها حديثة ومتَطلّعة إلى الأمام، لكنها متصالحة مع ماضيها الشرقي، جامعة بين المقام الكلاسيكي وغيتار عمر خورشيد. 

بَنَت أم كلثوم صورتها بعناية. لم تقدّم نفسها كموضوع للرغبة، ولكن كشخصية راعية وأموميةللاطّلاع على قراءة جندرية لصورة أم كلثوم، راجعوا لورا لوهمان (ص. 124-126).. كانت «أم العرب»، القادرة على حشد الجماعة الوطنية حول الأصالة وهوية عربية واحدة موحدة. في مقابلاتها النادرة، تحدّثت بتواضع عن تَقواها واعتزازها بجذورها الريفية. وأكّدت أنها، رغم ثروتها وشهرتها، لا تزال وفيةً لجذورها، مصدر إلهامها الحقيقي. يتّضح دور أم كلثوم الجامع في سِيَرها العديدة، التي تشبه السِيَر التطويبيّة والمدائح المطولة، شبه الخالية من النقد، والتي تصوِّر «الستّ» على أنها مصدر فخر وطني ثابت في وجه المشهد السياسي المتغير.

بالرغم من المثالية التي صبغت صورة أم كلثوم، إلا أن المغنية عَرَفت البراغماتية ولم تتوان عن التفاوض حول الشروط السياسية والجمالية في عصرها. وُلدت أم كلثوم في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وعاشت لتؤدي مرثيةً لزعيم الاستقلال سعيد زغلول، ومدحاً للملك فاروق، والعديد من المدائح والمراثي لجمال عبد الناصر. وعلى الرغم من التوتر العَرَضي الذي شاب علاقتها مع عبد الناصر، ظلّت أم كلثوم أيقونة شعبية، وأحد مصادر الفخر القليلة لنظام عبد الناصر الذي بان على هشاشته بعد حرب حزيران (يونيو). شهِدت أم كلثوم انتقال السلطة للسادات بصمت، وانسحبت تدريجياً من الأضواء. وهكذا، كان العالم الذي عَرَفته أم كلثوم يُعاد اختراعه والتنازع عليه باستمرار، تتفاعل معه ليس فقط كمؤدية للأغاني الرومانسية والدينية والوطنية، ولكن أيضاً كفنانة تتأقلم مع المراحل الإيديولوجية المتتالية. 

لكن في الوقت الذي كانت فيه أم كلثوم تستحضر القومية المصرية وزهاءَها بانتصاراتها عند غالبية المصريين، كانت مصدر قلق وخيبة أمل عند البعض. في أعقاب حرب حزيران، بدأ مثقفون مصريون وعرب يعيدون النظر بأدوارهم التحررية وبالمرحلة الناصرية، لا سيّما في الحقلين الثقافي والفني اللذين عززتهما الناصرية. فرأوا في أم كلثوم تجسيداً لآمال كاذبة لم تتحقّق أبداً. قرأ بعض النقاد والشعراء والأدباء الجماليّ في السياسي، والعكس، معتبرين أن أغاني أم كلثوم متواطئة في الخسارة الكبيرة، لا سيّما لقدرتها على تخدير العرب من خلال غمرهم بأوهام النصر والتفوقعلى سبيل المثال، يقدّم حازم صاغية في الهوى دون أهله (1992) نقداً لاذعاً لعبد الناصر لتوحيده الذائقة الموسيقية وحصرها بشخص أم كلثوم، التي قامت بدورها بتطبيع التناقضات المعرفية التي شابت النظام الناصري. وفي مملكة البربرية (1976) يقرأ الشاعر عبد اللطيف اللعبي في أم كلثوم تجسيداً عنيفاً للجمال والقوة والخسارة معاً.. على الرغم من صعوبة إنكار صلة أم كلثوم بعبد الناصر والناصرية، فإن عُمْق هذه العلاقة لا يزال موضع خلاف، حيث يمتنع النقاد عن حصر مسار أم كلثوم الذي دام خمسين عاماً في نظام عبد الناصر الذي لم يكمل العقدين. 

قبل عقد من هزيمة 1967، كانت التصدّعات قد بدأت تظهر في نظام عبد الناصر. كان المعارضون الشيوعيون والإسلاميون يشاهدون عبد الناصر في حفلات أم كلثوم على التلفزيون المصري، ويشهَدون على التناقض بين الخطاب الإيديولوجي الواعد باليوتوبيا والقمع الذي يعرفونه في واقعهم السياسي.  

كيف رأى الكتّاب المصريون الذين كانوا على هامش نظام عبد الناصر موقعَ أم كلثوم في النظام الناصري، وكيف مثّلوا امتياز أم كلثوم وقوتها المتراكمة؟ وكيف ارتبط تقويضهم لأيقونة ثقافية بحجم أم كلثوم بنقدهم للناصرية؟

أُجيب على هذه الأسئلة بإظهار الطرق المتعددة التي شكك بها الروائيّان المهمشان ألبير قصيري ووجيه غالي وشاعر العامية أحمد فؤاد نجم بأيقَنة أم كلثوم. تناول الكتّاب الثلاثة النشاز الإيديولوجي الذي اختبروه في نظام عبد الناصر، وبالتحديد في شعار «وحدة، اشتراكية، حرية»، فوجّهوا نقدهم نحو أم كلثوم في حركة تقويضيّة، لم تشكّك بقيمة الست كفنانة، لأن هذا لم يكن أبداً محل خلاف، بل بسلطتها كلاعبة سياسية، والأهم، كتجسيد لخطاب إيديولوجي لا يَني يزداد تناقضاً.

الست ونادي البلياردو  

كانت حياة وجيه غالي مليئة بالبدايات العاثرة والاحباطات. وُلد غالي عام 1930(؟)، وفقد والده في سن مبكرة وعاش طفولة هائمة، متنقلًا بين أقارب والدته، الذين كانوا جميعاً من أرستقراط القاهرة الكوزموبوليتانيين. رفضت عائلة غالي ميوله الماركسية والحياة البوهيمية التي عاشها بين باريس ولندن، حيث نشط مع اليساريين الأوروبيين ضد العدوان الثلاثي. أدرك غالي، لدى عودته إلى القاهرة عام 1956، أنه على الرغم من سياسات عبد الناصر، حافظت الطبقة الأرستقراطية على امتيازاتها التي باتت تشمل أيضاً الجيش المصري. بعد فترة وجيزة، انضم غالي إلى صفوف المعارضة الشيوعية السرية، وفرّ إلى ألمانيا الشرقية عام 1958، واستقر أخيراً في لندن. عام 1964 نشر روايته اليتيمة بيرة في نادي البيلياردو باللغة الإنكليزية. بعد أشهر قليلة من حرب 1967، راسل غالي صحفاً بريطانية من القدس المحتلة قبل أن يعود إلى لندن، حيث أنهى حياته انتحاراً. يكتنف الغموض حياة غالي، لا سيّما هويته الحقيقية والأسباب التي دفعته لخرق المقاطعة العربية لإسرائيل. 

في العقدين الأخيرين لاقت بيرة في نادي البيلياردو رواجاً بقي محصوراً في دوائرَ صغيرة من القرّاء والأكاديميين المصريين، لا سيّما وأن أول ترجمة عربية صدرت عام 2006، أي بعد أكثر من أربعين عاماً على صدور الرواية. ترى ديبورا ستار أن الفتور النقدي تجاه الرواية لا يعود إلى «موقفها السياسي الواضح، ولكن بالأحرى إلى التباسها، لا سيما في تصوّرها للهوية المصرية». بمعنى أن الرواية لم تشذّ عن الأقانيم الإيديولوجية فحسب، بل قوّضت أيضاً السرديات التي قامت عليها الهوية المصرية العربية بعد 1952. ومن تلك السرديات، أم كلثوم التي يُشير إليها غالي في الرواية كتجسيد لذات عربية واحدة وموحدة فَشِلت ثورة 1952 في تحقيقها.

https://www.storytel.com/ae/ar/books/%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D9%88-963017

يحدّد المشهد الافتتاحي للرواية إطارها. إنها روايةٌ عن المسارات اللولَبية، والتناقض المعرفي، وخيبة أمل الشخصية الأساسية، رام، في السنوات الأولى لنظام عبد الناصر. وعلى غرار وجيه غالي، يطوف رام في عالمين: عالم عائلته الأرستقراطية الثرية اللابثة عند حنينها إلى ماضي الاستعمار الإنكليزي من ناحية، وعالمه البوهيمي الماركسي المعادي للاستعمار من ناحية أخرى، وهو تناقضٌ سيبقيه في موقع المراقب المنسحب طوال الرواية. بعد سنوات من البحث عن الذات والنضال مع اليسار الأوروبي في باريس ولندن، يعود رام إلى القاهرة مهزوماً مفلساً، فيقضي وقته في نادي البيلياردو النخبوي في مصر الجديدة. 

يشعر رام بالسخط لدى رؤية خالته تبيع آلاف الفدادين من أملاكها الزراعية للفلاحين في إذعان كاذب لإصلاحات عبد الناصر الزراعية. هذا الإدراك المُبكر هو الحلقة الأولى في سلسلة من خيبات الأمل الناجمة عن ثورة 1952، التي تثير التنافر الإيديولوجي الذي لا يستطيع رام سبر غوره. على الرغم من إيمانه بالثورة، يدرك رام أن الارستقراطية الملَكية، الفرنكوفونية، الموالية للغرب لا تزال تتمتع بامتيازاتها الاجتماعية والاقتصادية. ويلاحظ أن النطاق المحدود والوتيرة البطيئة للإصلاحات الزراعية التي قام بها عبد الناصر، لم تنجح في تمكين جميع الفلاحين المحرومين، الذين لا يزالون يعملون كعمال وخدم في عقارات أقاربه الأرستقراطيين. علاوة على ذلك، يختبر رام بشكل مباشر كيف يمول تأميم القطاعات الحيوية للاقتصاد المؤسساتِ العسكريةَ التي تقوم عليها الدولة البوليسية الناشئة. يشاهد رام مذهولاً تكميم الصحافة والأحكام القاسية بحق المثقفين المعارضين المُحالين بشكل منهجي إلى سجون يسميها ساخراً «معسكرات الاعتقال». 

تنبع خيبة أمل رام ليس فقط من أوجه القصور الاقتصادية والسياسية لحكم عبد الناصر، ولكن أيضاً من عدم تمكّنه من إرساء هوية وطنية موحدة. فالخطاب القومي الثوري، الذي عزّز مفاهيم الأصالة، لم ينجح  في اختراق المجالات الإيديولوجية واللغوية للطبقة الأرستقراطية، التي استمرت في الاحتفاء بطورٍ جديد من الكوزموبوليتانية التي ظلت ترعاه بقايا المؤسسات الاستعمارية البريطانية والفرنسية. 

هذا هو المدى الذي بلغته خيبة أمل رام من اليوتوبيا الثورية التي تتبدى ملامحها في نظرته إلى أكثر الشخصيات رمزية: أم كلثوم. تظهر أم كلثوم في مقطع قصير ولكن حاسم، يصور حواراً بين رام وخالته وخاله الثري أميس باشا عندما كان يزور القاهرة من صعيد مصر:

قلتُ لخالي: «أم كلثوم تغني في الراديو».

صاحت خالتي: «ها هو (Voila!)  ذلك ما هو نافع فيه. أي شيء ليُضايقنا».

من تركيا إلى شمال أفريقيا، أم كلثوم هي من أكثر الأحياء تمتعاً بمحبة الناس وتبجيلهم. يخترق فنها البشر من مختلف الفئات. امرأة في أربعينياتها الآن، عاشت حياة لا تشوبها شائبة وتملك صوتاً يمزق الفؤاد في بساطته وجماله.

سأل خالي وقد بدأ يتململ: «ماذا تغني؟»

رددت خالتي: ها هو (Voila!)

قلت له: «غنيلي شوي شوي». تستمرّ أغانيها لساعات. غير أن خريجي المدارس الفرنسية الداخلية والأندية و«كثيري الأسفار» يعتبرون أن الإعجاب بأم كلثوم سمة العوام. ولأنهم مع ذلك يحملون ذوقاً موسيقياً شرقياً، فإنهم يستمعون إلى مدام أماليا رودريغز البرتغالية التي يشبه صوتها بعض الشيء صوت أم كلثوم.

تنهّد خالي: «أحلى أغانيها».

قالت خالتي: «هذا لا يطاق، هذا فاق الحد».

قلت: «ماذا فعلتُ؟»

صرخت: «هل تريدنا أن نجلس لساعات نستمع إلى تلك الولولة»؟

قلت: «لم أكن أعرف أنك لا تحبينها». 

قالت متمالكة نفسها: «افتح الراديو وأخفض صوته، ولا تنطق بكلمة».

فتحت الراديو ثم عدت إلى مقعدي شابكاً ذراعي.

تظاهرت بأنني لا ألاحظ خالي الذي قرّب كرسيه من الراديو، وألصق أذنه بالسماعة وقد بدا بائساً.

صرخت خالتي: «ارفع الصوت باسم الرب! ( nom de dieu)»

رفعت الصوت حتى أصبح مسموعاً، ثم عدت إلى مقعدي.

وقف كيرُلُس الخادم عند الباب منصتاً

فَهِمَ رام أن أم كلثوم ليست رمزاً ثقافياً جامعاً. فالخالة لا تزال تُعرب عن رفضها لكل ما هو عربي وتقليدي ومحلي. موقف خالة رام، الذي ينوس بين النفور والفضول إزاء أم كلثوم، لا يختلف عن رد فعل خاله أميس باشا. فعند زيارته من صعيد مصر، حيث يُدير ممتلكات العائلة، يكظم الخال إعجابه بأم كلثوم مراعاةً للحساسيات الأرستقراطية والجمالية لأخته وبطانتها الكوزموبوليتانية. 

يقاوم التقديرُ المتردد والإنكار العلني لأم كلثوم القوةَ التوافقية الموّحِدة لأيقنَة المطربة. تكشف ازدواجية هذه العائلة تجاه أم كلثوم كيف أن الأرستقراطية لا زالت تقاوم تشكّل هوية مصرية أصيلة متصالحة مع ماضيها. فالأصالة التي أرستها أم كلثوم في موسيقاها هي نقيض الكوزموبوليتانية التي تحيل إليها لهجة الخالة التي تستدخل في جملها عبارات فرنسية غير قابلة للترجمة تعبّر عن الضجر والسخط (Enfin !؛ Voilà !؛ Nom de Dieu!). فهم رام أن إقصاء الخالة لأم كلثوم من الحيز الصوتي للأرستقراطية هو شرط من شروط التمايز الاجتماعي والجمالي الذي ساد في عهد الاشتراكية العربية.

المستوى الثاني من النقد يتعلق بعبد الناصر. فكما فشلت أم كلثوم في الوصول إلى جميع الشرائح الاجتماعية، لم يتمكّن عبد الناصر من تحقيق جميع إصلاحاته. يجمع المشهد بين شخصيات متفاوتة القدرة على حيازة رأس المال الاقتصادي والرمزي: بعد سنوات على بداية التأميم والإصلاحات الزراعية، لا تزال الخالة أرستقراطية مدينية، ولا يزال الخال من كبار ملّاكي الصعيد، ولا يزال كورولوس خادماً، ولا يزال رام مفلساً هائماً. يراقب رام وكورولوس معاً، ومن موقعيهما المختلفين ولكن الدونيين، الأرستقراطية التي لا تزال تتمتّع بامتيازاتها وتقاوم الإيديولوجيا الثقافية في مصر ما بعد الثورة، في ظلّ نظام لم يفِ بوعوده التحررية. 

السِت والمهرجون

بخلاف وجيه غالي، لم تكن حياة ألبير قصيري لغزاً. تتحدّث السِير الخاصة به ومقابلاته العديدة عن إقامته في فرنسا، وتعلّقه بمصر وفرنسا، عن ازدرائه للسلطة واحتفائه بالهامشية. ولد ألبير قصيري عام 1913 لعائلة مصرية إقطاعية من أصول شامية. تشكلت حساسية قصيري الأدبية، سيّما في الكلاسيكيات الفرنسية والروسية في المدارس التبشيرية الفرنسية. في عام 1930 انتقل إلى فرنسا، وتردّد على الدوائر الفكرية المصرية الناطقة بالفرنسية، وبالتحديد تلك الخاصة بالكتّاب المصريين السرياليين المعادين للفاشية مثل جورج حنين ورمسيس يونان من جماعة  الفن والحرية. بعد إقامة قصيرة في القاهرة، عاد قصيري إلى باريس عام 1945 وسكن عنواناً واحداً بقية حياته: غرفة فندق في الحي اللاتيني، حيث سيكتب الروايات ويتردد على المقاهي التي ارتادها أبرز مفكري العصر، أمثال سارتر إلى فوكو.

يتذكّر قصيري والده بصورة البرجوازي الأنيق الذي يعتاش من الفوائد والإيجارات. سيؤطر هذا النموذج الأصلي شخصيات قصيري التي تحتفي، بطريقتها الخاصة، كما يكتب جان فرانسوا فورني «باللامبالاة وبسياسة الجهد الأدنى الأرستقراطية». شخصيات قصيري رجالٌ هامشيون، يقطنون قاع المجتمع ويروّجون للكسل والتهكم باعتبارهما سلاح المحرومين والمهمشين في مواجهة الانحطاط الأخلاقي للبرجوازية التي تسلّع العمل.

آلبرت قصيري

رجال قصيري ساخرون، يمجّدون الخمول، ولا يبدو أن الخطاب النسوي أو الاشتراكي الثوري المناهض للاستعمار السائد في عصرهم يؤرقهم بقدر ما يسلّيهم. يوضح قصيري أنه في فرنسا «يُطلق عليهم اسم الهامشيين، لكنهم الأرستقراط الحقيقيون. إنهم مهتمون بالحياة فقط، مثلي تماماً». متناسقاً مع إيمانه بالخمول واللامبلاة منهجاً للحياة، كتب قصيري ثماني روايات بالفرنسية طوال حياته المهنية، أو بمعدل رواية واحدة كل عقد.

لا يزال رواج روايات قصيري محدوداً. لم يكن قصيري جزءاً لا من الحقل الأدبي الفرنسي ولا من الحقل الأدبي المصري، بل كان يشكّل حالة أدبية فريدة من الصعب تصنيفها، مما يفسّر الإهمال النقدي الذي طال أعماله. فرغم أن روايات قصيري صدرت بالفرنسية، إلا أنها لا تتناول سرديات حول فرنسا وتناقضات مجتمعها الاستعماري. وبما أنها لا تقدّم طرحاً واضحاً حول الهويات المتعددة والمنفى اللغوي والفكري، لا يمكن ضم أي منها إلى الأدب الفرانكوفوني لشمال إفريقيا وبلاد الشام. علاوة على ذلك، كانت السريالية والوجودية والرواية الحديثة تياراتٍ أدبية وفكرية عَرَفها قصيري عن طريق صداقته مع أبرز المفكرين الباريسيين في عصره. ورغم ذلك، بقيت تلك التيارات الأدبية السائدة خارج نطاق مشروعه الأدبي، وبالتالي ظل قصيري خارج نطاق التكريس.

من وجهة النظر المصرية، يبدو الإهمال النقدي أكثر وضوحاً. فلغة قصيري الروائية كانت أبرز ما حيّر النقاد: فقد كان نحوه عربياً رغم أنه كتب بالفرنسية، حيث يبدو أن شخصياته، كما يلاحظ روبن كريسويل، «تفكر بلغة وتتحدث لغة أخرى». رأى النقاد المصريون، في قصيري إرباكاً  تصنيفياً حيث يتساءل أحمد عبد المعطي الحجازي عمّا إذا كان قصيري يكتب «الأدب المصري بالفرنسية أو الأدب الفرنسي في مصر».  

لم تكن لغة قصيري الروائية مصدر القلق النقدي الوحيد، بل كان التباسه الإيديولوجي كذلك. فهو لم يكن معنياً بالتوحيد الإيديولوجي الذي هيمن على الحقل الأدبي المصري. لم يؤد دور الكاتب الملتزم، ذلك الذي يعبّر عن مخاوف جماعته الوطنية وفق نموذج واقعي اجتماعي، بل تهكّم في رواياته من شخصيات الأدب الملتزم، بتنويعاته الواقعية السائدة في السنوات الأولى للناصرية. أدى تبني قصيري لجماليات العبث والعدمية إلى ما يسميه ريشار جاكمون «الرقابة من خلال التجاهل»، أو عملية إقصاء أي من كتّاب الشتات المصري من خلال الامتناع عن ترجمة أعمالهم. يتضح إهمال قصيري بشكل خاص عند مقارنته بالعدد الهائل من المؤلفين الروس والفرنسيين الذين تُرجمت أعمالهم بشكل منهجي في مصر الستينيات.

غلاف كتاب العنف والسخرية بالفرنسية

في العنف والسخرية (La Violence et La Dérision)، يكثّف قصيري نقده للسلطة المؤسسية والقيم البرجوازية. تدور أحداث الرواية خلال أوائل القرن العشرين في مدينة عربية متوسطية لا يسمّيها ويمكن أن تكون في الواقع أي مكان في العالم. يهيمن على المدينة مُحافظٌ مستبدّ مبتذل، أعلن الحرب على أكثر سكان المدينة هشاشة: البغايا والمشردين. يُشيد الجميع بإجراءات المحافظ، باستثناء حفنة من المعارضين الذين يعيشون وفق مبدأين: 

الأول هو أن العالم الذي نعيش فيه تحكمه عُصبة نبيلة من الأنذال التي لطّخت الأرض، والثاني، أنه لا يجب أن نأخذ الأمر على محمل الجد، لأن هذا هو ما يرغبون فيه. تتكوّن تلك المجموعة من كريم الثوري الذي تحول إلى صانع طائرات ورقية، هيكل الأرستقراطي الكاريزمي المفلس، خالد الأمي الذي تحول إلى رجل أعمال، وعرفي الناظر المكتئب لمدرسة غير رسمية. في الهوامش السياسية والاجتماعية لمدينتهم، يزدهر المهرجون ويجاهرون بتناقضاتهم: هم فقراء لكنهم لا يُؤلّهون الفقر، يعرفون قيمة المال ولكنهم يحتقرون المتباهين بثرواتهم، يتظاهرون بالولاء للمحافظ ولكنهم يزدرون المتملقين، الوصوليين، والبرجوازية الناشئة التي تترعرع على عشق السلطة. لا ينطقون بالحق في وجه السلطة، بل بالسخرية، مبتكرين استراتيجية تقوم على الخمول واللامبالاة والتبجيل الساخر في سبيل التخريب.

المحافظ كاريكاتور للصفاقة. يجسد المحافظ، بالنسبة للمهرّجين، الجهل الوحشي والرعونة والوجه الأكثر سخفاً من وجوه حقبة الاحتيال العالمي. للحاكم خلفية عسكرية تفسّر ممارساته الاستبدادية وإرسائه لثقافة الطاعة والمراقبة. ينخرط في عملية منهجية للسيطرة على المعارضة فيما يعتمد على دائرة من محرري الصحف والمتملقين الذين يشيدون به. في كاريكاتور المحافظ هذه ملامح دكتاتور، تحيل هويته العسكرية وممارساته القمعية وارتباطه بشبكة مقرّبة من الفنانين والصحفيين المحليين، إلى عبد الناصر، كما رآه خصومه آنذاك.

ليس المحافظ وحده موضوع تهكم المهرجين، بل الثوار أيضاً الذين يطبّعون سلطة المحافظ من خلال اعتباره خصماً سياسياً شرعياً. يراهم المهرجون، «مُضجِرين» و«إصلاحيين» و«وصوليين» في سعيهم الدائم كي يصبحوا بدورهم حكاماً ووزراء.

إلا أن الشخصية التي تجسد أكثر ما يحتقره المهرجون في تلاحم السياسة والثروة والسلطة تُدعى «أم خلدون». فهي بين المغنيات أغناهن وأكثرهن شهرة ورواجاً، عشيقة التجار الأثرياء ورجال الأعمال الأقوياء، وغنيمة المحافظ نفسه. بحسب شخصيات قصيري، فإنها تجسّد، تماماً مثل الرجال البرجوازيين الذين ترافقهم، قيم السلطة المختلة: 

 إنها امرأة مسنة ضخمة، تبدو كمومياء فرعونية، تسمّى أم خلدون، فلا شك وجودها مع بعض نبلاء هذه المدينة يمنعهم من السقوط في دائرة النسيان، أن يكون المرء عاشقاً لمغنية شهيرة يعني استعراضاً لقدراته، فهم يزعمون أنها تساوي الكثير لهؤلاء الأثرياء الجدد. في كل مرة تراها سعاد، تتساءل كيف يمكن لرجل شديد الفظاظة، شديد التعلق بالجمال، أن يمارس الحب مع هذا المخلوق المجعّد ذي اللحم الرخو والشديد الغرور؟ لقد كانت المطربة عشيقة لأبيها لبعض الوقت، وتحتفظ الفتاة ببعض الذكريات المؤلمة، فإن حقدها على أبيها قد صاحبه احتقارٌ غير محتمل، فلم تسمح له أن يقترب منها، ولا أن يلمسها، بدا له وكأنه مصاب بمرض معد، وأنه يفوح برائحة العجوز. الأقرب إلى رائحة العفانة. وبعد أن قطع أبوها صلتها بالمغنية، لم تعد تحتمل رؤيته إلا نافرة.

لا لَبْس في اسم أكثر الشخصيات الأنثوية إثارة للاشمئزاز في «العنف والسخرية». لا يقتصر الأمر على كون «أم خلدون» تنويعاً على «أم كلثوم» وإشارةً إليها، لكن صورتها أيضاً تنقل الإرث الأيقوني للمغنية المصرية. ربطت التمثيلات المرئية لأم كلثوم التراث المصري التاريخي والطبيعي بالهوية المصرية. وغالباً ما ظهرت أم كلثوم على الطوابع والملصقات والبطاقات البريدية وهي تقف أمام الأهرامات وأبو الهول والنيل. المعنى المُضمر هو أن أم كلثوم، بقدر ما تتجاوز الأنظمة والعصور السياسية، هي بمثابة الأهرامات والنيل، منبع الهوية الوطنية المصرية. في تصويره لأم خلدون، يستدعي قصيري الفراعنة والمومياوات، ليس للإيحاء بعظمة العصور السحيقة، ولكن للدلالة على الانحلال وخراب المساحات المهجورة والمتصدعة عديمة القيمة. وبالتالي إن مجرد استحضار صورتها يُثير انفعالاً، ليس ذلك الذي يُثيره الطرب، وإنما الانفعالات التي تدل على المقزز، كالكراهية والغثيان.

​​

يستولي قصيري على الأيقنة العُذرية لأم كلثوم ويخرّبها. تظهر أم كلثوم في المُخيّلة العربية الشعبية، كما رأينا سابقاً، شخصية أمومية تلتفُّ حولها جماعة وطنية مأزومة تلتمس من شخصها وموسيقاها الشفاء. هي شخصيةٌ أموميةٌ عطوفة، إلا أنها نادراً ما كانت موضوعاً للرغبة، هي التي طالما أحاطت حياتها الشخصية بالغموض. يصف قصيري أم خلدون الأسطورية بأنها نموذجٌ للوضاعة، بأنها تثير بجسدها الشنيع العَفَنَ والخراب، ولكنها مع ذلك، تَرغَبها شخصياتٌ هي بدورها مثيرة للاشمئزاز. بعبارة أخرى، ينخرط قصيري في حركة مزدوجة: يؤنسن أم كلثوم من جهة، ويسخر من سموّها من جهة أخرى.

تبدو صورة قصيري عن أم كلثوم متناسقة مع موقعها داخل الأنظمة المتعاقبة. يذكّر كتّاب سيرة أم كلثوم ونقّادها جمهورها المعاصر بأن مسارها يسبق مسار عبد الناصر، وأنها طُوِّبت بوصفها صوت مصر الرائد قبل أكثر من عقدين من صعوده. يمكن للمرء أن يجادل بأن شهرة أم كلثوم ومكانتها لم تكونا أبداً نتيجة ارتباطها بأنظمة مختلفة، وإنما على العكس، كانت بمثابة رصيدٍ للأنظمة المتتالية التي استفادت من جاذبيتها ورمزيتها الثقافية لاكتساب شرعية سياسية. تتشابه صورة أم خلدون هنا مع صورة أم كلثوم في كونها رمزاً للسلطة والنجاح يستمد منه المحافظ شرعيته. وفي حين أن رأس مال المحافظ في الرواية اقتصادي، كان رأس مال عبد الناصر رمزياً، بمعنى أن ارتباطه بأم كلثوم ولّدَ رأس مال سياسي يتناسب مع الاحترام الكبير الذي اكتسبته الست في مصر. 

بينما يفكك غالي أيقنَة أم كلثوم من وجهة نظر أرستقراطية عنيدة في تشبثها بامتيازاتها، ويصوّر قصيري أم كلثوم بعيون مجموعة من المهرجين المخربين، يكشف أحمد فؤاد نجم التناقض الإيديولوجي الذي مثلته أم كلثوم من موقعه السفلي الذي يرى منه تفاعل الفقر والثروة والسلطة السياسية في الجمهورية الناصرية. 

الست وكلبها

قدّم شاعرُ العاميّة أحمد فؤاد نجم مثالاً لشاعرية جديدة ونمطاً فريداً في الاحتجاج السياسي. ارتكز نجم إلى الإمكانات التثويرية في شعر العامية، بنى من خلالها خطاباً شعبوياً يجمع بين الاشتراكية والقومية العربية وقضايا التحرر العالمي. في مسيرته الشِعرية، طرح نجم مفهوماً بديلاً لدور الشعر والشاعر كفاعلين في التغيير. لم يكن نجم يمثّل شخصيةَ الأديب التقليدي أو المثقف الاشتراكي التي سادت في الحقل الثقافي آنذاك. على عكس ذلك، عاش حياة المتشرّدين والمتمردين الفقراء، على هامش مشهد ثقافي مصري قاوم في البداية الالتفات إلى هذا الطور السياسي من شعر العاميّة. كان  شِعر نجم كلمة المحرومين، والطلبة، والمهزومين، ممن وحّدهم إيمانٌ ثابت بقوة الشعب والكلمة التي تحقق التغيير. 

يُذكَر نجم لتهكمه اللاذع بالسادات وانفتاحه وفظاظة سياساته الليبرالية التي عزّزت طبقة من المضاربين والانتهازيين. أودى عداء الشيخ إمام ونجم المعلن تجاه السادات إلى منع أغانيهما وسَجنهما. إلا أن مشاكل نجم مع السلطة سابقة للسادات. فعلى الرغم من دعمه لثورة يوليو، انتقدَ نجم لاحقاً قمعَ عبد الناصر للمعارضين الماركسيين وسَخِر مراراً من النخبة الثقافية والعسكرية والسياسية التي أحاطت بعبد الناصر. اتخذت خيبة أمله بعبد الناصر منعطفاً دراماتيكياً في أعقاب هزيمة 1967، التي كانت الضربة الأخيرة للأحلام التحررية لجيل نجم. حُكم على نجم والشيخ إمام بالسجن بتهمة السخرية من عبد الناصر وقيادة الاحتجاجات الطلابية في شباط (فبراير) 1968، وهو حكم أُبطِل فيما بعد بانتقال السلطة إلى السادات. 

ونظراً لأن أم كلثوم كانت من أكثر الشخصيات شهرة واحتراماً في مصر، فقد استخدم نجم صورتها لتعرية التناقض الإيديولوجي الذي رآه في نظام عبد الناصر. ذكر نجم مراراً أنه اكتسب حساسيته الموسيقية من خلال الاستماع إلى أم كلثوم، وأنه كان «كلثومياً» في الصميم، و«من دراويش الست». إلا أن تقدير نجم المطلق لأم كلثوم لم يمنعه من التنديد بثروتها وامتيازها السياسي، اللذين بديا غير متكافئين مع سرديتها عن نفسها كفلاحة متواضعة. ولكن حقيقة امتيازها السياسي تبينت بعد حادثة صغيرة نُسبت إلى الست وأدت إلى اعتقال صبي فقير اسمه اسماعيل الخلوصي. 

في «كلب الست» (1965) يُشَعْرِنُ نجم الحظ السيء لطفل فقير اسمه اسماعيل. فخلال تجوال اسماعيل في حي الزمالك بالقاهرة، هجم عليه كلبٌ بُغتةً من فوق سور قصر صاحبه. هرع اسماعيل، غاضباً جريحاً، إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى ضد صاحب الكلب أمام تعاطف أمناء الشرطة. عندما أدرك المدعي العام، لسوء حظ إسماعيل، أن «فوكس» هو كلب المطربة الأسطورية أم كلثوم، أخذت القصة منعطفاً عبثياً. يذكر نجم كيف أن المدعي العام رفض توجيه اتهام ضد صاحبة الكلب، معللاً: «حيث أن الخدمات التي أدتها أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤولية الجنائية، أمرتُ بحفظ التحقيق». عندها، اتُهم اسماعيل بالشجار مع حرّاس الفيلا وسُجن لمدة أسبوع كامل. ظهر اسماعيل لاحقاً في مقابلة في صحيفة الأهرام، يُعرب عن سعادته في أن الكلب الذي عضه ليس إلا كلب الست أم كلثوم. 

أزعجت هذه الحادثة نجم بشدة لأنها حدثت في عصر احتُفي فيه بالاشتراكية والقومية والمساواة، وبشعارات ناصرية كان قد شبّ عليها، مثل «ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد». يَذكر نجم أنه على الرغم من حبه الكبير لأم كلثوم، توجَّبَ عليه الاختيار بين افتتانه بموسيقاها «مزاجي» والتزامه الأخلاقي بالعدالة الاجتماعية «عقلي وشرفي». بين موسيقى أم كلثوم والتزامه السياسي، اختار نجم الالتزام وألقى هجاءً ساخراً لكلب أغنى وأقوى امرأة في مصر. في نفس العام الذي ظهرت فيه العنف والسخرية وبيرة في نادي البلياردو حُظرت قصيدة كلب الست وحُكم على نجم مرة ثانية بالسجن. 

يفتتح نجم الهجائية بدور الراوي الحكّاء، فهذه قصة ذات أبعاد أسطورية وتباينات كبيرة: 

في الزمالك من سنين 

وفي حمى النيل القديم 

قصر من عصر اليمين 

ملك واحدة من الحريم 

صيتها أكتر من الآدان 

يسمعوه المسلمين 

والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين 

ست فاقت على الرجال 

في المقام والاحترام 

صيت وشهرة 

وتل مال 

يعني في غاية التمام 

قُصره يعني هي كلمة 

ليها كلمة في الحكومة 

بس ربك لاجل حكمة 

قام حرمها من الأمومة 

والأمومة طبع ثابت 

جوة حوا من زمان 

تعمل ايه الست؟

جابت «فوكس» رومي وله ودان 

فوكس دا عقبى لأملتك 

عنده دستة خدامين 

يعني مش موجود في عيلتك 

شخص زيه يا اسماعين 

في عالم مواز  لعالم القصور، والمغنية المشهورة والكلاب الشرهة يعيش اسماعيل:

واسماعين ده يبقى واحد 

من الجماعة التعبانين 

اللي داخوا في المعاهد 

والمدارس من سنين 

حب يعمل واد فكاكة 

ويمشي حبة في الزمالك 

والقيامة والفتاكة

يرموه طبعاً ع المهالك 

يصف نجم مصائب إسماعيل وهو يشهد، بأم العين، آلام المعتقلين ظلماً:

شاف بلاوي ما تتحكيش 

من الجماعة المسجونين 

قال يا عالم يا شاويش 

يا نيابة يا مسؤولين 

خلصوه بعد المناهدة 

جثة من جحر الديابة

سرعان ما يُسقط إسماعيل حقه في الادعاء ويعبّر عن خالص حبه تجاه الكلب فوكس. عند إطلاق سراح إسماعيل، يبدأ ضابط الشرطة بالغناء:

أنت فين والكلب فين؟

أنت قده يا اسماعين؟

طب ده كلب الست يا ابني 

وأنت تطلع ابن مين؟

ثم يتوجه نجم إلى الكلب:

هييص يا كلب الست هييص

لك مقامك في البوليس 

بكرا تتولف وزارة 

للكلاب، ياخدوك رئيس

ثم يختتم بعبرة لاذعة: 

الي صاحبه يا جماعة 

له أغاني في الإذاعة 

راح يدوس فوق الغلابة والنيابة 

بالبتاعة 

في نهاية الحادثة، يَفقد كلٌّ من الست، واسماعيل، والكلب والبوليس براءتهم. يصّور نجم أيقونة الموسيقى المصرية، أم كلثوم، بوَقار كبير. فهي ليست أي ست، بل الست التي تنضح صورتها بالثروة والمكانة والسلطة. الست الأسطورية القابعة خارج الزمكان لا تسمّى. بدلاً من ذلك، يختزلها نجم بما أُنعمت به: صوتها، ومكانتها، وقصرها في الزمالك، ونفوذها السياسي، وأغانيها. 

القانون المصري يفقد أيضاً براءته. فقوة الست تكمن تحديداً في قدرتها على التأديب والعقاب من خلال تعبئة مؤسسات الدولة وفرض الولاء، دون المطالبة بذلك بالضرورة، في صورة كاريكاتورية لثقافة الطاعة التي سادت في عهد عبد الناصر. يُخاطِب الضابط المنوط بالقضية اسماعيل موْمئاً إلى أغنية أم كلثوم الشهيرة «حب إيه»؟ مُعّدِلاً كلماتها الأصلية من «أنت فين والحب فين» إلى «أنت فين والكلب فين؟». فيما يُذّكر الضابط اسماعيل بموقعه الطبقي الدوني، تعود إلى الواجهة شعارات مثل «ارفع رأسك يا أخي» و«وحدة، اشتراكية، حرية»، التي زينت حفل أم كلثوم. 

 منزل أم كلثوم في الزمالك

اسماعيل أيضاً يفقد براءته. على نقيض من الست يجسّد اسماعيل الناصرية: شاب فقير، لكنه متعلم، يؤمن بحقوقه وواجباته كمواطن في الجمهورية الاشتراكية الجديدة. أخطأ اسماعيل عندما ظنّ أن الأحياء الراقية أصبحت مفتوحة أمام الجميع في ظل نظام عبد الناصر. يُزجّ اسماعيل في مجاهل السجون ويتعرّض للضرب المبرح ويُجبر على سحب الدعوى التي وجهها إلى الست. يعتذر اسماعيل، مستعيداً بسرعة مكانه كمواطن محروم في دولة غير عادلة، يستسمح الكلب ويسحب الشكوى الموجهة إلى الست.

ولا الكلبُ فوكس بريء. فالكلاب موتيفٌ شائعٌ في شِعر نجم. هم كلاب الحراسة وكلاب الصيد التابعة للنظام، عملاء المباحث «أفلت كلابك علينا»، الأثرياء الجدد للنظام الرأسمالي الجديد «غابة كلابا ديابا»، ومَن خان الشعب المصري «كلاب الأميركان». يدل الكلب في كلب الست على الثروة المبتذلة والظلم والسلطة والامتياز الذي يوَّلد عنفاً مجانياً ضد أولئك الذين آمنوا بالحلم الناصري. الكلب هو المدعي العام، والمتملق الذليل، والفاسد، الذي يحمي مصالح الأقوياء والمتميزين. 

يستبشر نجم مستقبلًا مشرّفاً للكلب الظالم العنيف. لكن، من هو حقاً كلب الست؟ هل هو فوكس أم الرئيس المخلص الذي يدافع عن مصالح أم كلثوم مثل كلب الحراسة؟ 

الست والديستوبيا الاجتماعية 

من موقعهم الهامشي في الحقل الثقافي المصري الداعم للتوحيد الإيديولوجي، يكشف الكتّاب الثلاثة عن التناقضات الكامنة في مراكز السلطة. قد تكون لغة الكتّاب الثلاثة أحد أسباب عُزلتهم السياسية، فبينما كان نجم يُلقي شِعره بعاميّة الأحياء الشعبية، كان وجيه غالي يكتب بالإنجليزية وقصيري بالفرنسية. سواء بالعامية أو الفرنسية أو الإنجليزية، لم يستخدم الكتّاب الثلاثة العربية الفصيحة، لأسباب تعود إلى موقعهم الطبقي والتزاماتهم السياسية اللاحقة. 

وما كانَ سبب هامشيتهم، صارَ لاحقاً سبب إعادة إنتاج تلك الهامشية في المراحل اللاحقة. فالفرنسية التي كتب بها غالي وقصيري والرؤيا التي تنقُلها كانت متناقضة مع شروط التكريس الأدبية التي عَرَفها الحقل الأدبي المصري في الستينيات. في حين أن لغة نجم الشِعرية نأت به عن المؤسسة الثقافية الرسمية حتى الثمانينيات. وبينما كتب الكتّاب الثلاثة بلغات ومستويات لغوية لكل منها حمولة سياسية، أزاحوا معاً العربية الفصحى بوصفها الأداة الوحيدة للإيديولوجية القومية. عملت سردياتهم على تعقيد فكرة الأصالة الثقافية، وقوضت السرديات القومية التي ترفض الفرنسية والإنكليزية من ناحية، والمَحكيات من ناحية أخرى، والتي ترى في الفصحى الأداة اللغوية الوحيدة لوطن عربي حر.

من مقاهي باريس، شهد قصيري صعود وأفول عبد الناصر والناصرية. وبخلاف نجم، لم ينبع نقد قصيري لأم كلثوم من شعور بخيبة الأمل والمرارة، لأنه كان دائماً مشكّكاً بالقومية، ونائياً بنفسه عن النضال وناسه. ارتحل قصيري بين فضاءين لغويَين وثقافيَين ولم ينتم إلى أي منهما. كان قصيري يتجنّب السرديات القائمة على الثنائيات، تلك التي تضع الثوري بوجه الطاغية، الملتزم بوجه المُنصاع. يسمح توصيف قصيري لأم خلدون في روايته بتجاوز الثنائية من خلال نمط وجود ثالث، ذاك الخاص بالمهرجين، ممن يعبّر تفسيرهم للخير والشر عن خطاب أدبي يتجاوز الفهم الصارم للالتزام السياسي، خطابٌ يستحضر مفهوم الالتزام السياسي ذاته من خلال النقد والسخرية. 

بخلاف قصيري، تخفي سخرية غالي خيبة أمل عميقة من المثالية التي أرساها الخطاب الناصري. تشير صورة أم كلثوم في رواية غالي إلى الدلالات الإيديولوجية لشخصية أم كلثوم وإلى الأبعاد التحررية في موسيقاها. ولكنه يلاحظ، بإحباط مناضل مهزوم، عدم قدرتها على توحيد الجماعة الوطنية حول قيم الأصالة التي لطالما رَوَّجت لها.

على غرار غالي، يستحضر تصوير نجم لأم كلثوم مرارة من خذلتهم شعارات الناصرية «وحدة، اشتراكية، حرية». يمثل هجاء نجم لأم كلثوم مثلث الفن والسلطة والمكانة في عهد عبد الناصر، ليس من وجهة النظر الأرستقراطية التي مثّلها غالي، بل من وجهة نظر المحرومين الذين أُكره بعضهم على الصمت تجاه ما اعتبروه ممارسات ظالمة في عهد عبد الناصر، التي لم تفشل في محو الفروقات الطبقية فحسب، بل أرست تمايزاً جديداً يقوم على المكانة والقرب من النظام. 

وهكذا رأى الكتّاب الثلاثة أم كلثوم، كلٌّ من موقعه الطبقي واللغوي، ولكن جميعهم من موقعهم الهامشي، هم الذين يشاهدون أم كلثوم تخرج من وراء الستارة لتغني «أنت عمري» في جامعة القاهرة، بمناسبة عيد الشرطة وبحضور الرئيس المصري على وقع مصطلحات إيديولوجية فقدت معناها.