استُخدِمَ سجن صيدنايا العسكري منذ افتتاحه لاحتجاز المعتقلين السياسيين في سوريا، وتابعَ مهمّته بوحشية متزايدة منذ انطلاق الثورة في سوريا عام 2011. وعلى الرغم من الشهادات والتقارير العديدة والغنية التي سبق ونشرتها مؤسسات حقوقية عن السجن والفظائع التي تُرتكب فيه، فقد ظلّت المعلومات عن كيفية إدارته وتراتبية العلاقات الرسمية وغير الرسمية فيه مبهمة، وهي مهمة يتولاها تقريرٌ جديدٌ يشرح الهيكلية الإدارية والعلاقات التنظيمية داخل سجن صيدنايا الرهيب.
تنشر رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا اليوم تقريرها الكامل عن الهيكلية الإدارية للسجن، الذي يشمل تحليلاً كاملاً لتسلسل القيادة وآليات العمل في السجن، ويبيّن الجهات المسؤولة عن الفظائع التي تُرتكب فيه وآليات ارتكاب هذه الفظائع، بالإضافة إلى عرض للشخصيات التي استلمت إدارته منذ تأسيسه.
اعتمد التقرير، الذي استمرّ العمل عليه لمدة عام كامل، على شهادات لضباط منشقين من عناصر السجن وقوات الحراسة ومعتقلين سابقين عاصروه في مراحل زمنية مختلفة، ووصلَ إلى نتائج تسمح بخلق سلسلة قيادة واضحة المعالم يمكن تحميلها مسؤولية الانتهاكات الفظيعة التي كانت وما تزال تجري فيه منذ تأسيسه، والتي تصاعدت بشكل رهيب منذ انطلاق الثورة السورية، حيث تتحدث التقديرات في تقرير الرابطة عن إعدام ما بين 30 إلى 35 ألف معتقل فيه خلال السنوات الإحدى عشرة الأخيرة.
بناءً على تحليل وتدقيق البيانات التي حصل عليها الباحثون، يعرض التقرير كافة العمليات المرتبطة بالسجن، من عمليات الحراسة واختيار الضباط في المراكز القيادية في السجن، إلى آليات التعذيب والإعدام وإخفاء الجثامين، بالإضافة إلى العمليات التشغيلية والإدارية، ومراكز القوى المؤثرة بصرف النظر عن الهيكلية الرسمية ومدى تأثيرها. ويشرح التقرير مدى تأثير علاقات القوة غير الرسمية والقرب من قيادات النظام السوري على إدارة السجن، والتأثير الرسمي وغير الرسمي لشعبة المخابرات العسكرية التي يتدخل فرعان يتبعان لها، هما فرع المنطقة 227 وفرع شؤون الضباط 293، في عمليات التعيين والحراسة والإدارة الأمنية للسجن، الذي يتبع إدارياً لفرع السجون التابع لإدارة الشرطة العسكرية في وزارة الدفاع.
يقول دياب سرّية، مدير رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا وأحد مؤسسيها، في حديث له مع الجمهورية عن الرحلة الصعبة لإنجاز هذا التقرير: «كان إقناع الضباط المنشقين، الذين عملوا في مواقع تؤهلهم الحصول على معلومات قيّمة عن إدارة السجن، بالحديث من أصعب المهام التي واجهتنا، ذلك أن الرعب من انتقام النظام في حال الإفصاح عن تلك المعلومات بقي مسيطراً عليهم». وبعد إقناع الشخص بالحديث، يبدأ نوعٌ جديدٌ من الصعوبات، يشرحه لنا سريّة الذي كان أيضاً أحد الباحثين الرئيسيين في التقرير: «الآن، عندما يقبل الشخص بالحديث، من أين سنبدأ؟ رغم أننا من أكثر الناس اطلاعاً على تفاصيل السجن نتيجة اعتقالنا فيه وعملنا الدائم بشأنه، كانت التفاصيل الخاصة بإدارة السجن شبه مبهمة بالنسبة لنا. سألنا أحد المنشقين الذين وافقوا على الحديث: عن أي شيء تريدونني أن أتحدّث؟ في تلك اللحظة اكتشفنا أننا يجب أن نعيد بناء معرفتنا عن السجن».
يتحدث التقرير أيضاً عن «غرف الملح» التي تم إنشاؤها بعد العام 2011، المفروشة بالملح لحفظ جثامين المعتقلين الذي يُقتلون تحت التعذيب، أو بسبب التجويع وانعدام الرعاية الطبية، ريثما يتم نقلهم إلى المقابر الجماعية. وكانت وكالة الصحافة الفرنسية قد نشرت أواسط الشهر الماضي تقريراً كشفَ للمرة الأولى عن غرف الملح تلك، وذلك بناء على المعلومات التي قدمها الباحثون في الرابطة استناداً إلى المقابلات التي أجروها لإنجاز التقرير عن هيكلية السجن.
يؤكد الربط الجيد للمعلومات، الذي استطاع التقرير الوصول إليه، معلومات سابقة عن مدى تأثير المحكمة العسكرية الميدانية على السجن وظروفه، وبالتالي المسؤولية الأساسية لهذه المحكمة عن الفظائع التي تجري في السجن، جنباً إلى جنب مع المخابرات العسكرية وإدارة السجن، غير أنه يضيف معلومات أساسية عن الجهات ذات النفوذ وسلاسل القيادة وعلاقات القوة فيما بينها. يقول دياب سرّية: «كان الكشف عن علاقات القوّة الفعلية بين الشخصيات والرُتب في السجن أصعب من الكشف عن الهيكلية الرسمية. كان ذلك دائماً متعلقاً بارتباطات الشخص: من هو الأقوى؟ ضابط الأمن أم مدير السجن؟ لم يكن ذلك في البداية واضحاً، واحتاج عملاً أكبر لنكتشف تلك التفاصيل التي تحدث التقرير عنها بهذا الشأن».
في بلد مثل سوريا، حيث تُعَدُّ المعلومات الأساسية التي يجب أن تصدرها مؤسسات مدنية حول المؤشرات العامة والرئيسية للحياة غير موثوقة، وفي أحيان كثيرة غير موجودة أصلاً، فإنّ العمل من أجل الحصول على معلومات عن مؤسسات يحرص النظام بشدّة على سرّيتها مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد، ولذلك فإن البيانات التي يوفرها هذا التقرير تشكّل اختراقاً بالغ الأهمية من حيث نوعيتها وطريقة استخراجها، ومن حيث اشتمالها على تفاصيل شديدة الحيوية عن ظروف ارتكاب الفظائع في سوريا. يقول دياب سرّية في نهاية حديثنا معه: «سجن صيدنايا تكثيف لآلة النظام القمعية. كل مسؤول هناك عينٌ فوقه، والجميع تحت المراقبة. قد لا توجد تعليمات مكتوبة بشأن كل شيء، لكن المعنى واضحٌ للجميع»، ليكون الحل الوحيد بالنسبة لهؤلاء المجرمين، كي يَأمنوا على مناصبهم وأنفسهم، هو التشدّد حتى نهاية في القمع والتنكيل بالمعتقلين.
على طريق بلدة صيدنايا في القلمون، قد تمرّ بجانب السجن الذي يقع على تلّة جرداء، وإن لم يُرعبك شكل السجن والأسوار المتعددة، ستنبّهك اللافتات إلى عدم قدرتك على التصوير أو التوقف أو حتى تركيز نظرك باتجاه هذا البناء، الذي يُعدّ من مواقع الانتهاكات الفظيعة التي قد لا يوجد لها مثيل في عالم اليوم. يعيد هذا السجن تعريف معنى كلمة سجن من جديد، وربما تساعد قراءة هذا التقرير على شرح المعنى الاستثنائي للسجون ومراكز صناعة التعذيب والموت في سوريا.