مجدداً نجد أنفسنا في مواجهة صور ومقاطع مصورة بالغة الفظاعة قادمة من سوريا: تعذيب وقتل وحرق، ودفن جثث متفحمة في مقبرةٍ جماعية بمنطقةٍ بين أرياف درعا ودمشق. شاهدنا بعض الصور المنشورة اليوم قبل نحو عام، على أن التحقيق الصادر بعنوان «لا تتركوا أثراً» يخبرنا بأسماء بعض الجناة ومتخذي القرارات، ويعرض بعض وجوههم. المذبحة التي تلتها محرقة هي عملٌ مشتركٌ بين جيش نظام الأسد وأجهزة مخابراته، ونعاين في التحقيق نسخاً عن برقياتٍ فيها أوامر واضحة بالقتل، صادرة عن قياداتٍ مخابراتية لقطعاتٍ في الجيش. وكما حدث في مجزرة التضامن، كان أفرادٌ يتبعون المؤسَّستين الأمنية والعسكرية يوثّقون ممارساتهم الإبادية للأرشفة وإطلاع قياداتهم، ثم تسرّبت الصور ليكون باستطاعة العالم بأسره أن يراها، على أن هذا العالم، والجزء الفاعل من هذا العالم على وجه الخصوص، قد قرّر منذ أعوامٍ التوقف عن المشاهدة، أو اكتفى بالمشاهدة الصامتة.

لن يستغرب السوريون تجاهل الأدلة المعروضة اليوم، ولن يستغربوا ما سيتبع ذلك من صمت، فهذا مما صار جزءاً من حكايتهم. والصمت هنا، بعد تكراره الكثير، وجهٌ من وجوه رضا العالم وتسليمه بما فعلته الأسدية. قد يبدو سخيفاً بعد تجاهل كل هذه الدماء أن نكرر بدورنا تساؤلاتٍ على غرار أين العالم مما حصل ويحصل مع السوريين، على أن في هذا التكرار تمسُّكاً بالعالم الممكن، ودفاعاً عنه، وعن جدواه وإمكانية العيش فيه، ولذا ما زلنا نتمسك به. ما يزال ضرورياً العمل على مواصلة جمع الأدلة وتحليلها وكشف المتورطين في أعمال القتل، ليس أملاً في عدالةٍ قريبة وفق الشرط العالمي الراهن، ولكنّ هذا، علاوةً على التشبّث بعالم ممكن أكثر عدالةً، هو حقُّ الضحايا على الناجين.

يتعمق الإحساس بأن محاسبة النظام السوري بعيدةٌ ولا تملك من يسعى لأجلها بين القوى الدولية القادرة، سيما في ظل الحماية الروسية، ولكنّ أقل المنتظر إلى حين تغيّر هذه النهج الُمتجاهِل لجرائم الإبادة والُمتغافِل عن حقوق الضحايا بالإنصاف والعدالة، وإزاء تكشّف المزيد من المجازر الموثّقة، ألّا نرى الأمم المتحدة توقع عقوداً وتمنح أموالاً للمتورطين بالمجازر ضد السوريين كما فعلت مؤسساتها خلال السنوات الماضية. قبل شهور قليلة، مرّ الكشف عن واحدةٍ من أبشع المجازر الموثقة بالصوت والصورة في حي التضامن دون ردود أفعال دولية، باستثناء تعليقٍ أميركي عابر على مستوى موظفٍ مجهول في وزارة الخارجية، حتى أن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا لم يستنكر حدوث المجزرة، ولم يشعر بالقلق أو يعبر عن استهجانها، لا بل تجاهلها بالكامل، وأطلق تصريحاتٍ في الفترة نفسها تشيد بالعفو الرئاسي الذي وقعه بشار الأسد، رغم معرفته الكاملة بأن هذا العفو لم يكن أكثر من حبرٍ على ورق، ولم يخرج بموجبه سوى عدد قليل جداً من عشرات ألوف المسجونين في معتقلات النظام. هذا ضربٌ من ضروب عبادة القوي واحتقار الضحية.

وفي حين تتكشّف المزيد من جرائم النظام السوري، يزداد عدد الدول الساعية إلى استئناف علاقاتها معه والداعية إلى إعادة تأهيله من جديد كما لو أنه قدرٌ لا يمكن تجنّبه أو تخطيه، ويقود ساسةٌ وأنظمةٌ استبدادية وديمقراطية على السواء جهود إعادة الهاربين منه إلى سطوته من جديد بغض النظر عن الأثمان. لم نشهد قبلاً مثل هذا الإصرار على القبول بدولة فاشلة وفاشية، في سعيٍ عالمي لترسيخ واستدامة السجن الزماني بتعبير ياسين الحاج صالح، حيث الحرمان من مستقبلٍ مختلف وأي أملٍ بالتغيير أحدُ أبرز خصائص هذا السجن الآخذ بالتوسع ليشمل العالم كله.

يشكّل الطغيان حلفاً راسخاً تمتد أعماله الحربية على مساحاتٍ واسعةٍ من العالم، وهذا ممّا لا يمكن مواجهته بالتجاهل الحاصل حالياً، فما حدث في سوريا مرشّحٌ للحدوث في غير مكانٍ من العالم على ما نكرر دائماً. لن يردع الطغيانَ مجرّدُ التلويح بصور الأشلاء والجثث المحروقة في ظل السماح الدولي بالإفلات من العقاب وغياب ردود الفعل. نحتاج أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى التوقف عن التجاهل عرفاناً بحق السوريين في الخلاص، ولضمان ألّا يصبح العالم كله سوريا، وحتى لا يغدو تبادل النكات أقصى ما يفكر به جنود الأنظمة الطغيانية وهم يقتلون ويحرقون الأجساد، وحتى لا يهنأ الطغاة بالنصر بعد المجزرة. في استمرار التجاهل دعوةٌ إلى التكرار، وهو ما يدفع إلى فقدان الأمل باستمرار العالم، وهذا أقصر دربٍ إلى نهايته، لكننا نواجهه بالإصرار على طلب العدالة مهما بدا لنا أنه كفاحٌ يائس.