الفصل الأول: بمن نريد أن نعتني
إنه فصل الصيف. وبينما وصلت الحرارة إلى مستويات جهنمية في منطقة معينة من القارة الأوروبية، عاثت الفيضانات في منطقة أخرى. وها هي درجة الحرارة تُحطّم الرقم القياسي في كندا وإسبانيا وإيطاليا، وتشتعل النيران في الغابات المغربية والجزائرية مخلفة الضحايا البشرية. كل هذا ولم نتكلم بعد عن الضرر الذي يلحق بالأنظمة البيئية. أما في مناطق أخرى من العالم، فقد راحت قافلات اللاجئين تعبر الصحراء أو تركب البحار بحثًا عن أرض قابلة للعيش فيها. وليس نادرًا أن تُكلّفهم تلك الرحلة حياتهم. هذا ليس سيناريو فيلم رعب من نوع الخيال العلمي: نحن نكتب عن صيف 2021 حيث ما زال فيروس كورونا يمسك البشرية، رغم كل شيء، من تلابيبها. فيتم تسليط الضوء على موضوع «العناية ببعضنا بعضًا» عالميًا. وخلال عام واحد، يتطور التمريض من مهنة إشكالية إلى فرع دراسي شعبي في بلجيكا. ولكن في الوقت ذاته، تعيق براءاتُ الاختراع، وأسعارُ اللقاحات الباهظة، وجشعُ شركات الأدوية الكبيرة، عمليةَ تلقيح الملايين من البشر. وتتجمد الحياة في كثير من الأمكنة، ولا أثر للتضامن على مستوى العالم.
«ماذا حلّ بنا؟ إنه مجرد فيروس، وليست له قيمة أخلاقية بحد ذاتها. ولكنه أكثر من فيروس بكل تأكيد… فقد جعل الأقوياء يركعون، وأوقف عجلة الحياة كما لم يفعل من قبله شيء. وها هي أرواحنا تجول متلهفة إلى عودة الوضع ’الطبيعي‘، وتحاول ربط ماضينا بمستقبلنا رافضةً الاعتراف بالشرخ. غير أن الشرخ موجود، ووسط هذا اليأس، يمنحنا فرصةَ استذكارِ آلة الشؤم التي صنعناها لأنفسنا. لا شيء أسوأ من العودة إلى الوضع ’الطبيعي‘. ففي الماضي، أَجبرت الوباءات البشر على التخلي عمّا فات واستذكار عالمهم. وهذا الوباء لا يختلف عنها بشيء، إنه بوابة بين هذا العالم وذاك. يمكننا اختيار العبور، بينما نجرّ وراءنا الهياكل العظمية لأَحكامنا المسبقة وكُرهنا وجَشعنا، وقاعدة بيناتنا، وأفكارنا وأنهارنا الميتة، وهواءنا المسموم. أو العبور بخفّة، بقليل من الأمتعة، وبكامل الاستعداد لتصوّر عالم آخر والنضال في سبيله».
-أرونداتي رويRoy, 2020.
لم يعد النظام نافعًا. كثيرون غير قادرين أن يتشاركوا فيه، كما أنه يؤذي العالم من حولنا. نحن بأمسّ الحاجة إلى تغيير النظام، وتحويل الاقتصاد، وإعادة تنظيم المجتمع. وقد أكد تقرير المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية لعام 2019 على أهمية التغيير التحوّلي للمجتمع، والذي تُعرِّفه بأنه «إعادة تنظيم أساسية وبنيوية للعوامل التقنية والاقتصادية والاجتماعية، بما فيها النماذج والأهداف والقيم».IPBES, 2019, pXVIII وتؤكد استنتاجات التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيير المناخ على أن الطريق الذي نسلكه حاليًا لن يحصر ارتفاع الحرارة بـ 1.5 درجة مئوية عالميًا، بل سنصل إلى 2 أو 3 أو 4 درجة مئوية. ستكون النتائج كارثية على الإنسان والبيئة.
لا يتطلّب هذا تحويل البنى الحالية حتى تتلاءم مع حدود الكوكب فحسب، بل يتطلّب انقلاباً ثقافياً. ذلك أن أي تغيير في المنظومة يحتاج أولًا إلى تغييرٍ في العقلية وتصوّرٍ جديد للعالم. وكما قال مفكر النُظُم دونيلا ميدوس: «الأفكار المشتركة في روح مجتمعنا، والقناعات الكبيرة غير المنطوقة – غير منطوقة لأن الجميع يعرفها –، تشكّل بارادايم ذلك المجتمع، أي تصوراته الأساسية حول العالم».Meadows,1999, p.17 تعود جذور الكوارث البيئي-اجتماعية إلى القناعات العامة في مجتمعاتنا الحالية: فكرة أن ثمة إنسانًا متفوقًا على آخر، وأن الإنسان متفوق على جميع أشكال الحياة الأخرى، وأن الطبيعة عبارة عن مادة خام لا حياة فيها، وأن النمو الاقتصادي ضروريٌ لرفاهنا، ويتوجب علينا الاستمرار في الإنتاج والاستهلاك.
إن عمل النسوية البيئية بمثابة دليل لِحَني مسارِ قناعاتنا الأساسية. وتَطمح هذه المقالة إلى الاعتراف بالمفكرات والمفكرين الذين ألهموا بمساهماتهم في التغيير البنّاء ذي الأهمية الوجودية بالنسبة للأجيال القادمة. وانطلاقًا من الإيكولوجيا، ومن معرفتنا أن كلَّ شيء على الكوكب مرتبط ببعضه بعضًا، نطمح إلى المساهمة في إطار التفكير السياسي بغرض توجيه التغييرات المجتمعية الضرورية. ونأمل أن نشارك في بناء التيار الناشئ الذي يرغب أن يصنع من عالمنا مكانًا جميلًا ومتسامحًا وقابلًا للعيش من قبل جميع من سيأتي بعدنا، من أصغر الفطريات إلى أكبر الغابات الإستوائية وجميع البشر.
1.1 الخُطى التي نسير على هُداها
حسب الفيلسوف الفرنسي إيميل هاشه، فقد نشأت النسوية البيئية كتيار فكري في السياق السياسي لثمانينات القرن الماضي.Hache,2016 حيث أعلن كلٍ من تقرير نادي روما في 1972، والتنافس على امتلاك السلاح النووي أثناء الحرب الباردة، وقطع أشجار الغابات على مستوى العالم، والعديد من المجاعات، عن بداية الكارثة الإيكولوجية.Ibid. تعود جذور النسوية البيئية إلى النشاطية في تلك الفترة. ويُعتقَد أن الفيلسوفة الفرنسية فرانسواز دوبون هي من صكَّت المصطلح في 1974، غير أن بعض الكُتّاب يفترضون أن الكلمة ظهرت في عدة أماكن في الفترة ذاتها.Hache, 2016 and Purtschert 2020
وجهًا لوجه مع التهديد النووي ودمار المحيط المعيشي، أطلقت عدة جماعات نسوية نشاطاتها. أُغلِقت محطات الطاقة النووية، وتمّ سدّ الطرق المتوجهة إليها، وخرج الناس إلى الشارع أو قيّدوا أنفسهم بالأسيجة والأشجار. وأثناء تلك المقاومة، تمت كتابة أول النصوص ذات الطابع النسوي البيئي.Hache,2016. حيث اكتشفت هؤلاء النساء أن ثمة أوجهَ تشابه بين تعامل المجتمع الحديث مع الأرض وتعامله مع الناس الذين لا يستوفون شروط نموذج الرجل الأبيض الحديث. كان التعامل مع المحيط الطبيعي كمخزون للمادة غير الحية والصالحة للاستخراج، ومع النساء والبشر الملونين كمخلوقات دونية. تقع النسوية البيئية في نقطة التقاطع بين دمار الطبيعة والاضطهاد الاجتماعي.
وقد شكلت حركة شيبكو الهندية مصدر إلهام للنسوية البيئية. إذ تحوّلت تلك الحركة النسائية في السبعينات إلى رمز لحماية المحيط المعيشي ومستقبل المجتمع.Shiva, 1988. ففي جبال جرهوال التي تشكل نظامًا إيكولوجيًا هائلًا ودقيقًا في الهيمالايا الهندية، كانت الغابات تُدار كموارد مشتركة عبر آليات مجتمعية قديمة وصارمة وغير رسمية، بغرض مراقبة استغلالها والحفاظ على توازن النظام الإيكولوجي فيها.Shiva & Bondyophadhay, 1986, p.134 and Shiva, 1988. ولكن في بداية السبعينات، تعرّضت تلك المنطقة لفيضانات غزيرة وزلازل. وكان سببُ تلك الكوارث هو قطع الأشجار الأصلية في المناطق المرتفعة، واستبدالها بأشجار صنوبرية سهلة الاستثمار التجاري.Shiva, 1988 فقد كانت غابات الأشجار النفضية تلعب دورًا مركزيًا في استقرار التربة والمياه عند هطول الأمطار الغزيرة، لذلك كان استبدالها بالصنوبرات الربحية كارثيًا.Shiva & Bondyophadhay, 1986, p.136 كان الخراب هائلًا، وفضلًا عن العذاب البشري وتأذي الطبيعة كانت هناك عواقب اقتصادية كبيرة على المجتمع المحلي.
وقد تشكلت في السنوات التالية عدة احتجاجات على الاستغلال التجاري للغابات. أول نشاط لحركة شيبكو نشأ في نيسان 1973، حين خرج القرويون بشكل عفوي للتظاهر ضد قطع أشجار غابة المندل.Ibid. وفي آذار 1974، استطاعت سبع وعشرون امرأة حماية عدد كبير من الأشجار من فؤوس المستثمرين.Ibid., p. 137 حيث خطّطنَ أن ينتشرنَ في الغابات ويربطنَ أنفسهنّ بالأشجار، كيلا يتمكن أحدٌ من قطعها. وكلمة شيبكو تعني «لصق» في اللغة الهندية، وهكذا استُنبِط مصطلح «عناق الأشجار» من ذلك الشكل من المقاومة اللاعنفية المعروفة منذ أكثر من ثلاثمئة عام في الهند.
وحين اقترب عام 1974، كانت أكثر من ثلاثمئة قرية في المنطقة قد واجهت التهديد المستمر للزلازل الناتجة عن الاستغلال التجاري. كما تسببت التعرية المتزايدة بأن اضطرت القرى، المكتفية بذاتها حتى تلك اللحظة، إلى استيراد الغذاء جرّاء تراجع إنتاجية البلد.Ibid., p. 140 وهكذا توسعت الاحتجاجات، حتى تحوّلت شيبكو مع الوقت إلى حركة وطنية حققت نجاحات كثيرة، من بينها منع قطع الأشجار التجاري في المنطقة، وإزالة الغابات في جبال غاتس الغربية والفيندايا، لمدة خمسة عشر عامًا متتالية. وما زالت شيبكو تضغط من أجل سياسات وطنية أكثر حساسية حيال احتياجات السكان والشروط الإيكولوجية للبلد.Shiva & Bondyophadhay, 1986, p.140 and Shiva 1988, p. 67-72
النسوية البيئية هي بالدرجة الأولى إطار سياسي للتفكير،Mies & Shiva, 2014 ومنظور يسمح برؤية ناقدة للعالم، بحيث تظهر الأصول المشتركة لدمار البيئة والاضطهاد المجتمعي. كما أنها تستكشف علائق السيطرة بين الإنسان والأرض،Hunnicutt, 2020 وبين البشر أنفسهم. وأحد المسالك الرئيسة هو مسألة العناية بالمجتمعات. ما هي الشروط الاجتماعية والبيولوجية والعاطفية الضرورية للعناية بالمجتمعات والبيئات المتأذية وتعافيها؟Hunnicutt, 2020 ذلك أن أخلاق العناية تُركِّزُ على الترابط المتين بين الطبيعىة البشرية وغير البشرية، والانخراط العاطفي بالعالم من حولنا.Phillips, 2016 وقد نبهّت الكوارث المجتمع-إيكولوجية النسويات البيئيات لأهمية بذل الجهود والاهتمام غير المتواجدَين حاليًا في الخطاب العام.Ibid. «إذ لا يوجد تقدير (كافٍ) لمرونة النظم الإيكولوجية، وأشكال العمل المأجور وغير المأجور، والتبادلية الاجتماعية، والعناية»،Donath, 2000. Mellor, 1997, 2009. Waring, 1988 in Phillips, 2016, p. 1152. مما ساهم في «مُصادرة الأراضي من الناس، وتدمير المَوَاطن، والانتكاس العام للبيئة».Mellor, 1997 in Phillips, 2016, p.1152. وتجتهد النسوية البيئية من أجل «الانتقال من أنظمة تقوّض الحياة وتدمّرها إلى علاقات صحية تؤكد على الحياة».Ibid. ينبغي أن نرتقي إلى عالم يُعيد النظر بموقع الإنسان فيه. نحتاج إلى منطق جديد يعتبر كل إنسان جزءًا في شبكة من العلائق التي تربط بين الرفاه الفردي وازدهار الآخر، وتأخذ أهمية العلائق والسياقات الصحية بالحسبان.Phillips, 2016.
وضمن مشروعها التكاملي، تحاول النسوية البيئية أن تجد بدائل للثقافة الحالية.Mies and Shiva, 2014. وهذا ما تسميه فاندانا شيفا وماريا ميس بالانزياح البيئي: «ينطوي الانزياح البيئي على ألا نرى أنفسنا كغرباء بعد الآن عن الشبكة الحياتية الإيكولوجية، ولا كحكام ومالكين ومحتلين لموارد الأرض الطبيعية، بل كأعضاء في العائلة الأرضية، ومسؤولين حيال الأنواع الأخرى والحياة بكل تنوّعها، من أصغر الميكروبات إلى أكبر الثدييات. مما يفرض العيش والإنتاج والاستهلاك ضمن الحدود الإيكولوجية وضمن حصتنا من المساحة الإيكولوجية، من دون التعدّي على حقوق الأنواع الأخرى والبشر الآخرين».Ibid., p.xx-xxi.
1.2 ويستحسن بالآلهة أن تتعوّد
من أين أتت القناعات الغربية الحالية بخصوص العالم؟ ولماذا لا ننجح بالتعامل المتوازن مع محيطنا المعيشيStewart Brand in Mies & Shiva, 2014, p.xviii.
يَعتبر العديد من مؤرخي العلم والفلاسفة أن عصرَ التنوير وتَطوّرَ العلم الحديث هو الحقبة التي بدأ فيها الإنسان بتجزئة الطبيعة وتشييئها وتشريحها. وهكذا انتقلنا من تصوّر عضوي إلى تصوّر ميكانيكي للعالم. ففي كتابها موت الطبيعة: النساء والبيئة والثورة العلمية (1980)، تُبيّن النسوية البيئية والمؤرخة العلمية كارولين مرشانت أن التقنيات الجديدة، كالطواحين الهوائية والصنابير، تغلغلت في الحياة اليومية إبّان صعود الصناعة في القرن السابع عشر. وبدأ المفكرون الغربيون بتنظيم الحياة بطريقة ميكانيكية، واعتبروا الكائنات الحية كيانات يمكن فصل أجزائها عن بعضها بعضًا، تمامًا كجهاز الساعة. كما طغت التجريبية بقيادة علم الفيزياء. فمن ناحية اعترفَ علماء، من قبيل إسحق نيوتن، أن الله خلق الطبيعة، ولكن من ناحية أخرى أثبتوا أن الإنسان قادر على كشف قوانينها.Holemans, 2016, p.135.
وقد كان لذلك أثر كبير على الفلسفة اليونانية، حيث تغيّرت نظرتنا إلى الكون إبّان نهاية القرن السابع عشر. ففي تلك الفترة حصل تَغيّرٌ في التصوّر حول الإنسان والعالم، وتحوّلت النظرة الأساسية إلى الطبيعة ككائن حيّ (الكون العضوي)، إلى قناعة أنها تشتغل كآلة (الكون الميكانيكي). وشرعَ الإنسان الغربي يعتبر الطبيعة مخزونًا للمواد غير الحية التي بمقدوره أن يُشرِّحها ويستخدمها ويسيطر عليها على هواه. كما أنه تصوّرَ الشعوب الأخرى كبدائية ودونية، وتوجب إخضاعها لـ«التفكير التقدمي».
وحسب الفيلسوف الفرنسي المؤثر رينيه ديكارت، فإن مفتاح السلطة على الطبيعة يكمن في إمكانية تقسيم المادة إلى جزيئات. وبهذه الطريقة تتم السيطرة على المعلومات وفق سلسلة من القواعد والنماذج الرياضية. وقد ساهم «موت روح العالم» وإزهاق عقل الطبيعة بتزايد تدمير البيئة، حيث تمت تنحية كل وازعٍ مرتبط بالكوكب ككائن حي.Merchant, 1980. وغدت الآلات رمز تنظيم الحياة ذاتها، واستُخدِمَت كنماذج للعلم والفلسفة الغربية. وهكذا أصبح العلم الحديث أداة لتمكين سيطرة الإنسان على الطبيعة. وتقول مرشانتIbid., p. 228. إن هناك قناعات معينة ساعدت على ذلك:
1- تتكوّن الطبيعة من أجزاء ميتة وجامدة ومُتلقيّة.
2- تخضع الطبيعة لسلوك قابل للتنبؤ به، لذلك يمكن للعلم أن ينحصر في القواعد والتعليمات والقوانين.
3- بمقدور العلم أن يصف العالم ويديره كما يدير الإنسانُ الآلة.
ما زال إرث التنوير ممتدًا حتى يومنا هذا، وما زال يحدد النظرة السائدة إلى العالم. ويظهر ذلك في أسلوب الحكومات والشركات الصناعية في حلّ مشاكل المناخ:Latour, 2018. الأرض عبارة عن آلة، والمناخ هو ميزان الحرارة الذي ينبغي التأثير فيه من خلال مزيد من التجديد التقني. من دون أن يسائل أحدٌ البنى التحتية وإمكانية النمو المستمر وتفاقم اللامساواة، ناهيك عن أن يتم العمل على تغييرها.
وقد تشكلت هذه الأفكار اقتصاديًا من خلال نظريات آدم سميث واليد الخفية للسوق. فالبشر، في رأيه، عبارة عن جزيئات متنافسة لا تهتم سوى بمصلحتها. ورغم أن الجميع يتصرف وفق مصلحته الخاصة، إلا أن ذلك يصبّ في المصلحة العامة. يخبز الخبّاز خبزه ليبيعه ويبادل ثمار عمله، كي يتمكن من البقاء. سلوكه نابع عن مصلحته الشخصية، إلا أننا قادرون أن نشتري الخبز ونحصل بهذه الطريقة على غذاء. يساهم الخبّاز، بشكل غير مباشر، في رفاه المجتمع.Holemans, 2016, p-136. إلا أن الصحفية كاترين مارسال تجزم بأن: «في الزمن الذي عاش فيه آدم سميث، لم يكن بمقدور الجزّار والخبّاز والبنّاء أن يقوموا بأعمالهم إن لم تقم زوجاتهم أو أمهاتهم أو أخواتهم يوميًا بالعناية بالأطفال، وتنظيف البيت، وطبخ الطعام، وتنظيف الملابس، وتجفيف الدموع، وحلّ المشاكل مع الجيران. كيفما نظرنا إلى السوق، سوف نرى أنه مبنيٌ على اقتصاد آخر. اقتصاد قلّما تحدثنا عنه».Marcal, 2015 in Holemans, 2016, p. 136.
والأثر الآخر المهمّ للتفكير التنويري على نظرتنا إلى العالم يكمن في نشوء الفصل الاصطناعي بين الطبيعة والثقافة. إذ بدأ تنظيم العالم حول بُعدَين يسود أحدهما، الثقافة، على الثاني، الطبيعة. هذا يعني أن فكرة انفصال «الطبيعة» عن الإنسان هي ابتكارٌ حديثٌ نسبيًا. فمن جهة لدينا العقل المتفوق والروح والثقافة والتسامي والعلم والذكورة. ومن جهة ثانية لدينا المادة الرخيصة والعاطفة والجسد والعناية والطبيعة والمرأة. وقد كان لهذا التقسيم الاصطناعي أثرٌ عظيم على الأسلوب الذي (ما زلنا) ننظم مجتمعاتنا وفقه. حيث تغلغل التفكير الثنائي في عقولنا ورحنا ننقله من جيلٍ إلى جيل. ورغم أنه لا توجد «جينات منزلية» تجعل كيّ الملابس من مهام النساء بيولوجيًا،Hache, 2016. إلا أننا ما زلنا نعتقد في القرن الحادي والعشرين أن لدور العناية والواجبات المنزلية طابعًا «أنثويًا».Ibid. وظلّت تلك المهام المنزلية تشكل الخلفية التي يتمّ فيها «العمل الحقيقي»، أي عمل الرجل. وبالطريقة نفسها يُنظر إلى الطبيعة غير البشرية، فهي التي تشكل الخلفية التي تتحقق فيها حياة البشر.
1.3 قصة السيّد والعبد
في كتابها النسوية والسيطرة على الطبيعة (1997)، تقدم الفيلسوفة والنسوية البيئية الأسترالية فال بلوموود مثالًا قويًا عن هذا التحليل. ففي رأيها لا تُعيننا عقلانيتنا الغربية على الاعتراف باعتمادنا على العمليات الإيكولوجية، لأننا نُموضِعُ هوية الإنسان خارج الطبيعة. تقول بلوموود إن التفكير الديكارتي أدى إلى انقسام بين البشرية «الواعية» والطبيعة «التي لا تملك عقلًا». ممّا جعلنا، على سبيل المثال، نُموضِعُ مشاكل البيئة خارج حياتنا، ونفكر أن تغيرات المناخ لن تطالنا بأذى. إلا أننا لا نختلف في حاجتنا إلى محيط حيوي صحي عن بقية الكائنات الحية.
لم يضع التفكير العقلي الإنسانَ خارج الطبيعة فحسب، فأنشأ بذلك تضادًا بين الطبيعة والثقافة، بل تسبب كذلك بثنائيات أخرى: العقل مقابل العاطفة، الرجل مقابل المرأة، السيد مقابل العبد، بحيث يكون أحد الطرفين متفوقًا على الآخر. وترى بلوموود أن الثنائية الأخيرة هي التي تَصلُح كنموذج لفهم عالمنا اليوم. فعلى عكس ما تنادي به بعض النسويات، ترى أن الهوية الذكورية ليست إشكالية بحد ذاتها، وإنما الهوية الثقافية للسيد مقابل العبد، في سياق الطبقة والجندر والجنس والطبيعة. وتسميها بلوموود هوية المُسيطر. إذ حالما تنتشر تلك الهوية عبر الثقافة والعلم بين الناس، يشرعون بالتأقلم معها. تقول بلوموود: «في المحيط المادي والثقافي نحن الذين نقوم بفعل السيطرة».Pluwood, 1997, p.42. وهكذا يُنظَر إلى السيطرة والإقصاء والتراتبية في المجتمع كما لو أنها حتمية، كما لو أنها جزءٌ من طبيعة الإنسان. هذا يشوّه الرؤية لدى كلا الطرفين، السيد والعبد، المستعمِر والمستعمَر.
يكمن جوهر المشكلة في نشوء التفكير الثنائي والتراتبي، حيث يتم التفكير من خلال مصطلحات كأعلى وأدنى، أذكى وأغبى، أفضل وأسوأ. هذه البنى المصطنعة تُشرّع اضطهاد الآخر، أي كل شخص لا ينتمي إلى الفئة الثقافية للرجل الأبيض الغربي «العقلاني». وهكذا تتم مأسسةُ السلطة والإقصاء.
وتؤكد بلوموود على أن الثنائية ليست مُرادِفًا للاختلاف أو التضاد. ففي البنية الثنائية والتراتبية يتم تصوير ثقافة وقيم الآخر على أنها أدنى قيمة. نظريًا يمكن أن تتعرض التراتبيات للتغيير، ولكن حالما تُستدمج في الثقافة، يصبح التغيير صعبًا. وتُميّز بلوموود خمس آلياتPlumwood, 1997, Chapter 2: Dualism: the logic of colonisation. منتِجة لهذه النظرة الثنائية إلى العالم.
أولًا: الاستخدام كخلفية. حيث يتم استثمار خدمات الآخر من دون الاعتراف بها، وبغرض التنقيص من أهميتها. خذوا، على سبيل المثال، ذلك التركيز والإعجاب بوظائف المدراء (انتخاب المدير الأول لهذا العام)، بينما لا يمكن أن يكون هناك مدير من دون جهود الموظفين الذين يقومون بعملهم بشكل فعّال. وثمة مثالان آخران. الأول هو العمل الأساسي الذي تقوم به ربات البيوت والأمهات بشكل يومي، كي يتمكن أزواجهنّ من القيام بالشغل «الحقيقي» خارج المنزل. وحتى لو دخلت المرأة سوق العمل، فستبقى مهام الرعاية بالأسرة من نصيبها. لذلك تعمل معظم النساء في مجتمعاتنا ضمن دوام جزئي. والدوام الجزئي يعني أن الدخل أدنى وراتب التقاعد سيتأخر ويكون أقلّ.Vrouwen in deeltijdwerk: dwang of keuze? Damned if you do, damned if you don’t, https://www.denktankminerva.be/analyse/2018/2/28/vrouwen-in-deeltijdwerk-dwang-of-keuze والمثال الثاني نجده في الطبيعة التي تُستخدَم كديكور للفعل «الحقيقي» الذي يقوم الإنسان بالدور الرئيس فيه. غير أن السيد يحتاج إلى العبد أكثر من العكس.
ثانيًا: الإقصاء عبر الاستقطاب. بحيث تُعظَّم الفروق بين جماعتين أو شخصين، إلى درجة يبدو كما لو أن الآخر ينتمي إلى عالم ثانٍ. وفي الوقت نفسه، تُمحى جميع وجوه الشبه الممكنة، ويتم تجاهل كل الجسور التي تصل بين الضفتين. تَستخدم الأحزاب القومية أو اليمينة المتطرفة هذا التكتيك من خلال تصوير الفروق بين الجماعات كما لو أنها غير قابلة للتجاوز.
ثالثًا: إدماج الآخر وإجباره على التأقلم والانصهار في الثقافة السائدة. تقول سيمون دوبوفوار: «البشرية مُذكَّرة، والرجل هو الذي يعرّف المرأة انطلاقًا من نفسه».De Beuvoir, 1965, p.8 in Plumwood, 1997, p.52. وفقًا لهذه العقلية يكون الموقع الخاص هو المركز الذي يتم من خلاله تعريف الآخرين. فضلًا عن أن الآخر لا يُعتبر «جيدًا»، إلا في حال تأقلمَ بشكل كامل مع الثقافة السائدة. خذوا، على سبيل المثال، أسطورة المهاجر الجيد، بحيث لا يُرحَّب بالقادم الجديد كشخص كامل القيمة، إلا بعد أن يبدي امتنانه واستعداده لتقديم الخدمات، وقدرته على «الاندماج» والتحدث باللغة الجديدة بطلاقة، والتخلي قدر الإمكان عن عادات بلده الأصلي.
رابعًا: الاستخدام كوسيلة. بحيث تُفرَضُ أهداف السيد على العبد، ويتم استخدامه كأداة. حتى لو تمّ تصوير العلاقة بين السيد والعبد على أنها تعمل لصالح الطرفين، إلا أن الأمر سيكون على حساب العبد بدون أدنى شكّ. وهكذا يتم تحديد الهوية والسِمات التي يجب على تلك الجماعة أن تتحلى بها: المرأة الخانعة، والعامل المجتهد والصامت، والمُستعمَر المُمتنّ.
وأخيرًا: التجانس. بحيث لا يكون ثمة اهتمام بتنوع المجموعة الخاضعة، فتبدو كما لو أنها كتلة واحدة. وهكذا لا تنشأ الثقافات الأحادية في الطبيعة فقط (انظروا فاندانا شيفا، 1993)، ولكن كذلك في الروح. إن فكرة التجانس تختزل تعقيد الثقافات وتنوّع البشر، مما يعمّق التنميطات.
1.4 التقاطعية
«ينبغي على النسوية، كحركة تحررية، أن تستقلّ وتكون في الوقت نفسه جزءًا من نضال أوسع ضد جميع أشكال الاضطهاد. ينبغي أن نعي أن الهيمنة الذكورية تتشارك بالقاعدة الإيديولوجية للعنصرية العرقية وأشكال الاضطهاد الأخرى، ولا أمل في إبادتها، طالما ظلت تلك الأنظمة قائمة».
– بيل هوكسHooks, 1989, p.22.
كي نعرفَ كيف نُجابه الميل الثقافي إلى الثنائيات، سوف نتعمق في ما يسمى بالتقاطعية. التفكير التقاطعي يُبرِزُ مختلف أشكال الإقصاء التي يعاني منها الفرد، مما يسهّل صياغة حلول تأخذ بالحسبان العوامل المختلفة التي تحدد موقعنا في المجتمع. يساعد التفكير التقاطعي على توسيع زاوية نظرنا والانتباه إلى الهويات والتجارب الأخرى، مع احترام الاختلاف. على سبيل المثال: إذا كانت النِسوية تناضل من أجل حقوق النساء والمساواة بين الجنسين، فإن النِسوية التقاطعية تدرك مدى تأثير هويات النساء – من بينها العرقية والطبقية والإثنية والدينية والقائمة على الميل الجنسي – على خبرتهنّ بالقمع والعنصرية.
تتوقف معظم تعريفات التقاطعية عند ذلك الحدّ، ويتمّ تجاهل أهم سبب جعل كيمبرلي كريشناو تبتكر هذا المصطلح: لا تُعنى التقاطعية بتعدد هويات الفرد فقط، بل بتفاعل تلك الهويات مع البُنى الحالية أيضًا.Crenshaw, 1986. وفي سياق هذه المقالة يكون السؤال المطروح: ما هو تأثير التغيير المناخي على الجماعات المهمّشة؟ وتشرح الباحثة والقانونية دافينا ميشيجان ذلك من خلال المثال التالي: «تخيلوا المشاكل البيئية الكبيرة، كتغيير المناخ وتلوث البيئة، كما لو أنها عاصفة هوجاء. جميعنا متواجدون في قلب العاصفة، غير أن سُفننا مختلفة. البعض قابع في يخت مريح، والبعض في مركب بمحرك آلي، والبعض الآخر في قارب صغير أو حتى أقل من ذلك. لا بدّ أن تأثير العاصفة سيكون مختلفًا علينا، فالبعض لديه الوسائل الكافية كي يحمي نفسه، والبعض الآخر لا يملك ذلك. كيف نتعامل مع هذا المعطى إذا كان العيش الصحي من حق الجميع، حتى في زمن تغيُّر المناخ وتلوث البيئة؟».Misiedjan, 2021.
إن العدسة التقاطعية تسمح بإلغاء مركزية سرديات الثقافة السائدة حول شتى المواضيع، من بينها الكارثة البيئية والحلول المرتبطة بها. هذا يعني أنها تُفسح المجال لزوايا ووجهات نظر لم تأخذ حقها حتى الآن، مع أنها مصيرية في تحليل المشكلة وحلّها. وهنا يلتقي التفكير التقاطعي بفكرة العدل البيئي، مما يجعل المقاربة العادلة للمشكلة أمرًا ممكنًا. حيث يتطلب الإطار الضروري لمعالجة عاهات التغيير المناخي أن نجد حلولًا للجميع، وليس فقط للأقلية السعيدة. لذلك ينبغي فهم كيفية تفاعل هوياتنا المختلفة مع البنى الحالية.
ترى كريشناو (1989) أن التقاطعية عبارة عن أسلوب للتفكير بهويتنا وعلاقتنا بالسلطة. ورغم أن المصطلح ابتُكِرَ أساسًا من أجل النساء السوداوات في المجتمع، إلا أنه سرعان ما تبدّى صالحًا لكثير من المنتمين إلى الجماعات المهمّشة التي تشكل جزءًا من المجتمع من دون أن تكون ممثلة فيه. تقول كريشناو: «إن لم يكن لديك عدسة مدربة على رؤية تقاطع الأشكال المختلفة للعنصرية، فلن تتمكن من صنع السياسات التضمينية التي نحتاجها».Crenshaw, 2020. وتبني النسوية البيئية على هذه القاعدة من خلال افتراض أن «حرية» البشرية لا تعتمد فقط على حرية الطبيعة والنساء، بل كذلك على إمكانية تحقيق الحرية لجميع المتواجدين على خطوط التقاطع.
فكرة ارتباط استغلال الطبيعة باضطهاد النساء ليست جديدة، بل مشتبكة تاريخيًا. ففي كتابه طبيعة الأعراق (خطابات التباين العرقي في النسوية البيئية)، يعرّف نويل ستورجون النسوية البيئية كحركة سياسية راهنة تنطلق من قناعة أن الإيديولوجيات التي تظلم على أساس النوع الاجتماعي والعرق والطبقة، هي ذاتها التي تسمح باستغلال الطبيعة وإفسادها.Sturgeon, 1997, p.260. كجزء من الموجة النسوية الثالثة، قامت النسوية البيئية تاريخيًا بالربط بين النوع الاجتماعي والعرق وتدمير البيئة، ولم يتبق الآن سوى دمج المنظور التقاطعي في الحركة. من خلال خطابات جديدة حول العناية والمسؤولية والعدل، بمقدورنا فتح المجال أمام تجديد الأشكال المختلفة للعلاقة بين البشرية والطبيعة.
1.5 النسائية البيئية
لماذا نحتاج إذن إلى النسائية البيئية؟ من أجل فهم النسائية البيئية، نحتاج إلى تحليل مقتضب للنسائية. ففي 1979 استخدمت الكاتبة والشاعرة والناشطة أليس ولكر مصطلح «النسائية» لأول مرة في قصتها القصيرة تمزُّق، وبعد ذلك في كتابها بحثًا عن حديقة أمنّا: نثر نسائي (1983). حيث عَرَّفت «النسائية» بالنسوية السوداء أو النسوية الملونة. تقول: «تتناسب النسائية بالنسوية كما يتناسب اللون البنفسجي بزهرة الخزامى».Walker, 1983, p.xi.
قد تتساءلون لماذا ارتأت أليس ولكر أنه من الضروري تعريف مصطلح النسائية، وبخاصة كمقابل للنسوية. الحقيقة التاريخية هي أن النسوية لم تُفسح المجال للنساء الملونات، بل اضطررنَ أن يبنينَ لأنفسهنّ المساحات الخاصة ضمن الحركة النسوية، ويطوّرنَ نظرياتهنّ خارج الأطر الحالية. وهكذا غدت النظرية النسوية السوداء أداة مفيدة للنساء العاديات ليؤطرن بها أشكال الاضطهاد المختلفة التي يتعرضنَ لها (على أساس الطبقة أو العرق أو الجنس)، فحققت ما لم تحققه النسوية السائدة.
تفترض النسوية السوداء أن تجربة النساء السوداوات لا يجوز فهمها من خلال عدسة اللون الأسود أو الأنوثة، بل من خلالهما معًا. فمنذ عهد العبودية، تقود النساء السوداوات النضال من أجل التحرير، إلا أنهنّ قلما حصلنَ على الاعتراف بذلك. وما زال هذا الإنكار مستمرًا حتى يومنا هذا، خذوا على سبيل المثال الناشطة البيئية الأوغندية فانيسا ناكاته التي قُصّ رأسها من الصورة التي ضمّتها مع غريتا تونبرج ولوكينا تيل ولويزا نويبور وإيزابيل أكسلسون. وكما أسلفنا، فمن المهم جدًا فهم التعبيرات المختلفة لنضال الحرية، لأن الدروس التي نتعلمها من كل عملية إقصاء، سوف تفضي إلى حلول أفضل وأكثر عدلًا للمشاكل التي نواجهها اليوم، وأهمها الكارثة البيئية.
في كتابها إعادة التفكير بالنسوية البيئية: أنغاري ماتاي وحركة الحزام الأخضر في كينيا (2006) تحلل موثوقي حركةَ الحزام الأخضر الكينية. حيث تعمل هذه الحركة على إنشاء حزامٍ أخضر من الأشجار والغطاء النباتي والتربة الخصبة لمقاومة التصحّر والتعرية، في سبيل تمكين ملايين البشر من كسب قوت عيشهم. وتعتبر موثوقي حركة الحزام الأخضر مثالًا عن النسوية البيئية الأفريقية، نظرًا للأسلوب الذي تتعامل به مع قضايا البيئة، ولإضاءتها على العلاقات الجندرية، وتحديها للبنى الأبوية في السياق الأفريقي.
وترى ميلاني هاريس أن النسائية البيئية تُعنى بوجهات نظر النساء الأفريقيات من خلال تضمينها في أساليب النشاطية والتطبيقات الدينية ونظريات النضال من أجل عدالة بيئية.Harris, 2016, p.5. ويعد هذا النهج النسائي البيئي ضروريًا، لأنه يؤكد على ترابط العدالة الاجتماعية والبيئية ويعترف بتقاطع أشكال اضطهاد النساء الملونات والبيئة.
ويمكن استخدام المصطلح من أجل تصوّر الروابط الإشكالية والمتناقضة بين النساء الملوّنات والأرض. تقول هاريس: «إلى جانب الاحتفاء بالصلة الرائعة بين النساء الملوّنات والأرض (بما هما أرض وخالقَان مشتركان)، فلدى النساء الملوّنات تجربة تاريخية خاصة في العذاب مع الأرض ومثلها».Harris,2016, p.6. وهنا تشير هاريس إلى تاريخ الاستعمار والعبودية العابر للقوميات، حيث يتم اغتصاب أجساد النساء السود وتشييئها وبيعها من أجل الربح. يمكن قراءة مفهوم هاريس لـ«الصلة الجميلة» بين جسد المرأة السوداء والأرض على أنه رَمنسة لنُظُم المعرفة الإيجابية والإشكالية التي تربط أنوثة النساء السوداوات بنوع من المعرفة القديمة للأرض. وقد يؤدي هذا التناقض إلى تكريس الجسد الأنثوي إيجابًا ضمن منظور نشاطي من أجل البيئة، بينما تستمر معاناة هؤلاء الأفراد من العنف الفيزيائي والمعرفي لقوى خارجية.
تبحث السرديات التي نرويها هنا في علاقة الإنسان بالأرض، ودور الإنسان المهم في ابتكار تطبيقات بيئية مسؤولة والحفاظ عليها. وكما أسلفنا، كثيرٌ من النظريات البيئية لا تأخذ في الاعتبار بشكل كافٍ ذلك الاضطهاد العرقي والجنسي والطبقي الذي تعاني منه فئات كثيرة في المجتمع. أما في علم البيئة المُجندرة – بغض النظر عمّا إذا سميناها النشاطية البيئية الأفريقية أو حتى النسائية البيئية –، فتمنح الأولوية للعرق والجندر والوعي البيئي معًا. كما تهتم هذه العدسة بالنساء الملوّنات وأطفالهنّ وأسرهنّ، مع التأكيد على تحرير شعب بأكمله.Rico, 2017 en Zoboi, 2017.
1.6 علوم الكون لدى السكان الأصليين
تَعتبر كثير من جماعات السكان الأصلية في أميركا الشمالية أن تأمين الاحتياجات الأساسية والأمان والمعنى مسؤوليةٌ جماعية. وقد عبّر إدجار فيلانوفا عن هذا الأسلوب في التفكير في كتابه نزع الاستعمار عن الثروة (2021)، حيث اقتبس ما قالته دانا أفريسو، مديرة صندوق البوتلاتش والعضوة في قبيلة النافاجو: «لقد أخبروني أنه ليس لديهم مفردة لـ’الفقر‘. التعبير الأقرب من الفقر هو ’من دون عائلة‘، وهذا أمر خارق للغاية. قالوا إنهم يستغربون أن ينعزل شخصٌ ما ويفقد شبكة الأمان وعائلته وإحساسه بالقرابة إلى درجة معاناته من الفقر».Villanueva, 2021, p.151.
تُعتبر التغذية وتأمين الطعام للجميع، والعيش بتوازن مع الأرض، والحدّ من الصراعات الداخلية والخارجية قدرَ المستطاع، من المهارات المتجذرة لدى السكان الأصليين، ويتمّ نقلها من جيل إلى جيل. وبما أن المعرفة عُرضة للضياع بعد وفاة الأفراد، فإن كل جيل مسؤولٌ عن الحفاظ على الثقافة عبر نقل حكمة المجتمع ومعرفة الأجداد إلى الأبناء والأحفاد. حيث يفحص السكان الأصليون أفعالهم من خلال نتائجها على الأجيال السبعة التي ستأتي من بعدهم، أو ما يسمى بوكالة الأجيال السبعة. هذا يعني أن أفعال الفرد تتأثر بالأجيال السبعة السابقة، وأن عليه الأخذ بالحسبان أثر سلوكه على الأجيال السبعة القادمة التي ينبغي أن تستفيد أيضًا. وقد طوّرَ كثير من السكان الأصليين طقوسًا رسمية وفترات تعليمية بغية نقل حكمة الأجداد إلى الأبناء، كي تضمن الجماعة قدرتها على تنمية الفرد والجماعة إلى الأبد.
ونجد مثالًا آخر عن الإنسانوية المتجذرة في الجماعة في تقليد أوبنتو الأفريقي، وهو اختصار لـ«أومونتو نغمونتو نغابنتو»، والذي يعني في اللغة الزولوية: أنا ما أنا بسبب من نحن كلنا، أو أنا لأنك. وحين سُئل كبير الأساقفة جنوب الأفريقي والحاصل على جائزة نوبل للسلام ديسموند توتو عن الأوبنتو، قال: «هي الوعي العميق بأننا بشرٌ بسبب إنسانية الآخرين فقط، وأننا حينما نحقق شيئًا في هذا العالم نكون مدينين لعمل الآخرين وإنجازاتهم».Tutu, 2013. من خلال طرح البدائل المُقنِعة، تشكل النظم المعرفية للسكان الأصليين تحديًا للوضع الراهن، وتشارك في تعبيد الطريق إلى مجتمع أكثر عدلًا لنا جميعًا. فهي كنُظُمٍ قِيَميّة تاريخية عبارةٌ عن مرآة ملهِمة تعلمنا الكثير.
1.7. العملة في اقتصاد الطبيعة هي الحياة
Shiva, 2017.
لقد كان الأمر واضحًا بالنسبة للعالِمة الهندية والنسوية البيئية فاندانا شيفا: إن الأنثروبوسين الهدّام ليس المستقبل الوحيد، فبمقدورنا تحقيق تحوّل في النموذج الفكري (البارادايم). وهذا ما يحصل في جميع أرجاء العالم فعلًا، حيث نشهد تغيرًا في الوعي: «ثمة انزياح نحو التركيز على رفاه البشر والكوكب، والاقتصادات الحية، والحياة الجيدة، والاكتفاء، وتقدير التعاون بدلًا من المنافسة. هذه هي الانزياحات التي تحققها جماعات السكان المحلية من فلاحين ونساء ويافعين ضمن حركات جديدة في جميع أرجاء العالم».Mies & Shiva, 2014, p.xxi.
هذا يعني أننا نبدع ونعمل بالتعاون مع الأرض، مما يتطلب استخدام ذكائنا من أجل الصيانة والشفاء، وليس من أجل الاحتلال وإحداث الجروح.Ibid. وتتابع فاندانا شيفا قائلة: «في حال أراد البشر أن يحموا مستقبلهم والحياة على الأرض، فعليهم أن يعوا حقوقها جيدًا. علينا أن نقف بثبات على الأرض بكامل تنوعها وعملياتها الحيوية، ونطلق الطاقات الإيجابية لأنثروبوسين إبداعي. إما أن نتصالح مع محيطنا أو نَفنى. الاستمرار بالحرب على الأرض ليس خيارًا ذكيًا».
إنها مهمة ثقافية بالدرجة الأولى، بحسب أميتاف غوش في كتابه الفوضى العظمى. كما يرجع عجزنا الحالي عن إيقاف الاختلالات المناخية إلى أزمة في المخيلة. نحن بأمس الحاجة إلى سرديات جديدة وافتراضات أصيلة تقودنا إلى عالم يلبي احتياجاتنا الأساسية بطريقة تحمي بيئة الآخرين وتحافظ عليها. ومن أجل ذلك، نحتاج إلى تَخيُّل أن كل شيء يمكن أن يكون مختلفًا، وأن ننفتح على رؤى وأفكار وانطباعات مغايرة، وعلى ضرورة التعلم من الثقافات والمجتمعات الأخرى. هذا يتطلب منا انفتاحًا يجعلنا نتصور المُتعارَف عليه كأمر غير معقول، أما غير المعقول الذي يحدث، كالاختلال المناخي، فهو واقع الحال. انفتاحٌ يضعنا خارج كل الأطر، ويُمكِّنُنا من تصوّرات جديدة حول العيش الرغيد، ويَحني الواقع الحالي نحو مستقبل قابل للعيش.
الفصل الثاني: واجب العناية يخصّ الجميع
2.1 وهم النقاشات حول كورونا
قرأنا في العديد من التحليلات أن الدرس المُستخلَص من أزمة كورونا هو اكتشافنا لأهمية العناية. ألم نسمع كل ليلة أثناء فترة الحجر الصحي الأولى دويّ التصفيق لموظفي القطاع الصحي الذي تابعوا عملهم المُضني ضمن ظروف حرجة؟ وألم نتعلم أنه من المهم العناية بالطبيعة طالما أن قطع الأشجار في الغابات الاستوائية يساهم في نشوء أمراض ككوفيد 19 وإيبولا؟
لقد توقفنا منذ فترة عن التصفيق، واستمرّ قطع الأشجار. الدرس الحقيقي الذي تعلمناه هو أن العناية صعبة جدًا في محيط يُعاديها. لا تُقدَّم العناية بسبب فائض من النيات الحسنة أو لمجرد أن معظم الناس طيبون. لذلك من الضروري أن تتغير العقلية والبنى التحتية.
فضلًا عن أننا نتقبّل بسهولة أن طريقة التفكير في الرأسمالية المتوحشة تفضي إلى واحدة من أكبر كوارث العناية في هذا القرن: حرمان مليارات البشر في الجنوب العالمي من لقاح كورونا، لأننا نهتم بامتلاك وخصخصة المعرفة عبر براءة الاختراع أكثر من العناية بإخواننا في البشرية. مع أن جميع لقاحات كورونا تمّ تطويرها باستخدام المال العام. ولكن كما تبين، فإن رؤسائنا يستصعبون التدخل في حقوق الملكية أكثر من تعليق الحقوق الأساسية. خذوا على سبيل المثال، منع التجول المسائي أو الحد من حق التعليم. ولا تنسوا الأطفال الذين لا يتوفرون على خط الإنترنت في المنزل.
لن يتغير العالم من خلال الشرح النظري لأخلاق العناية فقط، حتى ولو كان ذلك هو أولى الخطوات الحاسمة. لا يمكننا حَنيُ المسار إلا من خلال النظر إلى كيفية دعم أخلاق العناية للمجتمع والاقتصاد بشكل بُنيوي، ومن خلال وضع سلوكيات العناية حيّزَ التنفيذ. ثمة فرقٌ كبير بين القلق على مصير الأقل حظًا والمنبوذين والطبيعة المهددة، وبين الاستعداد لتحمل مسؤولية العناية. ذلك أن العناية تتطلب فعلًا ملموسًا وبِناءَ علاقة ذات التزامات. هذه القدرة على التراحم ترتبط بنظرتنا إلى العالم وكيفية تعبيرنا عن تلك الرؤية.
2.2 كلماتُنا ونظرتُنا تُحدّد العالمَ
حين وصل البريطانيون في 1770 إلى الساحل الأسترالي، رأوا أن بشرًا كانوا يعيشون هناك – السكان الأصليون موجودون قبل 50000 عامًا. غير أن الأوروبيين المُشبَعين بفوقيتهم، ظنوا أنهم برابرة من دون قوانين مكتوبة ولا تقاليد زراعية أو استخدام «جيد» للأرض. هذه النقطة الأخيرة مهمة، لأن المفكر التنويري جون لوك كان قد طوّر تبريرًا للاستيلاء على الأراضي غير المزروعة: ستصبح ملكهم الشرعي بمجرد استصلاحهم إياها بعرق جبينهم. ولأن الأرض كانت جافة وكبيرة جدًا، فلا بد أن تكون غير مأهولة بالسكان (هذه هي الأسطورة الاستعمارية). وهكذا اعتُبرت الجزيرة الهائلة ليست ملكًا لأحد، مما سهّلَ امتلاكها من قبل المستعمرين.
هذا ليس مجرد تاريخ قديم، إذ ما زال أثر أنماط التفكير والسلوك القديمة وعلاقات القوة مستمرًا حتى الآن. ولذلك رفع السكان الأصليون دعوى قضائية، وحكمت المحكمة العليا الأسترالية في عام 1992 بأن عقيدة «الأرض التي لا يملكها أحد» لم تطبّق قانونيًا في حينها.
تُحدِّدُ كلماتُنا ونظراتُنا، والافتراضات المرتبطة بها، طريقةَ تعاملنا مع العالم من حولنا. وسوف نوضح ذلك من خلال البحث الذي قامت به مختصة البيئة الاستوائية سوزان سيمارد. فقد عايشت مدى صعوبة تغيير الأفكار المتحجّرة في مجال زراعة الغابات. ولا عجب أنها بعد عقود طويلة من البحوث الرائدة، شرعت تترافع بحماسة من أجل استبدال علومنا المختزلة بتفكير نُظُمي معقد.
التفكير النُظُمي هو العلم الذي ينطلق من المعطى الأساسي أن كل شيء مرتبط بكل شيء ويؤثر به. إحدى مُؤسِّسات هذا العلم هي الأميركية دونيلا ميدوز التي شاركت في كتابة تقرير حدود النمو الموجه إلى منظمة نادي روما، والذي اقتبسنا منه في مستهل هذا الكُتيّب. هذا التقرير هو أول محاولة لتطبيق التفكير النُظُمي في تحليل أكبر الظواهر العالمية من خلال ارتباطها ببعضها، كازدياد عدد سكان العالم والتصنيع واستنزاف الموارد الطبيعية.
ولكن الشيء الذي يهمنا في هذا الصدد هو الرؤية المثيرة التي طرحتها ميدوز في مقالة تسترجع فيها ما تعلمته بنفسها أثناء رحلة عملها الطويلة.Meadows, 1999. من المؤسف أنه حين نريد أن نُحدِث تغييرًا في نظام ما – في حالتنا تنظيم المجتمع على أساس أخلاقيات العناية –، غالبًا ما ننظر إلى أمور تحظى بأقل قدر من أثر الرافعة: البحث عن دعم مالي على سبيل المثال. كأن نحاول أن نحدّ من ساعات عمل الموظفين من خلال الضخ المالي الذي لن يساهم في التغيير إلا بشكل طفيف. ذلك أن المنظومة ذاتها ستبقى قائمة. إعادة التصميم ستترك أثرًا أكبر، كتقصير يوم العمل للجميع على سبيل المثال. ولكن أثر الرافعة الأكبر يكمن في تغيير الأفكار أو البارادايم السائد في المجتمع.
وقد نجحت ميدوز في وصف هذه العملية الأساسية: «نحن لا نتكلم عن الأشياء التي نراها، بل نرى الأشياء التي نتكلم عنها». من يعتقد أن الطبيعة والمجتمع يتطوران على أساس المنافسة، فسوف يجد أمثلة عن ذلك. ولكن حالما نجري حديثًا من نوع آخر، سوف يتضح أن المبادئ الإيجابية موجودة في كل مكان. على سبيل المثال في قطاع زراعة الغابات: هل نتكلم عن الغابة كمجموعة من الأشجار (تتنافس مع بعضها بعضًا) أم كبيئة حيوية معقدة وثرية وهشّة؟
2.3 حين نرى الأشجار فقط، ونعمى عن الغابة
كابنة لعائلة تشتغل في قطع الأشجار، كانت سوزان سيمارد تعتبر الأمر في غاية البداهة: الإنسان يحتاج إلى الحطب، فيجلبه من الغابة. كان جدها وأعمامها يمتلكون خبرة وافية: كانوا يُحمِّلون أحصنتهم كمية محدودة من الأشجار المقطوعة كي تبقى الغابة «كما هي»، ويبيعون الأشجار كي يكسبوا قوت يومهم. ولكن حين صارت يافعة، رأت بأم عينها كيف راحت شركات جشعة تَحلُقُ الغابة على الصفر، أي تقطع جميع الأشجار، وتزرع على هذه الصحراء أشجارًا جديدة من نوع واحد. ولم يكن هذا كل شيء: فحين وجدت عملًا في شركة أخشاب تجارية، اكتشفت أن «العمل الصحيح» يقتضي رشّ مبيدات مونسانتو لقتل الأعشاب الضارة، ومعها جميع أشكال الحياة، قبل الشروع بزراعة أشجار جديدة. كانت الفكرة أن الأشجار والنباتات الأخرى سوف تتطفل على كمية الضوء والتربة الخصبة إن تُرِكَت بحالها. هذا هو المنظور الرأسمالي لما سمّاه داروين البقاء للأصلح: يعتمد الارتقاء على مبدأ المنافسة والصراع. وسرعان ما لاحظت سيمارد أن خطأً يكمن في هذا المنطق، ذلك أن عددًا كبيرًا من الأشجار الصنوبرية المزروعة حديثًا مات بعد اقتطاع أشجار القَضبان والحَور القريبة منها. هذا يعني أن حال الأشجار الجديدة لم يتحسّن، بل تراجع، رغم الضوء الوافر والمساحة المريحة التي حصلت عليها.
وبعد حصولها على الدكتوراه في علم الأحياء، وتقديمها لبحث حول تحسين نمو الأشجار، بدأت سيمارد بدعم رؤيتها المغايرة إلى الغابات بأسلوب علمي مبني على التعاون. وسرعان ما ستكتشف أن رؤيتها تتفق مع السرديات القديمة ومعرفة الشعوب المحلية. بحثت سيمارد ووجدت الجواب في بطن الأرض، حيث تشكل الأشجار والفطريات علاقات تعاونية تحت-أرضية فيما بينها، كالميكورهيز، أي شبكات من خيوط العفن التي يبلغ طولها بضعة الكيلومترات. تتغلغل الفطريات في جذور الأشجار، وكمقابل لهذه العلاقة تحصل الفطريات على سكريات تصنعها الأشجار في أوراقها الخضراء من خلال عملية التركيب الضوئي. وقد بحثت سيمارد في عدة أمور، من بينها التفاعل بين الصنوبريات وأشجار القَضبان، واكتشفت أن هذين النوعين لا يتنافسا، بل يتبادلان الكربون والنيتروجين والسكريات فيما بينهما. وقد روت هذه العالِمة أنها ما عدا دعم المشرف على بحثها، لم تتلقَ أيّ دعم من زملائها الباحثين الذين كانوا ذكورًا في أغلبيتهم. أما تُجّار الخشب، فقد اعتبروا اهتمامها بالتفاعل بين الأشجار، بدلًا من التركيز على النمو والمحصول والربح، أمرًا يخصّ البنات. وبعد عقود من المعارضة، استطاعت سيمارد أن تحصل على اعتراف واسع بتخصصها: هي الآن بروفيسورة في علوم بيئة الغابات في جامعة كولومبيا البريطانية.
غير أن أولى إصداراتها في المجلات المرموقة (مجلة نيتشر) مضى عليها زمن طويل. ففي مقالة صدرت في 1997، لَخَّصت سيمارد رؤيتها المغايرة حول وظائف الغابات: «ليس صحيحًا أن النباتات تتنافس فيما بينها بالدرجة الأولى، بل تشكل علاقات تعاونية وتتقاسم المواد الأولية عبر مجموعة الفطريات والجراثيم». وقد أثبتت من خلال بحثها كثيرًا من أشكال التعاون في تربة الغابات. فالأشجار القديمة ذات الجذور العميقة تسحب الماء عبر جذورها إلى الأعلى، لتتقاسمها بعد ذلك مع الأشجار اليافعة التي ما زالت غير قادرة على تزويد نفسها بنفسها. كذلك الهرمونات ومؤشرات الكوارث – كأن يكون ثمة حشرات شرِهة نشِطة – تنتقل عبر شبكة الميكورهيز من شجرة إلى شجرة. ليس عبثًا أن تستخدم الباحثة مصطلح «الشجرة الأم»: الأشجار القديمة في الغابة تعتني بالشجيرات الناشئة. وهكذا لا تحصل الأشجار الحفيدة فقط على الدعم اللازم، بل كذلك الأشجار الأخرى، كما لو أن النسل الجديد ينتعش في بيئة معقدة يشترك بها مع الأشجار المحيطة بها.
تتحدى سيمارد من خلال بحثها المنظومة الفكرية للعلم الحديث الذي يستند على رؤية إلى العالم تمّ تطويرها في القرن السابع عشر. وتنطلق تلك الرؤية من الأفراد، بما هم ذرات منفصلة، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا أولئك النشيطين اقتصاديًا الذين تكلم آدم سميث عنهم حين شرح عن اليد غير المرئية (حيث أن المجتمع لن يزدهر إلا من خلال الأفراد الأنانيين الذين يتنافسون فيما بينهم في السوق الحرة)، أو أولئك المواطنين الذين «يتعاملون مع بعضهم بعضًا كالذئاب» حسب الفيلسوف السياسي توماس هوبز. انطلاقًا من تلك المنظومة الفكرية، شرع علماء الأحياء اعتبارًا من داروين يقدمون أبحاثًا تعتمد منظور النوع الواحد. وتحوّل التركيز إلى بقاء الأصلح، وبعد ذلك إلى «الجينات الأنانية». تقول سيمارد إن هذا التركيز يُصيبنا بالعمى: «تعلّمتُ في الجامعة أن أُقسِّمَ النظام البيئي، وأَختزلَهُ في أجزاء، وأدرس الأشجار والنباتات والتربة بشكل منفصل عن بعضها بعضًا، بغرض أن أتمكن من النظر إلى الغابة بموضوعية». كانت سيمارد ستنجح كباحثة لو اتّبعت هذا السبيل، إلا أنها سرعان ما أدركت أنه «من شبه المستحيل أن تفلح في نشر دراسة حول التنوع والترابط ضمن النظام البيئي كوحدة متكاملة».Simard, 2021. ولكن بفضل عنادها نجحت في مشوارها، وصار من المعروف أن التفاعل السحري الذي يحدث تحت الأرض بين جذور النباتات والفطريات والبكتيريا موجودٌ في جميع النظم البيئية تقريبًا.
وهكذا تهشّمت الفكرة السائدة المبنية على التنافس كمبدأ أساسي، ليس فقط في علم الغابات، ولكن في مجالات أخرى من المجتمع. هل نحن متنافسون بالدرجة الأولى في هذه الحياة، أم أننا أشخاص متعاونون؟ وقد تَمكَّنَ الهولنديان ديرك فان دوبن ويوهان هوبيكه أن يجمعا في كتابهما السوبرمتعاون كمًّا مذهلًا من الأبحاث التي تُفضي إلى الاستنتاج المقنع: الإنسان كائن اجتماعي ومتعاون وكريم ومتعاطف. الظروف الاجتماعية هي التي تحدد أيّ الصفات – التعاون أو الأنانية – سوف تسود. الرؤى الجديدة تفنّد الافتراضية المستعصية بأن الطبيعة الإنسانية تطورت كي تكون تنافسية وأنانية، بل يساند الكاتبان فكرة أن التعاون والتضامن مبادئ مهمة وفاعلة لارتقاء الكائنات في الطبيعة والإنسان في المجتمع.
حانَ إذن أن نبني أفكارنا حول الإنسان وعلاقته بالطبيعة ومستقبل المجتمع على تصور أكثر واقعية للإنسان والعالم، وأن ننظر بطريقة مغايرة إلى كينونتنا. طبعًا يمكن أن يكون الإنسان عنصريًا وعدوانيًا – تكفي نظرة عابرة في الجرائد كي نتأكد من ذلك – غير أنه نشأ ككائن اجتماعي أيضًا. وتتعلق هذه الرؤية الجديدة بالتفكير النُظُمي الذي يتجاوز التفكير الاختزالي. وقد اختصرت الفيلسوفة ماريا باوغ دلا بيلاكاسا ذلك في قولها: نحتاج إلى أفكار جديدة لنشفى من «هوس التشريح الدائم للترابطات».Puig de la Bellacasa, 2017, p.33.
2.4 رؤية مغايرة: استقلالية في ترابط
وهكذا نصل إلى الكلمات المفتاحية التي تُعبِّر عن التصوّر الجديد للإنسان: علائقية وترابط وتعاطف وتلازم واعتماد متبادل. ولطالما فضّلَ الرجال الجريئون ذوي الطقوم المُفصَّلة على المقاس – معذرة على الكليشيه –أن ينسوا ذلك، إلا أنه لا يوجد أحد ينمو من دون أن يتلقى الرعاية. كل إنسان يولد عاجزًا ومُعتمِدًا على العناية والحب. هذا ليس نقصًا، وإنما واقع الطبيعة البشرية. نحن ننمو ككائنات اجتماعية في شبكة من العلاقات، ونتشكّل على ما نحن عليه من خلال عدد لا يحصى من التفاعلات. هذه هي إحدى نقاط النقد النسوي المتكررة والتي عبرت عنها الصحفية السويدية كاترين مارسال بجدارة: «من دون رعاية لن ينمو الأطفال، ولن يشفى المرضى… ولن يعيش المُسنّون. من خلال الاعتناء بالآخرين نتعلم ما هو التعاون والعطف والاحترام والانضباط الذاتي والرعاية. هذه مهارات أساسية في الحياة».Marcal, 2015, p. 115.
يريد الإنسان أن يعتني ويُعتنى به، مما يفتح المجال لرؤية إلى المستقبل تتجاوز السائد في العالم من دون الوقوع في السذاجة. لن نتمكن من وضع العناية في مركز اهتمامنا ما لم نُنظّم العالم بطريقة مغايرة. طبعًا لن تختفي المنافسة نهائيًا، لأن المحيط هو الذي يساهم في إقرار السلوك السائد. ولكن افترضوا أن نُنظّم مجتمعنا بحيث لا يطغى الميل إلى المنافسة على الرعاية، بل على العكس: أن نتنافس لتقديم أفضل الرعاية. هكذا تتحول المنافسة إلى قوة إيجابية تساعدنا على تحسين عنايتنا ببعضنا وبكوكبنا.
لحسن الحظ صرنا نعي أن الفردانية الجريئة – «انظروا، أنا لا أحتاج أحدًا» – ليست مفيدة للمجتمع. لذلك كتبت المخرجة المسرحية الهولندية ربيكا ده فيت في 2019 ما يشبه الإعلان عن الاعتماد، حيث نظرت بعين ناقدة إلى الاعتقاد السائد أن الاستقلالية هي أثمن ما يمكن أن نحصل عليه: «أستغربُ أن نُنظّم أنفسنا ضمن بُنى تضطرنا للاعتماد على بعضنا أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك ننجح بالتغطية على احتياجنا للآخر. (….) لماذا نوهم الآخرين يومًا بعد يوم أننا مستقلون؟ حيث أن هذا الوهم لا يُوقعنا في مشاكل وجودية فحسب، مما لا مفرّ منه، بل يبدو أن الوهم ذاته يشرعن كثيرًا من القرارات السياسية في جميع المؤتمرات التي تتناول المناخ».de Wit, 2019.
طبعًا هذا لا يعني أن الاستقلالية – صيرورة الشخص الناقد والقادر على التفكير والاختيار – ليست أمرًا حسنًا، وإلا لما استطاعت أن تكتب ده فيت مقالتها أصلًا. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نستخدم هذه الاستقلالية؟ ومن اللافت أن أوائل المفكرين البيئيين استوعبوا الاستقلالية على أنها فعلٌ جماعي: المشاركة ببهجة في بناء المجتمع. وبغية فهم الاستقلالية على هذا المنوال، فقد استخدم المفكرون البيئيون المعاصرون مقولة «استقلالية في ترابط»Holemans, 2016 and 2020. التي تتلاءم مع مفهوم الحرية الذي أشارت إليه ده فيت: نتوهم حين نعتقد أن حريتنا تتشكل جرّاء رغباتنا محض الشخصية التي نشعر بها الآن وهنا. كيف نرغب بالطعام الصحي في حال جميع دكاكين الحي تبيع الوجبات السريعة، وكيف نبني مستقبلنا في البلد الذي نعيش فيه دون أن نمتلك الأوراق اللازمة؟ يكمن التناقض في أن الحرية لا تتعلق بأمور تعود إلينا بالدرجة الأولى، بل هي مرتبطة بسؤال ما إذا كان المجتمع يُقدّم لنا فرص التطور. تقع على السياسة والمجتمع مسؤولية تأمين فرص تنمية قدراتنا بالطريقة التي نختارها. وهذا يتطلب أن تكون ثمة مساحة لإجراء الحوار مع الآخرين، لنكتشف ماذا نريد بالضبط.
تتعارض الـ«استقلالية في ترابط» مع وهم الأفراد بأنهم لا يحتاجون شيئًا أو أحدًا. يتطلب التحرر درجة من التعاون والمطالبة بفُرَصِ تنمية القدرات. لا ينسحب هذا فقط على عمّال القرن التاسع عشر في منطقتنا، بل كذلك اليومَ على كثير من الجماعات المهمّشة في شتى أنحاء العالم. لا تشير الاستقلالية في ترابط إلى بُعد من أبعاد العناية فحسب، بل إلى ضرورة النضال الاجتماعي أيضًا. إنها قوة التنظيم الذاتية لمواطنين يتحملون مسؤولية بناء مستقبلهم من خلال تأسيس مجموعات المواطنة أو الكومونات. خذوا على سبيل المثال أولئك الذين يريدون أن يشتغلوا على إعادة توليد الطاقة من خلال التعاونيات. وبهذه الطريقة لا يُعارض هؤلاء الحكومة بشكل مباشر، ولكنهم يردّون على فشلها في تأمين خدمات تضمن المستقبل.
تعتمد الكومونات على الاعتراف بالشراكة في المصير. نحن مرتبطون بالحياة الأخرى، ومحكومون بالاعتماد المتبادل، ليس فقط بُغية النجاة، وإنما من أجل بناء حياة كريمة. ويقول ييف بيترس، باحثٌ في جامعة لوفن، إننا نتعلم أن نتصرف ككائنات حية على أساس فهم مشترك للعالم، وتنتج عن التعاون مشاعر ارتباط متبادل وواجبات.Peeters, J. in Holemans, 2020. وطبعًا ستختلف الـ«استقلالية في ترابط» حسب السياقات، حيث ستتخذ أشكالًا مختلفة في المجتمعات غير الغربية التي لم تتفاقم فيها الفردانية بعد، وما زالت صلات القُربى قوية فيها.
2.5 إعادة المُعايرة من خلال نظرة حرة إلى العالم
يوضح عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي برونو لاتور مدى تخلف تصوّرنا العصري عن أنفسنا. حيث أن الإنسان يرى العالمَ كخشبة مسرح يعرض عليها حياته. ويرتبط هذا التصوّر بافتراضين. الأول هو أن الطبيعة هي الديكور المتلقي للفعل الإنساني، ديكور لا يتغير إلا في حال أراد الإنسان، ككاتب مسرحي، أن يُغيّرَ شيئًا فيه. والثاني هو أنه حالما يقرر الإنسان، سوف يطيع الديكور من دون أن يؤثر ذلك على ما يجري فوق خشبة المسرح. وكلا الافتراضين خاطئان، فالكوراث البيئية المتزايدة تثبت أن الطبيعة ليست مجرد ديكور متلقٍّ يمكن للإنسان أن يعجنه على هواه. لقد اعتلت الطبيعة خشبة المسرح، وشرعت تشارك في القرارات التي تخصّ مصير المسرحية البشرية. إنها تتمظهر على شكل درجات حرارة مرتفعة أو أمطار شديدة الغزارة في فترة زمنية قصيرة.
يشير لاتور إلى أن الأسلوبين السائدين لدرء الاعتماد المتبادل غير صالحين. يتجلى الأسلوب الأول في البحث عن العالمية، أي مغادرة المكان بهدف احتلال الأمكنة البعيدة. ولكن هذا لا يمكن أن يستمر طالما أن للأرض حجمًا محدودًا. وجرّاء العولمة الاقتصادية، صرنا نستهلك أكثر مما يتحمله كوكب واحد، وفي حال استنفذ أسلوبُ حياتنا الكرةَ الأرضية بأكملها، لن يتبقى مكان آمن نلتجئ إليه. هذا يعني أن الأسلوب الثاني، أي المحلية أو الانكماش، لا يقدم الحلولَ كذلك، لأننا لن نقدر أن نعزل أنفسنا عن العالم المُتغيّر.
ينبغي أن نطوّر جوابًا يأخذ المستقبل بعين الاعتبار، بحيث يتقاطع عاموديًا مع محور العالمية-المحلية، ونتمكّنَ من إعادة المعايرة بنظرة حرّة إلى العالم هذه المرّة. وهكذا يتحول وهمُ أن نكون منفصلين عن الطبيعة ونسود عليها في آن إلى مُعطىً أرضي اسمه الاعتماد المتبادل. ويزوّد لاتور الاتجاه الذي تدعونا إليه البوصلة البيئية برسالة سياسية: «علينا أن نتخلص من سيادة التسويق والتجارة والاقتصاد».
المعطى الأرضي يريدنا أن نرتبط بالأرض، ونعتني بها، وننفتح في الوقت نفسه على العالم. ويتمّ ذلك من خلال الوعي الحاسم بأن الإنسان جزءٌ من النظام الحيوي المعقد المتواجد على القشرة الأرضية وفي الطبقة الرقيقة نسبيًا التي تحيط بالأرض، أي المحيط الحيوي. ويتميز هذا المنظور الأرضي عن المنظور العصري بأنه لا يهتم بالدرجة الأولى بالكوكب ضمن الفضاء، فقد صرنا نعي وجودنا المحفوف بالمخاطر في ذلك المحيط الحيوي الرقيق. يكمن وهمُ الحداثة في أن نعتقد أن التقدمَ مُمكنٌ من خلال تحطيم الديكور، أي إيذاء المحيط الحيوي. وينتمي الاستعمار إلى «التفكير الديكوري» أيضًا، حيث أنه اختزل أجزاءَ من الأرض والبشر الذين يعيشون عليها إلى ديكور نافع، مما تسبب في موت جماعات بشرية وتخلّف كثيرين حتى يومنا هذا.
لا تعني هذه الرؤية أننا وَدَّعنا الحداثة، بل بدأنا بتشكيل حداثة مغايرة تعترف بأخطاء الأولى وتتعلم منها. ونعتز في الوقت ذاته بالأشياء الحسنة التي قدّمها لنا المجتمع الحديث المتجذّر في عصر التنوير: الحرية والوعي الناقد ودولة القانون والتعليم والعلم وأهمية الفرد.
2.6 تَعدُّد النُظم المعرفية
حين نعيدُ معايرة طريقة وجودنا في هذا العالم، وننتقل من مقاربة تراتبية (فوق-تحت) إلى مقاربة ننظر فيها إلى أنفسنا كجزءٍ مترابط مع العالم، سوف يترك ذلك أثرًا على معرفتنا – أفكارنا حول العالم التي نعتبرها حقيقية ومبررة. وكما يُثبت مثال المستعمر الأسترالي، فإن للمنظومة المعرفية آثارٌ بعيدة المدى. حيث أن المجتمع الغربي المعاصر لديه أسباب وجيهة تجعله ممتنًا للمعرفة ومهتمًا باكتسابها. بيد أن المشكلة تكمن في أمرين: الأول هو أن مجتمعنا ينبذ جميع أشكال المعرفة الأخرى، والثاني أنه يركز على النموذج الاختزالي للبحث العلمي. العلم الغربي يختزل المنظومة إلى أجزائها، ويفضّل أن يتمّ كل شيء مخبريًا، ومنفصلًا عن السياق والتفاعلات مع الأجزاء الأخرى في المنظومة.
وقد تقاطع هذان النقدان في عمل سوزان سيمارد. فمن ناحية واجَهتْ صعوبات في إيجاد مساحة لنظرتها البحثية الكلّية والمُوجَّهة إلى الميدان، ومن ناحية أخرى تبعت في بحثها أصداء معارف السكان الأصليين. وقد سبق أن تحدثنا عن تعثّر نشر نتائج بحثها النُظُمي، لأنها لم تتوافق مع تجزئة الواقع كما يحصل عادة في التطبيقات العلمية السائدة. ففي كتابها بحثًا عن الشجرة الأم، تشير سيمارد عن وعي إلى ما قالته طالبتُها سماهيتسك راين، المنتمية إلى جماعة تسيمشيان، حول أن نتائج البحث الراهن وتطبيقاته الجديدة في علم الغابة تعكس رؤى السكان الأصليين وممارساتهم. بالنسبة لها كان واضحًا أن «كل شيء مرتبط بكل شيء»، وأن التعاون يجري كذلك تحت الأرض. على سبيل المثال، هناك شعبُ المينوميني الذي يقتطع الأشجار في الغابات منذ مئة وخمسين عامًا بأسلوب مستدام. بالنسبة للمينوميني، فإن الاستدامة تعني «التفكير من خلال المنظومة الكلية، بجميع تفاعلاتها واستجاباتها البينية». أي أن نمتنع عن اقتطاع الأشجار الأقدم، أو الجدّات بتعبير سيمارد، وقتئذ ستحافظ الغابات على مستوى إنتاجها.see Jabr F., “The Social Life of Forests,” The New York Times Magazines, 2 december 2020 and “The secret Life of Plants”, New Scientist, 26 march 2021.
نحن لا نُمثلِنُ السكان الأصليين حين نعترف أن معظمهم راكموا حكمة بيئية حول العيش بتوافق مع محيط متنوع بيولوجيًا. فالعقل الناقد يترافق مع الانفتاح حيال علائق ورؤى جديدة حول العالم الذي نحن جزء منه.
2.7 الحاجة إلى بنية شعورية جديدة
في كتابه الصمت في العاصفة يشير الفيلسوف البيئي يان ميرتنس إلى أن المشاعر، كالحزن، شبه مُحرّمة في النقاشات البيئية. وتتطابق هذه الملاحظة مع النظرة العامة إلى مجتمع الإنجاز الذي نعيش فيه، حيث جميعنا صانعوّ أنفسنا، وحيث يسود مزاج السعادة ويغدو النجاح الثمرة المنطقية. غير أن الكارثة المناخية توقظ مشاعر الخوف والحزن لدى كثير من الناس. وقد عبّرت غريتا تونبرج عما يدور في أذهان كثير من الشباب حين قالت أثناء المنتدى الاقتصادي العالمي إن «البالغين لا يكفّون عن القول إنهم مسؤولون أن يمنحوا الشبابَ الأملَ، ولكني لا أريد أن يكون لديكم أمل، أريد أن تُصابوا بالهلع، أن تشعروا بالخوف الذي أشعره كل يوم. وبعدئذ أريدكم أن تتصرفوا كما لو أنكم في أزمة، كما لو أن المنزل يحترق، لأنه يحترق».
حين يندلع الحريق في منزلك، فمن الطبيعي أن تصابَ بالحزن والهلع، وسيكون غريبًا أن تشعر بعكس ذلك. وكما قالت تونبرج، فليس حتميًا أبدًا أن تشلّنا تلك الأحاسيس، بل على العكس تمامًا. ويشير مرتنس في هذا الصدد إلى ما قالته الأكاديمية والكاتبة والناشطة البيئية الأميركية جوانا ماسي: «ينبع الألم الذي نشعرُ به من حبنا العميق للعالم، ويعبّر عن ارتباطنا الجوهري به. حالما نقرّ بذلك ونعيد صياغته كعاطفة، سوف نحوز على قوة جديدة نستثمرها في شفاء العالم».
وقد لخصّت معدّة البرامج وموظفة الرعاية النفسية الهولندية إيفانا نوفاك هذا الطرح من خلال الإشارة إلى أن الأنثروبوسين، كحقبة من الفقدان المؤلم، تتطلب بنية شعورية جديدة وأسلوبًا جديدًا لبناء الخبرات، كي نعترف بالأشياء التي نُجازف بها: «يتطلب هذا العصر شجاعة وجرأة على الكلام، وقبولاً بالتشوش، واعترافاً بأننا لا نعرف، وإدراكاً لمدى عمق المأزق الذي وقعنا فيه. نحتاج أن نُغيّر القيَم التي نعتمدها أثناء محادثاتنا، كالتفاؤل والتهوين والإنكار، وأن نخفّف من سرعة المناقشات، ونخلق مساحة للهشاشة، كي نتمكن من الإجابة على الأسئلة التي تقضّ مضاجعنا».In Burgers L., et al., 2020.
تُطالبنا نوفاك علنًا أن نتعلم الحِداد على الخلل البيئي الحاصل، لأن هكذا مشاعر تنطوي على صفات تحويلية. كما تؤكد على أهمية إدراك موقعيتنا، ذلك أن بعض الدموع على فقدان البيئة هي «دموع بيضاء»: الإنسان الأبيض صاحبُ الامتيازات الذي يصاب بالصدمة حين يعي أن فقاعة الرفاهية التي يقطن فيها سوف تتصدع. كما لو أنه لم يكن ثمة عذاب وظلم في العالم، وكما لو أن الامبريالية الاقتصادية الغربية لم تكن السبب. بمقدور الحِداد البيئي، كتطبيق جماعي، أن يشكل هويتنا ويربطنا بالأشخاص والأمور التي نعتبرها مهمة. وتقتبس نوفاك في هذا الصدد من فكر الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر: «يبّين الحِداد الصلة الوثيقة التي تربطنا بعلاقات مع آخرين لا يمكننا أن نروي عنها قط أو نشرحها، (…)، بطرق تتحدى فكرة أننا مستقلون ونملك زمام السيطرة على أنفسنا».Schinkel, p. 183.
ونطالب مع عالم الاجتماع الهولندي فيليم سخينكل بسياسةٍ للحِداد. ذلك أن ذكرى الارتباط الوثيق هي النقيض للطموح الرأسمالي، الذي ينطلق من الفكرة المُتخيَّلة بأن علينا كأفراد أن نتحمل مسؤولية أنفسنا بأنفسنا. يفتح الحِدادُ السبيلَ إلى التموضع بطريقة مغايرة في هذا العالم: الإنسان، ككائن اجتماعي، على تواصل مع كل ما هو حيّ. ومن الضروري أن نعرف ما هي الأشياء التي نجدها «غير قابلة للحِداد». لماذا نتوقف – أو لا نتوقف – عند فقدان البيئة الطبيعية للسكان الأصليين؟ فحين يفضي التصوّر الغربي السائد عن العالم إلى أن يغدو الآخر غير الغربي وغير البشري، عبر أحد أشكال الغيرية القاسي، غير قابل للحِداد، فقد حان الوقت أن نكشف عن هذا الإنكار الثقافي ونتجاوزه. فجميع التراتبيات التي شَرَّحتها فال بلوموود، أي رواية السيّد، تُذكرنا بأن نفكر ونحسّ أننا متشابكون مع كلّ ما هو حيّ.
وبحسب سخينكل، يتجلى تحدي الحداد الجماعي للنظام القائم من خلال تظاهرات (حياة السود مهمّة) على سبيل المثال. ففي الحداد على الأرواح الكثيرة التي فقدناها، تنشأ حركة نقدية تطالب بإلغاء أنظمة القمع العِرقية. كما تكشف حركة (حياة السود مُهمّة) عن القِسمة غير المتساوية للفرص الحياتية، وتضع في مقابلها المعطى الأساسي بأن حياة السود مُهمّة أيضًا.
استراحةالمُطّلع على سيرة سوزان سيمارد وبحوثها، والمُضطلع بالفلسفة البيئية، سرعان ما سيكتشف الشبه بسيرة وفكر ألدو ليبولد، أحد مؤسسي حركة الطبيعة في الولايات المتحدة الأميركية. ففي كتابه الأساسي تقويم مقاطعة رملية (1949) يقول إنه لا يحق لنا أن نختزل الإنسان إلى محتلّ للأرض، بل ينبغي أن نصبح سُكّانًا فيها. نحن مرتبطون بها وبأمس الحاجة إلى أجزائها الأخرى. وبينما بدأت سيمارد مشوراها في شركة عصرية للتجارة في الأخشاب، كان ليبولد حارسَ غابة في بداياته. وقد كانت إحدى مهامه طرد الحيوانات المفترسة لحماية الماشية والصيد البري. وفي يوم من الأيام، وقف وجهًا لوجه مع الذئاب: «كنتُ شابًا وأحب إطلاق النار. وبما أني كنتُ أعتقد أن عددًا أقل من الذئاب يعني عددًا أكبر من الظبيان، فكرتُ أن القضاء على الذئاب يفتح باب الفردوس للصيادين». وقد تمكن ليبولد من قتل إحدى الذئبات فعلًا، ولكن وهج عينيها الخضراوين المنطفئتين ظلّ يلاحقه طيلة حياته. وقد وصف تلك الحادثة في مقالته التفكير كما الجبل التي يشير عنوانها إلى أنه لا يمكن فهم النُظم البيئية – مثلًا نظام اجتماعي-بيئي لمجموعة بشرية تقطن في وادٍ جبلي – إن لم ننتبه إلى التفاعلات البينية المُعقّدة والاعتماد المتبادل. لأنه حالما يختفي الذئاب، سوف تختفي الغابة أيضًا. فالظبيان الذين تخلصوا من عدوّعم الطبيعي سوف يلتهمون الأخضر واليابس. ويلخّص ليبولد جوهر إيطيقا الأرض في مقدمة كتابه: «يعتمد علم البيئة على مفهوم الأرض كمجتمع، ولكننا سنوسّع أخلاقنا حين نحب الأرض أيضًا. ندركُ أن الأرض تمنحنا محصولًا ثقافيًا، ولكننا ننسى ذلك كثيرًا في الآونة الأخيرة».Leopold, 1949, p.xix. |
2.8 العناية كمهمة جماعية
بمن نريد أن نعتني؟ سوف نجد الجوابَ حالما نعترف أننا متواجدون في العلاقات ومن خلالها. والاعتراف بوحدتنا مع الحياة سيضطرنا أن نعتني بتعددية أشكال الحياة ونسعى إلى التضامن النشيط. ويتجاوز ذلك ما نسميه كلاسيكيًا «عناية». خذوا على سبيل المثال الأبوين اللذين يعتنيان بأطفالهما، والأشخاص – نساء في أغلب الأحيان – الذين يهتمون بالغسيل والبول (ويضمنون بذلك ـ«إعادة إنتاج الحياة» من خلال منظور الإنتاج الرأسمالي). يساعد ذلك العملُ غير المرئي عجلةَ الاقتصاد على الدوران، بيد أن العناية أكثرُ من ذلك بكثير. وسيسمح الوصف الصحيح للعناية بإلغاء بعض التقسيمات غير الأصيلة، كالإنتاج وإعادة الإنتاج.
ما زال وصف العناية الذي صاغه جوان تورونتو وبيرنيس فيشر ملهمًا للمفكرين التقدميين بعد أكثر من ثلاثين عامًا: «تشمل العناية كلّ ما نفعله من أجل الحفاظ على ’عالمنا‘ واستمراريته وصيانته، كي نتمكن من العيش فيه بطريقة صحية. ويشمل هذا العالم أجسادنا وشخصنا ومحيطنا، وكل ما نحاول أن نتشابك معه لتشكيل شبكتنا الحياتية المعقدة».Fisher & Toronto, 1990, p.40. ويبيّن هذا الوصف أن العناية تشمل مروحة كبيرة من النشاطات («كل شيء نفعله»)، سواء ما يُعتبر تقليديًا أنه عناية («صيانة الحياة والبيت»)، أو أخلاقيات العناية أو العناية بالحياة الطيبة («العيش على أحسن ما يرام»). وعطفًا على التصوّر العلائقي، يتم التركيز على ترابط الأشياء واعتمادها على بعضها بعضًا في شبكة الحياة.
العناية هي أكثر بكثير من موقف أخلاقي، وأكثر ممّا نقوم به في المجال الخاص أو ننفذه كموظف رعاية مأجور. للعناية ثلاثة أبعاد جوهرية: الشغل العيني على صيانة الحياة – من سيطبخ لك هذا المساء، ومن سيرافق الطفل الصغير أو الإنسان العجوز إلى الفراش؟ –، والمشاركة العاطفية، والالتزام السياسي.Puig de la Bellacasa, 2017.
ليست العناية أمرًا مثاليًا، وقد تجلب السعادة وتكون صعبة في الوقت نفسه، وقد تتطلب مجهودًا هائلًا أو تكون نوعًا من الاستغلال. ويحدث الاستغلال عادة في العالم الذي لا يساوي بين أفراده وما زال يمارِس العنصرية على النساء وأبناء الفئات المهمشة الذين يقدّمون العناية. ولكن حين ننوي التعامل مع العناية بشكل جماعي، فينبغي تشارك العناية وتقاسمها، مما يتطلب نظرة ناقدة إلى اقتصادنا الاستخراجي الذي يستغلّ الطبيعة والبشر. إن أردنا أن نُدافع عن مجتمع العناية، فسوف نحتاج أن نقاوم الظلم ضمن شروط الوجود الحالية دون أن نقبلها. وهكذا تكون أخلاق العناية مسؤولية جماعية، وجوابًا على الإيمان النيوليبرالي بـ«يد سميث غير المرئية»، أو على النداء الذي يدعونا أن نصير جميعًا «بلجيكيين مكافحين». والسبيل إلى ذلك هو وضع العناية في قلب النقاش العام، وفي أساس خياراتنا اليومية. نحن لسنا ذواتًا عاقلة بشكل كامل، ولسنا قادرين أن نقرر مصائرنا بشكل نهائي، ولا أن نتخذ قرارات العناية على أساس مبادئ كونية منفصلة عن كوننا أجسادًا مرتبطة ببعضها. هل سبق أن سمعتم شخصًا يقول: «على أساس نظرية العدل التي صاغها الفيلسوف جون رولز، سوف أعتني بجاري بعد قليل، وأنخرط في منظمة مدنية من أجل التضامن العالمي»؟. إن البشر يفعلون ما يفعلونه انطلاقًا من ترابطهم الجماعي واهتماماهم، وقد بيّنا أثناء مناقشتنا للحِداد أن الناس ينطلقون دائمًا من دوافع ليست واضحة أو مرئية بشكل كامل. وينبغي أن نتوقف عن وضع العمل المبني على إعادة الإنتاج في مكانة أدنى من «العمل الأهم» كإنتاج البضائع وبيعها أو ممارسة السياسة. الأَعذار غير مقبولة، ولا إعفاء لأحدٍ من واجب العناية.
2.9 العناية بعوالم أكثر من بشرية
حين ننطلق من تصوّر علائقي للعالم – أي كوننا جزءًا من كلّ –، فلن نكتفي بالعناية بالإنسان فحسب. ذلك أن تَراجُع التنوع البيولوجي يكشف عن انسداد ذلك الطريق. ومن وحي ما كتبته ماريا باوخ دلابيلاكاسا، ترجمنا تلك الرؤية إلى ما سميناه بالعناية بـ«عوالم أكثر من بشرية»،Ibid. عناية تتماشى بسلاسة مع نظام المعرفة الجديد والبنية الشعورية الجديدة. ويُبيّنُ انتقاؤنا لهذا التعبير أننا ما زلنا ننطلق من البشري من دون أن نختزل كل شيء به، لأنه يبرهن تَعذُّرَ فصل علاقات الرعاية البشرية عن غير البشرية. من يعتني بالطبيعة، فهو يعتني بالإنسان كذلك. هناك صحّة واحدة. وكما برهنت أزمة كوفيد 19، فالإنسان مرتبط بالطبيعة بطريقة لا فكاك منها. ويتطلب الوضع الجديد أن نتخلى عن المركز – أي ألّا نعتبر الإنسان مركز كل شيء دائمًا –، وفي الوقت نفسه أن نهتمّ بمصائر البشر ضمن أوضاعهم المحددة والحرِجة أحيانًا. وكما أسلفنا، هل من المعقول أن نواصل الفصل بين البشري وغير البشري؟ ففي أمعائنا فقط يعيش كيلوغرام من الكائنات المجهرية التي لا يمكننا التخلّي عنها. غير أن تَنازُلنا كبشر عن مركزيتنا، والنظر إلى أنفسنا كجزء من الشبكة الحياتية المتنوعة، لا يعفينا من المسؤولية. بل على العكس، فالكينونة الجديدة والرؤى المترافقة بها، تُجبرنا على التعامل بحرص مع التعقيدات التي لا تنفك تصيبنا بالدهشة وتُبهرنا، كما حصل في قصة سيمارد على سبيل المثال. حين ندرك مدى تعقيد الغابة، سوف نتعامل بحذر أكبر معها، ونطلب من الجميع أن يفعلوا ذلك.
إن تعبير «عوالم أكثر من بشرية» يسمح بتجاوز التفكير الثنائي الكلاسيكي في فلسفة البيئة التي تركز على أسئلة من قبيل: «ما هي الطبيعة وما هي الثقافة؟ هل وحده الإنسان يملك قيمة جوهرية أم أن للطبيعة القيمة ذاتها؟ وهل ثمة طبيعة في حقبة الأنثروبوسين؟». الجواب المتجاوز لتلك التقسيمات في غاية الوضوح: لم يعد ضروريًا أن نعتبر الطبيعة مادة ميتة، حتى ولو تَركت اليدُ البشرية أثرَها على كل شيء فيها. من الأجدر أن نفترض أننا نحيا في ثقافات طبيعية أو نُظُم مجتمع-إيكولوجية. طبعًا ما زالت هناك طبيعة، ولكن كما قال عالم الأنثربولوجيا الفرنسي فيليب ديسكولا: «حتى غابات الأمازون العظيمة تأثّرت عبر آلاف السنين بتدخلات السكان المحليين». الفصل بين الطبيعة والثقافة هو أقلُّ حدّة مما نعتقد، وبخاصة حين ندرك أن الإنسان سيطر على النار منذ مئات آلاف السنين.Descola, 2021. ولكن من ناحية ثانية، لا نجد في المساحات الإسمنتية الجرداء سوى قليل من الطبيعة (كنظام حيوي). ولكي نتجاوز التفكير من خلال الثنائيات، يُستحسن أن نتحدث عن الثقافة والطبيعة كأقصى الطرفين ضمن استمرارية واحدة. وتختلف المجتمعات في تجسيد المفهومين والربط بينهما.
ما يهمّنا هو التحوّل الأنطولوجي – الانزياح في مفهومنا للكينونة – الذي ينطلق من فكرة الترابط البيني، فلا نعتبرُ غيرَ البشري مُجرّد موضوع (الجبل والذئب لدى ليبولد، والشجرة والفطريات لدى سيمارد)، ولا ننظر إلى الإنسان على أنه الذات الوحيدة. لا علاقة لذلك طبعًا برَمنسة الطبيعة أو بمحاولة السيطرة الكاملة عليها. ولكن ما معنى ذلك بالنسبة للحرص على العوالم الأكثر من بشرية؟ تستلهم باوخ ديلابيلاكاسا جوابًا من خلال المبادئ الثلاثة للزراعة المعمرة: العناية بالأرض، والعناية بالأشخاص، ومشاركة الفائض. ويتطلب تطبيق تلك المبادئ جوابًا سياقيًا تتم مناقشته بشكل جماعي. ذلك أن سؤال «بمن نريد أن نعتني؟» لا يهبط من السماء، بل يتموضع ضمن ظروف محددة جدًا. وحين نقدم جوابًا يعتمد على هذا المنظور، فإننا نوسّع تعريفنا للعناية الذي لن يقتصر حينئذ على ما نفعله كي نحيا – نحن – بأحسن حال. بل سيشمل عالمُنا ثقافةَ الطبيعة، أي ذلك الترابط الذي يحافظ على المحيط الحيوي، ويضمن صيانة وتجديد الحياة. كلما أدركنا اعتمادنا المتبادل، سوف نعترف أكثر بضرورة العناية بالعلاقات الأكثر من بشرية.
2.10 ديمقراطية العناية تقود الاقتصاد مجددًا
الأمر واضحٌ بالنسبة لجوان ترونتو: من أجل تحقيق مجتمع العناية، سوف نحتاج إلى ديمقراطية العناية. ذلك أن العناية تتطلب وقتًا ووسائل ليست موزعة بالتساوي على الأفراد في مجتمعاتنا. حين نطمح إلى مجتمع العناية، ونؤكد على المواطنة والقيم (كالمساواة والعدل)، فهذا يعني أن نقاوم علاقات الاستخراج والاستغلال والاضطهاد. وسوف يناقش مجتمع العناية، المبني على النموذج التشاركي، مسألة توزيع المسؤوليات. والسؤال الجوهري هو كيف نوفّق بين المبادئ الديمقراطية من ناحية وواقع علاقات الاعتماد المتبادل من ناحية أخرى، وكيف نتخلّصُ من التراتبيات المتعددة في مجتمعاتنا أثناء توزيع مسؤوليات العناية؟Joan Tronto, citated in Peeters, 2021, p.96 and Tronto, 2017.
تُجنبنا هذه الرؤية المُسيَّسة للعناية السقوطَ في مطبّ أحد أشكال الجوهرانية: أن تقوم النساء بالجزء الأعظم من مهام العناية – بسبب علاقات السلطة غير المتساوية –، لا يعني بالضرورة أن العناية في جوهرها من مهام النساء. حين ننزع السياسة عن مفهوم «العناية»، سوف تنحصر في المجال الخاص، ولن يتغير دور الرجال… مما سيرسّخ المصالح الراهنة بشكل كبير. لا يعني رفضنا للجوهرانية أن ننكرَ دور النساء الراهن والتاريخي في مجال العناية، بل على العكس تمامًا، ذلك أن العناية قد تلعب هنا دورًا استراتيجيًا ومُسيّسًا. وبحسب ترونتو، يحصل ذلك من خلال استخدام العناية كمفهوم سياسي ينطلق من أن جميع الأدوار في المجتمع – أدوار الرجال والنساء على حدٍ سواء – قابلة للتغيير وتشكل جزءًا من النقاش الديمقراطي. ترى ترونتو أن العناية جزء من أي مفهوم يتناول المجتمع الجيد. لا يمكن حصر العناية إذن في المجال الخاص أو كدور يخصّ النساء فقط. وفي قلب النقاش الديمقراطي، ينبثق السؤال حول كيفية توزيع العمل والمسؤوليات على أساس مبادئ العدل والمساواة.
النقطة الجوهرية في النقاش حول مجتمع العناية وديمقراطيته – ولعلها المسألة الأساسية – هي العلاقة بين الديمقراطية والاقتصاد. لا بأس أن ندعم مشروع العناية ضمن النظام الاقتصادي الحالي، لأن ذلك يشكل فرقًا لبعض الناس على المدى القريب، ولكن سرعان ما سنكتشف أننا منشغلون بمكافحة الأعراض فحسب. وكما وثّقت عالمة الاجتماع ساسكيا ساسين في كتابها الانبعاثات (2015)، فقد غدت الرأسمالية المتوحشة، التي تعتمد على تدفق الرأسمال العالمي، قادرةً على نبذِ مزيدٍ من الناس والأرض والطبيعة من المجتمع. كما تحوّلَ القسم الأعظم من القيمة المُنتَجَة إلى مجموعة صغيرة من الأثرياء الذين يقتاتون على الفائدة وأسعار الأسهم والمضاربات. وبينما استمرّ اعتماد الرأسمالية النيوليبرالية على نهب الطبيعة واستغلال الأيادي العاملة في القسم الجنوبي من الكرة الأرضية، انتشرت عندنا الوظائف المؤقتة والعقود الزائفة. كل الأمور مرتبطة ببعضها طبعًا: جراء استيراد البضائع الاستهلاكية الرخيصة – التي أنتجها الأطفال في بنغلادش على سبيل المثال –، صار من الممكن الإبقاء على أجورنا منخفضة. ما المحصلة؟ ذهبت القيمة المضافة المتنامية جرّاء ارتفاع الإنتاج إلى أصحاب الأموال، بينما اضطر العمال المأجورون أن يَقنعوا بالفُتات. وفي السياق ذاته، صار طعمُ تحرير المرأة عبر سوق العمل شديدَ المرارة، إذ لطالما حصل ذلك في ظلّ انهيار دولة الرفاه الذي ضاعف من أهمية القوة الشرائية للحصول على العناية. كذلك لن يكون ترميم دولة الرفاه التي نشأت في القرن العشرين من الخيارات المستقبلية، إذ ثمة حقيقة مؤلمة مفادها أن تمويل الضمان الاجتماعي يعتمد على نموذج يهدم أسس الأرض القابلة للحياة، فضلًا عن استمراره منذ قرون باستنفاذ المجتمعات الأخرى والبيئات في الجنوب العالمي. صار واضحًا الآن ما هي المهمة الأساسية التي ينبغي أخذها على عاتقنا من أجل تحقيق مجتمع العناية: الاشتغال على نموذج اقتصادي جديد.
إن الرأسمالية النيوليبرالية ليست نظامًا اقتصاديًا يرضخ للقرارات الديمقراطية في مجتمعاتنا، بل يحاول تفصيل الديمقراطية على مقاسه، حتى أن مبادئه التسويقية متغلغلة سلفًا في جميع مناحي حياتنا. ويتعلق استقرار الدول الغربية التي لديها ديون كبيرة بالتقييم الذي تمنحه الشركات للأسواق المالية. وكما شرحت الفيلسوفة وعالمة الاجتماع الأميركية نانسي فريزر، فلا يمكن اعتبار الرأسمالية مجرد جزء من مجتمعاتنا. بل على العكس: الرأسمالية تنظم المجتمع، وتحاول فرض نظام اجتماعي مؤسساتي، على أساس عدة تقسيمات، من بينها على سبيل المثال الفصل بين الإنتاج وإعادة الإنتاج (أو العمل المنزلي)، وبين المجتمع والطبيعة غير البشرية. فإذا أردنا أن نأخذ تحليل النسويات البيئيات على محمل الجد، وننطلق من تعريف ترونتو للعناية، فهذا يعني أننا لن نتمكن من الانتقال إلى مجتمع عناية إلا في حال تحوّلَ اقتصادُنا إلى اقتصادِ عناية.
ويتطلب التحوّلُ التغييرَ الجذريَّ لنقاط انطلاق الاقتصاد (وعلم الاقتصاد). وكما أكدّ العديد من النسويات البيئيات والاقتصاديين البيئيين، فإن جوهر الاقتصاد لا يكمن في تلبية احتياجات المستهلكين المُتقلّبة (أو على الأقل أولئك الذين يملكون القوة الشرائية)، بل في تحقيق الحاجة البشرية في السعي نحو العيش الجيد، ضمن الحدود التي يتحملها الكوكب، ومع الأخذ بعين الاعتبار فُرَص الأجيال القادمة في الحياة. وهكذا نعود إلى المعنى الأصلي للاقتصاد، أو الأوكونوميا لدى أرسطو: فنُّ تنظيم أمور المنزل، والعناية بمنزلنا، وبالكوكب الحي الذي اسمه الأرض. وانطلاقًا من هذا المنظور، تصبح المضاربة المستقبلية على أسعار المواد الغذائية ليست استثمارًا عقلانيًا، وإنما عملًا غير أخلاقي ينبغي منعه ديمقراطيًا.
وهنا نصلُ إلى نقطة أساسية ثانية: على الديمقراطية أن تُعيدَ إحكام قبضتها على الاقتصاد. وهذا لا علاقة له بالاقتصاد المخطّط من الأعلى إلى الأسفل، بل عبر سنّ قوانين ديمقراطية تُعنى بالمصلحة العامة. من هذا المنطلق، نقول إنه لمن العار أننا حتى هذه اللحظة لم نُخضِع القطاع المالي، الذي تسبّب في 2008 بأكبر أزمة مالية منذ الحرب العالمية الثانية، لرقابة المؤسسات الديمقراطية. لم يتم الفصل حتى الآن بين بنوك الادّخار وبنوك الاستثمار، كما حصل مثلًا إبّان الركود الاقتصادي الكبير في ثلاثينات القرن العشرين. لا غنى إذن عن التضمين الديمقراطي للاقتصاد (ومن بينه العالم المالي). ولدينا كذلك المعاهدات التجارية غير العادلة التي ترسّخ الدور الدوني للبلدان ذات الدخل المنخفض جدًا في الجنوب العالمي، والتي تعاني في الوقت نفسه من ضغط القروض الهائل. وقبل أن نتكلم عن فرص التنمية المتساوية بين بلدان العالم، من الضروري إعفاء البلدان الفقيرة من تسديد الجزء الأكبر من قروضها.
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه عند مناقشة النقطة الأساسية الثانية هو إلى أي درجة سوف يختلف تركيزنا على الإمكانات الثلاثة الأساسية لتنظيم العمل في المجتمع. في النظام النيوليبرالي تسود فكرة أن السوق هو أنجع أشكال التنظيم، ويوجد شكٌ كبير بالحكومة وخدماتها العامة، كما يتم تجاهل تنظيم المواطنين ضمن الكومونات. وقد أثبتت أزمة كوفيد أن المجتمع والطبيعة سيكونان في خطر حين نفتح المجال الكامل للسوق. ولكنّ الحكومة قادرة على توجيه الاقتصاد. وكذلك المواطنون قادرون على تنظيم أنفسهم بشكل سريع وفعّال، خذوا على سبيل المثال شبكات التضامن المحلية والمدينية التي تستحق الاقتداء بها. دعونا هنا نطرح سؤالَ ما هي أشكال التسويق المختلفة التي سوف نحتاجها في شتى المناحي المجتمعية؟ طبعًا لا مشكلة بالأسواق بحد ذاتها، فهي موجودة في مجتمعاتنا منذ الأزل من دون أن تسيطر على تنظيم المجتمع بشكل كامل. غير أننا تَطوَّرْنا من مجتمع لديه أسواق إلى مجتمع السوق، بحسب تعبير عالم الاجتماع كارل بولاني.Holemans, 2021. لذلك لم نعد نستغرب أن تشتري شركاتٌ مسجلةٌ المراكزَ السكنية المختصة بالرعاية، بهدف تحويلها إلى مشاريع تدرُّ الأموال. هذه الأهداف الربحية تتعارض مع الاستثمار الأقصى في تواجد الموظفين المختصين بتقديم الرعاية. والمنطق ذاته ينسحب طبعًا على قطاع التعليم.
التحدي الأساسي هو الاشتغال على إعادة تضمين الاقتصاد في الديمقراطية. هذه ليست مجرد مسألة نظرية، وإنما قضية راهنة في شتى المجالات. ونجد مثالًا جيدًا عن إعادة التضمين الديمقراطي للاقتصاد في الصراع المجتمعي والسياسي بخصوص سوق السكن في برلين. ففي حال طبّقنا المفهوم الاقتصادي السائد على قطاع السكن، سوف نعتقد أن لعبة العرض والطلب تضمن أن يحصل الجميع على سكن ملائم وبإيجار معقول. غير أن الواقع خير دليل على أن هذا هراء، فالمحفظات الوقائية العالمية وأصحاب المشاريع وشركات الأونلاين يعتبرون المنازل مادة للاستثمار، لا فرق بينها وبين تجارة مساحيق الغسيل. فإذا كان مربحًا أن تبقى المنازل فارغة، أو تُعرَض مقابل مبالغ خيالية، أو تُؤجَّر للسياح فقط، فلن تقصّر الشركات بفعل ذلك. وفي تلك الأثناء تشتد حاجة السكان إلى بيوت سكنية. ومن أجل حلّ تلك المشكلة، قررت قيادة المدينة الأخضر-يسارية أن تجمّد الإيجارات لمدة خمس سنوات. وبما أن ذلك يتعارض مع المُتعارَف عليه، قرر القاضي أن وحده المستوى الفيدرالي مؤهل للبتّ في الموضوع. وفي المرحلة التي تلت ذلك، تمّ جمع ما يكفي من التواقيع من أجل تنظيم استفتاء عام بهدف مصادرة أملاك المجموعات العقارية الكبيرة. لا بد أن الصراع سيكون حاميًا، ولكنه يثبت بشكل ملموس أن عملية مكافحة التسويق في أوجها. وكُلّما ظهرت تلك المشاكل في مدن أخرى – أمستردام مثلًا –، وكُلّما بدأ السكان يحتجون على استعمار البيوت السكنية من قبل اللاعبين في السوق، سوف ينشأ تحالف بين-مديني يملك نفوذًا وتأثيرًا كبيرين.
2.11 اقتصاد يلبي احتياجات الإنسان الحقيقية
لَمِن المثير أن نُدرك تزايد البحوث العلمية حول إمكانات عيش الإنسان بشكل جيد ضمن حدود الكوكب. وبالعكس تثبتُ تلك البحوث كذلك أننا واهمون حين نفكر أن الاقتصاد المدمن على النمو، والمبني على المنافسة، أي عدم المساواة، سوف يحقق ذلك يومًا ما. وتُعيدُ البحوث الحديثة حول «الحياة الجيدة» اكتشاف الإطار النظري الذي صاغه عالم الاقتصاد التشيليّ مانفرد ماكس-نيف في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، بهدف السماح للجماعات المحلية في أميركا اللاتينية بالإمساك بزمام مستقبلها، والانعتاق من الوصفات النيوليبرالية الفاشلة المُوجَّهة من القمة إلى القاعدة. وقد صارت مُقاربته «تطوير المقياس البشري» مُستخدمةً عالميًا في هذه الأيام. إنها ثمرةُ بحثٍ قام به فريق عمل عابر للتخصصات في عدة بلدان في أميركا اللاتينية. والأهم في نظريته هو الفرق بين الاحتياجات بحد ذاتها، وبين أسلوب تلبيتها من قبل المزوّدين. وقد يكون المزوّدون عبارة عن بُنى سياسية، أو تطبيقات وأشكال تنظيم اجتماعية. حيث توصّلَ البحث واسعُ النطاق إلى أننا نملك، من حيث المبدأ، تسعة احتياجات بشرية أساسية: صيانة الحياة (الصحة، الغذاء، المأوى، الملبس)، والحماية (العناية، التضامن، العمل)، والعاطفة (الإحساس بالقيمة، الحب، العناية، التضامن)، والفهم (الدراسة، التعلم، التحليل)، والمشاركة (المسؤولية، الاندماج، تقاسم الحقوق والواجبات)، وأوقات الفراغ (الفضول، الخيال، اللعب، الاسترخاء، المرح)، والإبداع (الخيال، العمل، الفضول)، والهوية (الانتماء، الاختلاف، الإحساس بالقيمة)، والحرية (الاستقلالية، تقرير المصير، المساواة). وفي حين أن الاحتياجات الأساسية كونية، إلا أن اختيار المُزوِّدين يتحدد ثقافيًا. هذه الرؤية الكُلّية تُبين أن ثمة بدائل للأساليب السائدة التي تعتمد على السوق في تلبية الاحتياجات.Max-Neef, 1991.
من المهم أن نرى كيف تتماشى منطلقات ماكس-نيف مع الرؤى الأساسية في النسوية البيئية:
1-لا يختص الاقتصاد بالأشياء أو بالناتج القومي الإجمالي، بل بالبشر والإمكانات التي يملكونها لتلبية احتياجاتهم الأساسية. لن نتقدم أبدًا إن لم نضع معايير جديدة للنجاح الاقتصادي المبني على الرفاه.
2- يختص الاقتصاد باحتياجات البشر الحيوية، واحتياجاتهم الأساسية المحدودة من ناحية الكمية، ولا يختص الاقتصاد بتفضيلات المستهلكين التي لا يمكن إشباعها. وسنبقى ندور في الفراغ إن لم نعترف كذلك أن الرعاية والعمل المنزلي يُشكلان حجر الأساس لكل نظام اقتصادي.
3-ويتوافق الاقتصاد مع التفكير النُظُمي الذي يؤكد على أن البشر كائنات علائقية تتفاعل بشكل متواصل مع عوالمهم الأكثر من بشرية. وعلى نقيض الإنسان الجبّار كمستهلك، تنطلق هذه الرؤية من الاعتماد الجذري المتبادل بين البشر والشبكة الحياتية التي يشكلون جزءًا منها.
وطبعًا يبقى السؤال الأهم: كيف نطبّق ذلك عمليًا في مجتمعاتنا الحالية المُعقَّدة؟ من أجل ذلك، تمّ مؤخرًا تطوير رؤى وثيقة الصلة بالموضوع من قبل علماء كَـ جيسن هيكل، وجيورجيس كاليس، وكيت راورث، وجوليا ستاينبرغر. ذلك أن الانزياح المفاهيمي الضروري، المترافق بإمكانات كبيرة للتطبيق عمليًا، هو انزياح بؤرة التركيز من إشباع التفضيلات المتقلبة ضمن اقتصاد مدمن على النمو إلى تلبية الاحتياجات البشرية من خلال ما يُسمّى بالنُظُم الإمدادية ضمن حدود الكوكب. ويتماشى ذلك الانزياح مع الاقتراحات الحالية التي تقدمها النسوية البيئية: «حين نعرّف الاقتصاد على أنه دراسة الخدمات الاجتماعية، فإننا نؤكد على أن النشاط الاقتصادي يتضمن في جوهره الأساليبَ التي ينظم البشر أنفسهم من خلالها بهدف كسب لقمة العيش. (…) ليس ضروريًا أن تمرّ الخدمات الاجتماعية عبر السوق، لأنه لا داعٍ أن يتم تقديمها لأسباب أنانية أو بغرض تحقيق مصالح معينة، حتى ولو كان ذلك لا يتعارض مع الخدمات الاجتماعية ذاتها».Power, 2004, in Peeters, 2021, p.91-105.
مثال ملموس؟ لدينا المشروع الكبير الذي تديره البروفيسورة جوليا ستاينبرغر تحت عنوان العيش الجيد ضمن حدود، والذي يبحث في أشكال الخدمات الاجتماع-إيكولوجية التي تسمح لجميع البشر أن يعيشوا حياة كريمة ضمن حدود كوكب الأرض.Vogel et al., 2021. وقد أفضى التحليل الإحصائي للكم الهائل من البيانات إلى نتائج واضحة: هناك أشكال خدماتية تساهم إيجابيًا بصورة شبه دائمة، وهناك عوامل أخرى مؤذية ضمن العديد من الظروف. وتُعتبر الأشكال الخدماتية التالية إيجابية بالعموم: نوعية الخدمات العمومية، ونوعية الديمقراطية، والمساواة في الدخل، وتَوفُّرُ الكهرباء والرعاية الصحية. وبالعكس ظهر أن الاستخراج والنمو الاقتصادي من الأشكال الخدماتية المؤذية. ومن التغييرات المهمة والملموسة في الأشكال الخدماتية التي بدأت تنتشر منذ الآن: النظام الغذائي النباتي، الانتقال إلى أساليب بناء ذكية، وتحسين عزل المباني، والتحول من نظام تنقّل فردي إلى نظام تنقّل جماعي ومُستدام. خذوا على سبيل المثال، ميل المدن الكبيرة إلى منع السيارات لصالح المواصلات العامة والدراجات الهوائية والمُشاة.
تتوافق هذه الرؤى مع البحث الذي قام به عالم الأنثربولوجيا الاقتصادية جيسن هيكل، والذي أثبت فيه أن نوعية الحياة الطيبة، اعتبارًا من مستوى دخل معين غير مرتفع، تتعلق بخدمات جيدة في قطاع الصحة والتعليم، كما تتعلق بمستوى منخفض من اللامساواة. وعلى عكس الخطاب السائد، فإن التخلي عن الطموح إلى النمو الاقتصادي بعد الوصول إلى درجة معينة من الرفاه من الأمور الضرورية إيكولوجيًا والمرغوبة اجتماعيًا.
ويُحلِّل هيكل في كتابه الأقل هو الأكثر اعتقادَ كثيرٍ من علماء الاقتصاد وصانعي السياسات بأن نمو الناتج القومي الإجمالي ضروري للازدهار، ويتوصَّلُ إلى أن العلاقة بين النمو والتقدم البشري ليست بتلك البداهة. إذ بعد نقطة معينة يصبح نمو الناتج القومي الإجمالي ليس ضروريًا لتحسين معدل الرفاه. وينسحب هذا أيضًا على التطور التاريخي للبلدان الغربية، التي لطالما حسِبت أن ارتفاع متوسط العمر المتوقع سببه الرئيسي هو ارتفاع الناتج القومي الإجمالي ومتوسط الدخل. ومن أجل الحفاظ على ذلك التقدم كان يجب على الاقتصاد أن يواصل نموه. غير أن البحوث الحديثة راحت تُشكِّكُ بهذا الربط بين النمو والتقدم، إلى درجة أن علماء التاريخ اتّفقوا على أن متوسط العمر المتوقع بدأ بالارتفاع اعتبارًا من القرن التاسع عشر، ليس نتيجة النمو الاقتصادي بحد ذاته، وإنما نتيجة ماء الشرب النظيف وخدمات الصرف الصحي. وينبغي عدم تقزيم الدور الذي لعبته الحركات الاجتماعية: «لم تتسبب هذه الحركات الاجتماعية بتطوير خدمات الصرف الصحي فحسب، بل كذلك بتحسين الرعاية الصحية العامة، وبرنامج اللقاحات للجميع، والتعليم العمومي، والسكن الاجتماعي، ورفع الأجور، وضمان أمان ظروف العمل. وقد توصّلَ عالم التاريخ سيمون سزريتر إلى أن الخدمات العمومية كان لها أثر إيجابي كبير على الصحة العامة، فارتفع متوسط العمر المتوقع بسرعة كبيرة في القرن العشرين».Hickel, 2021, p.154-155.
وقد حصلت الظاهرة ذاتها في الولايات المتحدة الأميركية. فبعد تصفية المياه بين 1900 و1936، تراجعت نسبة وفيّات الأطفال بـ 75%، ونسبة الوفيات العامة بـ50%.Ibid. وتأتي الرعاية الصحية بالمرتبة الثانية من بين أهم أسباب ارتفاع متوسط العمر المُتوقَّع. كذلك انتشار التعليم يلعب دورًا مهمًا. ومن أجل تلبية تلك الاحتياجات الأساسية، نحتاج إلى النمو الاقتصادي في البلدان التي ما زالت تفتقر إلى البضائع العمومية الكونية. ولكن بعد تجاوز حدٍ معين، لن يكون النمو الاقتصادي ضروريًا لرفع مستوى الرفاه: «مع مرور الوقت، تتزايد الأدلة على أنه يمكن رفع مستوى التطور البشري من دون أن يترافق ذلك بارتفاع الناتج القومي الإجمالي».Hickel 2021, 158.
ويتفق هيكل مع ماكس-نيف: ما عدا النمو الاقتصادي اللامتناهي، توجد طرق كثيرة لرفع مستوى الرفاه العام. فحين تتواجد الخدمات الأساسية، سوف يكون هناك مجال للتركيز على التعاون والعيش المشترك والاجتماع. ويشير هيكل إلى بحث قامت به جامعة ستانفورد الطبية يثبتُ أنه علاوة على الخدمات المذكورة آنفًا، فإن الأشخاص الذين تتوفر لديهم شبكة اجتماعية قوية (عائلة، أصدقاء، جيران) يعيشون حياة طويلة.Ibid., p.162.
تَسمح نتائج تلك البحوث برسم الخطوط العريضة للبرنامج السياسي الذي يطمح إلى التحوّل إلى مجتمعِ عناية واقتصادِ عناية. ذلك أن تَوفُّرَ خدمات سياسية كافية ورفيعة المستوى لا يقل أهمية عن تحقيق درجة عالية من التساوي في الأجور، ومستوى منخفض من الاستخراج. لا بد أن يُركِّزَ الاقتصاد، الذي يحاول التخلص من الاستغلال والاستخراج، على الاحتياجات الأساسية المتناهية. لا يحتاج المرء إلى ثلاثة منازل كي يلبي حاجته إلى السكن، ولعل أكثر ما يمنح الرضا هو السكن في المساحة الصغيرة التي تقدمها مشاريع السكن المشترك الغنية اجتماعيًا.
بمعنى آخر، أن نختار اقتصاد الاكتفاء كجواب إيجابي على قاعدة «نريد الأكثر والأسرع دائمًا». حيث يضمن هذا الجواب جودة العمل والحياة وحق الاختيار. ويتوافق هذا مع التعريف المعروف للاستدامة الذي صاغه برونتلاند. ورغم أن الجزء الأول من تعريفه قد تحوّلَ إلى مفهوم فارغ «الاستدامة هي تطور يلبي احتياجات الجيل الحالي»، إلا أن جوهر القول يكمن في الجزء الثاني منه «دون المجازفة باحتياجات الأجيال القادمة». أي أن ثمة شرطين أساسيين: أن نولي الأولوية القصوى لاحتياجات فقراء العالم، وأن نعترف أن الوضع الراهن للتقنيات والتنظيم الاجتماعي يتطلب وضع حدود لـ(إفراط) استخدام الطبيعة. حين نعترف بتلك الحدود – والأزمةُ المناخيةُ تضعُنا يوميًا وجهًا لوجه مع الحقائق –، فلن يتبقى أمامنا سوى تبنّي اقتصاد الاكتفاء.
2.12 نزع الاستعمار عن الاقتصاد
يتوافق ذلك الفهم الموجَّه إلى المستقبل مع الحاجة إلى نزع الاستعمار عن الاقتصاد. إذ لا يصحّ أبدًا أن تُلبَّى احتياجات جماعة معينة على حساب جماعة أخرى. ومَن يمارس الأخذ من مكان معين (الاقتصاد الاستخراجي مثلًا)، فهو يؤثر سلبًا على فرص الحياة في تلك البيئة. وكما يقول الفيلسوف أشيل مبيمبي: «لقد اعتقدنا على مدى قرون أن الحضارة هي الحضارة الصناعية»، مما يعني مباشرة أن الحضارات الأخرى هي أقلّ قيمة.Mbembe, 2017. ومن منظور بلوموود، يشكل هذا أحد الأمثلة الكثيرة المؤلمة على الفصل بين الذات والآخر، وهو أمر يختلف عن تدني القيمة. ويربط مبيمبي في هذا السياق بين عبودية المَزارع الضخمة والاستغلال المفرط للأراضي الزراعية والأشكال الراهنة لنهب الأرض والمواد الخام. وأكثر ما يوجع هو انتزاع الأراضي الذي يعتمد المبدأ ذاته الذي استخدمه البريطانيون أثناء استعمار أستراليا: عدم الاعتراف بتقاليد الاستخدام والملكية الأخرى رغم تواجدها منذ قرون. إن النظام الاقتصادي لكلِ من المَزارع الضخمة والاستخراج يملك البنية الأساسية ذاتها: «إنكار الترابط بين الإنسان ومحيطه، وأن حق الوجود ملكٌ لجميع أشكال الحياة».Mbembe, citated in De Walsche, 2021, p.65-74. See also Mbembe, 2016 and https://www.uantwerpen.be/en/centres/usos/webinars-masterclasses/debating-development/edition-2020–decolo/mbembe وتؤكد ألما دو فالش أن جوابَ مبيمي يكمن في اقتصاد الاكتفاء والعمل على تحقيق العدالة التعويضية المرتبطة بأخلاق العناية. وقد أثبت الواقع أن مجال التعويضات لم يحقق تقدمًا يُذكر حتى الآن، فمثلًا لم يحصل أبدًا أن تمّ تعويض استغلال البشر كعبيد. بل حصل العكس، كما في هاييتي على سبيل المثال. ففرنسا لم تُعوِّض هاييتي الضرر الذي تسببت به كمُستعمِر متورط بتجارة العبيد، بل طالبت الحكومة الهاييتية أن تدفع لها، كمقابل لاستقلالها، تعويضًا كبيرًا جراء الضرر الذي لحق بالدولة الفرنسية والمستعمِرين أثناء الثورة الهاييتية. لم يكن أمام هايتي كثيرٌ من الخيارات، فقبلت بالشرط، غير أنها لم تتمكن من الدفع إلا بعد اقتراض أموال من البنوك الفرنسية والأميركية. مما جعل هاييتي تحتاج في عام 1915 (أي 111 عامًا بعد استقلالها) إلى 80% من رصيدها لتسديد تلك البنوك. واستمرت التسديدات حتى 1947 حين أفلس البلد افتراضيًا. وتكمن المأساة في أن أول دولة سوداء حصلت على استقلالها، ما زالت حتى الآن مدينة بدفع التعويضات بالاتجاه المعاكس. بعض الحركات تطالب فرنسا الآن بإعادة تلك الأموال.
نَزْعُ الاستعمار يعني الانطلاق من التصوّر الإيكولوجي للإنسان والعالم الذي يخلق صلات جديدة بين الكائنات البشرية وغير البشرية، وأشكال جديدة من العلاقات الاقتصادية التي تهدم الغيرية، وتتجاوز بذلك الفروق على أساس العرق والجندر والقومية. ويتفق مبيمبي مع النسوية البيئية حين يقول: «يجب الخروج من حصار الثنائيات، وخلق هويات جديدة من عديد الأرشيفات التي ورثناها». وكما تشير ألما دو فالش، فإن مبيمبي يقصد البحث عن طرائق جديدة في التفكير، وأشكال جديدة من العلاقات مع الكائنات الحية، تعتمد على العطف. «لا يوجد عالم من دون التبادلية»، هكذا كتب في خاتمة كتابه نقد العقل الأسود. بمعنى آخر، العمل على التضامن العابر للمحلية، وعدم الوقوف في وجه خلق الشروط المناسبة لتحرير الناس في جميع أنحاء العالم.
وينطلق اقتصاد الاكتفاء من فكرة «النصيب المتساوي من الأرض للجميع»، أي تقسيم عادل لثروات الأرض ضمن حدود الكوكب، وكذلك توزيع عادل للغازات الدفيئة. هذا لا يعني التوقف عن استخدام الطاقة الأحفورية فحسب، بل نزع الطابع المادي عن الاقتصاد إلى حدٍ كبير. ويتوافق هذا مع ما وصفته كيت راورث بـ«مساحة العمل الآمنة»، أي منطقة الحرية للجميع: ضمانُ الحقوق الاجتماعية الأساسية مع البقاء ضمن حدود الأنظمة الطبيعية التي تحافظ على الحياة. ويُعتبَر اقتصادُ الاكتفاء توأمَ التفكير الفعّال. جميل أن تكون الأدوات المنزلية اقتصاديةً قدر الإمكان، ولكن لِمَ تَكبُّدُ العناء طالما أننا سنحوّل الطاقة التي ادّخرناها إلى بطاقات طيران رخيصة، حيث أن التأثير الارتدادي سيُبطل مفعولَ المكاسب التي أحرزناها.Holemans, 2016. لن نتمكن من وضع حدٍ لكل ذلك، إلا حين نعين «سقوفًا إيكولوجية»، أي الحد الأعلى لكمية الطاقة التي يحق للاقتصاد أن يستخدمها.
وتتطلب العدالة الإيكولوجية إزاء الأجيال الحالية والقادمة أن يُقلّص الأثرياء من استهلاكهم، بهدف تحرير المساحة البيئية لسد احتياجات الجماعات الفقيرة. يكفي رقمٌ واحدٌ لتوضيح أهمية التحدي وضرورته: أغنى عشرة بالمئة من الناس مسؤولون عن ما يقارب نصف الغازات الدفيئة المرتبطة بسلوك الاستهلاك، بينما لا تزيد الانبعاثات التي يسببها الخمسون بالمئة الأفقر في العالم عن عشرة بالمئة.
وتفترض كيت راورث في إحدى ندواتها التي ألقتها مؤخرًا: «في السياق الحالي، جميع البلدان هي بلدان نامية». العيش جيد في البلدان ذات الدخل المرتفع، ولكن الضغط على البيئة ودرجة الاستخراج يتجاوزان حدّ المعقول. أما في البلدان ذات الدخل المنخفض، فلا ضمان لجودة الحياة، بالرغم من أنها لا تتطلب الكثير من الكوكب. وهكذا تواجه جميع البلدان مشروعًا جديدًا، سواء كان البلد غنيًا كالنرويج أو أفقر البلدان كبنغلادش. وفي هذا الصدد، تُطرَح الرؤية التاريخية لما يسمى بـ«القرض الإيكولوجي»، أي ثراء البلدان الصناعية المبني على نهب الثروات الطبيعية في الجنوب، والإفراط في استخدام المساحة البيئية كما هو الحال مع انبعاثات الغازات الدفيئة. هذه حجة جديدة، من بين سلسلة من الحجج، تحضّنا على نزع الاستعمار عن النظام الاقتصادي بشكل حاسم وبأسرع وقت ممكن، ومن بينه تصميم أشكال للتعويضات المالية.
لا يمكن تَصوُّرُ هكذا اقتصاد إلا من منظور ما بعد الرأسمال وما بعد النمو. قد لا نستفيد من إطلاق تسمية معينة على هكذا نظام اقتصادي مستقبلي، بقدر ما سنستفيد من وصف المهمة من خلال التفكير النُظُمي وتعريف عماداتها الممكنة و– ربما الأهم من ذلك – فحص جدارتها. وتكمن مهمة البلدان ذات الأجور المرتفعة في استمرار ضمان نوعية الحياة رغم تقليص حاد للطاقة والمواد اللازمة في الاقتصاد. وعمادات ذلك الاقتصاد هي: تقليص ساعات العمل، والتشارك في البضائع والخدمات (دراجات هوائية وسيارات مشتركة)، وآلات مستدامة وقابلة للصيانة، وخفض أسعار الخدمات العمومية بحيث لا تؤثر القوة الشرائية على المواصلات والرعاية الصحية والتعليم، ونظام ضريبي عادل، وإلى آخره.
ويبين التفكير النُظُمي ضعفَ تأثير السياسات التي تتناول مجالًا واحدًا فقط. تغييرُ المنظومة ليس ممكنًا إلا من خلال إجراءات جذرية في عدة مجالات، إجراءات تُقوّي وتُسرّع بعضها بعضًا. خذوا على سبيل المثال نماذج الإنتاج والاستهلاك، والإطار التشريعي، والنظام الضريبي، وتعزيز المشاركة الديمقراطية.
ويعتمد التفكير النُظُمي على التقاطعية، ليكشف عن أشكال الاستغلال والإقصاء التي تترافق مع بعضها بعضًا، فتصيب جماعات معينة أكثر من غيرها. لذلك يعاني ذوو الأجور المنخفضة من تراجع فرصهم في سوق العمل والسكن، وينسحب ذلك بشكل أكبر على النساء الملونات الفقيرات. من المهم تنفيذ عدة إجراءات تُحوّل التقاطعات إلى تضافرات: كيف نخلق تقاطعات التمكين؟ سوف نقدم بضعة أمثلة: تنظيم حضانة للأطفال أثناء العطل المدرسية من قبل الآباء والأمهات القاطنين في حي معين، وبمساعدة المدارس أو الحكومة التي توفر المرافق لذلك الغرض (هذا شكل من الكومونات التي قد تُحدِثُ فرقًا كبيرًا). وعلى المستوى العالمي، نحتاج إلى فرض ضرائب على الأملاك والمضاربات، بهدف تقليص اللامساواة، وتأسيس الصناديق التي تدعم البلدان الفقيرة وتحميها قدر الإمكان من تأثيرات تَغيير المناخ.
غير أن أخلاق العناية لا تتناول سلوك البشر حيال بعضهم بعضًا أو المجتمع فحسب، بل يمكن ترجمتها إلى واجب العناية المفروض على الشركات. فالقواعد الإرشادية العالمية تحدد سلفًا أن من واجب الشركات بذل قصارى جهدها للحدّ من انتهاكات حقوق الإنسان وتلويث البيئة. غير أن تلك القواعد الإرشادية لا يمكن فرضها، وغالبًا ما تبقى حبرًا على ورق. والبديل هو صياغة واجب العناية ضمن قوانين مُلزمة. وقد قامت المفوضية الأوروبية في 2020 بمبادرة في هذا المجال، ووعدت أن تبحث عن طُرُق لتطبيق واجب العناية على جميع مُورِّديّ الشركات. فكما نعلم، المعادن المستخدمة في صناعة هواتفنا الذكية مرتبطة بعمالة الأطفال وتحطيم الطبيعة في الجنوب العالمي. كما مَثُلت عدة بلدان أمام المحاكم في ما يسمى بقضايا بيئية. وقد أجبر القضاةُ الحكومات أن تُظهِرَ طموحًا بيئيًا أوسع، لأنها تتحمل واجب العناية حيال سكّان البلد، وبخاصة الأطفال.
2.13 تحالف عالمي من أجل عقد مجتمع-إيكولوجي جديد
لا يمكن نجاح سياسة العناية الطامحة إلى التحويل، إلا من خلال ترجمة سياسية شاملة. ينبغي علينا النظر في كيفية استبدال العقد الاجتماعي، الذي تبنته دولة الرفاه الغربية في القرن العشرين – والذي لم يهتم بمسؤوليته حيال العالم بأسره– بعقد مجتمع-إيكولوجي جديد يُعنى بالعوالم الأكثر من بشرية. وقد قدّمَ معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية مقترحًا محددًا يأخذ حدود الكوكب كما حقوق الإنسان بالحسبان. شريطة أن يكون التركيز على السياسات التقاطعية بهدف الوصول إلى الجماعات التي تُعاني من شتى أنواع التخلف في هذا المضمار. ويصبّ العقد المجتمع-إيكولوجي اهتمامه على سبع ثيمات، فيختلف بالنقاط الأساسية التالية عن العقد الاجتماعي القرن-عشريني:
1- حقوق الإنسان للجميع، ومن بينهم الجماعات المهمشة غالبًا.
2- عقد ضريبي تقدمي يخلق وسائل كافية للنشاطات البيئية، ويوزّع الأعباء المالية بالتساوي.
3- تحويل الاقتصادات والمجتمعات، ووعي ضرورة ذلك في إيقاف تدهور المناخ، والحضّ على التضمين والمساواة.
4- عقدٌ مع الطبيعة مبنيٌ على وعينا أن البشر جزء من منظومة بيئية عالمية، مما يتوجب حماية العمليات الإيكولوجية والتنوع البيولوجي.
5- نزع الاستعمار والاستلهام من الإمكانات والقيم الاجتماعية والمعرفة المحلية لسكان الجنوب العالمي، والتخلّص من أشكال الظلم التاريخية.
6- عدالة جندرية للتأكيد على المساواة بين الرجال والنساء، وتقسيم مهام الإنتاج وإعادة الإنتاج بالتساوي بين الجنسين، ومنح جميع الميول الجنسية والهويات الجنسانية احترامًا وحقوقًا متساوية.
7- أشكال جديدة من التضامن من أجل التغيير على أساس مقاربات مُوجَّهة من القاعدة إلى البنى الفوقية، والتوحيد بين الحركات الاجتماعية والتحالفات التقدمية التي تجمع العلماء والسياسيين والنشطاء.
من منظور العناية المرتبط بالتفكير النُظُمي الذي تبنته هذه المقالة، يكون نزع الاستعمار أكثر بكثير من التخلص من أشكال القهر التاريخية. فانطلاقًا من العدالة التحويلية، نطمح إلى تغيير الأُسس التي انبنت أشكال القهر عليها، وإلى تبنّي آليات تسمح بالتعامل مع الصراعات بطريقة لا عنفية.
وبغية تنفيذ هذا العقد المجتمع-إيكولوجي، نحتاج إلى تحالف عالمي بين حركات ومنظمات تناضل في سبيل التحرر، ويتوافق طموحها مع المنظور الذي يعرّف العناية على أنها كل شيء «نقوم به من أجل صيانة عالمنا واستمراريته وجعله أفضل مكان للعيش فيه». أليس مُحفِّزًا أن ننظر في مدى تأثير النقابات، والحركات البيئية والمناخية، والحركات النسائية، ومنظمات حياة السود مهمّة، في حال تحالفت لتشكيل حركات القرن الحادي والعشرين التحررية؟ ولا نقول هنا إن «الوحدة قوة»، وإنما التنوع قوة. ولا بأس أن نُعرب عن امتناننا لكثير من مفكري النسوية البيئية، كَـ فال بلوموود على سبيل المثال، التي عبّرت عن المهمة الكبرى بأسلوب ما زال يلهمنا: «تتواجد أكثر التطورات والتحولات دراماتيكةً على حواف التقاء وانزياح الصفائح التكتونية الكبيرة للنظرية. ففي حال التقت أربع صفائح تكتونية لنظرية التحرير – التي تشتغل على محاور الجنس والعرق والطبقة والطبيعة –، فسوف تتسبب الاهتزازات الناتجة عن ذلك بخضّ الهياكل المفاهيمية للقمع حتى النخاع».
مضى ثلاثون عامًا على هذا التحليل القوي، وحانَ أن تلتقي الصفائح التكتونية في المجتمعات. لم يتحدد مستقبلنا بعد، وما زلنا نمسك بزمام الأمور. وما نفعله اليوم، واعتبارًا من هذه اللحظة، سوف يحدد طريقنا إلى الأمام. هدف هذه المقالة هو النظر إلى العناية الجذرية من خلال عدسة النسوية البيئية التقاطعية، على أمل أن نُلهِمَ لخلق ذلك المستقبل، الذي لا نتكلم فيه فقط عن العناية، بل نمارسها على نطاق واسع.