ضربت هزّاتٌ زلزاليةٌ عنيفة سوريا وتركيا فجر السادس من شباط (فبراير)، وكان الساحل السوري أحد المناطق المتضررة، ليخرج الأهالي إلى الشوارع في ليلةٍ عاصفةٍ فَقد على إثرها قرابة 7 آلاف سوري-ة حياتهم داخل البلاد، بالإضافة إلي قرابة 20 ألف إصابة، ليضيف الزلزال فصلاً جديداً من الكوارث الإنسانيّة التي يعيشها أهالي البلاد منذ أكثر من عقد.
وقد أعقبت الهزّة الأولى هزاتٌ كثيرةٌ أسهمت في دبّ الرعب والهلع بين الناس، وكنّا في صبيحة اليوم الأول للزلزال نتخبّط جرّاء الخوف والموت والبرد، وما هي إلا ساعاتٌ حتّى راح هول المصيبة بالتكشّف، وبدت لنا الأبنية المدمّرة، وأخذت أعداد الضحايا بالارتفاع تدريجياً.
رحلة من طرطوس إلى اللاذقيّة
الذهاب إلى اللاذقية هو أول فكرة خطرت في بالي في يوم الزلزال الأول، إذ كانت طرطوس مدينة أشباحٍ خاليةٍ من السيارات وجميع محلاتها التجارية مغلقة، لا نرى سوى سياراتٍ مليئةٍ بالعائلات تصطفُّ في الأماكن البعيدة عن المباني. كان هناك القليل من الناس في الشوارع يتحدثون مع بعضهم البعض باستغرابٍ شديدٍ عن الهزّات التي تتلوّى معها الأبنية. وجميعهم يشعرون بالخوف والهلع، كما شهدت مدن الساحل نزوحاً كبيراً باتجاه القرى خوفاً من حدوث تسونامي، بالرغم من معرفة معظم الناس بما نقلته وسائل الإعلام عن أن مركز الزلزال بعيدٌ عن البحر وأنّ احتمال حدوث هزاتٍ أعنف من الزلزال الأول قليلٌ جدّاً أو شبه معدوم، إلّا إن الهلع والخوف هو ما كان يسيطر على الناس صبيحة الزلزال.
لم يكن هناك حافلاتٌ للنقل في الكراجات، فاستقلّينا سيارةً خاصةً نحو اللاذقيّة، إذ وصلتنا معلوماتٌ أوليّة بأن هناك أبنيةً منهارةً وضحايا. عندما وصلنا إليها وجدناها مدينة أشباحٍ هي الأخرى، عدا تلك البقع المحيطة بالأبنية المتهدّمة، حيث تجمع الناس بحثاً عن أقاربهم محاولين إنقاذهم، ويحومون حول الركام ويُجرون اتصالاتهم عاجزين أمام هول ما حدث.
أما معظم الناس، فكانوا يترقّبون الهزات ويعاينون تفسّخات جدران منازلهم. قضينا معظم اليوم الأول نطوف أرجاء المدينة التي انتشر فيها الاضطراب والهلع، وتوزعت في أنحائها أعدادٌ كبيرةٌ من العوائل الباحثة عن مأوىً لها. وفي خضم الفوضى، باتت عائلاتٌ كثيرةٌ ليلتها تلك في الحدائق العامة وعلى الأرصفة، أما المحظوظون فقد استطاعوا الحصول على مكانٍ ما في مسجدٍ أو مركز إيواء. يومها لم تكن قد خُصّصت أعدادٌ كافيةٌ من مراكز الإيواء، والكثير من العوائل لم تتوجه للصالة الرياضيّة التي استوعبت أعداداً هائلةً كيفما اتفق ولم يعد فيها مكانٌ لاستقبال أسرٍ أخرى، حتى أن المقيمين فيها كانوا دون أغطيةٍ أو إسفنجات، وتناثروا على المقاعد وفوق البلاط البارد.
الكارثة تكبر
بدأ أهالي اللاذقية بإخلاء المباني المتضررة منذ اليوم التالي للزلزال، واستمرّت عمليّات الإخلاء لأيامٍ بعدها نتيجة المعاينة المتلاحقة لحجم الضرر الذي طال بالمباني، في حين رصدنا عودة بعض العوائل لمنازلها بعد معاينتها من قبل لجان السلامة الإنشائيّة التابعة للبلديات. وأدّت عمليات الإخلاء إلى موجة نزوحٍ داخليةٍ كبيرة في مدينتي اللاذقيّة وجبلة، وتوزّع النازحون بين مراكز الإيواء (مدارس في معظمها ومساجد والصالة الرياضيّة في اللاذقيّة) وفي ضيافة الأقارب والمعارف، إلا أن الوضع يزداد صعوبةً بالنسبة للمهجّرين يوماً بعد يوم، فقد بدأت الإغاثات الأهلية بالتناقص لسببين رئيسين: أولهما عدم قدرة السوريين في الأساس على تقديم المساعدة الكافية والحاجة الماسة ل 90 بالمئة منهم للمساعدة قبل الزلزال؛ وثانيهما انحسار المساعدات الدولية ضمن إطار الجمعيّات المرخّصة، والتي تستحوذ عليها الأمانة السورية للتنمية وجمعية العرين العائدتان لأسماء الأسد، فضلاً عن جمعياتٍ صغيرة أخرى مرخّصة هي الأخرى ولكنها تخضع بشكلٍ أو بآخر لإشراف النظام المباشر، وتحوم العديد من شبهات الفساد حول هذه الجمعيات. كما انّ بقاء المهجرين في مراكز الإيواء لا يمكن أن يستمرّ لفترةٍ طويلة، فقد تعطّلت أكثر من نصف المدارس في مدينة اللاذقيّة ويوجد ضرورة لمواصلة العملية التعليمية، كما أنهم لا يستطيعون المكوث لفتراتٍ طويلةٍ في مراكز إيواء مكتظّة وتتلاصق فيها العوائل، لا سيما في الصالة الرياضية.
طرطوس ناجية
تداولت وسائل الإعلام خلال الساعات الأولى التي أعقبت الزلزال أنباءً عن احتمال أن تكون محافظة طرطوس هي أيضاً من ضمن المحافظات المنكوبة، لكنّها وبالرغم من تعرضّها لاهتزازاتٍ عنيفة، إلّا أنها لم تكن بشدّة تلك التي ضربت باقي المحافظات المنكوبة، وذلك لبعدها عن مركز الزلزال. ولم تسجّل أي انهيارٍ للمباني، وهنا نتحدّث عن مجمل محافظة طرطوس. كما أنّ لجان السلامة الإنشائيّة لم تقم بإخلاء أي مبنىً في المحافظة، ولم يُسجّل افتتاح أي مركز إيواء. أما بالنسبة للأبنية المتصدعة، فقد قال مهندسٌ إنشائي للجمهورية.نت: «إنّ بعض المباني في المحافظة قد تعرّضت لأضرار عميقة في البنية ويجب إخلاؤها لأنها قد لا تكون قادرةً على تحمل هزاتٍ عنيفة في المستقبل، إلا أن النظام لا يرغب بنقل الأزمة السكنيّة إلى طرطوس أيضاً، ولذا لم يشكل لجانَ إخلاءٍ شبيهةً بلجان اللاذقية وجبلة».
عدا ذلك، استمرت الحياة في طرطوس بشكلٍ طبيعي بعد يومٍ واحدٍ من الزلزال، وعاودت الأسواق والمدارس والجامعات نشاطها المعتاد.
مساعدات أهليّة
تحوّل أهالي الساحل السوري إلى خلايا تتدبّر وتدير المساعدات بمجهوداتٍ فرديّة وضمن النطاق الأهلي بالاعتماد على المعارف الشخصية والثقات المتبادلة بين الأهالي، وشملت حملات الدعم والإغاثة جميع المناطق والقرى، واستثمر الأهالي وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ كبير لتنظيم العمل وتوجيهه عبر المتطوعين، وذلك بالاستفادة من حالة تعاضد سوريّة مع ضحايا الزلزال أزالت عدداً من القيود والحدود التي رسّختها السنوات التي تلت اندلاع الاحتجاجات الشعبية ونشوب الحرب. وقد وصلت شاحنات مساعداتٍ قادمة من إدلب إلى اللاذقيّة كما توجهت أخرى من الساحل إلى حلب وإدلب.
وبخلاف ذلك، كشفت الكارثة عن افتقار النظام وجمعيّاته الخيريّة ومنظماته المدنيّة لأدنى درجات الثقة عند السوريين، وذلك نتيجة قناعةٍ ترسّخت لدى أهالي الساحل بأن النظام سيسرق معظم المساعدات التي سيتلقاها على اسم ضحايا الزلزال. إلّا أن الأمر لم يتوقف هنا، فقد انسحبت حالة فقدان الثقة أبعد من ذلك، إذ رفض الأهالي تسليم المساعدات الأهليّة التي جمعوها بأنفسهم لأي هيئة أو منظمة تابعة للنظام، وأصرّ العاملون والمتطوعون والمتبرعون في معظمهم على الاعتماد على العلاقات الشخصيّة والابتعاد قدر الإمكان عن هيئات النظام ومنظماته المدنيّة، ما جعل النظام يصدر تعميماً بعد أقل من 48 ساعة من الكارثة، منع من خلاله العمل الإغاثي إلا عن طريق الجمعيات المرخصة، والتي تخضع لنفوذه، لكن هذا لم يمنع الأهالي من توزيع المساعدات الأهليّة بشكل فردي، إذ إن مراكز الإيواء تستقبل لحد الآن مساعداتٍ فرديّة وأهليّة من مختلف المناطق دون أخذ أي اعتبار لقرار النظام، رغم القيود التي يفرضها على هذه المراكز وإشراف الأمانة السورية للتنمية على العمل فيها.
الإغاثة في مراكز الإيواء
يوزّع ميسّرو الأمانة السوريّة للتنمية ثلاث وجبات يومياً على النازحين، غير أن «مكوناتها ليست مناسبةً» بحسب شهادات المُهجّرين: «أحضروا لنا على وجبة الغداء البرغل الحاف فلم تستطع بناتي تناوله، فخرجت بنفسي لجلب بعض السندويش لإطعام بناتي، وعلى العشاء كانت الوجبات سندويش مرتديلا دون خضار مع خبز غير طازج، فنامت بناتي وهنّ جائعات. لا أستطيع تدبّر نفقاتي بمفردي ومن غير الممكن استئجار منزل في الوقت الراهن، فقد أصبحت الإيجارات مرتفعة»، تقول إحدى السيدات المقيمات في مركزٍ للإيواء في المشروع العاشر.
شخصياً، حاولتُ مع بعض الأصدقاء استئجار منزلٍ لأحد المُهجّرين بفعل الزلزال في مدينة اللاذقية، وتفاجأنا بأنّ أسعار الإيجارات قد ارتفعت بشكلٍ كبير بعد الزلزال مباشرةً، وهذا الارتفاع انسحب على عموم إيجارات العقارات الساحل السوري، بما في ذلك أرياف اللاذقية وطرطوس وأريافها.
ومن أمام مأوى حي الرمل الجنوبي، وهو أكثر مراكز الإيواء بؤساً، وقف بجانبي رجلٌ ستيني هجّره الزلزال من بيته يراقب اندفاع جمهرةٍ كبيرةٍ من الناس نحو سيارة المساعدات دون أن يتحرّك، فسألته عن السبب الذي يمنعه من السعي للحصول على المعونة التي هو في أمس الحاجة إليها، فأجاب: «معظم هؤلاء من خارج المركز، وما زالوا يقطنون في بيوتهم، ولكنني لا ألومهم لأنهم جميعاً محتاجون. هناك عائلات نزحت إلى المساجد دون أن تتضرّر بيوتها إثر الزلزال، وذلك فقط كي يحصلوا على المساعدات. لا ألوم أيّ سوريٍّ يحاول الحصول على المساعدات سواء تضرّر من الزلزال أم لم يتضرر؛ هؤلاء فقراء وجوعى قبل الزلزال بكثير».