لم تعش نوارة نجم، الصحفية والناشطة المصرية، وابنة الشاعر والمناضل الشهير أحمد فؤاد نجم من الكاتبة صافيناز كاظم، حياةً اعتياديةً على الإطلاق. فها هي اليوم، وبعد أن قاربت الخمسين من عمرها، تستعيد أهم مفاصل حياتها في كتابٍ صدر لها حديثاً عن دار الكرامة (2023) بعنوان: وأنت السبب يابا: الفاجومي وأنا.

حارسة الكنز

يتكئ الكتاب المشوّق والطريف على سردٍ متدفقٍ بالعربية الفصحى، تمتزج به الاقتباسات العامية والإحالات إلى قصائدَ وأبياتٍ بعينها، إلى جانب عددٍ من الصور النادرة التي تعود ملكيتها للأسرة.

في مُستهل مؤَلَّفها، تؤكد نوارة بأن ما تكتبه محض ذكرياتٍ بدلاً من حقائقَ مؤكدة، وتضيف بأنها استسلمت لفكرة الكتابة عن «الفاجومي» بعد اقتناعها أخيراً أنها باتت إثرَ موت أُختيها غير الشقيقتين، الحارسة الوحيدة لكنز أبيها.

في الحقيقة، لا يمكن القول بدايةً إن حياة أحمد فؤاد نجم كانت حياةً غامضةً مشوبةً بالأسرار، فالكثير من تفاصيلها ومراحلها معروفةٌ للرأي العام المصري والعربي، عبر الوثائقيات والمقابلات المطولة التي أجراها طوال حياته، ناهيك عن المعلومات التي تضمنتها مذكراته الفاجومي التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1993 عن دار سفنكس. فنجم، كما يُعرَفُ عنه «حكّاءٌ» من الدرجة الأولى، شاركَ محبيه على مدار حياته بتفاصيل عنها. لكن رغم ذلك يبقى المنظور الذي تقّدّمه نوّارة في كتابتها عن علاقتها بأبيها مختلفاً تماماً.

متلازمة الأب الغائب

منذ الصفحات الأولى في الكتاب، يُدرك القارئ أن نجم كان «الأب الغائب» وأن ابنته أمضت حياتها، بصورةٍ أو بأخرى، تبحث عنه وتحاول بناء صلةٍ معه، ما ترك لديها ندوباً لا تزول.

على صعيد البنية النفسية، لم تعش نوّارة الطفلة ثم الشابة حياةً مستقرة. منذ بداية عمرها، تعرضت لأولى صدماتها النفسية وهي لا تزال رضيعة مع اعتقال أمها من قبل نظام أنور السادات عام 1973، لتسارع أمها بعد خروجها من المعتقل للفرار مع ابنتها إلى العراق، ما مهّدَ لانفصال والديها فيما بعد. تتالت الأحداث الصادمة بعد عودة الطفلة إلى مصر في السابعة من العمر مع سلسلة اعتقالاتٍ متتالية جديدة لأمها وأبيها، نتيجة نشاطهما السياسي المناهض للسلطة، لتتكلّل سيرة المواجع فيما بعد بتجربة اعتقالها هي عام 1995.

لكن الاعتقالات كما يبدو لم تكن مصدر الأذى الأبرز في حياة الطفلة/الشابة، وإنما الشعور المتجذّر بأنها لاحقت، طوال طفولتها، طيف والدها الذي لم يكن حاضراً في حياتها. فالشاعر المعروف بخفّة دمه وحياته الفوضوية ظل يتنصل من واجباته تجاهها؛ يَعِدها بالقدوم لرؤيتها ويكذب، أو يسافر خمس سنوات لا يتصل خلالها بابنته سوى مرةٍ واحدة، ما يعزز شعورها بأنه رأى في أبوّتها عبئاً لا طاقة له به رغم حبّه الشديد لها، فهو كما تصفه: «مثل الزئبق الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بشق النفس».

في التعليق على هذا المفصل الجوهري من علاقتها بأبيها، تكتب نوّارة استنتاجاتها بعد أن اختبرت هي نفسها تجربة الأمومة، مؤكدةً بأنها تُثمّن الآن جهود أمها في ملاحقة أبيها وإجباره على الانخراط في حياة ابنته، وعن هذا تقول: «الأم المُطلّقة عليها أن تبذل جهداً ليقترب الأطفال من أبيهم مهما كان هذا الأب، يا ستي، هو السيء والشرير والأسد الغدار وإنسان الغاب طويل الناب، على الأبناء أن يعلموا ذلك ويتقبّلوه لأن هذا أبوهم». تضيف المؤلفة في موضعٍ آخر بأنها مُمتنةٌ اليوم للجهد الذي بذلته أمها في المحافظة على صلتها مع والدها بدلاً من الاستغناء عنه، وملء الفراغ الذي خلّفه، لأن ذلك صبّ في محصّلتها كطفلة. وهي اليوم بفضل جهود أمها تستطيع القول بأنها عاشت مع أبيها «تجربة عاطفية وإنسانية واجتماعية وفكرية غنية جداً».

فعلى سبيل المثال، تشارك نوّارة ذكرياتها عن زيارات أبيها حينما فرّ من السجن مطلع الثمانينيات، وظل يعيش متنكراً ومتخفيّاً فترةً من الزمن تحت اسم «مجدي»، ما جعلها تخوض تجربةً مشوقة تغوص فيها في حياة الكبار وتحمي أسرارهم. من جانبٍ آخر، كانت نوّارة محظوظةً ربما، لنشأتها ضمن شبكةٍ غنية من معارف والديها، لتشهد بذلك حقبةً متفردة من تاريخ الحراك الثقافي والسياسي المصري، فهي مثلاً تُضّمن كتابها مجموعةً من الصور الثمينة التي توثق علاقتها بالشيخ إمام، الذي اعتاد أن يعزف ويغني لها كي يجعلها تتوقف عن البكاء، ويواسيها نتيجة حزنها من هروب والدها المتكرر. بالإضافة إلى ذكرياتٍ وحكاياتٍ جمعتها بكثيرٍ من الأدباء والفنانين المصريين، كصلاح السعدني وعادل إمام ومحمد منير ونجيب سرور، وغيرهم من المشاهير الذين أثاروا غيرة زملائها في المدرسة.

نجم كأبٍ متحرر

رغم أن نجم، وفي كثيرٍ من المناحي، لا يمكن أن يكون بحالٍ من الأحوال أباً مثالياً، لكن هناك أمراً أساسياً يُحتسب له في علاقته مع بناته الثلاث، وهو مقدرته على تأسيس علاقة منفتحة متحررة من الأطر التقليدية التي تحصر علاقة الأب بابنته في العالم العربي. هذا الانفتاح، أتاح لنوّارة وأختيها إمكانية التعبير عن أفكارهن صراحةً أمامه، كأن تقول نوارة له بأنها لا تحب أغنيّة أنا توب عن حبك أنا لأنها تروّج للحب الـ (Toxic) والعلاقات العاطفية السامة بنظرها.

ومقابل إجبار صافي ناز ابنتها على ارتداء الحجاب دون إرادتها، وملاحقتها كي تلتزم بقول كلمة «حضرتك» في كل مناسبة، نرى نجم على مدار سنوات حياة ابنته يشجعها على سلاطة اللسان، ويحترم تقلباتها الفكرية والنفسية، وتحديداً تلك التي تلت تجربة اعتقالها. هو لم يهزأ، كما تقول، من انتقالها لارتداء النقاب وتحولها إلى السلفية في الفترة التي تلت خروجها من السجن، كما لو أنه أدرك في قرارة نفسه – كمعتقل أفنى عمره في السجون – أن ابنته تمرّ بتحولاتٍ لا يمكن فيها زجرها أو التضييق عليها.

رغم ذلك، تعترف نوّارة ساخرةً بأنه فقد أعصابه ولم يستطع التساهل مع فكرة تبعيّة ابنته للداعية عمرو خالد فترةً من الزمن، حينما قال لها: «استحملتك وإنت دماغك إرهابية وكل يوم أقول يا رب ما تروح تفجّر نفسها.. إنما الراجل دا مقدرش استحملو!».

الطفل الأبدي

أثناء بحثها الذاتي الموضوعي، تغوص نوارة النجم في محاولاتها لتفسير علاقة أبيها بزوجاته وبناته من الناحية النفسية، وهو الرجل المزواج الذي تزوّج بصورةٍ رسميّةٍ ست سيداتٍ وطلّق منهن خمس.

وبذلك تعود لتسرد حقائق مؤلمة عن علاقته بوالدته، التي أرسلته للعيش في ملجأ عشر سنواتٍ من طفولته دون أن تراه فيها مرةً واحدة، إضافة لتساهلها مع الظلم الذي لحق به هو وأخوته من باقي أعمامه، الذين حوّلوا الأطفال إلى ما يشبه الخدم في منازلهم، حارمين إياهم بذلك من حقوقهم المادية والمعنوية. رغم ذلك اختبر نجم، كما تقول ابنته، علاقة تعلّقٍ مرضيّة مع أمه، محكومة بالفرار والتنصّل، فرغم حبه الشديد لها، ظل يتنصّل من اللقاء والاعتناء بها فيما بعد، ليكرر لاحقاً  مسلسل الهجران والتخلي مع كل امرأة من أسرته.

في الحقيقة، تستلزم مذكرات الابنة شجاعةً كبيرةً من طرفها للبحث عن تفسيراتٍ لسلوك والدها مع النساء، دون الانجرار في تقديم الأعذار له، وتقول بهذا الصدد: «الأمر يحتاج إلى متخصص في الطب النفسي كي يفسر حالة الانفصال بين أفعاله مع النساء وآرائه في تلك الأفعال، ومواجهته لنفسه بأنه لا يستحق أن يكون زوجاً وأنه ليس أباً يعوّل عليه». 

الأب الرمزي والأب الفعلي

يمكن القول إن أهمية مذكرات نوّارة تأتي، في الدرجة الأولى، من تقديمها لصورةٍ صادقةٍ عن نموذجٍ شائع بين الفنانين والمثقفين (على مستوى البلدان العربية في المثال الذي يقدّمه الكتاب)، رغم أن هذا النموذج يبدو سيرة إنسانية عالمية في دورهم كآباء وأزواج. وهو نموذجٌ ظاهر التناقضات وأسيرٌ لصراعاته، فمثلاً، تذكر المذكرات كيف بكى نجم كل يومٍ أثناء اعتقال ابنته، لكنه آخر من زارها في السجن.

ربما أن السيرة الشخصية لنوارة نجم، واختبارها تجارب مشابهة لتجارب والدها على مستوى شخصي وسياسي وصلت حتى تجربة الاعتقال، أمورٌ أعانتها على فهم الأحاسيس المؤلمة التي أخفاها وراء قناع الشاعر الساخر المحب للـ«تريقة». ومما أعانها أيضاً، وربما كانت محظوظةً به، هو وجود الوقت الكافي فيما بعد لترمّم علاقتها به وتشاركه النضال في ميدان التحرير، بعدما أصبح كما تقول، أباً لجميع الثوار. لكن الكثيرات من الشابات الأخريات اللواتي ولدن لأسر ذات سيرة مشابهة، لم يمتلكن حظوظ هذه السيدة، وعشنَ حياتهنّ يطاردنَ شبح أبٍ غائب. كما لو أن المثقف – العربي بالخصوص وفقاً لهذا السياق –  يطمح لأن يكون أباً رمزياً للجميع، وكثيراً ما يعجز عن أبوّة الأولاد الذين جاءوا من صلبه.