من غيابٍ للنساء وتهميشٍ شبه تام لهن في وقائعَ رصدتها عدسة المخرج السوري طلال ديركي في وثائقيَيْه الأخيرين: العودة إلى حمص وعن الآباء والأبناء، إلى حضورٍ مركزي لهن في فيلم تحت سماء دمشق. يعود طلال ديركي برفقة هبة خالد وعلي وجيه في هذا الفيلم ليَنقلوا العدسة جغرافياً، هذه المرة إلى دمشق. يَفتتح الفيلم الوثائقي مَشاهده بصباح السالم، الممثلة السورية التي خرجت من السجن مؤخراً وكانت قصّتها أحدَ الأسباب التي دفعت هبة وشركاءها للتوّصل إلى قرار صُنع الفيلم الذي تم افتتاحه مؤخراً في قسم بانورما من الدورة الـ73 لمهرجان برلين السينمائي – برليناله، وفاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان سالونيكي الدولي في اليونان. الفيلم فكرة وكتابة هبة خالد التي شاركت في إخراجه أيضاً إلى جانب طلال ديركي وعلي وجيه، مع رائد صنديد كمدير للتصوير والإضاءة.

يقرّر صنّاع الفيلم في البداية دعم مجموعة من الممثلات المُقيمات في دمشق لتحقيق مشروعهن المسرحي وتوثيق مراحله: مسرحية تتخذ من الاستغلال الجنسي موضوعاً لها كما تشرح الممثلة فرح الدبيات وصديقاتها لصباح السالم طالباتٍ النُصح منها، لمعاونتهن في صياغة النص المسرحي. يبدأ فريق المسرحية، المكوَّن من الممثلات فرح الدبيات، غريس الأحمر، سهير صالح، إنانا راشد وإليانا سعد، ببحثه عن شهادات لنساءٍ تم تعنيفهن. وهنا يأخذنا الفيلم من أجواء الحماس للدفاع عن المرأة وإعلاء صوتها، إلى جوٍّ قاتم مرير يحيط بأغلب النساء. نسوةٌ في مصنع للملابس، إمرأةٌ تعمل في الفرز في مكب نفايات، طالباتٌ في مركز لرعاية الصم والبكم، وعديداتٌ تم زجهنَّ من قبل أقرب الناس إليهن في مستشفى الأمراض العقلية. تُرافق الكاميرا الممثلات في حواراتهن مع نساء تعرَّضن للتعنيف والانتقاص؛ قيل عنهن مجنونات وخذلتهن العدالة. تجتمع بعدها الممثِلات في البيت الدمشقي المهجور، الذي قُمن باستئجاره وتأهيله ليكون مكاناً لمختبرهن المسرحي الذي يفتح أمام صناّع الفيلم بوابةً لرصد أحوال نساء سوريات على اختلاف تجاربهن.

حوار عائلي وتعدّدية سياسية

على هامش محور المسرحية والعمل عليها، تتكشّف تفاصيلُ أكثر عن حياة المشاركات بها، ونتمكّن من الدخول قليلاً في تفاصيل الحياة الأسرية لإحدى الممثلات، إنانا. تسجّل الكاميرا حوارات العائلة التي تعيش مناخاً سياسياً خاصاً، كون الأب ينتمي لحزب غير حزب البعث: حزبٌ يؤمن بالمؤامرة والأيدي الخفية. الأمر الذي تستهزئ به إنانا التي تؤمن أن الجميع ضحَّى من أجل لا شيء. هي لا تشعر بالأمان خلال تواجدها في الشارع. ما بين التضحية التي تتحدث عنها إنانا وعدم الشعور بالأمان رابطٌ مستترٌ احتجبَ وكأنما لظهور نَزعة انضباطية لدى إنانا، إذ سرعان ما ينضبط خطابها معربةً عن رغبتها بإنجاب طفلٍ يتعلم الحب ويُحب، مُمارسةً الدور الذي تنتظره لنفسها، حاملةً بيدها أطباق الطعام التي انتهت منها العائلة إلى المطبخ سائلةً إياهم إن كانوا يرغبون بشرب الشاي. في ظهورٍ آخر مع العائلة تبدو إنانا مستعدّةً للرحيل بشكل مفاجئ لتستقر مع فرح في المنزل الدمشقي، معلنةً عن رغبتها بالاستقلال وأنه حان وقت الرحيل.

استطاع صُنّاع العمل ترجمة خصوصية العائلة بصرياً من خلال لقطات ثابتة لصالون العائلة، الأب والأم حاضران فيه دائماً، تدخله إنانا أو شقيقها للمشاركة في نقاشٍ تم طرحه. أما إنانا وشقيقها فيَظهران في لقطة على سفح تلةٍ تُشرفُ على منطقة مشروع دُمّر، مُحمَّلين بذاك التناقض الذي اختبراه في عائلةٍ صوّرها الفيلم في غرفة معيشتها فقط، إذ لا مكان لها ضمن الجو السائد هناك في الخارج: في شوارع وتحت سماء المدينة.

صورة دمشق، ماذا يوثّق الفيلم؟

يَشتغل الفيلم في كثير من جوانبه على خلق صورة سينمائية بعناصرَ تَدعم سرد وهدف فيلم «عن المكان اللي ربينا فيه ومحرومين من الرجعة لالو..عن الشام بعد سنين الحرب الطويلة..فيلم عن نساء نايمين على جراحهن وصابرين»، كما يُخبرنا السرد بصوت هبة. إن القَطْعَات التي تظهر فيها الفتيات في الفضاء العام للمدينة كانت ثابتةً ثبات التحديق. فلِاختبار وضع المرأة ضمن طيفٍ واسعٍ من المجتمع السوري تحت سماء دمشق، ما عليك سوى الطلب من أربع فتيات/ممثلات أن يعبُرن شارعاً مارّاتٍ بمحلٍ لبيع الشاورما، حيث تقف مجموعة من الرجال، أحدهم عسكري، بجانب سيخ شاورما قلةٌ يستطيعون الحصول عليه في مدينةٍ يُنهك الفقر وانعدام الكرامة سكانها ومن لجأ إليها. سينصرف نظر أولئك الرجال عن اللّحم المُشتهى المثبّت على السيخ إلى اللّحم «المُشتهى» الذي يعبر المكان. تلك الفضاءات العامة، يتكرر وقوع عدسة رائد صنديد عليها. ذاك «اللّحم»، تظهر عليه السطوة في كوادر تلك اللقطات الثابتة.

نرى الممثلة إليانا سعد تقف في الشارع وخَلفها إعلاناتٌ عن مراكز التجميل وحقن البوتوكس، وإذ بشخص يَرجع ضارباً مؤخرة سيارته بخاصرة إليانا. يغادر ومعه في السيارة طفلهُ الذي شاهد الحادثة وربما تعلم عبرةً منها، وكأن شيئاً لم يكن. نرى من داخل كوة التوزيع في فرن خبز؛ تلك النافذة الصغيرة التي يتدافع عليها الناس لشراء بضعة أرغفة، نرى كيف يدفع شابٌ بفتاة عن دور الخبز. وفي قَطعٍ آخر نرى استسلام الممثلة إنانا راشد لمحاولة إيجاد وسيلة تأخذها إلى بيتها بعد أن تزاحم الناس على الميكرو. مشهدٌ كان كفيلاً بجعل إنانا تقرّر، ولكثير من الأسباب، ترك منزل العائلة والاستقرار في منزل المسرحية، محاولةً التخفيف ممّا تمرّ به يومياً. 

لا يتبنّى الفيلم فكرة انتهاء الحرب. ففي آخر المشاهد المصوّرة في المصحّ النفسي، نرى الإعلام الرسمي/التلفاز وقد تم تثبيته داخل قفص حديد. نسمع المراسلة خلال تقرير إخباري يفيد بأن أهالي بلدةٍ معينة يطالبون بالحسم العسكري. يظهر لنا الإعلام الرسمي كتهويدةٍ تهدف إلى «إكراه الناس على قول ما يثير السخرية والمجاهرة بما لا يقبله العقل»Wedeen, L. (1999). The Ambiguities of Domination. Chicago: The University of Chicago Press. P. 12.بحسب تعبير الباحثة ليزا ويدين في كتاب: السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب والرموز في سوريا المعاصرة.

من مكب النفايات إلى الوسط الفني

يرى الناقد مارك آدامز في قراءته للفيلم وجود انتقالٍ بين أطياف إقتصادية إجتماعية soci-economic spctrum. فخلال مراحل البحث عن نساء يرغبن بالبوح وتقديم شهاداتهن، تنطلق الممثلات قاصدات بيئات تحضن نساءً «ما بيشبهونا» تقول الممثلة سهير صالح. وهنا أداتنا في فهم العوامل التي تؤدي إلى جملةٍ كهذه. هذه الـ «ما بيشبهونا» تشمل غالبية المجتمع السوري، أي الفئة التي لا تعمل في الفن. أما تلك الـ «نا» التي تتحدّث بها سهير، فتدلّ على الضمير «نحن»: نحن اللواتي لم نواجه معارضةً داخل مؤسسة الأسرة للمستقبل الذي نبتغيه. وإن وُجدت معارضة فهي عارضة أو خفيفة لا تذكر. تلك المعارضة لطالما وُجدت في الأُسر، وعادةً يكون أولُ أسبابها: الاستغلال الجنسي، الذي كان حاضراً خلال مراحل التصوير. لتكون موضوعة الفيلم بأكملها تقف خلف الكاميرا.

إليانا سعد تنسحب من المسرحية/الفيلم بتبريرات يلّفها الغموض. يتبيّن أن مدير الإنتاج في دمشق ويدعى عادل، قام بالتحرش بها وابتزازها. تنقلب الأدوار في الفيلم، فكما تعاقدت هبة مع الممثلات في محاولة لدفع النساء إلى البوح والخروج عن الصمت، تأخذ هبة هذا الدور لاحقاً وتحثّ الفتيات على البوح وإعلاء صوتهن، الأمر الذي يُغيّر من الشكل الذي أراده الفيلم لنفسه: توثيق مراحل بناء عرض مسرحي، لينشغل بمعرفة ما كان يحصل أثناء التصوير. هنا تحدث القلبة/التويست في الفيلم ويبتعد عن موضوعات المسرحية لتصبح الممثلات هنّ موضوعة الفيلم. يتم جلبهن إلى بيروت، ويُطلب منهن الإدلاء بشهادات عما حصل خلال فترة التصوير في سوريا. تتحوّل الفتيات من باحثات عن شهادات لتوليف مسرحيتهن، إلى مقدّمات لهذه الشهادات لصالح الفيلم. يتبين من تلك الشهادات أن إليانا لم تكن وحدها ضحية مدير الإنتاج في دمشق، وإنما إنانا أيضاً. 

ما لم توّثقه كاميرا رائد صنديد، وثّقته الهواتف النقالة. أول الشاهدين على الحراك في سوريا. يظهر عادل في واحد من الفيديوهات وهو يشرف على إخراج قوارير المشروبات الكحولية من كرتونة ويقول «صوِّر صوِّر الجريمة». يظهر لاحقاً وهو يقوم بالجريمة، إذ تلتقطه كاميرا الهاتف وهو يسكب من زجاجة الكحول في أفواه الممثلات. 

ما يجرح، كما تسرد هبة: «ليس فقط ما قيل أمام الكاميرا..وإنما خلفها أيضاً». أي الصمت والصبر على الجرح، إذ تتحفظ الفتيات على البوح بكل شيء خوفاً. صمتٌ يقود المخرجين الثلاثة إلى خيبة أملٍ تُغلق عدسة كاميرتهم. إلا أن الكلمة الحق التي تُطالب بها صباح السالم وإعلاء الصوت كانا همَّ الفتيات وهاجسهنّ من جديد. تعود الكاميرا هذه المرة لترصد صراعاً بين ثنائية ممثل/مخرج، وصراعاً على أصالة النص. إذ تتصادم الفتيات مع واقع تواصل فرح مع صديق شاب لكتابة النص المبني على تلك الشهادات التي جمعتها الفتيات. الأمر الذي تُدافع عنه فرح مُنتقصةً من عديد الخريجات وكفاءتهن في كتابة نص مسرحي أو حتى في فهم أنفسهن، مبررّة وجود أمير لكتابة النص، على أنه شخصٌ حساس، يفهم المرأة ويحسّ بآلامها. والأهم أن كفاءته ستكون السبيل لإظهار فرح على أنها مخرجة جيدة. الأمر الذي يدفع الفتيات إلى الانسحاب من المشروع.

إنانا يتم الإعتذار من إنانا لاحقاً واستبعادها من المسرحية التي تُختتم بمقولة ذكورية يمكن تبسيطها واختصارها إلى «اي مو كل الرجال متل بعضن». مقولةٌ تحاول إيجاد موقعٍ للذكر لا يحمِّله المسؤولية، موقع يصوره على أنه الضحية في مسرحٍ سيُطالِبُ لاحقاً بأن يُقال عنه أنه نسوي. يظهر لي حضور أمير في الفيلم كحضور واحدة من الشخصيات في المسرح النسوي الإنكليزي. ففي مسرحية الغيمة التاسعة Cloud Nine للكاتبة النسوية كاريل تشرشل Caryl Churchill، تظهر شخصية في حقبة السبعينيات: في فترة ما بعد ثورات عام 1968. ذكرٌ يدعى مارتن، يكتب رواية عن النساء ومن وجهة نظر النساء. 

في دراسة نُشرت في مجلة النظرية والنقد الدراميين تُشَبَّه شخصية مارتن وأمثاله «باسفنجة التحرر الليبرالي»Klein, Joanne. 1987. Seeing Double: Theatrical Conceits in Cloud Nine. Journal of Dramatic Theory and Criticism 1.2: 67. التي تؤمن بأنه ليس جميع الرجال على نفس الشاكلة، الداعمين/المهدِّمين للمرأة.

إنانا وإليانا تقررّان رفع دعوى «عدم تعرض» ضد مدير الإنتاج في دمشق. تلجآن إلى محام وتقومان بملئ استمارة الشكوى وتقديمها في المحكمة. المحكمة التي يقدّمها صنديد في صورة تُدلِّلُ على انعدام العدالة والفساد من خلال قَطعَةٍ تُظهِر طاولة القاضي وقد تكدّست عليها الملفات، ومن خلفها رداء القاضي المعلّق على علاقة مائلة، كميزان عدل مالت كفته. 

كلمة الحق

تُراهن صباح السالم في بداية الفيلم على من يستطيع قول كلمة الحق. في حديثها مع البنات تميّز صباح السالم بين سُلطتين، ذكورية وذكورية «مسنودة». تلك السلطة «المسنودة» لا يَقرَبُها الفيلم. فعلياً، خيار الشخصيات النسائية التي عرضها الفيلم محكومٌ بخيارات المجموعة المسرحية في دمشق. خياراتٌ انتُقيت بحذر من قبل ممثلات يعملن في دمشق، الحرف يُحسب عليهن، كما تقول سهير. كلمة حقٍّ نسمعها على لسان غريس الأحمر خلال تواجد الفتيات في بيروت. بيروت التي ظهرت وكأنها المكان الذي بمقدورنا منه القول «هناك في سوريا». إذ تنتفض غريس منفعلةً ملخّصةً ظروف العمل الفني هناك في سوريا. ظروفٌ تُبرر للفيلم عدم وقوفه عند حالة خاصة وتنقله بين بيئاتٍ متعددة، ناقلاً تحديقة ذكورية تنتقص من المرأة، تزرعها في كوادر تتشابك مكوناتها مع بعضها لإنتاج صورة المرأة في بلد لطالما احتفل بثورة حزبه العملاق عوضاً عن الاحتفال بيوم المرأة والوقوف إلى جانبها. تتغلّب الهيمنة الذكورية على المُنجز الفني «المسرحية» كما تتغلب السلطة الذكورية «المسنودة»، على حد تعبير صباح، على كامل ظروف الفيلم. 

يُغفل الفيلم ذكر اسم المناطق المدمرّة في بعض لقطاته، خاصةً عندما يرافقها سرد هبة بقول:«هي هيي المنطقة اللي كبرت فيها…هيك صار شكلها بعد الحرب». بينما يحضُر اسم منطقة «السبينة» حين نسمع قصة فتاة تم اغتصابها من قبل ثلاثة رجال وأُجبرت على الزواج بأول من قام بالجريمة لإنقاذ نفسها! هذه القصة نسمعها على لسان واحدة من المشرفات في معهد للصم والبكم. في المكان الذي يُطالب طلابُه المجتمعَ بالتحدث بلغتهم: لغة الإشارة. كان أجدى هنا بصنّاع العمل الاكتفاء بالسطور التي خطّتها النسوة للبوح بما تعرّضنَ له. إلا أن الكاميرا لم تستحِ من المطالبة بسماع صوت.

إن تَرَدّي الواقع الذي يظهر في الفيلم ليس غريباً عن السينما الوثائقية السورية والمواضيع التي تلاحقها. وغالباً ما يُصَوّر تردي الواقع مقروناً بالمزاج الإسلاموي، الإيديولوجيا ومساهمة السلطة في تأصيل الفكر الديني. إلا أن الأخيرة غابت عن فيلم تحت سماء دمشق. لكن ظلت دمشق تمثيلاً معاصراً لقرية الماشي في شريط عمر أميرالاي طوفان في بلاد البعث. وظلت دمشق مصورةً كمدينةً يتحكم مناخٌ ثقافي إسلاموي تحت سمائها.

ينتهي الشريط الوثائقي بسرد هبة، تُرافقه على الشاشة تكويناتٌ مشهدية تحاول تصوير ذلك المجتمع الذي انتفضت هبة عليه: مجتمعٌ لا يزال يُمارِس ما كان كابوساً لكاتبة الفيلم. تصعد كاميرا رائد صنديد ملتقطةً الأفق الدمشقي مع جامعه الأموي، تقطع اللقطة إلى داخله مُظهرةً نسوةً يتضرّعن عند قبر رأس النبي يحيى في الجامع الأموي، ترافقهن بناتهن صغيرات السن وقد تم تحجيبهن. تقطع هذه اللقطات مقاطعُ تُظهر عملية نتف الدجاج وتجهيزه في صناديق بلاستيكية، ومقاطعُ أخرى تُظهر تشويحَ رؤوس الخراف المقطوعة لحرق الشعر فيها. صورٌ تقتحم نهاية الفيلم كما تقتحم مخاوفُنَا مناماتِنا وتحولها إلى كوابيس. تَختم هبة سردها مع هذه الصور، وتُخبرنا أنها باتت تعلم كيف تصنع صورةً من كوابيسها!