قبل أحدَ عشر عاماً من اليوم، على هامش طوفانٍ من المظاهرات في سوريا، وزخمٍ من النقاشات السياسية والفكرية الجديدة والغنية بين السوريات والسوريين، نشر موقع الجمهورية مقاله الأول. لم يسبق انطلاقَ الموقع وقتها كثيرٌ من التخطيط المهني، كما يحدث بشكل اعتيادي اليوم. لم نُجر «دراسات للجدوى»، أو«تمرينات للهوية البصرية»، أو«تحليلات لمكامن القوة والضعف المؤسساتيين». 

كنا مجموعةً صغيرةً من الكُتّاب والصحفيين والأكاديميين الموَّزعين داخل سوريا وخارجها، ممن وجدنا في الثورة السورية لحظةً نادرةً لاتّحاد المُمارسة مع التفكير. جَمعتنا القناعة بأن الحرية لا تحيا دون الكلمة والمعلومة والنقاش والتفكير العام والتداولي، وأن المعرفة الحقيقية لا تنساب كالشعائر من الكتب والنظريات المُحكمة، بل من مشاهدة الواقع الحي ومتابعة تفاصيله الملموسة أولاً. جَمَعنا أيضاً انحيازٌ قيّميٌ لمشروع ديمقراطي علماني يؤسس لسوريا جديدة، سوريا قائمة على مشاركة الناس جميعاً في حُكم أنفسهم وإدارة مواردهم والنهوض ببلادهم. آمنّا بأن السوريات والسوريين كما ملايين البشر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يستحقون هذا وقادرون عليه. ولا نزال مؤمنين بهذا. يستحق السوريون جمهورية جديدة. 

تغيّرت أمورٌ كثيرةٌ منذ أحد عشر عاماً حتى الآن. فقد الكثيرون منّا كما سائر السوريين بيوتاً لهم وأحباباً ومُدناً بأسرها. ابتعد بعضنا جرّاء مشاق الحياة وهمومها. تناوبنا جميعاً على نوبات الاكتئاب والهلع، وذاب بعضنا الآخر في أسماء مستعارة بُغية الحفاظ على خيط شعرة أخير مع البلاد، أو بُغية الغوص في معانٍ جديدة للحرية، حرّيتنا كأفراد أن نكون كما نشاء وأن نُحبّ من نشاء. وفي وسط كل هذا، كسبنا رغم الفقد أشياءً كثيرة. أصبحنا مؤسسةً صغيرةً تُحاول قدر الإمكان الجمع بين الرِفاقية والمهنية، توسَّعت عوالمنا لتشمَل أجيالاً جديدة من الكتّاب والصحفيين والقرّاء من مختلف مناطق سوريا والعالم العربي، واكتسبنا خبراتٍ لم نكن نملكها.

أكثر من كل شيء، اكتشفنا أن القناعات المشتركة لا تكفي ليكون العمل الجماعي سهلاً، وأن كلمة «مأسسة» تبدو شديدة البيرقراطية والفقر مقارنةً بالتفكير والجهد والخيال والمحبة والصبر واللطف والإخلاص والمرونة، وأشياء كثيرة أخرى مما يختبئ وراء قُدرة مجموعة متسّعة من ديمقراطيي الهوى على العمل معاً، على الممارسة والتفكير بحق معاً، دون شقاق أو طغيان أو فقدانٍ للمعنى. هذا جهدٌ شاقٌّ وشأنٌ يتجاوز الجمهورية إلى سوريا بأسرها، ويحتاج إلى أكثر مما يُقال عنه اليوم بكثير على صعيد الأفكار ومشاركة التجارب وحتى على صعيد التنظير. سوريا اليوم عمرها أكثر من مئة عام، ما هي تجارب العمل الجماعي المضيئة التي نملكها في تاريخنا؟ ليس الكثير. 

لا يزال أمامنا الكثير لنكون منصةً إعلاميةً ومعرفيةً سورّية وعربية أفضل وأكثر تأثيراً. نحلم بأن نملك الموارد ليتوسّع عمَلُنا على صعيد المادة الصحفية التي نقدمها، سواء كانت خبراً أو تقريراً أو تحقيقاً استقصائياً، وتكبر دائرة كُتّابنا وكاتباتنا من سوريا والعالم العربي. نود أن نُنتج موادَ بصرية وسمعية بصرية أكثر، ونُترجم للإنكليزية أكثر، وألا نكون جديين أو رصينين كل الوقت. ونفكر كثيراً كيف نبتعد عن وحشين قابعين على نَقيضي أي مشروعٍ صحفيٍّ ومعرفيٍّ عامٍّ في لحظتنا الحالية: أن نتحول باسم الحفاظ على الثوابت إلى غرفة صدى تتطابق فيها الأفكار وتتحول إلى شعائر، أو أن نتحول باسم الحفاظ على التعددية إلى منبر يساوي بين الحرية وأعدائها. لا نملك أي وصفة جاهزة على هذا الصعيد، لا نملك إلا أن نحاول ونُخطِئ ونحاول من جديد.

وعلى أمل أن نستمر بالرغم من التحديات، وأن نحتفل يوماً بمكتب صغير للجمهورية في سوريا حرة جديدة، هذه تحية مني لرفاق الدرب جميعاً، سواء في فريق الجمهورية الحالي أو مُجتمعها الأكبر.