شاشة سوداء عليها مؤشرٌ يومض كل ثانية، يَحثُّني أن أكتب الأوامر المطلوبة، والتي عليَّ بدوري أن أكتبها بحرفيَّتها. أخذتُ نص الأمر من معلم الصف، وكتبته، وإذ بالشاشة تتحول لألوان تُنبئ ببدء اللعبة. هكذا كنا نلعب على نظام الـ«دوس» أول ما دخل الحاسوب حياتنا. دون أيقونات تدلّ على ما فيها ونَدلّ عليها بمؤشر الماوس لنفتحها بنقرتين.

بدأتُ ألعبُ ألعاب الفيديو منذ كنت في الثامنة من عمري. واللعبة الأولى التي لعبتها كانت الشطرنج على نظام الـ«دوس». يدخل القرص المرن – القطعة التاريخية التي لا تعرفها أجيال اليوم إلا كرمز للحفظ –  في الكمبيوتر، فتتجلّى اللعبة. وذكاء الجهاز، شريكك في اللعب، غير قابل للمنافسة. «الإنسان أذكى من الحاسوب» كانت تُصِرُّ وعظيات مجلات الأطفال، ولكن الحاسوب كان بالتأكيد أذكى مني، في لعبة الشطرنج كما في الألعاب الأخرى التي كنت ألعبها. هذا التحدي هو بالضبط ما جعل ألعاب الفيديو ممتعة بالنسبة لي. لم يمرّ عامٌ أو عامان على تلك البداية حتى دخل نظام الـ«ويندوز» حياتنا، وراحت الألعاب معه تأخذ شكلاً جديداً.

من إحدى أقدم الألعاب التي لعبها الألفيون (Millennials)، لعبة مُوزِّع الصُحُف

سجّلات القمر الأسود

اللعبة الأولى التي لعبتُها على نظام الـ«ويندوز» كانت مبنية على قصة كومكس فرنسية بعنوان سجّلات القمر الأسود. تحكي اللعبة قصة بطلٍ بسيفٍ ناريّ، يقاتل بين أربع ممالك متحاربة في عوالم يسود فيها جشع الأباطرة والسحر الأسود والأعمال البطولية. كنتُ مسحوراً بكثرة الشخصيات، والقدرات السحرية لكلّ شخصية، وما لكلّ شخصية من ماضٍ وتاريخٍ يتداخل مع ماضي وتاريخ بقية الشخصيات. لقد استفاد مصممو اللعبة من قصة الكومكس التي تم استيحاء اللعبة منها، وبنوا عليها عالماً سمحوا لي بدخوله، والتفاعل معه.

كانت اللعبة باللغة الإنكليزية، فكان عليّ، وأنا ما زلت ابن العاشرة حينها، أن أُترجم معظم الكلمات. لم تكن تلك المهمة سهلة، ولكنها كانت تبعث على الرضى. لم أكن أحب تعلم الإنكليزية في طفولتي، ولكنني لم أكن أتعلمها هنا، بل كنت أَستخدمُها. طورتُ أدوات لكي أستطيع تمييز الكلمات، ومن ثم فهمها، وقراءتها دونما عناء. بدأت بالاحتفاظ بدفتر أُسجل عليه كل الكلمات الجديدة التي تعلمتها حتى لا أنساها. وصرتُ أكثر قدرة على فهم مرونة الكلمات ومعانيها مع وقوعها في سياقات اللعبة المختلفة. لهذا المشعوذ قدرة تسميها اللعبة «البَرَكة».Blessing Ability. لم أكن أعرف ما تعنيه البركة بحد ذاتها، ولكنني فهمتُ مدلولها. كان الكاهن يطلق نثرات زرقاء تخرج من بين يديه فتزيدُ طاقة الجنود. فهمتُ أن البركة أمر إيجابي يحسِّن الطاقة. وفي ألعاب أخرى، كانت البركة تعني ازدياد مال الشخصية. فبدأت أفهم الكلمة بمفهومها الأعم بعدما قَدَّمَتها لي مختلف الألعاب في سياقات مختلفة.

ومع شرائي للعبتي الثانية، تحول دفتر ترجمة المفردات إلى دفاتر.

صورة ملصق أحد إصدارات الكوميكس لقصة «سجّلات القمر الأسود»، مصدر إلهام اللعبة التي حملت الاسم نفسه

اللعب باستراتيجيا الإمبراطوريات 

من ألعاب إدارة الجيوش، انتقلتُ إلى ألعاب أكثر تعقيداً. ألعابٌ لم يكن من السهل عليّ الفوز فيها. هي ما كان يُوصَف يومها بالألعاب الاستراتيجية. اليوم، كثرت الألعاب كثيراً وصار تصنيف «استراتيجي» مصطلحاً يدلّ على أنواع عديدة من الألعاب يشمل تفرّعاتها الكثيرة. ولكن، قبل عشرين سنة، لم تكن الحال كذلك. وآنذاك، تعرّفت إلى لعبة «عصر الإمبراطوريات» التي تستحضر مجموعات بدائية من البشر، شكّلت حياتها حضاراتٍ عُرفت بالسومرية، والمينوسية، والفينيقية. من أولئك، بدأت بالتعلم شيئاً فشيئاً. كنتُ أقيم بينهم؛ سكّانُ حضاراتٍ سبقتنا بستة آلاف سنة. صدر من تلك اللعبة جزءٌ ثانٍ ثم ثالث. هي ألعابٌ صارت اليوم تُعتبر أيقوناتٍ في أرشيف ألعاب الفيديو.

مشهد من لعبة «عصر الإمبراطوريات»، تظهر فيه المباني المختلفة التي تُستخدم للإنتاج، يحيط بها سور للحماية

أقمتُ بينهم

ومع كل لعبة جديدة، يحضر جديدٌ أكثر تعقيداً أتعلّمُه. ففي لعبة «الإمبريالية 2»، الجزء الثاني من لعبةٍ لم ألعب جزءها الأول، كان عليّ إدارة إحدى ممالك أوروبا في بداية القرن السادس عشر، مُوازِناً ما بين العسكري والاقتصادي والصناعي والدبلوماسي، من دون أن أسمح للممالك الأخرى بأن تسبقني في مستوى التطور التكنولوجي أو التوسع في العالم الجديد الذي سأتقاسمه مع الممالك الأخرى، أو حتى التوسّع في العالم القديم مع تَقدُّم اللعبة.

شكّلت تلك اللعبة تحدّياً جديداً لم تكن دفاتر ترجمة المفردات تكفي للتغلب عليه. فقد خسرتُ التحدّي مراراً وتباعاً بسبب إغفالي جانباً مختلفاً من جوانب إدارة الدولة في كل مرة. لم يعد يكفي أن أُترجمَ تعابير مثل: الدعاية،Propaganda. الحديد الصب،Cast iron. الاحتكار،Monopoly. وغيرها ممّا يصعب على ابن الحادية عشر معرفته، وإنما بات عليّ أن أبحث أيضاً في معاني تلك التعابير، وأن أقرأ عنها، بالإنكليزية طبعاً لشحّ الموارد بالعربية وقتها. نقصت أموال الدولة؟ ربما سأبدأ ببيع فائض محصول القطن الذي وجدناه فيما أسميناها لاحقاً: أميركا. وأبيعه فعلاً. ولكن، بعد عدة سنوات في زمن اللعبة، أصبح سعر القطن في السوق أقلّ من كلفته. يبدو أنني أَشبعتُ رغبة السوق بالقطن حتى أغرقتُهُ به وما عاد أحد يرغبه. عليّ أن أدير تجارة مواردي بشكل أفضل في المرات المقبلة: «لا تُكثِر من العرض وإلا انخفضَ السعر كثيراً. عليك أن توازن ما بين العرض والطلب». تعلمتُ ذلك دون أن أنتبه أنني أتعلمه. عندما أجد أن الطلب على مادةٍ قد يزداد، أحتفظ بما أملكه منها لبعض الوقت، فتُكافئني اللعبة برفع سعرها بما يكفي لتغطية تكاليف جيوشي التي كثر عديدها. وأنا أعزز الجيوش لكي أحمي مستعمراتي الأميركية، وأستعمر أراضٍ جديدة لكي أحصل على موادَ أكثر كي أبيعها. أدركت أن لا مَهرب من تلك الحلقة، بدأت مملكتي تتحول إلى إمبراطورية. وككل الإمبراطوريات، إن لم تكبر بشكل مستمر فإنها ستنهار أمام ممالك أخرى حافظت على توازناتها بشكل أفضل. وبهذا بدأتُ أفهم تصرفات دول تلك الحقبة بشكل أفضل.

كنتُ أنظر إلى خريطة اللعبة، أرى دول أوروبا موزّعةً بين عظمى وثانوية، ولا أفهم لماذا ألمانيا دولة ثانوية بينما هولندا الصغيرة تحضر كبلد ينافس إسبانيا. أنظر إلى إسبانيا، فأجد لها ممتلكات في فرنسا ودول الأراضي المنخفضة. بدأت أقرأ تاريخ تلك البلاد، فتعرّفتُ على فرنسا المملكة قبل الجمهورية، وعرفتُ أن ألمانيا لم تصبح بلداً واحداً إلا قبل قرنين فقط من يومنا هذا. وتلك الأراضي التي تملكها إسبانيا عند حدود هولندا ليست إلا بلجيكا اليوم. بدأت أفهم ما الذي دفع بتلك الممالك نحو العالم الجديد. ومع اندفاع مملكتي إلى جانبهم، بدأت أسماء قبائل العالم الجديد تبدو أقل غرابةً. ألفت اسم الأزتيك والإنكا، وصرت أستطيع التفريق بين مواقع كل منها في ذلك العالم الجديد الواقع وراء البحار. ومَن هي تلك، صاحبة الشعر الذهبي الأحمر، التي تحكم إنكلترا؟ تعلمت لاحقاً أن اسمها إليزابيث، وأن عصرها كان يوصف بـ«الذهبي» لا بسبب لون شعرها، بل لازدهار عاشته إنكلترا تحت حكمها.

لقد خلقَتْ تلك اللعبة سياقاً سمح لي بتعلّم المفاهيم. لم أكن أقرأ عن مفهوم ثم أهيم على وجهي باحثاً عن تطبيق له، وإنما هي اللعبة، التي لأجلها فعلتُ ذلك، من يعلمني إياها كلها. فمثلاً، باغتتني اللعبة بمفهوم الإتجارية قبل حتى أن أسمع به، فقرأت عنه لأطبق ما تقوله الكتب في لعبةٍ تتطلب مني أن أتعلم مبدأً، وأن أُوازنه مع غيره من شؤون إدارة الدولة الحديثة لأنجو بمملكتي. بعد خسارات عديدة متنوعة، تمكنتُ أخيراً من إيجاد ذاك التوازن، وصرت قادراً على احتلال العالمَين، وطغى لون مملكتي على وجه الخريطة.

مع تلك اللعبة، بدأت أختبر ما لا يمكن تسميته بغير العشق لألعاب الفيديو الاستراتيجية. صرت أبحث عنها أينما يمكن للمرء أن يجدها. وتنوعت الألعاب بين ما يتطلب مني إدارة مقاطعات روما في أطراف إيطاليا، وما يقترح عليّ إدارة مستعمرات فضائية في قصة خيالٍ علمي تجري عند أطراف المجرّة. أصبحت ألعاب الفيديو الاستراتيجية مَدخلي لفهم الاقتصاد والسياسة والتاريخ، وعن طريقها اكتشفت الولع الذي لديَّ في التاريخ. كنتُ دائم البحث عن ألعاب استراتيجية جديدة تثير اهتمامي. وقد وجدتها في ألعاب شركة «پارادوكس إنتر أكتيڤ».

واجهة الخريطة في لعبة «الإمبريالية 2»، ويظهر عليها المهندس المسؤول عن تخطيط الطرق لوصل الموارد المختلفة بعاصمة الدولة

ولعٌ بـ«تاريخ» الخرائط

مع لعبة «الملوك الصليبيين»، عشت ثورةً على مستوى تعاملي مع الخرائط، خاصة التاريخية منها. الواجهة الأساسية للعبة هي ببساطة خريطة العالم. ودوري فيها هو إدارة الأراضي التي تقع تحت سلطتي الإقطاعية في القرون الوسطى. قد أكون كونتاً، أو دوقاً، أو ملكاً، أو حتى إمبراطوراً، أرى على تلك الخريطة إقطاعياتي وإقطاعيات الآخرين، مُلوَّنة حسبما أريد. فإن أردت تقسيم العالم (القديم) سياسياً، تلوّنت الخريطة فكان لي ذلك. وإن أردت أن أقسمه حسب الدين، أظهرت لي الخريطة ذلك أيضاً. فما أن أنقر على إقطاعية، حتى تقدم لي واجهة اللعبة كل ما قد أبحث عنه من معلوماتٍ حولها. خريطة تفاعلية دينامية متنوعة الطبقات، ودوري فيها هو أن أتفاعل مع حُكّامها المختلفين. فأدخل التاريخ في أي لحظة من لحظاته، وهو تاريخ دقيقٌ موافقٌ لتاريخ عالمنا. وعندما أدخل أنا تتغير موازين القوى تبعاً لدخولي. قد ألعب دور ملك بروتاني فأوحّدُ فرنسا تحت حكمي، وهو ما لم يحصل في تاريخنا. وقد أدخل التاريخ كدوق إشبيلية، فأطرد بني أمية من الأندلس، وأحكم الجزيرة باسمي، وهو ما لم تشِ به كتب التاريخ في واقعنا.

لدى «پارادوكس إنترأكتيڤ» ألعاب مختلفة تغطي فترات تاريخية مختلفة، تتفاعل فيها الخرائط مع اللاعب بالطريقة ذاتها، إلا أن طريقة لعبها تختلف باختلاف الحقبة. قد أدخل لعبة «أوروبا العالمية» كحاكم للسلطنة العثمانية، فأتوجه إلى الأميركيتين من فوري، مغيراً بذلك وجه التاريخ. وقد أدخل اللعبة كزعيم قبيلة التشيروكي، فأمنع قدوم المهاجرين البيض وأطردهم من أرضي. تمتلك هذه الباقة عدة ألعاب، تمتد من العصور الكلاسيكية، مروراً بالوسطى، فالعصر الحديث، فالعصر الفكتوري، فالحربين العالميتين.

خريطة العالم لحظة بدء اللعبة، تُظهِرُ ممالك العالم القديم عشية اجتياح ويليام الفاتح لإنكلترا

بعد الخريطة، عودة للقصة

بعدما اختبرتُ نفسي طويلاً وتعلمت الكثير من عالم الاستراتيجيا والخرائط، بدأت أطّلِعُ على أنواع جديدة من الألعاب. ألعاب تتطلب مني أن أخلق شخصية، وأكون أنا تلك الشخصية، أكون بطل قصتي. سمة هذه الألعاب هي «تقمّص الأدوار». 

تبدأ قصتي بحلمٍ تملؤه كتابات غير مفهومة وأصوات من غير عالمنا تخبرني أنّني «المنشود»، ثم أسمع صوتاً مألوفاً أكثر يدعوني لأن أستيقظ. ليس لديّ ذاكرة عما حصل قبلها، ومن حولي أشخاص ينتمون لأعراق مختلفة. «من أنت؟»، تسأل إحدى الشخصيات، فيسمح ذاك السؤال للعبة بإعطائي فرصة أن أختار عرقي، ولوني، وملامح وجهي، قبل أن تطرح عليّ عدة أسئلة لتحاول فهم شخصيتي عن طريق الإجابة على عدة سيناريوهات. تُخبرني من مزيج الإجابات التي قدمتها بأني محارب، أو مشعوذ، أو صياد، لتبدأ بعد ذلك رحلتي في عالم «مورويند» مُحاوِلاً تحقيق القَدَر الذي رُسم لي في هذا العالم. ربما في اللعبة مئة نوعٍ من وحوش البراري أو مئتان، والعشرات من الشخصيات المختلفة في مدن متناثرة بين أطراف المملكة، كلها تنتظر تفاعُلي معها وأنتظر أنا تفاعلها معي. عالم مفتوح لا يُقيّد بالحركة في اتجاه دون الآخر. ما يحكمني هو سير القصة، والقصة أنا بطلها. ربما ليس الآن، وربما أنا الآن مجرد لصٍ فاقدٍ للذاكرة أُفرِج عنه للتو من سجنٍ عتيق. لاحقاً، ستتشابك قصتي مع قصص شخوص ذاك العالم، فأصطدم بملوك تلك الجزيرة التي وجدتُ نفسي عليها، بل وبمن يحكمهم أيضاً من أشباه الآلهة التي جعلت من قلب الجزيرة البركاني مقراً لها.

بعدما وجدت في سابقاتها من الألعاب الاستراتيجية بوابةً على عوالم تاريخية وفكرية، بت أرى القيمة الفنية لألعاب الفيديو من هذا النوع في إثراء مخيلتي. لم تعد المفردات التي أملكها، ولا المصطلحات التي أتعلمها، محصورة بالسياسة والاقتصاد والحرب، بل تنوعت فصارت عن الصراع، والبطولة، كما صارت عن التفاعلات البشرية وغير البشرية في عالم تسكنه أجناس أخرى، وعن القيَم والمُثُل التي لم تعد قوالب جاهزة، بل أصبحت عناصر في قصة أعيشها وأتحمل خلالها تبعات قراراتي، الأخلاقية منها والبراغماتية.

إلى ذلك، قدمت لي هذه اللعبة مدخلاً جديداً لعالم الرواية واحتراماً أكبر للخيال. بالنسبة لي، كان مكان قصص الخيال في كتب الأطفال. ولمّا قرأتُ المكتبة الخضراء كطفل بإعجاب وإجلال، لم أعتقد أن لهذا النوع من القصص مكاناً خارج عالم الأطفال. إلّا أن هذه اللعبة أثبتت لي أن قصص الخيال قادرة على أن تكون عوالم بأكملها أتفاعل معها، لا في مخيلتي وحسب وإنما بفاعلية لاعبٍ يتنقل بين مشاهدها ويغيّر أحداثها. لم أعد متلقياً للخيال وحسب، بل صرت مؤدياً خلّاقاً في عالمه. وبذلك، اكتسبتُ مهارات سمحت لي بالنمو ككاتبٍ يشكّل عالمه من عناصر صغيرة، تبدأ بفكرة تكون نواة القصة، لتتحول بعدها إلى ملحمة بعناصرها الدرامية المتكاملة.

مدينة ڤيڤيك، عاصمة جزيرة ڤاردينفيل في عالم مورويند

أنت وأشباحك الهاربة

تقود القصة في كثير من الألعاب سيرَ اللعبة، ولكنها تكون حاضرةً دون إقحام، فتتفاعل مع بقية عناصر اللعبة، ويكون كل ما في اللعبة جزءاً منها. بدءاً بعنوان اللعبة، كـ«الفارس الأجوف» مروراً بطريقة لعبها، وانتهاءً بنهاية القصة. لمَ هو فارس أجوف؟ هذا ما يكتشفه اللاعب مع تَقدُّم الحكاية. تعيّرك بعض شخوص اللعبة بأنك شبح. غريبٌ أنت عن العالم الذي تغامر فيه، ولكنك لست الغريب الوحيد. تجد بعض الوطن في ذلك، ولكن أين وطنك وما أَصلُك؟

خلال اللعب إن خسرت كامل طاقتك هربت روحك منك، فتُطاردُ أنت أشباحك الهاربة لكي تعيد ما كان لكَ من مجد سابق. كل ذلك على خلفية من رسوم فنية، للبطل، أي لكَ أنت، التفاعُلُ معها. وعلى خلفية هذه القصة، تمتزج متعة البصر بمتعة السمع.

لعبة الفارس الأجوف، صورة دعائية

تستخدم ألعاب الفيديو مزيج السمع والبصر، بل وربما اللمس أحياناً، كما تفعل قبضات اللعب، لكي تخلق جواً يغرق في عالمه اللاعب. أصبحت هذه الألعاب صنفاً منفصلاً يدعى بألعاب «الجوّ» لما للجو العام الذي تخلقه فيها من دور هام. فبعد أن تُقذَف الشخصية التي يلعب بها اللاعب في عالم من الضياع، يبدأ الصبي، بطل القصة بالبحث، عن صبيّة ما ربما؟ وذلك على خلفية رمادية، وشخصيات سوداء، تطارده ويطاردها، يهرب منها وتهرب منه، في تيه من النسيان. بعض ما تهرب منه هو الخوف في رأسك، وبعض ما تهرب منه كابوس قد تحقق، وفي كثير من الأحيان، كل ما تهرب منه هو الموت ببساطة. تعتمد هذه الألعاب على عناصر أخرى، غير الألوان القاتمة والمؤثرات الصوتية، بما يتجاوز الخدع السينمائية الرخيصة إلى فن متكامل. فيكون للّون وغيابه، وللموسيقى وغيابها، وللمعلومات وغيابها، يكون لها كلها دورٌ في أن تغمرك في عالمها، في جوّها.

لعبة التيه، شخصية اللاعب يطاردها العنكبوت

المولود تنيناً

تستخدم الألعابُ عنصر الموسيقى التصويرية لا لكي تكون خلفيةً للعب وحسب، وإن كان ذلك لا يعيبها إذا كانت كذلك فقط، وإنما لكي تكون مُرافِقاً للّعب. تحتدم الموسيقى عند احتدام الأحداث، وتهدأ بهدوئها، فتصبح دليلَ اللاعب حتى بشأن اقتراب الأخطار، ورفيقَهُ عند استكشافه عوالم تلك الألعاب وذلك في لعبة «الغياهب»، وهي الإصدار الرابع من سلسلة «مخطوطات الأقدمين». بل إن أوركسترا راديو السيمفونية السويدية قدمت حفلة كاملة احتفت فيها بأغاني الألعاب، وكانت أغنية الشارة للإصدار الخامس من سلسلة «مخطوطات الأقدمين» في لعبة «سكايرم» إحداها. غنَّت المطربة بلسان الـ«دوڤاكين»، أو «المولود تنيناً» في لغة دوڤازول. لغة اخترعها مُصممو اللعبة بشكل كامل، تتحدثها التنانين ويتعلمها بطل اللعبة، الشخصية التي تقمصتَها أنت، لتخاطب بها التنانين بعد أن تفرض قوتكَ عليهم. تقول كلمات الأغنية، والتي هي نبوءة تُخبرنا بقدوم المولود من التنين:

دوڤاكين، دوڤاكين                                     يا مولوداً من التنين

نال أوك زين لوس ڤارين                           بشرفك نحلف اليمين

ڤاه داين، ڤوكول، مافيراك، آست ڤال             أَنكَّ تَكفّ الشرّ ما طالت السنين

لعبة سكايرم الشهيرة، الإصدار الخامس من سلسلة مخطوطات الأقدمين، صورة دعائية

لا يستهينُ مصممو الألعاب بما يُصممونه. فهم لا يخلقون مجرَّد صور متتابعة تخلق إثارة بصرية وحسب. بل هم يخلقون عوالم بأكملها، لا الصور التي فيها وحسب، وإنما ما هو خلف الصورة من تفاصيل تُثري المشهد. هل فهم البشر يوماً ما تقوله التنانين؟ بالطبع لا. وذلك يعود لأنها تتكلم لغتها الخاصة. إذاً، نخلق لها لغتها الخاصة، والتي تأتي مخارج حروفها مما تخيل المصممون أن للتنانين أن تقوله. ويُقدِّرُ محبّوا اللعبة ما يفعله المصممون، فيقيمون صفحات من الإنترنت تفند ما خلقته اللعبة من عوالم، وتشرحه، وتبني عليه. كيف يتحدث التنانين؟ هكذا. كل هذا صنعه المصممون لكي يخلقوا الجو الذي يقدم للاعب تجربة تفاعلية متكاملة مبنية على خلفية واقعية. ربما كلمة واقعية هنا تعود لواقع مختلف تعيش فيه التنانين بيننا. عالم عجيب بالطبع. ولكن هي كذلك العوالم التي تغريك بالغوص فيها.

خلق الصورة

في مقطع آخر من الحفلة السويدية ذاتها، تعزف الفرقة مقطعاً موسيقياً من الجزء الخامس من لعبة «عقيدة الحشاشين». لعبةٌ أخرى خلق مصمموها عالماً بأكمله فيها. ولكن الفرق هنا بأن ذلك العالم مبنيٌ على تاريخ واقعي تمت إضافة بعض الفانتازيا له، ليدخل اللاعب فيعيشه، لا في مخيلته، بل بسمعه وبصره. تبدأ قصة اللعبة الأولى في مصياف، في مقر جماعة الحشاشين، حيث يعيش البطل الطير. أمرسُ قتلة «الحشّاشين»، والذي ستلعب أنت دوره. في هذه اللعبة أخلصَ المصممون للتصميم. عادوا إلى مخطوطات تاريخية متعددة وأعادوا تصميم مدنٍ من القرن الحادي عشر الميلادي بإخلاص منقطع النظير. في تسعة نقاط مختلفة في دمشق، يتسلق الطير إلى أعلى نقاط في المدينة، ثم يقفز منها إلى الأسفل. من منارة الجامع الأموي، إلى برج القلعة المركزية، يجوب الطير بطريقة الباركور أحياءَ المدينة التي أتقنَ المصممون شكلها. وبعد أن تنتهي مهامه كلها في دمشق يشدّ الرحال إلى القدس، وهناك الإخلاص ذاته للواقع في تصميم اللعبة. بل يتجاوز الإخلاص حدَّ الصورة، ليكون في القصة. مهمة الطير هي اغتيال شخصيات تَجبَّرَ أصحابها وطغوا. وبمراجعة أسماء تلك الشخصيات يجد أحدنا أنه بالفعل قد تم اغتيالهم في ظروف غامضة تطابق ما يقوم به الطير في القصة. هل قمتُ أنا الآن بكتابة التاريخ؟ هل أنا بما فعلته الآن قد غيرتُ مسار الحروب الصليبية إلى ما حدثَ في تاريخنا بالفعل؟

بعد القدس، يزور اللاعب عكا في صورتها التاريخية، بل ويعيش أحداثها من داخلها، ويساهم، من خلال تفاعله معها، في حدوثها وإتمام قصتها. أنا بالفعل من دفعَ التاريخ إلى ما كان. أنا بالفعل «الحشّاش».

لعبة عقيدة الحشاشين الشهيرة، مشهد من الفيديو الدعائي

محاكاة الواقع بكل ما فيه، ربما؟

لم يكن الإخلاص للواقع محصوراً بشكله التاريخي وحسب، وإنما كان أيضاً في صورة تُحاكي في دقتها نقاء الواقع. أحد الأمثلة على ذلك هو آخرُ لعبة من سلسلة ألعاب «لارا كروفت» الشهيرة. لقد أصبحت التقنيات المُتاحة اليوم تسمح بدرجات غير مسبوقة من الدقة البصرية. ولكن العين الفاحصة تلاحظ محاكاةً أخرى للواقع تتمثل في محاكاة قوانين الفيزياء فيها. محاكاة ليست مطابقة للواقع، ولكنها مستوحاة منه، كتلك في ألعاب كرة القدم أو سباقات السيارات، والكثير غيرها.

لعبة لارا كروفت الشهيرة، مشهد من اللعب

في ميزان النقد والحب

ألعاب الفيديو ليست فقط ما أراه على الشاشة، وهو ما أدركته مع مضي الوقت. وكما أنَّ الروايات التي قرأتُها طفلاً لم تكن حوادثَ معزولة عن سياق، كذلك لم تكن تلك الألعاب بمعزل عن العالم الذي خُلقت فيه. فقد صُنِعَت تلك الألعاب في أوروبا وأميركا. من هناك كان انطلاقها، وهناك تم بناء تواريخها. ولذلك، كانت هذه الألعاب في كثير من الأحيان غربية/ أوروبية المرجعية. فالكائنات الخُرافية مستوحاة من الميثولوجيا الأوروبية، أو قصص الخيال الغربية. أما التواريخ فقد كانت تتمحور حول أوروبا بطريقة تكاد تكون تهميشية لباقي العالم.

سعت ألعاب «پارادوكس إنتر أكتيڤ» في إصداراتها اللاحقة إلى تجنّب هذه المحورية، عبر توخي الدقة التاريخية في كل البلاد التي تغطيها خريطتها، لا في أوروبا وحسب. كما صارت تتبنى أسلوباً يعالج لغة الخطاب في تلك الحقبة بسخرية. فالدين الذي تدين به الدولة التي ألعب فيها يسمى «الدين الصحيح» وتسمى بقية المذاهب «هرطقات»، ويُسمَّى متّبعو بقية الأديان «الكفرة»، بغض النظر عن الدين نفسه، سواء أكان المذهب هو اللولارد المسيحي أو الديانات الجرمانية الوثنية. إلا أن تبنّي لغة الخطاب الإقصائية من تلك الحقبة بشكل ساخر لا يغطي على الإقصائية الفعلية في التمحور حول أوروبا، التمحور الموجود في معظم تلك الألعاب. كان ذلك بادياً في محتواها الذي كان يُظهِرُ تنوّعَ المجتمعات الأوروبية، ويهمل التنوّعَ الموجود في سواها. كما كان يبدو واضحاً في بُناها، التي كانت تدور حول حوادث محورية في تاريخ أوروبا بوصفها حوادث محورية للعالم بأسره.

بالطبع لم يكن لي كطفل، أو مراهق حتى، أن أنتبه لعيبٍ كهذا حينها. فكما كانت معظم الأفكار التي قدمتها تلك الألعاب جديدة عليّ، كذلك كانت الانتقادات التي وُجِّهت لها. وفوق ذلك، لم نكن نعلم ما في تلك الألعاب من خبايا بعد. فكثيرٌ من ألعاب الفيديو كان يحمل عناصر تدفع بنا إلى الاستمرار في اللعب من دون أن نعلم. وكثير من تلك الألعاب كانت تحمل تصميمات مبنية بغرض الإدمان. إلا أن مُصمِّمي ألعاب الفيديو أصبحوا أكثر وعياً لما يمكن لمُنتجاتهم الفنّية أن تفعله، وتَحوَّل كثيرون منهم إلى تصميمات تثير المتعة من دون افتراس مكامن ضعف النفس البشرية، بل وبدأت الدراسات توضح دوراً إيجابياً لألعاب الفيديو، لطالما رفضه كثيرون. دور يطور من مهارات من يلعبها، ويحمي الصحة العقلية، بل ويجلب السعادة.


مشهد من واجهة لعبة الديموقراطية 3، يُظهر تفاعل الناتج الإجمالي المحلي مع بقية سياسات الدولة ومؤشراتها