بعد مرور أكثر من أسبوعين على الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في السادس من شباط (فبراير) الجاري، انعدمت احتمالية الوصول إلى ناجين وناجيات تحت الأنقاض في كلا البلدين. وإذا كانت فرق الإنقاذ في تركيا قد أعلنت الوصولَ إلى ناجين أحياء بعد مرور 13 يوماً على الزلزال، فإن فرق الدفاع المدني في شمال غربي سوريا أنهت مرحلة البحث والإنقاذ عقب 108 ساعاتٍ فقط، مضطرةً للانتقال للمرحلة اللاحقة من العمل بشكل سريع. ولم يكن الإعلان الصادر عن الدفاع المدني السوري، في العاشر من شباط (فبراير) متسرّعاً بقدر ما كان واقعياً. لقد أدى متطوعو المنظمة وسعهم، ووظّفوا كل إمكانياتهم وخبراتهم للتعامل مع الكارثة، غير إنهم افتقروا للمعدات الكافية لمواجهة تبعات زلزالٍ مدمّر هو الأكبر في تاريخ المنطقة الحديث. كما أنّ تدريبهم وعملهم الأساسي خلال العقد الماضي كان متركّزاً على انتشال ضحايا الأعمال الحربية للنظام السوري وراعيه الروسي وحلفائهم ضدّ المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وبالتالي ليسوا مؤهلين أساساً للتعامل مع كوارث طبيعية كالزلازل، كما هو الحال مع مؤسسة آفاد التركية المتخصّصة بمواجهة الكوارث، فضلاً عن الفارق الهائل في الإمكانات.

بالنظر إلى إمكانيات الخوذات البيض وحجم الضرر الذي لحق بالمنطقة التي يعملون فيها شمال غربي سوريا، أين كانت الأمم المتحدة ومؤسساتها؟ ولماذا تركتهم وحيدين في هذه المأساة التي أزهقت أرواح 4525 وتسبّبت بإصابة 8424 آخرين حسب آخر الأرقام المتوفرة عن منطقةٍ صغيرةٍ جغرافياً يتكدّس فيها قرابة 5 ملايين إنسان، معظمهم مهجرون من محافظات سورية عديدة استطاع النظام وحلفاؤه إعادة السيطرة عليها، ويعيشون أوضاعاً بالغة الهشاشة كما تشير تقارير جميع المؤسسات الأممية العاملة في المنطقة.

أين كانت الأمم المتحدة؟

طوال الأيام الثمانية الأولى بعد الزلزال، لم تقدّم الأمم المتحدة أيّ شيءٍ للمناطق المنكوبة في شمال غربي سوريا يتجاوز التصريحات والمشاورات، بل عمدت إلى التعمية على تقصيرها من خلال تجنّب ذكر مكان استجابتها الطارئة بوضوح، وذلك من خلال إدماج مزيجِ من التحرك واللا-تحرك في سوريا مع التحرك المباشر في تركيا. في هذا السياق، نشر وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث تغريدةً على تويتر بعد ثلاثة أيام من الزلزال، في التاسع من شباط، قال فيها: «قمنا بتنسيق نشر أكثر من 4948 خبيراً في البحث والإنقاذ وفرق الاستجابة للطوارئ بعد وقتٍ قصيرٍ من الزلزال الذي هزّ تركيا وسوريا». بالتأكيد لم يكن السيد الوكيل، أو مساعدوه على الأقل، في غفلةٍ عن عشرات الردود التي جاءت من سوريين-ات على تغريدته بأن لا شيء قد وصل إلى شمال غربي البلاد. توهّم معظمنا أن الاستجابة الأممية الطارئة اقتصرت على تركيا، وذلك بطلبٍ من حكومتها، على أن تفاصيل لاحقة كشفت أن الأمم المتحدة قد فعّلت آليات الاستجابة الطارئة في مناطق سيطرة النظام السوري أيضاً، ولكنها حجبتها عن مناطق شمال غربي سوريا دون تقديم أي تبرير لهذا التمييز. من الجيد جداً بالنسبة لنا أن توظّف الأمم المتحدة جميع إمكانياتها لمساعدة أهلنا المقيمين في مناطق سيطرة النظام، على أنه من العار ألا يشمل هذا التفعيل كل الأراضي السورية.

إذاً، لم يصرّح الأمين العام للأمم المتحدة، أو وكيله لشؤون الاستجابة في حالات الطوارئ، علانيةً أنّ الأمم المتحدة قد فعّلت عمل آليات تنسيق وتقييم الكوارث UNDAC، والمجموعة الاستشارية الدولية لفرق البحث والإنقاذ INSARAG في سوريا مثلما فعّلتها في تركيا، وهما آليتان بيّن الدكتور محمد كتوب في مقالٍ منشورٍ في الجمهورية.نت كيف كان بوسع الأمم المتحدة من خلالهما إنقاذ حياة سوريين في مناطق الشمال الغربي. لقد قامت الأمم المتحدة وضوحاً، وبشكلٍ يفتقر إلى الشفافية والمصداقية، بحصر استجابتها الطارئة التي كان بإمكانها المساعدة في إنقاذ الأرواح في مناطق سيطرة النظام، ومن دون تقديم تفسيراتٍ لهذا السلوك الشائن. على أن تفعيل الآليتين في مناطق سيطرة النظام كان أيضاً بلا قيمةٍ فعليةٍ على الأرض، ففرق الإنقاذ التي وصلت إلى هناك لم تكن بالمشاورة والتنسيق مع الأمم المتحدة، وإنما من خلال دول حليفة أو «صديقة» للنظام السوري مثل روسيا والعراق والجزائر وإيران ولبنان.

لا بدّ أن تقدّم الأمم المتحدة إجاباتٍ واضحةً للسوريين تبيّن ما إذا كان حصر تفعيل أليات الاستجابة الأممية الطارئة في مناطق سيطرة النظام خطوةً قد أقدمت عليها من تلقاء نفسها، أم إنها أتت نتيجة الرضوخ للنظام السوري وروسيا وضغوطاتهم. علماً أن رئيس النظام السوري، وفي الكلمة الأولى والوحيدة التي وجهها «للمواطنين» بعد الزلزال، تجاهل جميع المناطق التي ضربها الزلزال خارج مناطق سيطرته، واقتصر في حديثه على المحافظات التي يحكمها. كذلك، تجاهلت التصريحات الصادرة عن مندوب النظام السوري الدائم لدى الأمم المتحدة، وبشكلٍ تام، أي استجابةٍ ممكنةٍ للتعامل مع الزلزال، وانصبّ تركيزه على «سيادة سوريا وسلامة أراضيها»، وهو أيضاً ما ركزت عليه التصريحات الروسية التي جاءت على لسان ديمتري بوليانسكي نائب سفير روسيا لدى الأمم المتحدة. 

لقد دعت الأمم المتحدة، ومنذ اليوم التالي للزلزال، في جميع بياناتها وعلى لسان أهم موظفيها بشكلٍ متكررٍ إلى «عدم تسييس المساعدات وجهود الإنقاذ»، رغم أن ما يرشح من كلّ سلوكها خلال الأسبوعين الماضيين هو أن قراراتها كانت مفرطة التسييس، مهجوسةً بتوازنات دول مجلس الأمن الدولي على طول الخط بدل انشغالها بواجبها وفق القانون الدولي الإنساني.

في الأثناء، لا بد من العودة لتصريحٍ آخر صدر عن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث في الثاني عشر من شباط، قال فيه: «لقد خذَلْنا الشعب في شمال غربي سوريا. يحق لهؤلاء أن يشعروا بأن الجميع تخلى عنهم وهم ينتظرون المساعدات الأممية التي لم تصل». جاء هذا الاعتراف الأممي متأخراً جداً ودون قيمة، لأن الفشل قد حصل، وكان من النوع الذي لا يمكن «تصحيحه»، إذ لم يعد ثمة أرواحٌ يمكن إنقاذها.

بالإضافة إلى التضليل المتعلق بعدم تحديد مناطق استجابة الأمم المتحدة بوضوح، ثمة تضليلٌ آخر عمدت إليه الأمم المتحدة عندما أدخلت في اليوم الثالث بعد الزلزال، التاسع من شباط، أول شحنة مساعداتٍ إلى شمال غربي سوريا عبر الحدود، واكتفت بالقول إنها تتضمن مواداً غير غذائية ومستلزمات إيواء ونظافة، وعنونت أخبار الأمم المتحدة النبأ بالآتي: «منذ وقوع كارثة الزلزال، أول قافلة مساعدات أممية تصل إلى شمال غرب سوريا المنكوبة»، بشكلٍ يوحي بأن الأمم المتحدة قد بدأت فعلياً جهود الاستجابة للكارثة. ولكنّ بياناً صادراً عن الدفاع المدني أوضح أن «المساعدات الأممية التي يجري الحديث عن دخولها لشمال غربي سوريا هي مساعدات دورية، وتوقّفت خلال الأيام الأولى من الزلزال، والآن تم استئنافها. وبالتأكيد هي ليست مساعدات ومعدات خاصة لفرق البحث والإنقاذ وانتشال العالقين تحت الأنقاض». ولم يفت الدفاع المدني في البيان الإعراب عن «خيبة أمله الكبيرة» من عدم إدخال الأمم المتحدة المعدات التي ستساعدهم في إنقاذ الأرواح من تحت الركام في وقتٍ هم في أمس الحاجة إليها.

مرحلة جديدة من الاستجابة

في الثامن عشر من شباط الجاري، وبعد صمتٍ وتكتمٍ كاملين من الأمم المتحدة عن موقف النظام الرافض لإدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا، رغم وضوح تصريحات وزير خارجية النظام فيصل المقداد عن «ضرورة الحصول على ضمانات بألا تصل المساعدات إلى أيدي الإرهابيين»، صرّح مدير برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي أن البرنامج «لا يحصل على تسهيلات الدخول التي يحتاجها من السلطات في شمال غرب سوريا»، وأوضح أن هذه العراقيل «تُبطئ وصول المساعدات»، مشيراً إلى أن الحكومة السورية «تتعاون على نحوٍ جيدٍ» في جهود الإغاثة من الزلزال. يتقاطع هذا مع كلام الأمين العام للأمم المتحدة الذي «رحّب» بسماح النظام السوري إدخالَ المساعدات إلى شمال غربي سوريا من معبري باب السلامة والراعي بعد ثمانية أيامٍ كاملةٍ بعد وقوع الزلزال. 

لسنا هنا بمعرض الدفاع عن قوى الأمر الواقع في شمال غربي سوريا، ولكن لماذا غابت أية تصريحات من هذا النوع إزاء تعطيل إدخال المساعدات الطارئة في الساعات الحرجة الأولى التي كان بالإمكان خلالها إنقاذ أرواح البشر، ولماذا أصر الأمين العام للأمم المتحدة على المرور عبر النظام السوري رغم وجود قراراتٍ أممية ونصوص قانونية تتيح للأمم المتحدة التصرف دون الرجوع إلى النظام السوري، وهو ما ذكره محامون دوليون في رسالةٍ موجهةٍ للأمين العام قالوا فيها إن غوتيريش لا يملك أية أعذار لإبطاء الاستجابة الطارئة عن ضحايا الزلزال في سوريا، وهو ما أشارت إليه أيضاً عريضةٌ مزوّدةً بالنصوص القانونية أطلقتها سيريا كامبين  في العاشر من شباط لمطالبة الأمين العام بضمان استخدام جميع المعابر إلى شمال غربي سوريا بشكلٍ فعال وتقديم المساعدات والمعدات والدعم الفني على الأرض فوراً، ووقع عليها قرابة 18 ألف شخص، دون أن يستجيب أو يتفاعل معها الأمين العام. كما قدّم البرنامج السوري للتطوير القانوني (SLDP) توضيحاً حصلت الجمهورية.نت على نسخةٍ منه جاء فيه أن الأمم المتحدة، وبموجب أحكام المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف (1949) التي تنطبق على النزاع المسلح في سوريا، لم تكن بحاجة موافقة النظام السوري للقيام بأعمال الإغاثة، بل إن المادة بحسب التحليل تمنح «أساساً قانونياً للحصول على موافقة الجهات الفاعلة غير الحكومية في شمال غرب سوريا، وذلك على الرغم من الموقف الذي اتخذه النظام السوري».

في تصريحاتٍ عديدة، شدّد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على أن المساعدات «يجب أن تمر من كل الجهات، إلى كل الجهات، عبر كل الطرق، ومن دون أي قيود»، إلا إن واقع الحال يؤكّد أن الأمم المتحدة هي التي أصرت على تقييد تحركاتها دون مبرر، وليس بأي قيد، وإنما بقيود وشروط نظام الأسد، الذي تحفل تقارير المنظمات التابعة للأمم المتحدة نفسها بسجلاّت إجرامه. لقد كانت الأمم المتحدة حريصةً «على تجنّب حقيقة أن النظام في دمشق لاعبٌ أساسي في الحرب القائمة،…. ، بل هو صانعٌ لهذه الحرب ومتورطٌ بها من ألِفها إلى يائها» كما أورد الدكتور تيسير الكريم في مقالٍ نشرته الجمهورية.نت الأسبوع الماضي.

اقتصرت تصريحات الأمم المتحدة منذ أسبوع على أنباء إدخال قوافل المساعدات التي «سمح» النظام السوري بإدخالها عن طريق باب السلامة وباب الهوى الحدوديًّين، ومناشداتٍ للتبرع لمنكوبي الزلزال في سوريا وتركيا، وبالتالي إهمال كل ما مضى كأنه لم يكن والاقتصار على المساعدات الإنسانية والإغاثية المعتادة عبر 6 وكالاتٍ تابعةٍ للأمم المتحدة، والتي تحتوي على الخيام والفرش والبطانيات والملابس الشتوية وأدوات فحص الكوليرا وأدوية أساسية ومواد غذائية. هذا يعني أنه ما من استجابة خاصة ونوعية للزلزال وتبعاته على الإطلاق، بل معاودة للنشاط السابق على الزلزال، والذي كان أصلاً منقوصاً ومتناقصاً باستمرار، وسيصطدم مرةً أخرى بعدم وجود مانحين دوليين لمواصلته وتعزيزه بعد أن يمضي وقتٌ قصيرٌ على الزلزال ويهدأ الاهتمام الخبري وتتقلص لذلك رغبة المبعوثين الدوليين في التقاط صورٍ بسترات المنقِذين وخوذاتهم أمام الركام والشاحنات.

* * * * *

وفقاً لتشريعات دولٍ كثيرةٍ حول العالم، يُشكّل الامتناع عن إبداء المساعدة لمن يحتاج الإنقاذ (كما في حال مَن يشهد حادث سيرٍ أو غيره، وكان بوسعه المساهمة في إنقاذ عالقٍ أو نقله بسرعة إلى المشفى لكنه لا يفعل) جريمةً يُعاقَب عليها الأفراد بالسجن، وتزداد فداحة العقوبة عندما يكون الممتنع عن الغوث صاحب اختصاص (طبيب، مثلاً) أو إمكانات (آليات أو وسائل إنقاذ)، أو صاحب قرارٍ على المكان الذي يحصل فيه الخطر. أليس هذا، الامتناع العمد عن إبداء مساعدة ممكنة، ما فعلته الأمم المتحدة في شمال غرب سوريا؟ لو أن فرداً ترك آخرين يموتون رغم قدرته على إنقاذهم للوحق قضائياً، ولوُجّهت له تهمة الامتناع عن المساعدة، أو ربما حتى وصلت التهمة إلى «القتل بالامتناع» حسب القوانين الجنائية لبعض الدول. هل يُعقل أن تكون بعض عبارات الأسى على الفشل، من نوع التي نطقها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتن غريفيث -القادم إلى منصبه الحالي من فشلٍ آخر في اليمن- كافيةً لطيّ صفحة فضيحةٍ من هذا النوع، كلّفت سوريات وسوريين كثر حيواتهم؟
ثمة ضرورةٌ لتنسيق جهود المؤسسات الحقوقية والمنظمات الإنسانية السورية الداعية لإجراء تحقيق وإطلاق مسارٍ لمحاسبة المسؤولين الأمميين الذين امتنعوا عن غوث السوريين بُعيد الزلزال، والسعي لأن تتطوّر هذه الجهود من تعبيرٍ غاضب الآن إلى حملة مستمرة وطويلة الأمد. «الموضوع معقّد»، لا شك، كما هو «معقّد» أمام كل جهود محاسبة ركّاب قطار الإفلات من العقاب في سوريا، لكن جهوداً منسّقةً لتثبيت هذه المُطالبة ورفعها بوضوح ليست فقط مفيدة لأنها محاولة محاسبة مسؤولين بعينهم امتنعوا عن أداء واجبهم، ما كلّف أخوة وأخوات لنا أرواحهم-ن؛ بل لأنها أيضاً تدخّل في الساحة العامة يُرافع عن قيمة حياة وكرامة السوريات والسوريين: إن كان الزلزال كارثةً طبيعية، فما لا يُطاق أن يكون طبيعياً هو التبخيس المتواصل لقيمة أرواح السوريات والسوريين في الأروقة الدولية، وبلا حساب ولا عقاب.