كلما حاولنا أن نواجه اليقين بأسئلة الحاضر كي ندرك مدى تأثير الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا فجر يوم الاثنين 6 شباط (فبراير)، نكتشف كيف حَوَّلت المأساة وجوه الذين نحبهم إلى أرقام لا تنتهي. صور الضحايا والمفقودين التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وفيديوهات المدن التركية والسورية الممسوحة عن الأرض، تطلبت تكاتفاً اجتماعياً بين جميع فئات المجتمع السوري، خاصةً بعد عجز السلطة السورية بمواقفها المخجلة عن الاستجابة السريعة لآثار الزلزال، وبعد تخاذل الأمم المتحدة.

هذا التكاتف لم يقف عند حد معين، بل شمل كل أطياف المجتمع ومن بينهم اللاجئون السوريون في لبنان، الذين شعروا بهزة الزلزال ليلاً، وحاولوا جمع التبرعات بعد اليوم الأول من الكارثة، وواجه كثيرين منهم صعوبة بالتواصل مع عائلاتهم، كما بحث بعضهم على وسائل شرعية وغير شرعية للوصول إليهم.

إلى كل الذين لم نسمع قصصهم حتى الآن

غالباً ما يسكن اللاجئون السوريون الأحياء الأكثر هشاشة في لبنان، خاصة ضمن المدن مثل طرابلس وبيروت وصيدا وصور، ويشكلون كثافةً سكانية كبيرة ضمن المخيمات الفلسطينية الممتدة على طول البلاد. أغلب الأبنية التي يسكنها اللاجئون بشكل عام غير صالحة للسكن، وتعاني من الرطوبة العالية التي تُسبب أضراراً في إكساء الأبنية، مع توجيهٍ مستمر لنداءات مكثفة لمفوضية الأمم المتحدة قبل حدوث الزلزال لضرورة ترميم بعض المنازل. مريم (35 سنة) قالت بما يشبه الإحساس الخسارة: «كنت خايفة من البرد والجوع والعنصرية والترحيل، وحالياً صار في خوف جديد، مو خوف أني موت بسبب زلزال، خوف من فكرة أني بعرف ما حدا رح يسأل عنا هون لو صار أي شي، لأنو يلي ما أنقذنا من البرد ما رح يأنقذنا من الخوف ولا العنصرية ولا حتى الزلزال. بيوتنا ضعيفة، وحالتنا صعبة، ما في شي بخوف أكتر من إنك تتصل على أمك الصبح لتشوفها عايشة ولا ميتة بالشمال، وبالأخير تطلع مفقودة ومش عم يلاقوها».

أغلب اللاجئين السوريين في منطقة البقاع لم يشعروا بالزلزال، كان هاجسهم الاطمئنان على عائلاتهم الموجودة في المدن التركية والسورية والشمال السوري. لم تخفف الحكومة اللبنانية أياً من القيود المفروضة على اللاجئين السوريين بعد الكارثة، والنظام السوري بدوره لم يرفع شروط زيارة البلد لمن يريد الإطمئنان على عائلته، أو المساعدة في عمليات الإنقاذ وجمع التبرعات. يقول خالد: «يلي بفكر فيه أنو حتى لو تم فتح الحدود من قبل النظام، ما كنت رح أرجع، مو بس أنا، كل هاي الناس، نحن ما عنا ثقة به النظام، ما منأمنه على أنفسنا وعائلاتنا وأولادنا، ما بأمّن أنو وأنا راجع بس كرمال أنقذ أهلي يعتقلني أو يقتلني أو حتى يشلحني مصرياتي اللّي داخل فيها».

أما أحمد، وهو لاجئ سوري في البقاع، فمحاولاته للوصول إلى الشمال السوري من لبنان كانت معقدة بسبب الاستغلال الذي قام به المهربون للأزمة. في اتصال مع أحمد قال للجمهورية.نت «أول شي فكرت فيه أنو أطلع على الشمال السوري، وأهلي ما بعرف عنهم شي أبداً. أول شي زاد بعد الزلزال هو عدد المهربين بين لبنان والشمال السوري، وثاني شي هوي سعر التهريب يلي وصل حتى 800 دولار على الشخص. صرت أفكر إذا بدي أتدين المصاري مشان روح شوف أهلي ولا أبعتلهم المصاري، طيب إذا صاير عليهم شي لمين بدي أبعت المصاري، وإذا عايشين كيف بدي أوصلهم، كنت عاجز وضايع، والحمدلله على كل شي».

وردة في جيب معطفٍ نسائي بلا أزرار

بعد أربعة أيامٍ من الكارثة أدرك اللاجئون السوريون حجم المأساة جيداً، خاصة بعد أخبار تخاذل المجتمع الدولي، ومحاولة استغلال النظام السوري للزلزال سياسياً لأبعد حد. لربما هذه كانت الأسباب البعيدة لمحاولتهم جمع التبرعات، أما الأسباب القريبة التي جعلتهم يؤمنون بدورهم فهي شعورهم بأنهم جزء من أولئك الناس الذين كانت «فزعتهم» داخل سوريا العنصر الأساسي في المساعدة. للحظة أدركوا أن العالم ما زال يتّسع لمحاولةٍ أخيرة، مهما كانت بسيطة. شملت المساعدات التي نظمها اللاجئون السوريون في لبنان جميع المناطق تقريباً، وكانت في معظمها تعتمد على المبالغ المادية والملابس والغذاء، وتركزت بشكلٍ أساسي يوم الجمعة، رابع أيام الكارثة.

يقول طارق، شاب سوري من مخيم الرشيدية في صور: «العالم جمعت كلشي قدرت عليه، بعرف عائلات ما معها مصاري ولا عندها تياب، بس عندهم كيس معكرونة زيادة مثلاً تبرعوا فيه، كانت التبرعات من الكل ومنعرف إنها مش كبيرة لكن هدول نحن، أنا والله بعتت مليون ليرة لبنانية، بعرف مش مبلغ كبير أبداً، ولكن كان كلشي معي». بينما شرح إبراهيم طريقة إرسال المال للمتضررين في الشمال السوري: «لأول مرة حسيت أنو نحن شعب متحرر من السلطة وعم نعمل شي كجماعة بدون أي فرق، ولكن الصعب إرسال المصاري على الشمال السوري، لأنو ما في مكاتب تحويل، ويلي بصير إنو نحن منقبّض المصاري لشخص هون، وهنيك بيستلمهم شخص تاني، بس الصعب حرفياً أنو حتى بالكارثة تم استغلال المساعدات. من يلي بعرفهم هون، ما رضي أي شخص ينزّل النسبة يلي بياخدها مقابل هالعملية، بالعكس رفعوا النسبة بهالظرف. للأسف، أخدوا نسبة عشرة بالمية من كل مبلغ أرسلناه». أكد جميع اللاجئين الذين تحدثنا إليهم أن السوريين المتضررين يحتاجون لأي مساعدة، لذلك لم يحصروا مساعدتهم ضمن نوع واحد. كما أكدوا أن عائلاتهم المتضررة في تركيا أو سوريا أو الشمال السوري، تحتاج لجميع أنواع الدعم. 

في اتصال آخر مع خالد، اللاجئ السوري في البقاع، قال لنا: «بعرف أشخاص كتار هون ما بعتوا مصاري للداخل السوري، وحتى أنا شخصياً ما بعتت مصاري بعتت تياب، لأنو في احتمال كبير عنا أنو تنسرق من النظام. الكشّافة نظموا المساعدات بالمنطقة، ولأول مرة حسيت أنو نحنا كمان فينا نعطي حياة مع إنو صدّقني انحرمنا منها كتير، ولكن تخيل حجم الكارثة اللي خلتنا نحن يلي منركض ورا المساعدة ركض، نحاول نقدم شي». 

كانت ميساء (18 سنة) بين عشرات النساء اللواتي حاولنَ جمع المساعدات: «حاولنا نحن النساء جمع شو عنا تياب، ما قدرنا أكثر من هيك، الحمدلله طلعت الكمية جيدة، أكثر شي كنت دور فيه عن شو بدهن النساء هو الفيسبوك وما قدرت أجيب كلشي بيحتاجوه، وجمعنا تياب ولاد كمان، وأنا ما قدرت قدم أكثر من جاكيت كنت شاريته من البالة ما عليه زرار، شفت على الفيسبوك أنهم عم يحطوا بطاقات فيها كلمات حلوة مع التياب، أنا ما عرفت شو أكتب، عندي مزهرية فيها ورد بلاستيك أخذت وحدة وحطيتها بجيبة الجاكيت وبعثته للمساعدات». 

تجديد الموت وسؤال الأمان

في آخر عشر سنوات، لا أذكر أن السوريين كانوا ضحايا الموت إلّا وهم يحلمون بالأمان. كانت كارثة الزلزال قاسية جداً على جميع أفراد الشعب السوري دون استثناء، لا أعلم إن كانت كلمات مثل الرحمة والسلام تتسع لكل هذه الأرواح، ولكن من حسن حظنا أن كل أطياف الشعب السوري والخوذ البيضاء في الشمال السوري قدمت ما تستطيعه. هذه «الفزعة» الاجتماعية في جميع مناطق سوريا وفي الشتات، تؤكد لمرة أخيرة، أن سوريا ليست سوريا الأسد أبداً، إنها سوريا الناس الذين يحبون ويحاولون رغم جوعهم وخوفهم ومأساتهم الشخصية. بعد يومين من العمل اتصلتُ بمريم لأطمئن على والدتها، أخبرتني أن والدتها توفيت، ثم كرّرت: «ما قلتلك بعرف ما حدا رح يسأل علينا». بكيتُ وأنا أسمع صوت مريم، بكيت ليس من أجلها فقط، بل من أجل جميع الذين رحلوا وهم يبحثون عن أمانهم الشخصي.