تحتل الجمهورية مكاناً فريداً في المشهد الإعلامي والثقافي الذي أطلقته الانتفاضة السورية عام 2011. أصبحت المجلة الإلكترونية أحد الأقطاب الأساسية في الفضاء السوري العام بسبب نوعية المحتوى الذي تنشره، والذي تَطوّر على مدى عقدٍ من الزمن، بالإضافة إلى مشروعها السياسي والثقافي، والشخصيات التي تقف وراءها. وبعيداً عن الاعتبارات المتعلّقة بعدد قرّائها، والتي لن نناقشها هنا؛ فإن دور الجمهورية في المشهد الثقافي السوري قائمٌ على خصائص تحدد هويّتها المميزة. فالأشكال الكتابية التي تروّج لها المجلة، والخيارات التحريرية التي تتخذها، وتوّجهاتها السياسية والنظرية، ونوعية الترجمات التي تُقدّمها، كلها تدل على مكانتها الفريدة في المجال الفكري السوري. ثمّة أيضاً علامةٌ فارقةٌ أخرى مرتبطةً بأحد كتابها الرئيسيين، المفكر ياسين الحاج صالح، الذي لعب دوراً جوهرياً في تأسيس الصفحة ويعتبره البعض أحد أهم المثقفين والمنظّرين في الشأن السوري.
مرَّت الجمهورية بعدة مراحل منذ تأسيسها. ومن خلال تتبّع تاريخها، أو على الأقل تحديد أبرز مراحله، نجد أنفسنا بصدد «مجموعة» اتّحدَ أعضاؤها من خلال روابط رفاقية وإيديولوجية، وعلى خلفية أحداث الثورة السورية التي كانوا منخرطين فيها داخل سوريا. من اللافت للانتباه توزّع القائمين على الجمهورية عبر الحدود، وتَوجُّههم الوطني؛ فهي موقعٌ يتمحوّر حول سوريا ويسعى لربط سوريي المنفى بسوريي الداخل، مما يدعو للتساؤل عن المكونات الإيديولوجية والتاريخية والرفاقية لشبكة كتابه وكاتباته. لذلك لا بد من العودة إلى سياق انتفاضة 2011 وما تلاها من فَوَران إعلامي وإنشاء للمجلات والمواقع في سوريا ولبنان.
يتناول هذا المقال السرديات المتعددة لتَشكّل الجمهورية، بناءً على الشهادات التي جمعناها من كتّابها والمساهمين والمشاركين في إنشاء الموقع وتطويره. يجب أن نضع في الحسبان أن السرد القصير أدناه قد يكون ناقصاً، نظراً لأن الحكاية لم تكتمل، والروابط لا تزال نشطة ومُنتجة لديناميات مستمرة. كما أن السرد يحاول جمع عدة رؤى مبعثرة، نتيجة الطبيعية السريّة للعمل الصحفي، والتباعد المكاني بين المؤسسين والمؤسِسات. أما فيما يخصّ التوجهات الإيديولوجية والثقافية للمجلة وآفاقها المرجعية، فسوف نتناول ذلك من خلال دراسة ملف «اليسار وسؤال الحرية»، فالنصوصُ الثلاث عشرة التي جرى تحليلها (من حيث الموضوعات، والحجج المتكررة، وطرق السرد) وكذلك سياقات ظهورها، تُتيح لنا تحديد الهوية السياسية للمجموعة. وأخيراً، فإن الأوضاع الاستثنائية لإنتاج المعرفة في المجتمع السوري، في ظل نظام ديكتاتوري وفي سياق الحرب والقمع الشديد، تثير أسئلةً عديدةً حول دور ووظيفة مشروعٍ مثل الجمهورية في النضال السياسي ككل، سواءً من ناحية الترويج لمحتوى قائم على المعلومات ومُواكب للمجتمع السوري، أو حتى من ناحية بناء ثقافة سورية في المنفى.
ما بين دمشق وبيروت: مرحلة التأسيس
في آذار 2012، تأسّس موقع الجمهورية بشكل سرّي، بهدف تقديم تغطية إعلامية للنشطاء المشاركين في الكفاح ضد النظام السوري من دعاة القيم الديمقراطية والعلمانية. يشير اسم المجلة إلى مفهوم النظام الجمهوري أو النزعة السياسية الجمهورية، والتي يعرّفها ياسين الحاج صالح بأنها «امتلاك السياسة والتغيير السياسي من قبل الجمهور العام [بما يتيح] مقاومة ثلاثة أشكال للنزعة النخبوية الفاشية … الأسدية الوراثية والحداثية الفكرية والإسلامية الدينية».
يناقش المؤرخ والمدير التنفيذي للمجلة، كرم نشار، مفهوم الديمقراطية الجمهورية كما تصوّرها الفيلسوف فيليب بيتيت (1997)، والتي تختلف عن مفهوم الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكي، من حيث أنها تقترح على وجه الخصوص الجمع بين الديمقراطية التداولية والديمقراطية الاحتجاجية. وُصفت الجمهورية بأنها «منبرٌ يسعى لأن يمتلك السوريون كلامهم» وتم تصوُّرها في الأصل في سياق مواجهة الدعاية الرسمية والقوى القمعية الأخرى – الإسلامية والجهادية وتلك المرتبطة بحزب العمال الكردستاني على وجه الخصوص – التي فرضت نفسها على الأراضي السورية من خلال العمل المسلح. دفعت ظروف العمل السياسي الصعبة، في جوٍّ من القمع الشرس، والخطر الدائم بالاعتقال والتعذيب والتغييب القسري، بأوائل كاتبات وكتّاب الموقع إلى العمل سراً، فلجأ الكثيرون منهم إلى استخدام أسماء مستعارة.
ولكن ينبغي أن نتذكر أن السنوات الأولى للثورة شهدت انفجاراً إعلامياً، فقد نشأ عددٌ كبيرٌ من المجلات والمواقع الإلكترونية لتغطية الأخبار بشكل مستمر، والإبلاغ عن انتهاكات النظام، وترديد صدى المبادرات المتخذة على المستوى المحلي. تقاطع ذلك مع مرحلة نمو التنسيقيات المحلية في جزء كبير من الأراضي السورية. وتشير التقديرات فيما يخص الصحافة المطبوعة، إلى أن أكثر من 300 صحيفة يومية وأسبوعية ونصف شهرية وشهرية، ذات توجهات إيديولوجية مختلفة، أُنشئت منذ 2011. في عام 2014، قدَّر الباحث يزن بدران أن «أكثر من 93 محطة إذاعية وموقع إخباري ومجلة تأسست في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، دون احتساب تلك المرتبطة بالأحزاب والفصائل المسلحة». منذ ذلك الحين، استمر المشهد الإعلامي السوري في التطور رداً على تقلّبات الحرب، وتوازن القوى داخل معسكر المعارضة، وثقل أنصاره الخارجيين، وتقدّم قوات النظام وحلفائه. أدى القمع الشرس للنظام، وقصفه الممنهج للمناطق المدنية، واستيلاؤه على معظم الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة، إلى نزوح جماعي واسع النطاق خارج سوريا، مما زاد من تشتت المشهد الإعلامي السوري عبر الحدود.
من الجليّ أن الجمهورية جزءٌ من هذه الديناميّة، نظراً لقدرة أعضائها ومساهميها على التنقل في الكثير من الأحيان، وأيضاً بسبب تعدّد مواقع عملها. تعكس المرحلة التأسيسية لموقع الجمهورية أيضاً أهمية دمشق وبيروت بالنسبة للنشطاء السوريين الذين أُجبروا على اللجوء إلى لبنان، أو القيام برحلاتٍ محفوفة بالمخاطر ذهاباً وإياباً بين سوريا ولبنان خلال الأيام الأولى للانتفاضة. هذا خصوصاً أن العاصمة اللبنانية بيروت لعبت دور «فضاء عام بالوكالة» عن سوريا، وبشكل أعم عن المنطقة العربية، خاصة في مجال الصحافة والنشر. خلال الثورة السورية، أصبح لبنان ملجأً لنحو مليون سوريّ، وقاعدةَ عودة للعديد من النشطاء والناشطات. فنشأت بعض أهم المؤسسات الثقافية السورية في بيروت، أو استقرت هناك، لمواصلة النضال السياسي والثقافي. مع ذلك، فإن نفوذ أنصار النظام السوري اللبنانيين، الذين يهيمن عليهم حزب الله، والوجود النشط لأجهزة المخابرات السورية في لبنان، شكّلا تهديداً لهذه المجموعات التي احتفظ أعضاؤها بآليات خاصة للعمل السري. دفع الشعور بانعدام الأمن الذي شعر به العديد من النشطاء السوريين في لبنان إلى البحث عن الأمان في بلدان أخرى، بما في ذلك القارة الأوروبية.
اللافت أن ياسين الحاج صالح، أحد مؤسسي الجمهورية، زار بيروت عندما سُمح له بمغادرة البلاد أول مرة في 2003، حيث تواصل مع الصحفي اللبناني حازم صاغية، الذي دعاه للكتابة في مجلة الحياة التي كان يعمل بها، والتي كانت حتى عام 2020 صحيفة يومية مُتداولة في عموم المنطقة العربية. وبين عامي 2010 و2011، نشر الحاج صالح أيضاََ سبع مقالات في مجلة كلمن، والتي كان حازم صاغية أيضاً أحد أعضاء هيئة تحريرها. كما حرّر ملفاً عن الثورة السورية في مجلة الآداب البيروتية.
أما في مجلة بدايات، وهي مجلةٌ فكرية أخرى أسسها المؤرخ وعالم الاجتماع فواز طرابلسي في بيروت، فقد كانت مساهمة ياسين الحاج صالح فيها أكثر تواضعاً، حيث لم ينشر سوى مقالة يتيمة، بالتشارك مع بكر صدقي، حول القضية الكردية والثورة السورية. لكن عضوين آخرين في الجمهورية، هما ياسين السويحة ونائلة منصور، نشَرا عدة مقالات في بدايات بين عامي 2012 و2014. كما كانت مجلة كلمن الفصْلية قد تأسست، وفقاً لمؤسسيها، بسبب الافتقار إلى «منابر حرة» في لبنان والعالم العربي، وهي بذلك تشبه موقع الجمهورية ومجلة بدايات اللذين انطلقا عام 2012، وقد نشرت كلمن العديد من المقالات حول هذه المواضيع، خاصة عن سوريا. إن السمة المشتركة لهذه المجلات الثلاث هي حرصها على ضمان استقلالها الفكري، لذلك لا تخضع لرعاة سياسيين وإقليميين يتحكّمون بالخط التحريري مقابل تمويلهم.
لكن الصعوبات المادية أدت في النهاية إلى إغلاق مجلة كلمن عام 2015 بسبب قلة الداعمين، لا سيما من المؤسسات الثقافية، ومن ثم رفض البعض الكتابة هناك مجاناً. وبينما كانت المجلات الثلاث متقاربة فكرياً، ولا سيما في تأييدها للثورة السورية، بما يُمكّن من التعاون المتبادل، إلا أن العلاقة بين الجمهورية وكلمن بالذات كانت ستستمر لو بقيت الأخيرة وقتاً أطول، خصوصاً بسبب الروابط الموجودة مسبقاً ودور كل من ياسين الحاج صالح وحازم صاغية فيهما. فرضت ظروف العمل السرّي الذي أحاط بإنشاء الجمهورية في آذار 2012 قيوداً شديدةً على تطوُّر الموقع خلال العامين الأولين. وبهذا المعنى، فإن التعاونات في الأوساط الثقافية اللبنانية التي شاركت في الصراع ضد النظام السوري وحلفائه في لبنان، بما فيهم حزب الله، قد عوّضت جزئياً عن القيود التحريرية والإنتاجية.
شبكة سوريّة عابرة للحدود
لعب ياسين الحاج صالح، الذي عاش متخفياً في سوريا من آذار 2011 إلى تشرين الأول 2013، دوراً رئيسياً في إنشاء الجمهورية وتشكيل مجموعة أساسية من المساهمات والمساهمين. أصبح بعض هؤلاء ركائز مستقبلية للمجلة الإلكترونية، التي احتفلت بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها في آذار 2022. مكانة ياسين الحاج صالح الأخلاقية والفكرية، والتي تعود جزئياً إلى ستة عشر عاماً قضاها في السجن في فترة حكم حافظ الأسد (1980-1996) بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، ومن ثم التزامه الثابت بالحركة الثورية في 2011، جعلَت منه نقطة وصل رئيسية لبعض المتظاهرين. وكان لأسلوبه النقدي واستقلاله السياسي ونباهة تحليلاته أن جعلته شخصيةً مرجعيةً ذات هالة خاصة، على الرغم من رفضه الانضمام إلى تنظيمات المعارضة التي نشأت بعد الثورة عام 2011.
يقول ياسين الحاج صالح، الذي كان طالبَ طبّ أثناء اعتقاله الطويل، أن ما اختار له مهنته ككاتب هي بالضبط الفترة التي قضاها في السجن، حيث كان هناك حضورٌ للكتب ومكتبات مؤقتة. وبحسب جيزيل سابيرو، في دراستها لمشاركة المثقفين الفرنسيين والتي تفيد في تسليط الضوء على بعض خصوصيات السياق السوري، أن القيمة الرمزية التي يحملها الحاج صالح لا تدين إلى أي رأسمال مؤسسي، بل بشكل أكبر إلى رأسماله الاجتماعي أو صيته الحَسَن. مع ذلك، فرأس المال الاجتماعي هذا بعيدٌ كل البعد عن كونه رسمياً، وقد اقتصر في البداية على دوائر ضيقة من المعارضين، دون أن يتقاسمها طيف المعارضة بأكمله. ومن اللافت أن «المجال الفكري» السوري، على عكس الفرنسي، كان منذ ما قبل الثورة مبنياً على الاستقلال عن المؤسسات الأكاديمية والرسمية، وهي التي تسبغ رأس المال الرمزي على من يرتبطون بها أو يميزون أنفسهم عنها، رغم أنه من الضروري عدم الركون إلى هذه التصنيفات العامة فقط.
فيما يخص المجال الأدبي، أدلى ماكس فايس الملاحظة التالية حول الفترة التي سبقت عام 2011: «كان بعض الكتّاب في معالجتهم للقضايا الأخلاقية والسياسية من خلال الأدب يحوزون حريات أكثر، وقد أصبحت آفاق التعاون أو المشاركة مع الدولة في المجال الأدبي قاتمة بشكل متزايد».
تمكَّن بعض الأكاديميين والمؤلفين والمثقفين السوريين، ممن بقوا في البلاد قبل انتفاضة 2011، من المشاركة في المؤسسات الرسمية، والمحافظة على بعضٍ من استقلالهم الذهني، أو حتى مواقفهم النقدية، ما عزّز من مكانتهم، بينما تم إقصاء آخرين عن الحيّز العام ممن عُرفوا بماضيهم النشط في صفوف المعارضة.
إن ارتباط ياسين الحاج صالح بموقع الجمهورية كان سيفاً ذا حدّين: جعل الموقع مرموقاً بالنسبة للبعض، ومرفوضاً للبعض الآخر، وهذا البعض الآخر كان ينتقد ما سمّاه النخبوية في أعمال الحاج صالح والموقع ككل. ولتتبّع المرحلة التأسيسية الأولى، التي تتصف بنقص التمويل والتنظيم وغياب الطابع الرسمي، ينبغي علينا النظر إلى تشكّل «مجموعة الجمهورية» نفسها قبل أن تصبح مجلة إلكترونية رسمية، وذلك من خلال الصداقات والروابط بالدرجة الأولى، ومن ثم التنقيب في الروابط الإيديولوجية، وأخيراً الروابط المهنية التي نشأت فيما بعد.
في منشور له على فيسبوك، أعلن ياسين الحاج صالح عن رغبته بإنشاء موقع إعلامي يغطي الشأن السوري من زاوية تعكس المُثُل الديمقراطية للانتفاضة الثورية. أراد منبراً «يمكننا فيه ممارسة دورنا كثوار، باستخدام أدواتنا ككتّاب». من أوائل المؤيدين لهذه الفكرة كانت المحامية رزان زيتونة، ومعلم المدرسة الثانوية إياد العبدالله، والصحفي ياسين السويحة، والباحثة شيرين الحايك، وكان هذان الأخيران يعيشان خارج سوريا وقت إطلاق الموقع في آذار (مارس). لم تساهم رزان زيتونة في الموقع أكثر من ذلك، وذلك لانشغالها في العمل في مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، والذي أنشأته مع المحامي مازن درويش في حزيران (يونيو) 2011. في نسخته الأولى، نشر ياسين الحاج صالح رسالةً تناشد المساهمين المحتملين، وقال ساخراً: «فريق الجمهورية شحّادين ومشارطين، وهذا يعني شرطين لإرسال النصوص لنشرها على الموقع: ألا تكون قد نُشرت سابقاً، وأن يقبل الكاتب عدم وجود مكافأة».
بالإضافة إلى النواة الأولية، سرعان ما انضم مساهمون آخرون كانوا ما يزالون يعيشون في سوريا وأماكن أخرى، سواءً في لبنان أو تركيا أو أوروبا أو الولايات المتحدة أو في طور الذهاب إلى أي من هذه البلاد. انضمّت لاحقاً مجموعةٌ من الطلّاب الذين كانوا يتابعون دراساتهم العليا: ياسر الزيات، الذي كان يدرس علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، وكرم نشار، الحاصل على دكتوراه في التاريخ في الولايات المتحدة، ونائلة منصور، الحاصلة على دكتوراه في اللغويات من فرنسا، وعدي الزعبي، الحاصل على دكتوراه في اللغويات من بريطانيا، وصادق عبد الرحمن، الحاصل على ماجستير في القانون من جامعة دمشق، بالإضافة إلى آخرين مثل الصحفي ياسين السويحة المذكور أعلاه، والذي كان مقيماً في إسبانيا ويحمل الجنسية الإسبانية. يوضّح كرم نشار حالة فريق الجمهورية ومشروعها الثقافي والسياسي بقوله: «الجمهورية ليست حزباً ولا مجموعة مفكرين أو صحفيين محترفين ولا عاملين في مجال المساعدات الإنسانية والاجتماعية».
ومن وجهة نظر نائلة منصور فإن الاتجاهين الأكاديمي والصحفي تواجدا معاً داخل الفريق في مرحلة التشكيل، وإن مزيجهما شكّل إحدى خصوصيات الموقع.
لا تكفي الصِلات الإيديولوجية والثقافية فقط للانضمام إلى مجموعة الجمهورية والمساهمة فيها، بل يجب الالتزام بالنضال للدفاع عن الحقيقة ضد دعاية النظام أو الجماعات الإسلامية، لا سيما مع ميل كليهما لسحب الصراع نحو أبعاده الطائفية.
بطريقة ما، يمثّل العمل في الجمهورية مسألة إثبات وجود، وذلك من خلال اتخاذ موقف عام، وأحياناً التخفي باسم مستعار. الطريقة المميّزة للمساهمة في المجال العام هنا هي كتابة نصوص بهدف نشرها، على أن تستوفي معايير معينة مثل جودة الكتابة، وأصالة وجهة النظر أو الزاوية أو المنهج، وهذا بمعزل عمّا إذا كانت تندرج في فئة الرأي أو النقد أو القصة الصحفية أو الشهادة الشخصية. وفي هذا السياق، يمكننا بحث مسارات أعضاء المجموعة.
ذكرت نائلة منصور أن ياسين الحاج صالح تواصل معها عام 2011 عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي بعد أن نشرت مقالاً في مجلة كلمن اللبنانية، طالباً منها المساهمة في موقع الجمهورية. كانت منصور قد التقت بالحاج صالح لأول مرة في 2005، عندما كانت تعمل مترجمة لصحفي فرنسي أراد مقابلته. يمكن تفسير نشر الحاج صالح في مجلة كلمن التي ساهم في إنشائها حازم صاغية، واسطته إلى عالم الصحافة اللبنانية، كاعتراف بالمعنى المزدوج للمصطلح: فقد كانت المجلة، مثل الجمهورية، تدور في نفس الفلك السياسي والثقافي، وتفتح أيضاً صفحاتها للمعارضين والمعارضات من سوريا.
كان صادق عبد الرحمن (اسم مستعار) يأمل، بعد إطلاق الموقع في 2012، أن يَنشُر إحدى مقالاته فيه لأنه يتماشى مع موقفه السياسي. نشر صادق قبل انتفاضة 2011 مقالات (تحت اسم آخر) في صحيفة قاسيون، التابعة للجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين. كان جهاد أسعد محمد، المُعتقل في سجون النظام منذ 2013، هو مدير تحرير قاسيون وهو من علّم عبد الرحمن حِرفة الصحافة على حد تعبير الأخير. نشر عبد الرحمن مقالتين إضافيتين على قاسيون بعد العام 2011، قبل أن يتوقّف عن الكتابة في الصحيفة التي ستصبح لاحقاً صحيفة الجهاز الإعلامي لحزب الإرادة الشعبية. في عام 2013، كتب صادق عبد الرحمن عدة مقالات منشورة في عدد من المواقع من بينها المدن، التي يُديرها الصحفي اللبناني ساطع نور الدين والتي تأسست عام 2013، بالإضافة إلى مقالات في الجمهورية. تعرّف عبد الرحمن على ياسر الزيات في بيروت، كما تعرّف على آخرين في الفريق منهم ياسين الحاج صالح، وإياد العبد الله، وياسين السويحة. واستمر يتحرك في الداخل السوري إلى أن اضطر إلى المغادرة إلى تركيا عام 2015.
أما مصطفى أبو شمس فبدأ الكتابة مع الجمهورية في كانون الثاني 2016 بعد أن أُجبر على مغادرة حلب، حيث كان يعمل صيدلانياً، إلى تركيا، قبل أن يصل في نهاية المطاف إلى فرنسا. أصبح أبو شمس مُساهِماً منتظماً في الجمهورية وأحد كتّابها الأساسيين، وذلك بسبب مضمون نصوصه التي عكست الواقع السوري، وهي النصوص التي ظل يعمل عليها بعد مغادرته سوريا من خلال شبكة من المراسلين داخل البلاد.
العبور في إسطنبول ومأسسة المجلة
كانت المساهمات تصل بشكل متقطع، وغير مدفوعة الأجر في العامين الأوّلين في حياة الجمهورية، رغم أن الافتتاحيات الأسبوعية ساهمت في خلق حالة من الانتظام. هدّد نقص التمويل استدامة المجلة، خاصة مع سوء الظروف المعيشية بسبب استمرار الحرب وعمليات النزوح، مما أغرق الكثير من السوريين والسوريات في حالة من الاضطراب الحياتي. بالإضافة إلى ذلك، كان دفع أجور المساهمات الكتابية عُرفاً لدى المؤسسات الإعلامية العربية التي تشتغل مع مساهمين منتظمين. ابتداءً من 2014، كما سنوضح أدناه، بدأت الجمهورية في العمل ضمن عدد قليل من الموظفين والموظفات الذين يتقاضَون رواتب رمزية، ثم وسّعت فريقها ونظّمت تقسيمها للمهام من أجل ضمان سلامة الأداء والإجراءات الإدارية والمالية. «عندها انتقلت الجمهورية من منبر للتعبير السياسي إلى موقع صحفي مُستدام»، كما يقول صادق عبد الرحمن.
تبلورت عملية المأسسة في إسطنبول، حيث كان يقيم العديد من الأعضاء البارزين في المجلة. في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، كان ياسين الحاج صالح مقيماً في تركيا ويبدو أن هذا الأمر، بالإضافة إلى انتقال ياسين السويحة لإسطنبول من إسبانيا ليصبح رئيس تحرير الموقع، فضلاً عن مغادرة كرم نشار الولايات المتحدة إلى نفس المدينة التركية ليصبح المدير التنفيذي، مثّل فرصة حقيقية للفريق. كان من المساهمين المنتظمين الآخرين في تركيا مصطفى أبو شمس وصادق عبد الرحمن. وصل الأخير إلى تركيا أوائل عام 2015 وبدأ العمل في المجلة بدوام جزئي في البداية، ثم بدوام كامل. هذا التمركز الجغرافي في تركيا، والذي استمر لبضعة سنوات، حتى مع إقامة أعضاء آخرين وأُخريات في أماكن أخرى، تناغم مع مرحلة مأسسة المجلة، كما تزامن أيضاً مع تطور المشهد الإعلامي والثقافي السوري والعربي في إسطنبول والذي كانت الجمهورية جزءاً منه.
ساهم كل من ياسين الحاج صالح وياسين السويحة في تأسيس البيت الثقافي التركي السوري – هامش في آذار 2014، وذلك لإنشاء فضاء للنقاش وتبادل الخبرات بين المثقفين والفنانين السوريين والأتراك. كان الهدف الرئيسي من هذه المبادرة مكافحة الجهل والعدائية التي يمتلكها جزءٌ من المجتمع التركي المثقف المعارض للقضية السورية، بالإضافة إلى التصدي لسياسة نظام أردوغان الموالية للتيارات الإسلامية.
تراجعت أنشطة هامش بعد محاولة الانقلاب في تموز (يوليو) 2016. وأدت التدابير القمعية التي أصدرتها السلطات التركية إلى تقييد نطاق التعبير السياسي ومظاهره في الفضاءات العامة. جرى إغلاق حوالي 100 منصة إعلامية، وسُجن ما يقرب من 150 صحفياً في الأشهر التالية للانقلاب، مما ساهم في ازدياد هشاشة وضع الصحفيين والصحفيات السوريين. في 2017، لاحظ ياسين السويحة انخفاض زيارة إسطنبول بشكل ملحوظ من قبل الأوساط الفكرية والسياسية السورية المُتابعة للجمهورية، وذلك منذ 2016، وبالتوازي، تضاعفت أعداد المغادرين إلى أوروبا. بعد عامين سينتقل السويحة والحاج صالح إلى برلين.
اقتضت مأسسة الجمهورية تجاوز مرحلة العمل التطوعي التي اتخذتها أول عامين من عمرها. قدّمت مبادرة الإصلاح العربي، وهي مركزٌ بحثيٌّ مقرّه باريس، أول منحة متواضعة للموقع في 2014. كما كرّس بعض أعضاء الفريق، لا سيما ياسين السويحة وكرم نشار، وقتهم لتوسيع عدد المانحين الذين يمكنهم بتمويلهم ضمان توظيف المزيد ومن ثم استدامة المشروع. والتزاماً بالشفافية، عُرضت أسماء المنظمات الشريكة على الموقع ابتداء من 2021، من بينها المؤسسة الأوروبية من أجل الديمقراطية (التابعة للاتحاد الأوروبي ومقرّها بلجيكا) ومنظمة دعم الإعلام الدولي (الحاصلة على تمويل الدول الاسكندنافية، مقرها الدنمارك) ومؤسسة هاينريش بول (التابعة لحزب الخضر الألماني) ومؤسسة الأصفري (التي يرأسها أيمن وسوسن أصفري ومقرّها بريطانيا)، ومؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة (وهي منظمة غير حكومية سورية مقرّها بيروت). وهكذا، أصبحت الجمهورية تتلقى مواردها بشكل أساسي من الصناديق الأوروبية، إذا اعتبرنا أن اتجاهات أيضاً تتلقى التمويل من نفس المصدر.
اللافت أن الجمهورية كانت مسجّلة كمؤسسة رسمية في 2016 في كلٍّ من تركيا وفرنسا، وقد نصّت أوراقها على «تطوير الأبحاث حول سوريا والعالم العربي في مجالي العلوم الاجتماعية والإنسانية، والآداب والفنون، وإنشاء الأعمال والمشاريع الثقافية، ونشر الكتب والمقالات، وإنتاج ومشاركة الأفلام الوثائقية». مع ذلك، ظل نشاطها محدوداً، وأُغلقت في تركيا عام 2019 بعد مغادرة العديد من أعضائها. عندما افتُتحت في فرنسا في شباط (فبراير) 2016، شغلت إدارتها اللغوية السورية نسرين الزهر، فيما كان عالم السياسة اللبناني زياد ماجد أمينها العام. أما الكاتب والمحرر الفرنسي السوري فاروق مردم بك فقد كان أمين الصندوق، وهو أيضاً مدير سلسلة «سندباد» للكتب العربية في دار نشر أكت سود الفرنسية الشهيرة. ساهم فاروق مردم بك في إنشاء وإدارة جمعية سورية حرية لدعم الثورة السورية لعدة سنوات. تلا ذلك في 2018 تأسيس الجمهورية بشكل رسمي نهائي في ألمانيا، وذلك بعدما التقى ياسين الحاج صالح وياسين السويحة بأعضاء آخرين ضمن فريق الجمهورية. تعلّق الأمر حينها بإيجاد موقع آمن لضمان الارتكاز المؤسسي للمجلة، لا سيما على المستوى المالي، وتجنب تقلّبات الحالة السياسية التي تهدد تنظيمها كما في الحالة التركية. في الواقع، غادر معظم أعضاء الفريق الذين كانوا مقيمين في تركيا إلى أوروبا، لا سيما ألمانيا وفرنسا. كما يقيم العديد من أعضاء الجمهورية في بيروت، بما فيهم أليكس راول، المترجم والصحفي البريطاني الأصل، وياسر الزيات حتى 2020.
مصنع تحريري لكتابات سورية جديدة
بالإحالة إلى مقال ياسين الحاج صالح «حول بعض خصائص الكتابة السورية الجديدة»، الذي نشرته الجمهورية في كانون الثاني (يناير) 2016، نلاحظ أن الموقع بحد ذاته انعكاسٌ مستمرٌّ لتلك الخصائص، حتى لو لم يستطع الإلمام بها كلها. فالجمهورية تلعب دوراً مهماً في توجيه الصحافة الاستقصائية والكتابة العيانية، مع إبراز مجموعة جديدة من الكتّاب وحتى الأساليب الكتابية. ظهرت أسماء الكثير من الكتاب والكاتبات الجدد على الموقع لأول مرة، خصوصاً في سنواتها الأولى. وبحلول عام 2021، كان لديها نحو 20 مساهماً منتظماً يقيمون في الداخل السوري. كذلك دخلَت الجمهورية في شراكة مع موقع مدى مصر العامل في الصحافة البديلة، وذلك لتنظيم دورات تدريبية للصحفيين والصحفيات السوريين والعرب الشباب. كان من الصعب تقدير نطاق القرّاء وتوزيعهم لأن الكثيرين منهم مقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وتوجب عليهم استخدام «كاسر بروكسي» من أجل التحايل على رقابة أجهزة الاستخبارات. ولكن على العموم، تباينت كمية القرّاء حسب البلد، فالمواد المنشورة حول موضوع الجندر والجنسانية، مثلاً، نالت اهتماماً أكبر في ألمانيا ومصر.
تطوّرَ المحتوى التحريري في الجمهورية على مر السنين، وفقاً للظروف. يذكر صادق عبد الرحمن أن المرحلة الأولى تميزت بمقالات الرأي والنصوص النظرية التي تناولت ما كان يحدث في سوريا. ثم اكتسبت التقارير المعمقة والنصوص العيانية والاستقصائية، وبشكل تدريجي، أهميةً أكبر اعتباراً من عام 2014. مع ذلك، جرى اتهام الموقع بالنخبوية لنشره مقالات عن الواقع السوري لا تخلو من التعقيد من حيث المفاهيم واللغة. ووصفت الأمر مقالة بعنوان «أزمة الهوية في الإعلام السوري المعارض» كتبها صحفيٌّ سوريٌّ على موقع المدن. واستمر هذا الانطباع عن الموقع كموقع نخبوي، رغم أن المحتوى التحريري بقي يتطور من خلال الشهادات والمقالات التي تتناول الحياة اليومية في سوريا. وبحسب صادق عبد الرحمن،، فإن المطالبة بالـ«التبسيط» توازت مع رغبة بتقديم حلول مادية لمشاكل السوريين، وتطويع المحتوى للنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام.
اتخذت الجمهورية منعطفاً جديداً في 2018، من خلال نشرها لمقالات أسبوعية عن الواقع السوري، وهو ما اندرج تحت مسمى «تغطية» أي مواكبة الأحداث والتعليق عليها. وهكذا فقد استمرت في نشر نصوص أطول، إلى جانب التحقيقات الصحفية والشهادات والمقالات النظرية، وذلك على مدار الأسبوع.
وبالتوازي مع «تغطية،» أنشأ فريق التحرير «مجلة» عام 2019، وهي عددٌ أسبوعي يصدر كل يوم خميس ويقدم تحليلات بطيئة للأحداث الراهنة. وفي 9 نيسان (أبريل) 2021، أعلن الفريق إطلاق صيغة جديدة للموقع، تُنشر فيها مواد متنوعة على أساس شبه يومي ضمن سبعة أقسام: سياسة، ومعيشة، وشتات، وثقافة، وجنوسة، وأفكار، وتاريخ، وذلك مع نشر ملفّات خاصة تحت كلّ من هذه العناوين بشكل شهري.
تطوَّر إذن المحتوى التحريري وفقاً لأولويات النضال السياسي وتطوِّر الوضع. فبينما انخرطت الجمهورية بين عامي 2012-2013 في معارضة النظام، فقد هدفت لاحقاً إلى تمثيل التيار الديمقراطي، وإلى معارضة كل من النظام والإسلاموية المحافظة، وذلك من خلال التعبير عن مواقف واضحة من مسائل الجسد ومكانة النساء والجنسانية على سبيل المثال. تذكر جوستين أوجييه أن موضوع المثلية الجنسية لم يشغل ياسين الحاج صالح خلال عيشه في سوريا، ولكنه يعتزّ بحقيقة أن الجمهورية نشرت «أفضل وأجمل مقالة عن المثلية الجنسية مكتوبة في العالم العربي».
إعادة التفكير في اليسار: مسار للتأمل الجماعي
تمثّل الجمهورية بالنسبة إلى كرم نشار نوعاً جديداً من الاشتباك المُرتبط بتجارب ملموسة، وذلك من خلال تقديم الشهادات، وتحطيم النموذج النمطي للمثقفين السوريين قبل 2011 الذين «تحدّثوا عن كل شيء إلا سوريا». وأصبحت الجمهورية مساحة التقاءٍ للقراءة وتبادل الأفكار ومناقشتها. ويَربط كرم نشار المفاهيم السياسية والفكرية للجمهورية بالحياة السياسية والفكرية السورية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وظهور يسارٍ مناهض للستالينية، يتمثّل بمفكرين مثل ياسين الحافظ وإلياس مرقص.
ولو رجعنا إلى المراجع النظرية للجمهورية، لوجدنا أنها تنتمي إلى اليسار السياسي، وبالتالي يُمكننا على صفحاتها قراءة ترجمات أو تعليقات حول أنطونيو غرامشي أو كارل ماركس أو بيير بورديو، وذلك إلى جانب دراسات عن ياسين الحافظ وإلياس مرقص. ومع ذلك، يجدر بالذكر أن إلياس مرقص اعتقد بوجوب تثقيف السوريين عن الديمقراطية من خلال السلطة، أما بالنسبة لمثقفي الجمهورية فإنه لا يمكن تغيير النظام السياسي دون انخراط السوريين أنفسهم في عملية التحرّر.
فيما يخص الدراسات ما بعد الكولونيالية، اتخذت الجمهورية مسافةً نقدية، عارَضها بعض الإسلاميين واليساريين المناهضين للإمبريالية ممن يفضّلون، سواءً في سوريا أو خارجها، التحالف مع النظام على دعم الثورة السورية. وهكذا، احتلّت الجمهورية مكانةً فريدة في المجال الفكري السوري الجديد، على عكس منصّات مماثلة تأسست بعد 2011 (مثل حكاية ما انحكت)، في استدعاء التراث اليساري والراديكالي والتقدّمي. كذلك أتاحت لنا دراسة ثيمات ملفات الجمهورية، وأنماط السرد التي تقدمها، وتأثيراتها السياقية، بتحديد بعض من جوانب هويتها السياسية.
عن الشأن السوري ونماذج معاداة الإمبريالية
مزجت الجمهورية في أقسامها أجناساً مُختلفة من الكتابة، ما بين مقابلات وتقارير ونقد أدبي. ومنذ نشأتها، أنتجت أيضاً ثمانية ملفات حول مواضيع تمسّ اليسار، منها اثنان حول القضايا الاقتصادية: «أي إصلاحات اقتصادية في العالم العربي؟» و«الخبز: القمح، الرغيف، الغذاء، والسلطة»، وملفان حول الجنوسة: «الجندر، الجنسانية، السلطة» و«شهادات نساء»، بالإضافة إلى مواضيع تعكس علاقة المعارضة السورية بواقعها السياسي: «المنفى» و«التمثيل السياسي» و«عن الكتابة ومشاغلها: ما الذي يفعله الكتّاب زمن الحرب؟».
في أيار 2016، دعا الكاتب السوري عديّ الزعبي الكتّاب والباحثين والصحفيين السوريين إلى التأمل من خلال إحدى هذه الملفات بعنوان «اليسار وسؤال الحرية». فبالنسبة إلى الكاتب، أظهرت انتفاضات 2011 أن السعي وراء الحرية السياسية لا يمكن فصله عن مسألة العدالة الاجتماعية، فالليبرالية الاقتصادية التي تتبنّاها الأنظمة الاستبدادية لا يمكن أن تكون بديلاً مُرضياً عن التجارب الاشتراكية الاستبدادية. وتساءل الزعبي في مقالته التي تعود إلى 6 أيار (مايو) 2016: «كيف يكون المرء يسارياً في هذا الزمن؟ ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟ وما الذي يميّز اليسار التحرّري من يسار الطغيان، اليسار الستاليني الذي يحتفي بستالين وماو، ويدافع عن طغاة العالم الثالث، العرب وغير العرب؟».
إذا أردنا وضع القضية في سياقها التاريخي، فعلينا النظر إلى التموضع السياسي للنظام البعثي والذي شكّل أساس المشكلة عقب توليه للسلطة في 1963، وتقرّبه من الاتحاد السوفييتي، وتأسيسه ما يدعى «الاشتراكية العربية» التي تدمج ما بين الإصلاح الزراعي والسياسات القومية. ساهمت محاربة النظام السوري لإسرائيل ودعمه للقضية الفلسطينية، ثم معارضته للغزو الأميركي للعراق، في وضعه في صف اليسار الدولي المناهض للإمبريالية. وبالنسبة للمعارضين ذوي الميول الشيوعية أو الاشتراكية، على غرار مؤسّسي الجمهورية، فإن التحدي يكمن في إدانة استبداد النظام دون التخلي عن الإرث الماركسي الذي نشأ منه تاريخياً.
بل يمكن القول إن الثورة السورية كانت العقدة الغورديّة التي ساعدت على فَرط الانتلجنسيا اليسارية العربية، التي عانت لفترة طويلة من الضيق والخيبة بسبب الأنظمة ما بعد الكولونيالية التي لم تَقْدر على الخروج من التخلف والاستبداد. وبالفعل، أثارت القضية السورية منذ لحظات الثورة الأولى جدلاً حين استقال في آب (أغسطس) 2011 طاقم صحيفة الأخبار اللبنانية اليسارية، المقرّبة من حزب الله، تنديداً بموقفها من الثورة. وبسرعة كبيرة أخذت أحزاب اليسار العربي، في تونس والأردن على سبيل المثال، بالنأي عن الانتفاضة السورية، سواء عبر التنديد بـ«العسكرة» التي قد تؤدي إلى استيلاء الإسلاميين على السلطة في سوريا، أو دفاعاً صرفاً عن النظام السوري. هذه الأحزاب قدّمت نفسها كآخر معقل ضد الإمبريالية، وزاد من حدّة موقفها احتمال التدخل العسكري من الدول الغربية أو من دول الجامعة العربية مثل السعودية وقطر. أما الثوار السوريون، فقد انقسموا بشدّة بين هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، وهي جماعةٌ سوريّةٌ تتألف من أحزاب سوريّة معارضة صغيرة وشخصيّات معارضة مستقلّة من الداخل، تُعرَف بمعارضتها الشديدة لأي شكل من أشكال التدخل الخارجي، وبين الائتلاف الوطني السوري الذي كان مقرّه تركيا، والذي آثر القتال المسلح ولم يَستبعِد خيار إقامة منطقة حظر جوي.
أما خارج العالم العربي، فقد تناول ملف «اليسار وسؤال الحرية» مسألة إعادة تشكيل اليسار ككل. فبينما كان الملف قيد التحضير، أصبح جيريمي كوربين زعيماً لحزب العمال في بريطانيا، وشكّل جان لوك ميلينشون منظمة فرنسا متمردة في فرنسا، وأصبح حزب بوديموس القوة الثالثة في البرلمان الإسباني. جسّدت هذه الأحزاب شكلاً من أشكال «التجديد» داخل اليسار العالمي، وبرزت بشكل متميّز في دعمها لحقوق بعض الفئات أو الطبقات الإجتماعية، وبصفتها يساراً يُدافع عن حقوق الأفراد. لكن الموقف المناهض للإمبريالية لدى تلك الحركات الجديدة أثار ريبة بعض اليساريين السوريين، ففي الحقيقة، لم تحظَ الثورة السورية بدعم هائل أو غير مشروط من اليسار العالمي في أي وقت.
سرعان ما تناول الفريق المؤسّس للجمهورية هذا النقاش. ندّد ياسين السويحة بما يسمى «حياد مناهضي الحرب»، وفي الأخص تحالف أوقفوا الحرب، وهي منظمة قادها جيريمي كوربين من 2011 إلى 2015. كان كوربين نشطاً بشكل خاص في الضغط على البرلمانيين البريطانيين الذين طلبوا التصويت على التدخل في سوريا أعقاب الهجوم بالأسلحة الكيميائية على المدنيين السوريين في ضواحي دمشق يوم 21 آب (أغسطس) 2013. ردّ السويحة في مقالته على حجج جماعات «معاداة الإمبرياليّة» الغربية، والتي تضع الفريقَين السوريين على قدم المساواة. ووضّح أن حياد تلك المجموعات عزز، بل ومثّل، شكلاً من أشكال التضامن مع نظام بشار الأسد، فهم يعتبرونه حليفاً في مواجهة القوى الإمبريالية وحلفائها الإقليميين. «باستخدام هذا المنطق»، كتب السويحة، «نفهم كيف يُنظّم تحالف أوقفوا الحرب في بريطانيا نشاطات واعتصامات ضد الحرب في سوريا تُشاهد فيها أعلامُ وشعاراتُ النظام وصور بشار الأسد». كما أشار السويحة إلى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عمى اليسار في السعي وراء إيديولوجيا مجرّدة، مُنفصلة عن عواقبها الحقيقية، وأوضح أن تحوّل الخطاب المناهض للإمبريالية إلى تبرير للأنظمة الاستبدادية لا يقتصر على سوريا فحسب.
إنَّ المعضلة التي يطرحها الشأن السوري على اليسار العربي تضع اثنين من نماذجه الأساسية مقابل بعضها البعض: مقاومة الاستبداد ومقاومة الإمبريالية، وهذه هي المعضلة التي تناولتها الجمهورية بهدف توفير مساحة للتفكير فيما يمكن أن يكونه اليسار الراديكالي والتقدّمي والمناهض للاستبداد. نُشرت ثلاث عشرة مادة في ملف «اليسار وسؤال الحرية» خلال شهرين فقط ((من أيار (مايو) إلى تموز (يوليو) 2016))، تبنّت وجهة نظر نقدية لمبدأ الإيديولوجيا الشاملة. هذا اليسار التحرري الجديد، كما يقول الزعبي في مقالته، يجب أن يُطلق «حركةً تحرريةً واسعة، تبدأ من الناس وتتوجه لهم، لا تسعى فقط لتغيير نظام الحكم، لتفرض على الناس أن يتحرّروا من فوق. على العكس، نريد حركة تحرّر يشارك فيها الناس ويحملون قضاياهم بأيديهم».
مقارنة بين الأنظمة الشمولية
على غرار محاكمات موسكو في 1936-1938، كانت الانتفاضة السورية أيضاً واحدةً من تلك الأحداث التي تختبر الواقع التجريبي لإيديولوجيا عظيمة. لذلك، من خلال سرديات الروايات التاريخية، تم اقتراح ملف «اليسار وسؤال الحرية» للبحث عن نظائر بين اليسار الأوروبي والعربي.
مثال ذلك مشاركة محمد العطار في الملف، حيث قدم الكاتب المسرحي السوري ترجمة عربية لمقدمة رواية مزرعة الحيوانات، من تأليف جورج أورويل، والتي تعرَّض فيها بالنقد الساخر للثورة الروسية. في تلك المقدّمة التي كُتبت في الأصل للترجمة الأوكرانية للرواية، يلخّص المؤلف البريطاني رحلته الذاتية والسياسة، ويركّز على وجه التحديد على ما رآه من الاشتراكيين الأوروبيين الذين صدّقوا بسهولة الدعاية السوفيتية، ولا سيما عند عودته من الحرب في إسبانيا بعدما قاتل إلى جانب القوات المناهضة لفرانكو. في النص المترجم، يبيّن العطار تناظراً واضحاً: فالشيوعيون والاشتراكيون الذين يدافعون عن نظام الأسد باسم النضال ضد الإمبريالية، كانوا سيقعون بنفس الخطأ، لأنهم كانوا سيُضحّون بالحريات الأساسية للدفاع عن الإيديولوجيا. وفي إحياء لدرس أورويل، يذكر العطار: «تسعى [هذه السطور] إلى التذكير بمثال وجدَ فيه مثقّفٌ التزم بالنضال ضد الفاشية فعلاً لا قولاً فقط، أنه لا يمكن السكوت عن ممارساتٍ قمعية لنظام سياسي حتى وإن كانت أدبيات هذا النظام الأساسية تقوم على مناهضة الفاشية، لا بل حتى إن كان يحاربها فعلاً».
يتمثل التحدي إذن في الاستفادة من أمثلة تاريخ النقد الذاتي لليسار. وقد وجد الزعبي في ميخائيل باكونين إلهاماً مشابهاً، فنشرَ في 10 حزيران (يونيو) 2016 ترجمة لمقتطفٍ من كتاب الله والدولة (1882) بعنوان «ما هي السلطة؟». يجيب المفكر الأناركيّ الناقد لكارل ماركس بأن الأمر يتمثل في إعلاء مرتبة الفرد على السلطة، بهدف مقاومة أي محاولة لاحتكار السلطة، فذلك هو الميل الطبيعي لأي حزب أو دولة أو منظمة أو جهة صاحبة امتيازات. انعدام الثقة بالسلطة، بحسب الزعبي، أمرٌ مفيدٌ في البحث عن يسار تحرّري.
في مادة «من ستالين إلى الشيوعية-الأوروبيّة»، التي نُشرت في 27 أيار 2016، قدّم السويحة تاريخاً لحياة الحزب الشيوعي الإسباني. بعد سقوط الحكومة الجمهورية وصعود دكتاتورية فرانكو، قرّر الأمين العام للحزب سانتياغو كارّيجو التحالف مع القوى الأخرى المناهضة لفرانكو، سواء كانوا اشتراكيين ديموقراطيين أو حتى مقربين من البرجوازية، وتخلّى عن عقيدة الثورة البروليتارية، وبذلك استهلّ خروج الأحزاب الشيوعية الأوروبية من الشيوعية السوفيتية.
مواد العطار والزعبي والسويحة تتبنى إذن نفس النبرة. فكلّهم يقابل أمثلةً عن الالتزامات المتشددة بنقدٍ للاستبداد من خلال قصص لشخصيات بارزة من اليسار الراديكالي، ويشترك ثلاثتهم بالهدف الأساسي لدفع اليسار إلى نقد الذات.
استكشافات في السيرة الذاتية
هذا بالضبط ما حاولت إنجازه موادٌ أخرى من الملف. كانت هذه المساهمات انعكاساً لنشاط أصحابها السياسي، وجاءت على شكل استكشافات في سيرهم الذاتية. مثال على ذلك شهادة صادق عبد الرحمن، القريب سابقاً من مجموعة قاسيون، في مادة بعنوان «ما الذي كنا نفعله هناك؟»، حيث قدّم إقراراً وتوضيحاً لجاذبية هذا الحراك الذي نشأ عام 2002، وتسامحَ معه النظام السوري. أوضح عبد الرحمن أن هذه المجموعة قد أمّنت، في السياق السوري الذي خضع لرقابة شديدة أول القرن الحادي والعشرين، مساحةً مقبولة لجيل من الناشطين والناشطات من الشباب اليساريين للتعبير عن أنفسهم والتحرّك ضد السياسة الاقتصادية النيوليبرالية الجديدة للنظام، وذلك من دون التعرض بالضرورة إلى النفي أو السجن. إلا أن استمرار هذا الوضع ما عاد ممكناً بعد 2011، حيث أُجبر الكثير من الناشطين، بمن فيهم كاتب المقال، على التخلي عن قاسيون. وبذلك قدّم عبد الرحمن نظرة من الداخل لإحدى الجماعات التي تنتقدها الجمهورية.
بنفسِ النّفس الذاتي، قدّم الباحث اللبناني فادي بردويل صورة شاملة عن اليسار العربي في مادته «سيرة تشظّي: اليسار من نظرية التحرّر الكليّ إلى لغة سلطة». تتبع بردويل نقاط التحول التاريخية في التوجهات الإيديولوجية البارزة لليسار العربي، وحدد تيارَين فكرييَن أصبحا، حسب قوله، «آلات ميثولوجية صراعية»: اليسار المناهض للإمبريالية والمهووس بالولايات المتحدة؛ ويسار آخر يعارض الإسلام السياسي باسم ما يسمى بالحداثة. «تقترب الميثيولوجيتان اليوم أكثر فأكثر من لغة السلطة»، على حد تعبير بردويل، والذي يُضيف أن هذين اليساريَن ما تزال أحداث ماضية ذات وزن أسطوري تعذّبهما، مثل هزيمة عام 1967، وتصْرِف انتباههما عن الاهتمامات المعاصرة للشعوب العربية.
أخيراً، في مادته «عن اليسار وشياطين أخرى: محاولة أولى لكتابة سيرة ذاتيّة»، استحضر الصحفي اللبناني خالد صاغية نموذجاً عن ثقافة اليسار العربي، تمثَّل بشعر محمود درويش ومسرح زياد الرحباني وأغاني مارسيل خليفة، مُسترجعاً قراره بمغادرة صحيفة الأخبار تنديداً بعدم دعمها للثورة السورية.
تحوّل داخلي
من خلال استكشاف التجارب السياسية، جماعيّة كانت أو فرديّة، أوروبية أو عربية، قدّمَ المساهمون تقييماً للمِحَن السابقة. ولكن كيف نفهم الحاضر؟ كان طموح ملف «اليسار وسؤال الحرية» اقتراح طرق لإعادة التفكير في الالتزام السياسي ضمن التراث الماركسي، أو تجاوزه برمّته. نلاحظ، مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، استعداد الزعبي للخوض في تحليلات المفاهيم، كما فعل في مادته «غريزة الحرية: تشومسكي والفوضوية والطبيعة البشرية». لكن تفرُّدَ الملف يكمن قبل كل شيء في الدرس السياسيّ الذي يقدمه: ما يتضح عند قراءته هو أن المسألة السورية أظهرت الحاجة إلى وجود هرميّة تربط السياسة الداخلية بالقضايا الدولية.
إنها، وحسب تعبير عالم الاجتماع الفلسطيني-السوري ساري حنفي في مقالته عن اليسار ما بعد الكولونيالي، في المقام الأول قضية معرفية: فقد أقنعت النخب الاستبدادية الباحثين والجمهور بأسبقية الوطنيّ على الاجتماعيّ، وبخطر العوامل الخارجية على العوامل المحلية.
مقابل ذلك، حثّ حنفي الباحثين والباحثات على أن يضعوا في صميم تحليلاتهم استبداد الأنظمة في المجتمعات التي يدرسونها. فالمسألة، بالنسبة إليه، مسألة ممارسة سياسية أيضاً. في مقابلة مترجمة، دعا جلبير الأشقر الأحزاب اليسارية إلى البراغماتية في تحالفاتها السياسية. حتى في السياقات الاستبدادية، أكد أشقر أنه من الممكن تشكيل تحالفات كبيرة تجمع بين جميع القوى الديمقراطية، ولكن «إذا كنت تعيش في بلد حرّ، حيث معركتك الأساسية هي في سبيل الاشتراكية، فسوف يكون ائتلافك أضيق بكثير؛ ائتلافاً بين من يتشابهون في السعي إلى تحقيق تغيير اشتراكيّ».
خيار التكيّف مع السياق المحلي يوضّحه أيضاً الكاتب والباحث السوري رستم محمود، عندما سلّط الضوء على هيمنة الأقليات في الأحزاب الشيوعية في سوريا ولبنان والعراق وتركيا. في مادّته «اليسار والأهلانية»، طوّر محمود أطروحة مفادها أن تراجع الحراك داخل هذه الأحزاب لم يرتبط بسقوط الاتحاد السوفييتي، وإنما بظهور حركات قومية أو دينية استجابت بشكل أفضل لمصالح هذه الجماعات. وهذا فيما كان الوعي الطبقي، بمعنى الحالة المُشتَركة من الظلم الاجتماعي، هي ما ينبغي إقامة الحراك السياسي عليه في الشرق الأوسط.
ولكن ربما وجدنا المثال الأكثر واقعية في خارطة مسارات اليسار المحلي في مقالة المشاركة المرأة الوحيدة في الملف، الباحثة والناشطة فرح قبيسي. ففي مقالتها «نحو يسار نسوي»، نددت قبيسي بتهميش الناشطات اللبنانيات خلال مظاهرات 2011 و2015، حيث لم تكن النساء جزءاً من عملية صنع القرار في المنظمات اليسارية، كما لم تشجب تلك المنظمات حالات التحرش الجنسي، ورفضت تنفيذ مظاهرات مقترحة بحجة أن النضال النسوي «غير سياسي» أو «ثانوي» مقارنة بمطالب تلك المظاهرات. من خلال دعوتها المنظمات اليسارية اللبنانية لاتخاذ منعطف نسوي حقيقي حول هذه الموضوعات، أشارت قبيسي إلى الكيفية التي يمكن لليسار العربي الجديد معالجة قضايا ملموسة.
يُلخص ملف الجمهورية ما أسماه عالِمُ السياسة اللبناني سامر فرنجية «التحول الداخلي» الذي طرأ على الفكر السياسي العربي، وذلك من خلال إعادة تسليط الضوء على السياسية الداخلية المعاصرة والابتعاد عن الاعتبارات الجيوسياسية والضرورات الإيديولوجية للرجوع إلى السياق المحليّ للنضالات. فبحسب تعبيره، ركّزت مطالب احتجاجات 2011 على الحريات السياسية والمؤسسات الاستبدادية، وليس على الصراع العربي-الإسرائيلي أو الخطاب المعادي للاستعمار. وفي محاولتهم لدعوة اليسار الراديكالي لاتخاذ نفس المنعطف، فإن المساهمين في الجمهورية يمثّلون جزءاً من الباراديغم السياسي الذي نشأ بعد 2011.
يمثل المشاركون في ملف «اليسار وسؤال الحرية» أبطالاً في مجال فكريّ ممزّق، تتخطى خلافاته الصراع السوري وتتغلغل في المجال العام العالمي. وفي صفحات الجمهورية، نرى إحياء للنقاش حول حدود معاداة الإمبريالية في عدة مناسبات. أولاً، في نيسان 2017، خلال الضربات الأميركية لقواعد الجيش السوري رداً على الهجوم الكيماوي. ثم في 27 آذار 2021، في رسالة مفتوحة بعنوان «محو الناس عبر التضليل: سوريا وأنتي إمبريالية الحمقى» والتي كتبها سوريّون، ووقعها مثقفون حول العالم، في تذكير واضح بأن معارضة النظام لم تكن يوماً كُرمى لعيون الإمبريالية الغربية، بل «لأن عقوداً من الانتهاكات الوحشية والفساد كانت وما تزال غير محتملة». يتفق موقف الرسالة بشكل كلي مع موقف المثقفين السوريين الذين برزوا مع الثورة، والمهتمّين أولاً بـ«سوريا الحقيقية»، لا بأمة متخَيَّلة (عربية، إسلامية، سوريا كبرى). بهذا المعنى، فقد ساهمت الجمهورية بالترويج لهذا الرعيل الجديد من المثقفين والمثقفات الذين طوروا فكراً نقدياً متجذراً في الواقع السوري، سواء من الداخل أو من المنفى.