يُستخدم مصطلح القَيّم «كيورتر» اليوم في كافة مجالات الفنون مثل السينما والكتابة والموسيقى وفنون الأداء، ويختصّ هذا النصّ بدور القيّم في مجال الفنون البصرية والتشكيلية.
عادةً ما توظِّف المتاحف وصالات العرض قيمّاً أو عدداً من القيّمين، الذين يتمثل دورهم في تخطيط المعارض وتقديمها، وفي تقديم المشورة من أجل اقتناء الأعمال الفنيّة والعناية بها، وتطويرها كمجموعات لفنان ما، أو لمجموعة من الفنانين قد تربطهم حقبة أو نوع فنّي (genre) أو سواها من النواحي المشتركة. كما يكون على عاتقهم عادة عرض تلك المجموعات، والأعمال المُعارة، والكتابة عنها وتفسيرها للجمهور من أجل التفاعل معه وإلهامه وفتح الحوار معه. وهو مجال متعدد الاختصاصات، يتعاون فيه القيّم مع الفنان والمدير والناقد والسينوغرافي والمصورين والباحثين وغيرهم من أهل الاختصاصات المختلفة. كما قد يحصل تقاطع بين دور القيّمين ووظيفة أمناء المتحف، أو مدرائه المؤتمنين على مجموعات المتحف من خلال إدارة اقتناء وحفظ وعرض القطع الأثرية والفنيّة والتقدم بطلبات للحصول على قروض ومِنَح لدعم الحفاظ عليها. وقد يقومون بإجراء أنشطة تعليمية أو بحثية أو ترميمية أو خدمات عامة لمؤسسة المتحف أو صالة العرض، وأما بما يخص وظيفة المؤرشف أو خبير المحفوظات، فهو من يهتّم غالباً بتحليل، وتقييم، ومعالجة، وفهرسة، وحفظ السجلات المؤقتة والدائمة والوثائق ذات القيمة التاريخية وفهرسة المقتنيات والتأكد من حفظها بالشروط الفنيّة المرعية.
يحتّل القيمّون الفنّيون أحد أعلى المناصب بين التسلسل الهرمي الوظيفي في المتحف، أو مراكز وغاليريهات العرض، أو مهرجانات الفنَ التشكيلي، وعادة ما يشترط في القَيّم أن يكون حاملاً إجازة في تاريخ الفنّ أو النقد الفنّي أو علم المتاحف، ويتطلب عمله الجرأة وسِعة المعرفة والاستعداد لتحمل المخاطر والتجريب. حيث يمتلك القيمون الفنيون الرؤية ومقدرة الدوران حول الزوايا، ويتبنّون ويكشفون موضوعات ومصادر غير عادية وغير متوقعة، ويقدّمون تنبؤات جريئة حول شغفهم ومعتقداتهم ويساهمون بتشكيل المفاهيم الجديدة وكسر المعتقدات السائدة حول الموضوعة «الثيمة» التي يطرحونها ويرفعون القيمة الجمالية للأعمال الفنيّة. ويجب أن يمتلك القيّم فهماً عميقاً للفنانين ويحترم تجربتهم الفنية كي يستطيع إبراز جماليتها ويصل بها إلى جمهور جديد والذي قد يتراوح بين بضع مئات الملايين من المهتّمين. كما قد يجد القيّم نفسه في موقع تمثيل الفنان في بعض الأحيان، أو تحت أضواء الصحافة وفي مواجهة تساؤلاتها. فهل يعتبر عمل القَيّم «كيوريتر»، أو «الكيوريشن»، عملية إبداعية؟ لطالما وجَدَ الفاعلون الثقافيون أنفسهم في مهبّ الريح أمام سؤال هل يُعتَبَر عملهم إبداعياً أم يقتصر على تقديم الخدمات المختلفة لتلبية احتياجات الفنَانين؟ ربما علينا اولاً أن نسأل أنفسنا: «هل تتمثل هذه الوظيفة في خلق الفنّ في المقام الأول؟» إذا كانت الإجابة بنعم، فهذه وظيفة إبداعية. إذا كانت الإجابة لا، فقد تقتصر المهمة على الدور الإداري التنظيمي والذي قد يتضمن أيضاً إدارة فريق أو دعم أفراد مهمتهم الخلق الفنّي.
إن أحد أشكال الفعل الثقافي هو الكيوريشن، وهو دور إبداعي وقد أصبح ضرورياً بشكل متزايد في العصر الرقمي وفي زمن العولمة، حيث ارتفع استهلاك الوسائط المرئية السمعية بشكل كبير كما تعددت أشكال المنتج الفنّي وطرق التعبير الفنيّة وأطر تبادلها وعرضها وتوزيعها. ويقوم الكيوريتر بتقييم واختيار وتقديم المحتوى المناسب للجمهور، وسنتطرق في هذا النص الى بعض الجوانب الإبداعية في عمله وأبرزها خلق المفاهيم وإعادة تشكيلها، والعرض، والتقديم، ونشر الفكر، وفتح الحوارات الجديدة.
البحث الفني وخلق المفاهيم الجديدة
في حين يقوم المنظّم أو المدير الفنّي بإدارة الفعالية الفنيّة سواء بتأمين التمويل اللازم لها أو بتحضير العقود اللازمة كضامن لها وتحضير خطة العمل وتنفيذها ويقوم بسواها من الأعمال الإدارية؛ يبدأ الكيوريتر العملية الإبداعية بالبحث الفنّي وهو بذلك يشابه الفنان في منهجية الخلق. قد تستغرق عملية البحث هذه من بضعة أشهر إلى بضعة أعوام سعياً لخلق المفهوم (the concept) الجديد الذي سيكون نواة المشروع. تختلف أشكال البحث بين الكمية والنوعية وتتنوع من قراءات لأدبيات في الموضوع، إلى مقاربات لتجارب فنيّة سابقة فيه، وحتى كتابة نصوص شعرية وأدبية، وتقاطعات مع مجالات أخرى مثل العلوم بأشكالها، والحقوق، والفلسفة، والبيئة، وسواها. وعادة ما يلجأ القيّمون إلى كتابة نصوص حول مجالات المفهوم لتوسيعه والتطرق إليه من كافة نواحيه. ومنهجية البحث الفنّي تلك هي ما يميز كيوريتر عن آخر «على سبيل المثال اقرأ عن فضاء سادس –Sixth Space / وهي منهجية بحث فنّي لكاتبة النصّ متخصصة بأطر الدفاع عن الحريّات».
يتجلى الخلق في البحث الفنَي من خلال تطوير منهجيات البحث والإبداع في المقاربات والتقاطعات الزمانية والمكانية والفنيّة والتي تجعل خلق المفاهيم الجديدة ممكناً. هذا وفي حين تبدو مهمّة الكيوريتر حصرية للنخبة، إلّا أنّ القيّمين يساهمون في واقع الأمر في تسريع عملية التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، من خلال إعادة تشكيل المفاهيم السائدة وتقديمها بمنظور جديد وأطر إبداعية وفلسفية غير اعتيادية وجذّابة، تتحدى المحرمّات والتحديّات المرحلية يجعلها سهلة الوصول الى جمهور أوسع والمساهمة بفتح الحوار المعمّق حولها. ولذلك، يُنظر إليهم في عالم الفنّ ودوائره على أنهّم سلطة نافذة لما يتمتّعون به من مساحة كبيرة للتأثير.
إعادة التقديم أو خلق الأعمال الجديدة
بعد أن ينتهي القَيّم من مرحلة البحث الفنّي ينتقل إلى العمل على اختيار أو إنتاج الأعمال الفنية المرتبطة بالموضوعة التي خلقها الاختيار، حيث يقوم بتحضيرها لمرحلة العرض والتقديم والترويج وبناء العلاقة مع الجمهور المعني بها. وفي هذه المرحلة يساهم القيّمون الفنيّون بتفسير المجموعات الفنية من خلال انتقائهم لمجموعة مختارة من الأعمال، فيشرحون مكانتها ويحددون السياق الذي يوضح فيه تجميعها مفهوماً معيناً. من خلال القيام بذلك، فإنهم يساعدون الجماهير على رؤية الأعمال الفنية من وجهات نظر مختلفة أو تغيير المفهوم السائد عنها، والعمل على إثارة مناقشات جديدة حول العمل الفنّي ومعانيه. والتقديم الذي يقوم به القَيّم «كيوريتر» هو شكل من أشكال خلق المحتوى، حيث يقتضي تجميع القصص والعثور على المواد والشهادات والوثائق والأعمال الفنية الأكثر صلة وجاذبية وتنظيمها وتقديمها بطريقة متماسكة، أو إنتاج الجديد منها لصالح العرض لدى المقدرة، وبهذه الطريقة يساهم القيّمون الفنيّون في تحديد الاتجاهات، وتحفيز الذائقة الفنيّة، وتعزيز وجهات النظر البديلة.
التقديم في قالب جديد هو جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية. وبصفته «قَيّماً» يكون الكيورتير قادراً على فهم قوة وخصوصية السياق – وكيف يؤثر على تفسيرنا للفن والشكل والجماليات والتصميم. ويستخدم البيانات والتوثيقات لتأمين مساحة تتضمن رؤية تجريبية حول كيفية تواصل وتفاعل الجمهور مع المحتوى، حيث يخلق القيّم خبرة المعرض. وعندما يفكر القيّم في أسئلة مثل «ماذا سأعرض؟» أو «لماذا قمت بتقديم هذا العمل في هذا السياق الجغرافي أو الاجتماعي» تتمثل عندها مهمته/ها في جعل الأشياء ذات مغزى، من خلال إيجاد خيوط تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل؛ حيث يتم مثلاً عرض أعمال قد لا تتناسب مع السياق الحالي، ولكن يتمّ فهمها وتصبح أكثر وضوحاً من خلال السياق المفاهيمي والمسيرة الإبداعية التي يطورّها القَيّم. ولا ننسى ارتباط عملية الخلق الفنّي بالموضة أو «الترند»، والتي تدور حول تفاصيل كثيرة، ولذلك يتعلق الأمر بأن يقوم القَيّم بالبحث عن أفضل ما لديه وأن يحافظ على الشعور بالثقة بأن ما سيقدمه سوف يكون منظوراً جديداً لهذا المفهوم. ويتعلق الأمر أيضاً بأن لا ينسى أهمية جوانب الاستكشاف والمفاجأة والاختبار والتجربة والمتعة.
فتح الحوار مع الجمهور الجديد وجذبه
هناك آلاف المحتويات التي تسعى للتأثير على الجمهور، وآلاف العلامات التجارية التي تناضل من أجل جذب انتباهه، تعتمد أغلبها آلية الدعاية، أي على ضخّ الرسائل المتكررة التي غالباً ما لا يكون لها معنى سوى الإقناع بالاستهلاكوالتي تنطلق من المنتج نفسه.
في حين يعتمد القيّم في تشكيل رسائله على الأعمال الفنية نفسها، ومقاربة سياقات آلاف السنوات من التراث، ودروس تاريخ الفن، والإلهام الإبداعي لجذب الجمهور إلى التجربة الفنيّة؛ وخلق قنوات اتصال مبدعة وغير مسبوقة، فإنه يشابه بذلك الفنان في تقديم تجربة فنية جديدة تمنح الجمهور الفرصة لطبع التجربة بخصوصية في ذاكرته، ومن خلال علاقته مع العمل الفنّي وسياقه والأسئلة التي ساهم القَيّمُ في تحفيزها. ويصبح القيّم رفيقاً لجمهور العرض ليقوده في رحلته لاكتشاف الذات، وعيش تجربة تفاعلية، والتعرف على جوانب العمل الفنَي، وتفسير كيف يمكن للآخرين تفسير الأعمال الفنية. واختيار الأعمال ووصفها ومنحها قيمة مضافة بحسب سياقها وطرح الأسئلة الجديدة وفتح الحوار العام.
جمهور الويب
القيمّون هم أيضاً من يقررون المحتوى المرتبط بالمعرض والمنشور على موقع الويب، وفي بعض الأحيان يختارون عناصر لقسم معين من المحتوى، مثل الصفحة الأولى لصحيفة أو مجلة على الإنترنت. يتضمن عملهم انتقاء واختيار العناصر من مصادر مثل المقالات عبر الإنترنت ومقاطع الفيديو والصور والموسيقى والمزيد – ثم تنظيمها في مجموعات منطقية مرتبطة بالمفهوم الذي بنوه.
ويتأكد القيّمُ من تناسب هذا المحتوى مع القصة والسردية التي ترويها الجماعة المعنية بها. ولكون القَيّم شخصاً يتمتع برؤية فريدة من نوعها حيث يقوم بخلق روابط بين الأفكار والأشياء التي تبدو غير مرتبطة مما يجعلها قصة مقنعة، لذلك يمكن للقيمين أن يكونوا حلفاء أساسيين للفنّان الذي يرغب في جذب انتباه المزيد من الأشخاص إلى المحتوى الخاص به أو منتجه الفنّي ليلقى صدى أوسع لدى جمهوره، ونجاح القيّم من نجاح الفنان والعكس صحيح.
التوثيق، والتقييم، والنقد الفنّي
وأمّا عن دور النقد والتقييم في العملية الإبداعية التي يقوم بها القيّم، فهي تتضمن عملية التنظيم والتفاعل بين الفنّ والحرف والتوثيق والتجارة في بعض الأحيان. حيث يقوم القيّم بإنشاء السردية الهادفة التي تنقل جوهر رؤيته. وفي حين أنه يقوم بجمع الكثير من الأفكار المختلفة عين الاعتبار أثناء عملية الكيوريشن، ولكنه في النهاية يقوم باختيار حفنة من الأعمال والتوثيقات لتظهر في معرض، أو في كتاب فني. إن عملية الاختيار هذه، وهي في صلب مهمة القيّم هي بحد ذاتها عملية تقييم ونقد فنيّ يتيح فيها القيّم فرصة الجرد واكتشاف بعض أفضل الأعمال الجديدة. كما أن تقديم القيّم لنقد ثاقب للأعمال الجديدة عادة ما يساعد بملاحظاته الصادقة الفنانين على النمو وإنجاز عملهم بشكل أفضل؛ ولذلك يجد القيّم نفسه أمام أكبر تحديّات مهنته ألا وهي أنّه ليس مجرد منظّم ينشر المحتوى أو يوزعه ويروج له، بل إن أمامه تحدّيَ أن يُعتمَد كمرجع نقدي، ما يتطلب مهارات معينة مثل الفهم الواسع للموضوع، والإبداع في كيفية تقديمه.
ختاماً، لا يجوز الفصل بين المفاهيم التي يخلقها القيم وبين بين أنماط الفن المرئي المعاصر والحركات الفنية السابقة، كما يجب النظر في دور التأثيرات غير الفنية في المسعى الفني. وفي الوقت الذي يضع فيه القيّم العمل في سياقه، فإنه يحرر في الوقت نفسه هذا العمل من خلال اختياره ويفرزه عن محيطه المعتاد وتقييمه المألوف، مما يسمح بقراءة العمل من منظور يمنحه قيمة مضافة جديدة وعدالة أكبر في الوصول الى الجمهور الذي قد يقرب أو يبعد عن السياق. وغالباً ما يتعين على القيميّن بذل جهود لجمع التبرعات لمتاحفهم وصالات العرض الخاصة بهم، وللحفاظ على مجموعاتهم وترميمها وصيانتها، وحتى من أجل إنشاء معارضهم ومن أجل الحصول على أعمال فنية جديدة للعرض وإنتاجها، وكذلك السفر حول العالم للبحث عن مجموعات أخرى أو حضور المزادات. ولذلك يمكننا القول إن القيّمين هم مبدعون وخبراء في تصميم التجارب الغامرة التي تبني الترّقب وتحفز الأسئلة وتجعل الخبرة الفنيّة أكثر تشويقاً وعمقاً وإنسانية. وهم مهندسو الثقافة غير المرئيين، من خلال إيجاد المعنى في الأشياء التي تبدو غير ذات صلة ، ذلك أنهم يخلقون مفاهيم وروابط وجماليات جديدة، ويزودوننا بفهم أعمق للعالم من حولنا.