راسلتنا حليمة من شرق فرنسا متوجهة إلى يمام: «عزيزتي يمام. قبل أشهر، بعد تصريح لعاملة في إحدى المؤسسات الثقافية البديلة الناشئة عن تعرضها لعملية اغتصاب أثناء حفلة موسيقية برعاية مؤسسة ثقافية كذلك، انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي بمواضيع المساحات الآمنة والمؤسسات الثقافية البديلة ونِفاقها القيمي، وقدرتها أو عدم قدرتها على الاتساق مع قيمها النسوية وحماية الأفراد الموجودين في فضائها. وسمعنا الكثير من الجدل أيضاً حول مقولة ’نصدق الناجيات‘، وبدأنا نرى الكثير من السجالات حول الصوابية السياسية كديكتاتورية جديدة، وحول إعطاء المساحة لأصوات الهوية وللذاتية وللشهادات الفردية بحيث يصبح الجميع ضحايا. والحقيقة، أكثر ما لفت نظري هو انزياحٌ ما في الخطاب، وزوال بعض الخجل في الخطابات التي تريد الكلام عن النسوية كدين جديد وإيديولوجية قامعة. في ظل كل هذا، ما رأيك أنت؟ أحاول أن أسأل الجميع كي أُبلورَ رأياً أكثر وضوحاً. وأكثرُ ما يُدهشني أن العديد من الناشطين والناشطات والأنفلونسيرز قطعيون في تصوراتهم، وكأنهم مدرّبون منذ قرون على هذه الأسئلة، ولا كأنها أسئلة جديدة علينا».

 

 

الحقيقة يا حليمة، يبدولي إننا كتار في نفس المكان، خوف من الغوغائية من جهة، وخوف من عدم الصوابية من جهة، ودهشة للتسارع اللي بتصير فيه الأشياء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والسرعة اللي مننسى فيها الأحداث ومنلتفت لـ ترند ثاني دون التفكر الرصين والحريص. عندي بعض الملاحظات للبدء بتفكيك كل ما سبق وذكرتيه، بس ما عندي شي نهائي.

رح أبدأ بالأصعب والأكثر إشكالية برأيي، وهو الخطاب المناهض لسياسات الهويات والصوابية، واللي بيقول أنو التركيز على إعطاء الصوت للضحايا والتركيز على الذوات والانغماس في دور الضحية، دون عقلانية موضوعية حول كل الشروط السياسية الاجتماعية لكل شي بالدنيا، هو مجرد تكريس بائس لدور الضحية للأقليات المضطهدة. الأقليات على تنوعها، ومن بينها أقلية النساء كأقلية سلطوية. واللي بيقول كمان أنو «الشخصي سياسي» هيي مجرد مقولة لتكريس الفردانية، وهدفها الأساسي بالأنظمة النيوليبرالية هو بعثرة الجماعات والسيطرة عليهم أكثر بعزلهم أكثر، وأنو مجموع البشر واقع تحت ظلم هائل وهالأفراد اللي عم يحكوا عن نفسهم كضحايا عم يحدقوا بالسرة طول الوقت دون وعي عام. هاد الخطاب نفسه بيحكي عن إشكالية التمثيلية بحمل خطاب الضحية، بمعنى أنو ليش الضحية هي اللي لازم تحكي عن شرطها دوناً عن غيرها، وأنو هاد كمان دين جديد مُتسلّط.

بالواقع، هاد الخطاب شديد السلطوية وشديد الإشكالية، لأنو إما غير واعي بالجدران  السميكة اللي بتمنع المُهمَّشين أنو يوصلوا صوتهم، وغير واعي بهالحالة لحقيقة أنو بيتمتع بامتيازات غير المهمشين. أو أنو الغاية الحقيقية هيي إسكات هي الناس صاحبة الصوت حتى ما تحكي أبداً. فكرة أنو الشخصي سياسي تمتع فيها واستفاد منها الرجال بالدرجة الأولى؛ جنس كتابي قائم بذاتو، اللي هو المقالة الطويلة essay، أي الكتابة عن العالم من منظور شخصي بحت، الأفكار الكبرى المؤثرة في عالمنا انكتبت وانتشرت من خلالو، وكَتَبوا فيه الرجال أكثر. ليه ما حدا قال هي وجهة نظر شخصية؟ أهم كتاب لسيمون بوفوار هو مقالة ذاتية طويلة. هي الكتابات بالنهاية حققت تقدم موضوعي حقوقي وفكري ونضالي. حتى الشهادات بالمعنى المباشر لكلمة شهادة، بمعنى سرد ذاتي لأحداث ووقائع، وقت انكتبت من قبل الرجال انضافت عليها قيمة موضوعية. بالحقيقة «الواقع» الظالم الأساسي بحجمه الأكبر هو الواقع المغمور تحت قمة الجليد اللي بيعرفها الكل، وبيعترفوا فيها كظلم. مين بدو يحكي عن هاد الجزء من الظلم أو يجعله قابل لينصاغ لغوياً؟ كيف ممكن تكون تجربة إنسانية ما قابلة للمشاركة بدون ما ينحكى عنها؟ أو بتعبير آخر أكثر استفزازاً، بدون ما تُصاغ بشكوى؟ الشكوى هيي المزعجة على ما يبدو لأنها تذنيبية، ولأنها تتطلب فعل ما لتحقيق العدالة بتجربة الظلم. وهاد مرهق، مرهق أنك تسمعي دبيب نمل أو ناموس صغير بحجمه والمفروض مُهمَل كتلياً، بس طلع ألو صوت وبدو شوية تركيز واهتمام يلهيك عن عبادتك لذاتك وبياخد منك وقت.

الشكوى بحسب تعبير كتير بسيط للنسوية البريطانية سارة أحمد هيي مو المرحلة الأولى، هي المرحلة التالية لشي ما. المرحلة الأولى هي عنف واقع غير مُحتمَل رح يطلع يوماً ما بطريقة أو بأخرى. رح يندق باب وينفتح لنسمع الشكوى، اللي تطور يمكن أنو صار دَقّ الباب علني وصارت الشكوى تنسمع بمعنى أنو الأبواب صارت موصدة أقلّ، وصارت أقلّ سماكة. عم أستعار صورة الباب كمان من سارة أحمد. هاد بالزبط معنى «نصدق الناجيات»، بمعنى تكون الأبواب غير موصدة والإخراس والصمت عند الرد على الشكوى ما يعود موجود، وتصير الآذان أكثر حساسية لالتقاط الأصوات الواطية للكائنات الصغيرة. وبرأيي المتواضع معنى «نصدق الناجيات» يتوقف هنا، عدم إخراس المظلوم، مو بمعنى الاستماع كطقس يهدف بالعمق كمان للإخراس: أنو أحكي وفشي خلقك بس ما رح يصير شي، بعدين رح نرجع ندفنوا سوا. لا، الاستماع بمعنى أنو التجربة ذات معنى وفي ظلم واقع وهناك تتمة منطقية لإحقاق العدل. ولكن «نصدق الناجيات» مو إحقاق العدل، ولا يمكن أنو ينوب عن إحقاق العدل.

رح كمل بزاوية قادمة عزيزتي حليمة، وكمان لنحكي بالمقابل عن الغوغائية. وقبل ما أتركك حابة شارك معك فيلم وثائقي كثير حلو إذا كان عندك اشتراك نيتفلكس، بيحكي بالزبط عن الجزء المغمور من الجبل الجليدي اللي إذا ما انحكى عنو ما رح ينعرف وما رح نتقدَّم: 

 

https://www.youtube.com/watch?v=AVJLiVnrFuE