سرديات توثيقية لانتفاضة آذار 2011

نهضت انتفاضة  آذار (مارس) 2011 في سوريا بالعديد من طرائق التعبير الفني، من فن تشكيلي ومسرحي وسينمائي بمختلف أنواعها وتقنياتها. ذلك أن زخم الصور «المتحركة والثابتة» المتعلقة بالصراع، والتي أنتجها ناشطون وصحفيون ومواطنون عاديون وفنانون من جميع التعبيرات والتخصصات، قد أشبع الفضاء الإعلامي العالمي، الرسميّ منه وغير الرسميّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتدفقت على شبكة الإنترنت صور من مقاطع فيديو قصيرة وصور فوتوغرافية تم التقاطها بواسطة الهواتف الذكية والكاميرات اليدويّة لأعمال فنية: أفلام وثائقية وتجريبية وروائية فردية، أو عبر مجموعات ومبادرات فنية مثل أبو نظارة وبدايات مُوثِّقةً الحرب في سوريا بطرق وأشكال جديدة، وقد برزت على وجه الخصوص صناعة أفلام التحريك.

ظلّ فن التحريك حتى وقت متأخر على هامش الأدبيات والدراسات السينمائية على صعيد عالمي، وبشكل حاد في العالم العربي الذي ما زال يفتقر إلى مناهج تكونيّة خاصة به ومدرجة بشكل فعّال في الجامعات ومدارس الفنون، بتأثير من عدة عوامل مثل الخصوصيات الفنية لفيلم التحريك، إضافةً إلى حقيقة أن عدداً هاماً من الأعمال من أفلام ومسلسلات الكرتون موجهة بامتياز إلى فئة عمرية معينة. ما يمكن ملاحظته حول سينما التحريك في تونس،BEN AYED, M. (2019), Le cinema d’animation en Tunisie. Un cinéma de la marge en contexte autoritaire (1965-1995), L’harmattan, Paris. على سبيل المثال، يكاد ينطبق حول واقع ممارسة هذا الفن في سوريا. حيث يغلب على فناني بداية الألفية الثالثة من خريجي مدارس الفنون البصرية والتشكيلية اعتماد التحريك كواحد من جملة تعبيرات ووسائط عدة لإنجاز أعمالهم الفنية، ويندر التخصص فيه منفرداً. ولربما أن هَجانَةَ هذا الفن ووَصمه بالمُسلّي والطفولي نسبةً إلى جمهوره، وبالتالي موقعه المُهمّش في كثير من الأحيان في العالم الفني والأكاديمي، هي ذاتها العوامل التي سمحت لفيلم الرسوم المتحركة بالتحليق «بحرية» في سياقات سلطوية قمعية تتمّ فيها مراقبة الفنانين والأعمال بالقدر نفسه ليصبحوا هدفاً للاقتصاص من قبل الأنظمة.

من وجهة نظر فنيّة، فإن البعد الواقعي الناجم عن التقاط الصور الحية في الأفلام التسجيلية إلى جانب العناصر السينمائية كالتعليق الصوتي أو العناوين الداخلية التي يُعبّر من خلالها المخرجون عن مواقفهم، قد أسهمت في خلق دلالات انطباعية لدى المشاهد على فورية الصورة وقيمتها كوثيقة وشهادة حية على حقيقة الصراع. بالمقابل، لعلّ ما يجعل أفلام الرسوم المتحركة مثيرًة للاهتمام المعرفيّ في هذا السياق هو أنه لا وجود لأيّ لبس من قبل المُشاهِد إزاء الأبعاد المُصطنعة أو المتخيلة. فالخدعة «بالمعنى البصري» كما يُسميها مارك بيكرمخرج أفلام تحريك بريطاني. والتي يعتبرها فعلاً شائعاً في جميع الأنماط السينمائية، تبدو في الصور المتحركة واضحة وبديهية للمشاهد،لا يمكن للرسومات أو الدمى أن تتحرك أو تمتلك مشاعر، و لكن بطريقة ما و مع  فن التحريك فإنه يمكن للمرء تصديق ذلك، وحقيقةً فمن الواضح أن السينما ككل تمارس نوعا من «الغش» أو الخدعة، لأن كل لقطة سينمائية هي مُعدَّةٌ بالمسبق و كل حوار هو مكتوبٌ و ليس تلقائياً، ومع ذلك فان الذي يميز الرسوم المتحركة عن غيرها هو بَداهة «الخدعة». فَفنُّ التحريك يستمد مفرداته، بما فيها من خطوط وقيم لونيّة وتشكيلات، من فن الرسم مُضمِّناً إيّاها حدود التجريد البصري والسردي. وعلى خلاف الفيلم التسجيلي أو الوثائقي، تنشأ الحركة في الأفلام المتحركة من الفجوات بين الصور الثابتة، عندما يقوم المصمم بتجزئة الحركة إلى مراحل تُرسَم كل منها على صورة ثابتة كما تُرسَم الشخصيات والخلفيات وكل أجزاء الصورة. كما أن الشخصية الكرتونية التي تغادر الشاشة، وعلى عكس السينما «الطبيعية»، فهي تغادرها إلى العدم.

فيلم التحريك السوري كشاهد

من الثورة والحرب في سوريا ومعالجتهما إعلامياً إلى القمع والاضطهاد والتهجير، قضايا طرحها الفنانون السوريون في أفلام التحريك عبر توظيف مفردات تشكيلية وأخرى سينمائية، وعبر استحضار التراث الفني العالمي. تصدّرت معالم لوحات تاريخية مثلاً خلفيات شريط حرب على لوحات شهيرة لأمجد وردة، وتركت رواية 1984 لجورج أورويل صداها في فيلم أكرم الآغا حذاء الجنرال، الذي يمكن النظر إليه كمثال بارز على قدرة فن التحريك على استشفاف الواقع الاجتماعي والسياسي وتقديم نظرة استشرافية للمستقبل. هذا الشريط الذي تمّ إخراجه عام 2008 بتقنية الأبعاد الثلاثية، والذي يتقاطع من حيث بنيته الرقميّة ومن حيث الفكرة والتركيبة السردية مع فيلم تحريك آخر هو كوما للمخرج التونسي المصري علاء الدين أبو طالب المنجز عام 2010 . يروي الفيلمان استباقاً الانتفاضات الشعبية التي ستهزّ تونس ومصر وسوريا في أواخر 2010 ومطلع 2011، فالشريطان بعوالمهما السردية والبصرية المختلفة يرويان قصة شعوب تنتفض ضد مضطهديها. يغلب على فيلم كوما الطابع التعبيري حيث تتراكم فيه الأجساد المسحوقة، ويُذكَّرنا كل منها بشخصية لوحة الصرخة للنرويجي إدوارد مونش. الفيلم أشبه بأحجية بصرية، على المشاهد فكّ شيفرتها بالانتباه إلى الأبعاد الرمزية للون والشكل والحركة. على سبيل المثال، ومع أن شخصية الرجل المستبدّ مرسومة على طريقة الكارتون المتحررة من قيود الرسم الواقعي أو الإيمائي فإن المشاهد يتمكّن بسهولة من التعرف على دلالة و رمزية تلك الشخصية، حيث يهيمن حجمها الضخم على المساحة وتقع في الأعلى بالنسبة لكومة الشخوص الأخرى، وتنبت الإكسسوارات كَكُرة ضوء أعلى رأسها، ويعزز الزيّ بما فيه الحذاءُ من الحضور العسكري، وكلّها عناصر بصريّة تُحيلنا إلى رمزية نظام دكتاتوري بوليسي أو عسكري.فن الهامش وهامش الحرية. نزعة التسيس في فلم التحريك التونسي. أما بالنسبة لتوأمه السوريّ حذاء الجنرال، فيحضر فيه الحذاء العسكري على أنّه الشخصية الرئيسة للفيلم كما يتبين للمشاهد منذ الثواني الأولى عبر شارة البداية، إذ يقتحم حذاءٌ عسكريٌّ الكادر من اليسار إلى اليمين ماحياً اسم أكرم الآغا وآخذاً مكان حرف اللام من كلمة الجنرال في العنوان المكتوب بالإنكليزية. وذلك ما سيتم تكريسه طيلة قرابة ثلاث عشرة دقيقة من الفيلم، و حتى اللقطات الاخيرة. فكلّ الشخوص عبارة عن أحذية برسوم و تصاميم ترمز إلى الانتماءات الطبقية لأصحابها، من عامّة الشعب إلى العسكر إلى القائد الأعظم، كما تُقدِّم لنا الحركة معلومات عن السن والنوع. ولعلّ ما يميز هذا الفيلم على مستوى الصورة أنّ المخرج قد استطاع التعبير عن أعراض الدكتاتورية العسكرية وأبعادها المتعددة على مستوى العلاقات بين الأفراد والفئات الاجتماعية، في غياب لتمثيل الجسد في مشهد تحرش جنسي بين حذاء عسكري وحذاء نسائي على سبيل المثال. يقابل هذا الغياب، أو خيار عدم تقديم أجساد كاملة لشخوص الفيلم، في اللقطات الأخيرة وبعد انتفاضة شعب الأحذية بتمثيل لجسد القائد المدني، ربما في إشارة إلى شبه  قدسية القائد في الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، من تحريم لتجسيده ومناخ الحد من الحريات بالعموم. وهذا التوجه نحو تغييب الجسد نجده في فيلم  بلا سما للفنانين المقيمين في فرنسا بيسان الشريف ومحمد عمران، حيث نستشعر رائحة تَعفُّن الجثث دون وجودها.

تمثيلات الجسد

على الرغم من اختلافات تمثيلات الجسد في أفلام التحريك السورية، من جندرة الجسد في فيلمَي اسمي لام (2014) لسامر العجوري، وسليمى (2014) لجلال الماغوط، إلى الجسد الغائب في فيلم بلا سما (2014) لبيسان الشريف ومحمد عمران، أو الأجساد المشوهة والمتحولة في فيلم الولد والبحر (2016) لسامر عجوري، أو بالتركيبة متعددة الوسائط في فيلم صور متحركة (2018) لسلافة حجازي، فإن جميع هذه الأعمال يعرض أجساداً متألمّة ومُعنَّفة.

يعتمد فيلم بلا سما المُنجَز بتقنية الستوب موشن على جماليات الاختزال والتبسيط. الكاميرا ثابتة على ديكور مُبسَّط لنموذج مدينة من الورق المقوى الأبيض، يتم بناؤها تدريجياً تحت أنظار المتفرّج عبر إضافة وحدات معمارية بالتتالي. اعتمد الفنانان على توظيف عُنصرَي الإضاءة والتأثيرات الصوتية في غياب للتعليق الصوتي من حوار أو روي لتطوير الحبكة السردية. تتغير الإضاءة تدريجيّاً من لمعان قوي في بداية الفيلم، حتى يبدو لون المباني رماديّاً يصحبه إيقاع تدريجي تصاعدي وإضافات تراكميّة للأصوات. تصميم المدينة بصريّاً مُرفَقٌ بدقات قلب منتظمة تستمرّ لبضعة ثوانٍ حيث نبدأ بسماع صوت تسرب المياه متبوعاً بضوضاء المدينة «حركة المرور، وسائل النقل العام للسيارات». مع ظهور أول تدمير للمدينة بالصورة يخفت صوت دقات القلب تدريجياً حتى السكون، ويغطي ضجيج المدينة على كل العناصر الصوتية الاخرى، ومن ثمّ، مع تهديم جزء بأكمله من المباني، يختفي فجأة صوت حركة المرور ليحل مكانه طنين الذباب مصحوباً بصوت تسرُّب المياه في إيقاع تصاعدي حتى إشباع الفضاء الصوتي بشكل خانق. وعلى الرغم من أننا لا نشاهد سوى قطع من الورق المقوى في حالة احتراق وتدمير، فإن الموت يفوح من المكان. وهذا الاختزال هو ما يميز شريط بلا سما، حيث استطاع فيما لا يتجاوز الدقيقتين التعبير عن فظاعة الحرب.

بالمقابل، فإن فيلم سليمى (14 دقيقة) لجلال الماغوط يوظف مفردات تشكيلية لإبراز البعد التوثيقي للفيلم. فهو يُقدِّم نفسه منذ شارة البداية على أنّه فيلم وثائقي: «هذا الفيلم مبنيٌ على أحداث واقعية، تمّ تغيير أسماء الشخصيات حفاظاً على سلامتهم». يروي الفيلم قصة امرأة سوريّة ناشطة ثوريّة في أواخر عقدها الرابع. منذ اللقطة الأولى يحدد المخرج الإطارين الزمانيّ والمكانيّ، حيث تمسح الكاميرا المُفترَضة الفضاء في حركة عمودية من أعلى، لنرى مباني مدينة يختلط فيها طابعان معماريان أحدهما العربي الإسلامي، وتحط بالمشاهد إلى ساحة تجمهر فيها عدد من المحتجين يحملون لافتات كُتب عليها «أوقفوا القتل نريد أن نبني وطناً لكلّ السوريين». تتسارع الأحداث بقدوم سيارة الأمن وتفريق وقمع للمتظاهرين. تتالى اللقطات بإيقاع سريع يرافقها صوتيّاً موسيقى تأثيرية تشويقية ومؤثرات صوتية مطابقة للأحداث المُصوَّرة، من ضوضاء يختلط فيها ضجيج حركة المرور بخطوات أقدام تجري على الإسفلت وصياح الجموع. مع اعتقال بطلة الفيلم في الدقيقة الثانية يدخل إلى الشريط الصوتي صوت الراوية، سليمى، لترجع بذكرياتها إلى صُوَرٍ من منزل الطفولة حيث يبثّ التلفاز صورة لحافظ الأسد، وإلى المدرسة الإعدادية حيث يتم ضربها ومعاقبتها عند هتافها ضدّه، وهذه الذكريات تأتي في إشارة إلى الأحداث في عام 2011. يُضفي أسلوب الرسم الخطي السريع صبغة الواقعية والتسجيليّة على الفيلم، حيث تركَ الرسام آثاراً لخطوط تصميمية منظورية على تصميم الشخصيات وعناصر الديكور، بالإضافة إلى ديناميكية في رسم الخط توحي للمشاهد بالفورية في «التقاط» الصورة والتصوير المباشر للأحداث.

أما فيلم سرّ حبّات المطر  لمخرجته ديما النشاوي، فيتناول موضوع الاختفاء القسري بمنهج استعاري ورمزي من خلال عوالم طفولية من حيث التركيبة السردية والبصرية للفيلم. على الرغم من وجود تشابهات فنيّة وتقنيّة مع فيلم سليمى، إلّا أن القيّم التعبيريّة والضوئيّة خصوصاً في كلّ منهما تؤديّ معانٍ مختلفة. فاستخدامات التصميم الخطي وتنويعات حدته في سليمى تتماهى مع حركة الكاميرا والتركيب السريع المتتابع للقطات قصيرة، وتخلق عامل تشويق وجذب لمتابعة الحدث، بينما في سرّ حبات المطر نلحظ دقةً وصفاءً في الخطوط وهي بمعظمها منحنية ومحيطة بالأشكال ولا تتجاوز مساحة الشكل. يخدم هذا التصميم، إلى جانب العناصر الزخرفية للغرافيزم، البعدَ الشعري الخيالي في الفيلم. فَقصة اختفاء الفتاة لانا التي تسردها البطلة كصوت الحكواتي، تحاكي ببنيتها ومخيالها وشخوصها الخرافات والأساطير الشعبية، وذلك عبر التشخيص البشري للعناصر الطبيعية والحيوانات وشخصية الساحرة، حيث أن الشخصية الرئيسية تلتقي بكل منهم وتتجاوز العقبات للوصول إلى حلّ العقدة. لكن في أواخر الفيلم تقلب ديما النشاوي القواعد البنيوية للخرافة، وتُبرز شخصية الساحرة كشخصية إيجابية تنقذ لانا وكل المفقودين حبيسيّ حبّات المطر الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة.

بالإمكان تتبُّع هذا الأسلوب الشعري والمجازي أيضاً في فيلم الولد والبحر لسامر عجوري. يفتتح الفيلم على رسم لسمكة وأشلاء مدينة، دخان، وأبنية مُهدَّمة، وخراب وذباب. تواصل الكاميرا حركتها الأفقية من أعلى تل لترينا حجم الدمار، ثم تتوقف على يد طفل يرسم السمكة ذاتها. من ثمّ نُشاهد رسومات أخرى للسمكة نفسها، وفي خلفية المشهد زاوية أخرى من المدينة. يتحول أحد رسومات السمكة ليكتسي لوناً وحجماً قبل أن يقفز من سطح الورقة ويحط في ورقة أخرى لتتحول بدورها إلى سطح مائي. يحاكي الولد السمكة ويقفز داخل الورقة ليجد نفسه في أعماق البحر، وبعد حوار صامت بينه وبين الحيوانات البحرية يبدأ الطفل في التحوّل فتنمو له زعانف، ثم تبدأ رحلته السريالية في أعماق المحيط فيصطدم بشاشات تلفاز وأجزاء مرايا مكسورة تعكس كل منها صورته مُشوَّهةً. يحدد المخرج منذ الثواني الأولى الشخصيات الرئيسية وعقدة القصة من خلال عناصر الصورة في غياب للحوار أو التعليق. نستشفّ من القراءة الأولى لهذا الشريط الإشكاليات التي يطرحها، ففيلم الولد والبحر يعالج جانباً آخر من الأزمة السورية، وهو الهجرة القسرية ووضع اللاجئين وخاصة الفنانين منهم في المنفى، فالولد عندما يلقي بنفسه في البحر يفقد قلمه الذي يهوي إلى القاع قبل أن نراه في اللقطات الأخيرة يطفو على سطح البحر ليختفي ثانية، وتحل محله شاشة تلفاز ثم شاشات أخرى تعرض كلها صورة مضطربة ومهتزة للولد. يبدو هنا من خلال هذه الترميزات أن الفيلم يحاكي معاناة اللاجئين وقسوة التعامل الإعلامي مع موضوع الهجرة القسرية وتشويهه لصورة اللاجئين.

إن الأفلام التي ذكرناها، وأمثلة أخرى لم يتّسع لنا ذكرها هنا، وعلى الرغم من الأبعاد السردية أو الشعريّة أو السريالية أو التجريبيّة أو حتى التجريديّة، هي شاهدٌ على الصراع في سوريا وممثل لذاكرته. ولعلّ المفارقة هي أنّ القوة التأثيرية والتعبيرية عن قضايا الواقع عبر فن التحريك تكمن في علاقته المتحررة من قيود الواقعية.