تلعب أمامي ابنة شقيقتي الصغيرة، ليلى، ذات العام ونصف العام من العمر، في غرفةٍ دافئة بعد النزوح إلى اسطنبول، وتقول بين الحين والآخر: «ماما دح، آبي دح، لالا دح، بح»، وتضع يديها الصغيرتين حول رأسها وتهزه في استعادةٍ رمزية لـ «القيامة المصغرة» التي عاشتها في مدينة ملاطيا التركية يوم السادس من شباط (فبراير). بكلماتٍ غير مكتملةٍ ومشاعر مختلطة، تعيد ليلى تشكيل الثواني الضوئية عندما زُلزلت الأرض من تحت أيديهم وأرجلهم عدة مرّات، كان آخرها ظُهراً مع زلزالٍ جديد ضرب المدينة. وبينما كادت الأرض تتقيأ أثقالها مجدداً، ضمّت شقيقتي طفليها حاجبةً عنهما ضجيج العالم ومشاهد المباني وهي تنهار من حولهم، بينما كانت تتعالى صيحات الأتراك «الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله» في باحة إحدى المدارس التي لجأوا إليها.
أمام براءة ليلى وحلاوتها ينفطر قلبي، وأَغور عميقاً عائداً بذاكرتي إلى أنطاكيا، مع عشرات الوقائع الشبيهة: أمهات لم يحالفهن الحظ والوقت لأكثر من ضمّ أطفالهن فوق الأَسرّة، آخر لحظات الحب قبل أن يغبن وفلذات أكبادهن تحت حمولة السقف الطاحنة. يرتجف قلبي كلما تخيّلت وجه الشبه، فأتودّد إلى خيالي كي يُطفئ تلك الصور. لم أعد نفسي بعد أن دخلت تحت سقف منزل المرحوم عصام، شقيق صديقي محمد الحاج بكري. فوق السرير، قدّمت الأم آخر عطاياها لحماية طفلتها وطفلها الذي هو بعمر ليلى، شارعةً جناحها فوقهما، في وجه القدر، بينما كانت الحياة عصيّة.
المنزل في الطابق الأرضي كان قد أطبق على أنفاس عصام وزوجته وابنتيه وابنه الصغير، فيما نجا أبو عصام وأم عصام بعد أن سقطا عن ظهر السرير في أولى ثواني الزلزال، وخرجا من تحت الأنقاض خلال الساعات التالية. يقول أبو عصام، الصابر كجبلٍ من جبال اللاذقية حيث أصوله: «صارت الهزة، وركض عصام عالممر وصرخ هزّة، فكرت إنها قامت القيامة، وخلال لحظات انهار المبنى علينا ونحن في الطابق الأرضي». رَجَفانُ صوته ووصفه للكارثة يدفعان للبكاء واللطم، لكن ثبات قلبه يرغمك على الخجل ومداراة الدموع، فكيف إذا علمت أنه خسر ثلاثين شخصاً من عائلته دفعة واحدة؟
4:17
فجأة، قبل فجر الإثنين، السادس من شباط، بدأت الأرض تهتز بعنفٍ لا مثيل له، بصوتٍ لا يُشبه شيئاً نعرفه أو سمعناه، كتصاوير اليوم الأخير؛ والناس بين جافل وغافلٍ أخذتهم الفُجاءة نحو دروبٍ وأقدارٍ متباعدة. تحت أسقف منازلهم هرعوا يوقظون الأطفال، راكضين في الممرات مع أصوات صلواتٍ لا تنتهي وتَشَهُّد، ثم وَثبَت الأرض وَثبتها لتتكسر الجدران. قالوا إن صوت تكسّرها لا تخطئه أذن، يخلع القلب، كإنذارٍ أخير قبل أن تنطفئ كهرباء الوجود. وقبل أن يحطّ الشهيق زفرته، انفجر كلّ ما خزّنته أنفاس البيوت من ضحكاتٍ ودموعٍ على رؤوس المنضوين تحت الطاولات والأسرّة، الهلعين نحو الممرات وسلالم المباني والأبواب، قبل تصدّع أركان الحياة بانهيار أحلام الناس فوق رؤوسهم.
بلا أدنى شك، كانت هذه المقتلة «الطبيعية» أبشعَ صورِ الموت التي يمكن أن تُعاش، لا لأن الموت بالكيماوي، أو تهاوي البراميل فوق الرؤوس أو انقطاع الأنفاس تحت التعذيب، أرحم، لا، بل لأنه موت كثيفٌ ومعمّم، موتٌ لا يمكن أن تحتاط منه، خارج الحسبان. من ذا السوريّ الذي تخيّل للحظة هذا المآل بعد أن نجا من 185 ألف كم مربع من الموت المشاع؟ من ذا التركيّ الذي أعدّ العدّة وحقيبة الطوارئ وحياته تترنح بين صدع شرق وغرب وشمال الأناضول؟ موتٌ غير بشريّ، موتٌ أنجبته الطبيعة لكنه غير طبيعي، لا يمكن شتمه ومحاربته، ولا يمكنك هزمه بقدر ما يمكن التأقلم مع وجوده، وتطويع الحياة على إيقاعه. إنه موت وجيز، بالثواني، والموت المعتاد غالباً ما يأخذ وقتاً وجهداً أكبر بكثير. كان موتاً بمعنى، وهنا يتدافع المعنى بين كفر وإيمان، وتتداعى كلُّ محاكمات التاريخ في قلوب المذهولين والسكارى.
أنطاكيا، بعد الفجر، تشدّ إزارها وتبدأ رغم وطأة التيه دورة التعافي اليومية. بحثاً في الأنقاض عن نبض، مئات فرق الإنقاذ والآليات الثقيلة تحاول الحفر في الطوابق المكّدّسة فوق بعضها كطبقات البسكويت الهشّ. لا الخبرة ولا الهمّة ولا الفزعة ولا حتى صلة الرحم كانت ذات نفعٍ، فالكارثةُ أكبر من أن تطوَّق وتُطاق. يفوق عدد المباني المنهارة وأعداد الضحايا المحتملين قدرات أي دولة، كما يفوق قدرة أي عالقٍ تحت الأنقاض على المقاومة. عدا عن المحاصرين تحت الأنقاض في حظوظ حياةٍ استثنائية، يمكن القول إن الناجين هم من حالفهم الحظ بالخروج من المنازل في الثواني الأولى. أما من لم يصحُ، «المراهقون مثلاً نومهم ثقيل» كما أشار ناجٍ، أو من حاول الهرب في وقتٍ كان عليه الاحتماء والدعاء فقط، أو من يسكن في الطوابق العليا، كانت فرصة نجاتهم تقارب الصفر.. هذا في المباني التي انهارت كلها أو أجزاء منها، ناهيك عن المباني التي صمدت هيكلياً، لكن تصدّعها كان أكثر هولاً وعبرة.
أنطاكيا ليلاً موحشة كمدينة أشباح، لا تحفز في الخيال إلّا صوراً من أفلام الرعب، فالمباني المتصدّعة تبدو كبيوتِ العنكبوت: شبكاتٌ تتمدد من أدنى إلى أعلى، كأن أظافر الأرض تسلّقت لتأكل ما فوقها أثناء الزلزال، لكن الوقت لم يَكفِها. النوافذ عيونٌ جائعة، ترابط في الشوارع وتحدّق في المشاة بانتظار موعدٍ جديدٍ للانقضاض. الشوارع تكنس الأحياء وفرق الإنقاذ نحو مواقد النار وشوربة العدس. الظلام يربّت على الأكتاف، يسوق المتعبين إلى المقابر والأراضي الفلاة. لقد صار النوم في العراء آمناً، وصارت الغفوة بين قبرين أو على كتف مقبرةٍ مدعاة هناء.
كل إرشادات السلامة والتدابير الوقائية باتت حبراً على ورق، لا رمق في الحناجر يرطّب آخر الحشرجات. قُدِّرَ للسوري أن يختبر معنى حديث الرسول «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا»، والسَرب بفتح السين هو البيت. لكن البيوت آلت أهدافاً للطيران الحربي والصواريخ منذ عقد، وبات لزاماً هجر الطوابق العليا والانكفاء عن النوافذ ومَترستها بالدشم. قبل أن تنهار تلك القاعدة كليّاً، إذ صارت الطوابق الدنيا أكفانا للنائمين، والنوافذ مراسٍ بين عالمين. هل فكّروا طويلاً كيلا يخرجوا إلى البرد القارس والثلج والمطر؟ هل خدعهم دفء البيوت التي رتبوها من عرق الجباه؟ هل أدركوا خيانات الإسمنت بعد فوات الأوان؟ أسعفني الحظ لإدراك المعادلة، ذهبت إلى أنطاكيا خائفاً من الخروج، وعدت إلى إسطنبول خائفاً من الدخول.. لقد صارت الأبواب محط شكٍ وقلقٍ عميقين.
«سيس يوك»
على واجهة بناءٍ سكني كُتب SES YOK (لا يوجد صوت)، العبارة التي صارت نذير شؤومٍ لأولئك الذين دُفنوا تحت الأنقاض وكَتَم الردم أنفاسهم فأُجّلت عملية انتشال جثثهم، وبشارة أملٍ لأولئك الذين ولدوا من جديد، وضحكت لهم السماء، وبين الحالين تساوت لغات الأرض فلا معنى لأحرف الأبجدية إن بقي في الصدور عُدّةٌ من ليالي أُخَر. كانت كل جهود الإنقاذ منصبة على التقاط أي إشارة بشرية من تحت المباني المدمّرة طيلة الأيام التالية للكارثة، وقال البعض إن سوريين لم ينبَسوا بحرفٍ عربي واحد لمنقذيهم كيلا يغادروا لمساعدة عائلة تركية، وهذا مما تلوكه الأساطير وتنكره الوقائع، وربما يكون قد حصل في حالات أخرى عكس ما رأيت!. كانت المساعي تتجاوز أي لغةٍ وأي لهجةٍ وأي جنسية، كانت تبحث عن أي نَفَسٍ حيّ، عبر الكلاب المدرّبة والكاميرات ومكبرات الصوت، كانت تبحث مع الأماني والتضرّع إلى الله.
وصلت عشرات المناشدات، وربما المئات منها، لما قيل إنها عائلاتٌ حيّة تحت الأنقاض عبر منشورات فيسبوك وحالات واتس أب، حضرت التراجيديا في الختام: «الناجي الوحيد من العائلة يحاول إنقاذ عائلته وفرق الإنقاذ لا تستجيب». على الأرض، كانت الأولوية واضحةٌ بانصباب كل الجهود على المباني التي سُمعت منها أصوات. كثيرةٌ هي مواقع الخرائط المنشورة والمناشدات المشابهة التي هرعنا إليها في أنطاكيا فوجدناها مكتظةً بالعمال والمتطوعين، وكثيرةٌ هي الحالات المتوهمة عن أحياء تحت الأنقاض.. ربما كانت أصداء أصواتهم المتخيّلة تصيب الناجي بالشك، بينما هم كانوا قد رحلوا.
وهنا، يبقى كل ناجٍ ممسوساً بحلم النجاة حتى يرى الجثث أمام عينيه ليصحو على الحقيقة، وهذه بيئة حاضنةٌ للشعور بالعنصرية، فبقدر ما حصلت وقائع عنصرية بطبيعة الحال ونتيجة الاحتقان، بقدر ما كان لسوء الإدارة، الفوضى، وأحياناً تفاوت التقديرات، أثرٌ سلبي على واقع عمليات الإنقاذ. حضرتُ حادثةً جليّة تثبت ذلك حين طلب فريقٌ تأجيل إخراج جثثٍ بحجة الخوف من انهيار المبنى، فيما فعل فريقٌ آخر المستحيل لإخراجهم ونجح بعد ساعات. تهاوشَ الفريقان كثيراً في هذه الأثناء. ليس سليماً الاستسلام في كل واقعةٍ إلى العنصرية، فهناك أسبابٌ أخرى، بينها غريزة الإنسان الصرفة في مواجهة الموت.
أبان ويمان
مع مرور الوقت، تضاءلت آمال الأهالي المنتشرين أمام المباني المدمّرة، واصلين الليل بالنهار، رجالاً ونساءاً، ملتحفين بطانياتٍ وأغطيةَ درءِ البرد القارس، ومتكورين حول تنكة حطب أو برميل إطاراتٍ مشتعلة. فيما بعد، ومن شدّة الإنهاك، باتت متابعة الأهالي لعمليات الإنقاذ تُدار بالتناوب وكأنها رِباطٌ على جبهة قتال، البعض يرتاح في سيارة أو خيمة أو قرية قريبة، والبعض الآخر يتابع في الميدان.
مقابل سوبرماركت ميغروس في شارع أتاتورك الأنطاكي، خمس كتلٍ طابقية كبيرة، تقطنها عدة عشرات من العائلات، استوت على الأرض بارتفاع طابقٍ واحدٍ على امتداد مساحةٍ بمئات الأمتار المربعة. تُهنا ونحن نبحث عن الموقع المُرسَل من أصدقاء، فكل المنطقة تحولت إلى ركام، وكل الوجوه متشابهة، مغبرّة، منهكة، وخيوط الدمع على الخدود كشرائط ذكريات. في البدء وجدنا ضالتنا، تحت هذه التلّة يوجد أبان ياسين شقيق الصحفية إيلاف؛ وفي الختام وجدنا ضالتنا، للمصادفة (أو ربما أنها ليست مصادفة أن يقطن السوريون متجاورين)، في الطرف الآخر من المبنى، صديقنا الصحفي يمان الخطيب واثني عشر فرداً من عائلته.. وبين البدء والختام استمر الحفر لأكثر من أسبوع، وتصاعد الغضب والقهر من أداء فرق الإنقاذ على كثرتها، والتي تناحرت في الوقت الخطأ، في المكان الخطأ، في الحدث الخطأ.
كان الوقت مؤشر يأسٍ يزداد معه القلق والتوتر والحزن والقهر والغضب والكره، ويقلُّ به الأمل وفرص النجاة والتوقعات، حتى بدأ دعاء الناس يتغيّر، وتتضاءل أمنياتهم من خروج أحبابهم أحياء إلى إيجاد جثثهم، ثم إلى إخراج أجسادهم بهيئةٍ واحدة، وأخيراً صار الأمل بالعثور على جثثهم تحت الأنقاض. أما فادي، شقيق يمان، فكان يقف أمام عائلته ويبكي. قال المنقذون إنهم في الغالب قد لجأوا إلى غرفة واحدة جميعاً، وأمام هذه المعلومة كان يتمتم في ذهول وقلبٍ محطّم: «بس واحد يا الله، بس واحد». فادي، المكتفي بواحدٍ في لحظة انكسار، لم يسعفه القدر إلا ببضع قماشٍ من رائحتهم، في اليوم الأخير خرج الجميع: أبان ياسين، ويمان الخطيب وجميع أفراد عائلته، إلى مثواهم الأخير.
مقطوع من شجرتين
لن تمر قصة أنطاكيا دون ذكر أحياء جمهوريات والمزرلك وشارع أتاتورك ومبنى الريسيدنس وغيرها.. المناطق التي صارت أقرب لمقابرَ جماعية. وصلت مناشداتٌ كثيرة من هناك على الفيسبوك السوري، الذي يُشعرك أن الأحياء تحت المباني أكثر من الأموات، لكن الواقع كان عكس ذلك. خلال أسبوعٍ من العمل، ساعدنا بإخراج عشرة جثثٍ تقريباً، ونشرنا خبراً عن ناجية واحدة، ورأينا عشرات الجثث خلال التجوال، والحصيلة الفعلية بالآلاف. الإشاعات على وسائل التواصل كانت تستنزف الأهالي، هيا بلخي كانت إحدى ضحايا الزلزال والسوشَل ميديا، فبعد أن نُشر إعلان على فيسبوك بأنها حيّة تحت الأنقاض وما زالت ترسل رسائل لشقيقها وبحاجة مساعدة، تَوجَّهنا إلى المكان لنجد أخوال الفتاة ووالدها مرابطين أمام المبنى المحدد منذ أيامٍ مع فرق الإنقاذ. قال لي أحد أخوالها بعدما شتم أولئك «المتاجرين»، أن خطها السعودي مسروق منذ سنتين وهناك من يستخدمه بدلاً عنها. بقي الفيسبوك السوري من ناشطين وحسابات «copy/past» تنشر قصة هيا واستغاثاتها «المزيفة» يوماً إضافياً، رغم ما نَشرتُهُ على صفحتي بطلبٍ من العائلة لتوضيح حقيقة الأمر.
في سياقٍ مشابه، تضاربت الأنباء أمام أحد المباني حول سماع صوتٍ ما من تحت الأنقاض، مايك من الفريق الأميركي أكّد، أما كلاب الفريق السعودي فنفت بعد أن شمّت دون أن تعوي، الجيران أعادوا التأكيد وما كان من الممكن سوى أن يستمر العمل بالطريقة الخطيرة المعتادة: يبدأ سائق الحفّار «الباغر» بهدم وقضم المبنى بالتدريج ونقل البقايا بعيداً، بعض العاملين كانوا احترافيين والبعض الآخر كانوا يؤدون وظيفة مملة ومتعبة، وكلّما ظهرت فتحاتٌ نحو الداخل خلال العمل، يتوقف الحفّار وتبدأ محاولات بشرية لإيجاد ناجين أو متوفين. أعطاني مايك، قبل أن يغادر نحو المطار في عجلة، أداةً لكشف الصوت وتكبيره، ولم نسمع شيئاً.. كان ذلك في اليوم الثامن، وتوقيت هذه العطيّة ليس إلّا إشارة سلبية بأن لا ناجين باقين.
لكن وسام كان ينتظر إخراج عائلته. هو وآخرون أكدوا أنهم سمعوا صوتاً. في البداية ظننا أن هناك شخصاً واحداً تحت الأنقاض ويفترض أنه حيّ، بعد قليل اتضحت الصورة أكثر عندما وصل المنقذون إلى أول جثةٍ لامرأة، سيظهر خلفها جثتان، رجلٌ وطفل. «من هؤلاء؟» يقول وسام الذاهل عن الواقع، متسائلاً لمن تكون هذه الجثث بعد أن تسلّم أمس ما يفترض أنه جثتا والده ووالدته، ودفنهما في المقبرة، إذن هل من الممكن أن خطأ ما قد حصل؟! وتلك الجثتان لشخصين آخرين! يبدو ذلك، دخلنا في دائرة التيه، وما من حلٍ إلّا بالتحقق من الوجوه، رغم فظاعة المنظر تهشماً وتعفناً وتلوّناً. وبينما ينتظر وسام نقلهم إلى الشارع قال لنا: «أريد الطوق في يدي أخي، اسمه عبد الرحمن»، وضعوا الجثث، أخرجوا الطوق من يد الطفل الغضّة، ثم ألقى وسام نظرة تفحص أخيرة رغم التشوه المرعب ليتأكد، وأكمل: «صحيح، هذا عمي وزوجته، أنا بناديلهم أبي وأمي لأنه أهلي بالأصل متوفين من زمان، وعمي تبناني صرت ابنه، طبعاً ما كان يجيهم ولاد بعد سنين طويلة من الزواج، حتى عملوا زراعة -طفل أنبوب- من سنتين وحبلت مرة عمي وجابت عبد الرحمن». وسام أصبح اليوم وحيداً أكثر، «مقطوعاً من شجرتين»، وأضيفت إلى المقبرة جثتان بلا هوية.
تأخرتم!
منذ اللحظة الأولى التي صحوت فيها على سريري باسطنبول، غارقاً بماء «الدلف» من السقف والجدران حتى صارت الفرشة مستنقعا من الرطب، مصادفةً في توقيت الزلزال نفسه، وحتى لحظة كتابة هذا النص، مضت كل ثانية وكأنها «حلم» لم تقرصه يد الإدراك بعد ليصحو، فيلمٌ سينمائي من لقطةٍ واحدة أطول من العمر: كيف هرعنا لنطمئن على الأهل في سوريا، وفي هاتاي وعنتاب وملاطيا ومرعش، ثم أطفأنا مواقد النار تحت قدور النفس التي تغلي قائلين: «بالتأكيد هزّة مثل العادة، لا شيء مخيف، كل أقاربنا أحياء». كيف لم ندرك حينها أن الوضع لا يحتمل التأخير؟ وكيف تأخرنا يومين قبل أن ننطلق؟ بالتأكيد كنا ممسوسين، أخذتنا «السِّنةُ» ولا نوم.
دخلنا أنطاكيا مساء اليوم الثالث للزلزال بعد سفرٍ بدأ الرابعة فجراً من إسطنبول نحو عنتاب. وفي الطريق كنا نمنّي النفس بأن تضررها محدود، وبالتالي فإن وجهتنا الأخيرة لن تكون بهذا السوء. تزامنَ وصولنا مع آلاف الحافلات المحمّلة بالمتطوعين وفرق الإنقاذ والشرطة، وأصوات سيارات الإسعاف تنهال كالتراب فوق جثة المدينة، أضواؤها تلوّن السماء بالأحمر والأزرق بقدر الحيوات الناجية. غادرنا أنطاكيا في اليوم العاشر مع دخول حافلات ترحيل الأنقاض وانطفاء الأضواء ليلاً، حتى بالكاد كنا نلمح سيارة إسعافٍ أو نسمع صوتها.
بينما كانت المدينة تحتضر لم يوفّر كثيرون من السفلة فرصة «بزنس»عظيمة، في سوقٍ حرٍّ للمستثمرين من العنصريين والمؤثرين والسياسيين القتلة، لكنّها قبل أن تموت انتظرت كثيراً.. يقول ناجٍ إنهم في الساعات الأولى للكارثة كانوا يسمعون أصوات العالقين تحت الأنقاض وهم يطلبون المساعدة، فَتحتَ كل بناءٍ كان هناك ناجون كثر، «لم نستطع أن نقدّم لهم شيئاً، كان البرد شديداً والمطر غزيراً، وبالكاد كانت هناك دولة». وبين احتضار المدينة وانتشال جثّتها كان الوقت من شهيقٍ وزفير، أنفاسٌ كثيرة قضت. لم تحتمل كل هذا التأخير.