تهدف المساعدة الإنسانية بحسب تعريف الأمم المتحدة لها إلى «إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة والحفاظ على كرامة الإنسان، أثناء وبعد الأزمات والكوارث التي تسببها أخطار الطبيعة أو الكوارث التي يصنعها الإنسان». كوارث الإنسان وأخطار الطبيعة؛ لم يسبق أن اجتمعَ هذان الشكلان من أسباب التدخل في سجلات منظمات الإغاثة الإنسانية بهذه الطريقة الفادحة. تُعَدّ أزمة سوريا التي بدأت عام 2011 أبرز أزمة إنسانية عالمية، منذ كارثة زلزال تسونامي في المحيط الهندي عام 2004. الأزمة الإنسانية السورية استثنائية في كل شيء، في المدة التي استغرقتها، وعدد الضحايا الناتج عنها، والتعقيدات السياسية التي تُعيق حلّها، وتأثيرها على الدول المجاورة. لقد غيّرت قواعد التدخل الإنساني برمته. كانت الكارثة السورية استثنائية، بشكلٍ جعل إيجاد الكلمات المناسبة لوصف المشهد البائس لمن يسأل أمراً مستعصياً. كان ذلك كله قبل الزلزال، الذي أضاف إلى السوابق السورية سابقةً جديدة، التقت فيها الكارثة الطبيعية مع كارثة الحرب البشرية.
إنه الزلزال إذن. كوميديا إلهية حقيقية تندّرَ الكثيرون بالدعاء لحصولها، أو لنيزكٍ أو قيامة توقف شبه الحياة التي يعيشونها. بالتأكيد، لم يعنِ أيٌّ منهم تلك الأمنيات؛ لا ريب في ذلك بعد السادس من شباط. في قرية سرمدا التي بالكاد نجدها على الخرائط قبل الثورة، وتحوّلت إلى عاصمة المنطقة بعد تراكم مستودعات التجار ومخيمات اللاجئين في محيطها، لم يكن هناك وقتٌ كافٍ للتيقّن من أن هذه الاهتزازات ليست استمراراً لكابوسٍ كنتُ قد استيقظتُ عليه قبل ساعة واحدة. لم أتحرك من مكاني مُحاوِلاً الفهم، انقطع التيار الكهربائي وعمَّ الظلام، فهمت، جريت إلى الشارع الذي يقع في مواجهة باب غرفتي، ابتعدتُ عن المبنى، لم أُبالِ بسيل المطر الذي وقفتُ في وسطه. الأصوات كانت تأتي من كل مكان، من باطن الأرض، ومن أبواب المحلات المجاورة، ومن أحجارٍ كانت تتساقط من الأبنية التي صارت تتماوج كالأشجار. كانت سيارتي تتحرك إلى الخلف والأمام كأنَّ أشخاصاً يحاولون دفعها، توقف الاهتزاز لثانيتين، أو ربما غير ذلك إذ لم يعد تقدير الوقت ممكناً بعد أن شعرتُ أن ما يحدث كان يجري منذ الأزل، ثم استؤنفَ مرة أخرى. بالكاد استطعتُ الوقوف، أيقنتُ أن الجميع سوف يموتون بعد قليل، وسأبقى وحدي حياً في الخارج. هدأ كل شيء أخيراً، لم يبقَ إلا صوت الأمطار الغزيرة، التفتُّ حولي إلى الظلام الممتد، هل حقاً حدث ذلك؟ هل سيأتي شخصٌ ما الآن ويسألني عمّا أفعله في الرابعة والنصف إلا بضع دقائق وسط الشارع وتحت الأمطار بلباس النوم؟ انتظرتُ أيّة إشارة. بدأَتْ بعض الأنوار تشع من النوافذ، فُتِحَتْ الأبواب، خرج الآباء والأمهات والأطفال إلى سياراتهم، لم ينتظر أيّ منهم أن يسخن المحرك، انطلقوا من فورهم. من لم يملك سيارة كان عليه أن يغرق في ثيابه في ذلك البرد القارس. استعدتُ وعيي بكامله وعرفتُ أن ما جرى كان زلزالاً مُدمِّراً، وليس كابوساً أو قيامة أو مشهداً من مشاهد صراع العروش: «كان ذلك أعظم شيءٍ عشته في حياتي»، كتبتُ ذلك على فيسبوك. اتجهنا بعدها أنا والأصدقاء الذين يقطنون معي في المبنى نفسه إلى واتس آب لنُطمئِنَ ونَطمئنّ. بدأتْ تأتي الأخبار، ومع أول أضواء ذلك النهار عرفنا أنَّ كارثةً قد وقعت. تهافتت الاتصالات؛ عائلة ابن عمك، أمٌ وخمسة أطفال تحت الأنقاض في جنديرس، يحاولون إخراجهم، ماتوا جميعاً، أنقذوا طفلة، لا لم يفعلوا، لم يَنجُ سوى الأب الذي كان في الخارج: «لحسن حظه أن عائلته كانت في الطابق الأخير، استطعنا إخراج ودفن أجسادهم بعد ثلاث ساعات. لولا ذلك لم يكن ليرتاح أبداً» قال شقيقه. تَحوَّلَ بعدها فيسبوك إلى نعوة لا نهائية.
أكتبُ هذه الأسطر ونحن الآن في نهاية اليوم السابع للزلزال. أصواتُ وضوضاءُ عمليات الإنقاذ بدأت تهدأ. خرجت آخر الأرواح من تحت الأنقاض، ولم يبق إلا الحجارة والأجساد الباردة. عاد متطوعوالدفاع المدني إلى منازلهم، نفضوا الغبار وغسلوا وجوههم، تفحَّصوا جوالاتهم، قرأوا ما كُتب في الأيام السابقة. هنالك زلزال، الكل يعلم بذلك، العالم بأسره يتحدث عنه، لكن لماذا لم يَصِلْ أحد؟ لماذا لم نتلق الدعم؟ لماذا لم يبدأ العمل في الأبنية التي لم يكن العدد المحدود لمتطوعي الدفاع المدني كافياً للبحث تحت أنقاضها؟ هذا ليس أول زلزالٍ في العالم. أليس كذلك؟ أين الطائرات والشاحنات والقوافل وفرق الإنقاذ والأدوات المتطورة والكلاب القادرة على اكتشاف الحياة تحت الركام؟ هل نسونا في هذه البقعة من العالم؟ نعم لقد فعلوا ذلك. ولم تكن تلك المرة الأولى.
على صفحة وكالة الأناضول التركية على فيسبوك تم نشر إنفوغراف يُعدّد الدول التي قامت بإرسال فرق للمساعدة، أخذتُ بعض الوقت في عدّها. 78 دولة أرسلت 6636 عامل إنقاذ أجنبي، بينما حصل الشمال السوري على صفر عامل من صفر دولة. ذكر البعض وجود متطوعين من مصر وإسبانيا أتوا كأفرادٍ دون معدات للمساعدة، وبمبادراتٍ شخصية. تركيا بدولتها وأجهزتها و كوادرها وجيشها وإمكانياتها لم تصمد واحتاجت للدعم، بينما لم يكن لدى السوريين إلا متطوعو الدفاع المدني، فَخبرة العمل التي اكتسبوها في سنوات الحرب الأخيرة كانت من حسن حظ من أنقذوهم من تحت الأنقاض، وإن كانت سنوات الحرب تلك من سوء حظ باقي السوريين بطبيعة الحال. لستُ هنا أدعو إلى تجاهل حاجة تركيا لمثل تلك المساعدات، فالكارثة كبيرة وأعداد الضحايا والمصابين تجاوزت مئات الآلاف، بينهم أعدادٌ كبيرة من السوريين أصلاً. إنما هي مجرد فرصة للمقارنة، مقارنة صاغها رجل في دعائه: «يا رب المرة الجاي خلي زلزال تركيا لحال وزلزالنا لحال».
انتشرَ الخبر في أنحاء الكرة الأرضية، بدا لوهلة أننا استعدَنا حضورنا في ذاكرة هذا العالم، وعُدنا إلى تَصدُّر عناوين نشرات الأخبار. أقلعت فرق البحث والإنقاذ وشحناتٌ من المساعدات من عدة دول عربية مثل مصر والإمارات والجزائر، وهبطت في مطاري حلب ودمشق. هل لنا أن نعترض على ذلك؟ مُحال. هناك أهلنا الذين يعانون مثلنا، لكننا نحن أكثر من نعرف أين ستذهب هذه المساعدات، ونعرف كيف سيستغلّها الأسد ليستعيد مكاناً فقده قبل اثني عشر عاماً. لم يكن الأسد بحاجة لذلك الظهور الكاريكاتيري في حلب واللاذقية لنعرف أنه أسعدُ شخص بهذا الزلزال، ولربما كان يتمنى أن يضرب هناك في الجنوب، في دمشق مثلاً، كي يحتكر وحده المكسب الذي شاركته به هيئة تحرير الشام والحكومة المؤقتة. هل من حاجة للقول أن أيّاً من تلك المساعدات لم تصل المناطق الأكثر تضرراً في الشمال المنسي، الذي لم يكن له أيّة حدودٍ مفتوحة سوى مع المناطق المنكوبة في تركيا. أُغلِقت هذه الحدود، صِلتُنا الوحيدة مع العالم، ومُنِعَت أيّة شحنة إغاثية من العبور في الساعات والأيام الأولى، حتى تلك التي كانت مخصصة لإغاثة نازحي الحرب، وحُبسنا نحن وزلزالنا في مكان ضيّق مثل فراغٍ في ركام مبنى وفي درجات حرارة ليلية ترفض أن تتجاوز الصفر منذ يوم الزلزال.
لكن «التضامن» لم يتوقف عند ذلك، فبعد انتشار الأخبار والصور وتَحوُّل الزلزال في سوريا وتركيا إلى تريند عالمي، تدفقت مشاعر التعاطف من كل أنحاء العالم. فنانون غردوا على تويتر، لاعبون وقفوا دقائق صمت، سياسيون دعوا للوقوف إلى جانب الضحايا. الأمر كان ليُسيلَ دموعنا بعد أن تَذَكَرَنا العالم، لكن هل نستطيع أن نقول: ليته لم يفعل؟! كل تلك الحملات والوقفات كانت ترفع علم النظام، أو علم سوريا حسب ما تقول الأمم المتحدة ومحرك البحث غوغل. لستُ هنا في وارد الجدال حول علاقة السوريين بهذا العلم أو غيره، لكنه بالنسبة لهذه الزاوية المنكوبة ليس إلّا علم الطائرات والدبابات والبنادق التي قتلتهم، علم الباصات الخضر التي هَجَّرتهم، والمعتقلات التي أخفت وقتلت أحبائهم، علم مسيرات الفرح بمصيبتهم، علم بشار الأسد. نظر المنسيون في الشمال في عيون بعضهم والإحباط يُثقل كاهلهم: كم أَفرطت الحياة في نسيانهم؟! هل من لومٍ يقع على أولئك الناس الذين تضامنوا معنا بتلك الطريقة، لا يمكننا لومهم على ذلك بطبيعة الحال، لكن هل علينا الآن في هذا الموقف أن نشرح لهم معنى كل علم، ونعود به إلى زمن الاستقلال والوحدة مع مصر والثورة حتى يعرف كلُّ متضامنٍ خلفية كل علم؟ لا شك في غايات المتضامنين النبيلة، لكن الأمر كان أكبر من أن يُحتمَل هنا.
يمكننا بالطبع توجيه اللوم إلى هذا العالم، بدوله وكياناته وشعوبه وأفراده، لكن قبل ذلك علينا أن ننظر إلى الداخل قليلاً ونشاهد كيف يفاوض الأسد العالم كي يُقدِّمَ لبلده المساعدات، وكيف يساوم الموظفون السوريون في وزارة التنمية التابعة لهيئة تحرير الشام المنظمات على نسبتهم من المساعدات، وكيف يمنع المقاتلون السوريون في الجيش الوطني قافلة المساعدات القادمة من الإدارة الذاتية لأن الجانب التركي لا يريد ذلك. الجانب التركي ذاته، الذي أوقف عبور أي شيءٍ إلى الشمال السوري، ووجَّه الجهود كلها إلى الداخل التركي المنكوب، وحشدَ الدولة والمؤسسات والأحزاب والشعب في اتجاه واحد، اتجاه الزلزال.
كان هذا الزلزال فرصةً للتيّقنِ من أنَّ أحداً لن يتذكرنا طالما لم نتذكر أننا سوريون أولاً وقبل أي انتماء آخر. لا أملك أنا وغيري الحق في تحديد الهوية التي يرغب أي إنسان في أن يكونها. يمكن للسوري الانتماء للأمة العربية أو الإسلامية أو روج آفا أو غير ذلك، يمكنه أن يُعلي من شأن طائفته أو عشيرته أو مدينته، يمكنه أن ينتمي للإنسانية وأن لا يضع أي حدودٍ لهويته. لكن، ومن منطلق المصلحة لا أكثر، سوريا مَركبٌ لم يكن لدينا يدٌ في صنعه، لم يأخذ آباؤنا رأينا عندما أنجبونا داخل حدوده، لكنه مَركبٌ وحيدٌ نُبحِر فيه معاً، ولن ينجو فينا من يفكر بمراكب الآخرين.