فرانز فانون، شخصيةٌ أساسيةٌ من شخصياتِ القرن العشرين، ومضربُ مثلٍ في التزام العمل الثّوري والتّحرّر الإنساني. وفضلاً عن كونِه مفكّراً قدّمَ تصوّراتٍ مركّبةً للغاية أصيلةً وباقية، كان أيضاً طبيباً وطبيباً نفسيّاً استعمل معرفتَه العلمية ليس لأغراضٍ مهنية فحسب بل كأداةٍ لعلاج ضحايا الاضطهاد والعنف أيضاً.
وُلِدَ فانون في جزر المارتينيك، وتلقّى تعليمه في فرنسا، وكرّس السنواتِ الأخيرةَ من حياته للثورة الجزائرية. وفي أثناء الموجات الثورية في ستينيات القرن العشرين وأوائل سبعينياته، قرأَهُ وبجّلَهُ مئاتُ الآلاف حول العالم. ومع انحسار تلك الموجات، بانحطاط الكثير الكثير من الأنظمة الثورية سابقاً إلى ديكتاتوريات، وتفشّي النزعة الانتصارية الليبرالية الجديدة عبر العالم، كان من مصلحة من هُم في السلطة، سواء كانوا بيضاً أم سوداً أم سُمراً، أن يبقى فانون خامل الذِّكر. وهذا ما يضع على عاتق المناضلين الباحثين اليوم واجب تجديد الرؤى، والتحليلات، والتحذيرات التي قدّمها منذ أكثر من نصف القرن.
كانت حياة فانون قصيرةً، لم تكدْ تتعدّى ستّةً وثلاثين عاماً. ونظراً إلى ألمعيّته متنوّعة المجالات، ترك انطباعاً أشبه بوَمْضةِ برق، أو سلسلةٍ من تلك الوَمَضات خلال أقلّ من عقد من الزمان، من سنة 1952، حين نُشرت تُحفته الأولى، بشرة سوداء، أقنعة بيضاء، إلى سنة 1961، وهي سنةُ وفاتِه المبكرة كثيراً بسبب اللوكيميا، فضلاً عن كونها سنة نشر تحفته الأخيرة: معذّبو الأرض. لكنّ ما انطوت عليه وَمَضات العبقرية هذه هو مجموعةٌ متنوعةٌ من السياقات والانخراطات كفيلسوفٍ وطبيبٍ نفسيّ وأمميّ ثوريّ؛ ومن الكاريبي إلى أوروبا إلى المغرب العربي إلى غرب أفريقيا، ما يمنح إحساساً باتساعٍ كاتساع المحيط. وسوف نُعنى في الصفحات التالية بفانون المفكّر أكثر من عنايتنا بفانون المقاتل الثوريّ، على الرغم من أنَّ هذين الجانبين من حياته لا ينفصل واحدهما عن الآخر. أمّا القضايا المتعلّقة بانخراطه في الثورة الجزائرية، فلا مناصّ من ذكرها، بيد أنّ أيّ تناولٍ جدّي لها كان من شأنه أن يجعل هذا المقال التمهيدي أطول بكثير.
عَرِفَ إيمانويل وولرشتين، الكاتب والمنظّر الأميركي البارز فرانز فانون وأجرى معه نقاشاتٍ مطوّلةً في أكرا، حيث أرسلت الحكومة الجزائرية المؤقتة فانون كمبعوثٍ في سياق الثورة الجزائرية. ويمكننا أن نأخذ وصفَ وولرشتين لفانون كمثال على صعوبة اختزال تعقيد فانون في بضع كلمات. يقول وولرشتين: قد يوصف فانون بأنّه فرويدي ماركسي في جزء منه، وماركسي فرويدي في جزء آخر، وملتزمٌ كلّياً بحركات التحرر الثورية في جزءٍ ثالثٍ منه هو الأكبر. لا شكّ أنّ وولرشتين صائبٌ تماماً حيال التزام فانون الكلّي بالتحرر الثوري خلال السنوات الأخيرة من حياته، وهذا أمرٌ سنرجعُ إليه. لكنّه ليس صائباً سوى جزئيّاً حيال توجّهات فانون الفرويدية والماركسية المزعومة. سأتجاهل القضية المتعلّقة بفرويد هنا، أمّا المتعلّقة بماركس، فتحتاج بعض التعليق.
الطبقة والأمّة والعرق
كانت الماركسيّة، إلى حدّ بعيد، جزءاً من الهواء الذي تنفّسه فانون طيلة سنوات نشأته في جزر المارتينيك بصحبة أشخاص مثل إيمي سيزير، الشاعر الكبير؛ وأيضاً خلال السنوات التي قضاها في فرنسا حيث ارتبط بأشخاص مثل هينري جينسون وجان بول سارتر؛ وكذلك الأمر في أوساط جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي كان ارتباطه بها هو الأوثق. وهو يقتبس ماركس ويعيد صوغه بحرّية في كتاباته، وحتى عنوان كتابه الأسطوري الأخير الذي أملاه إملاءً حين عَلِمَ بدنوّ الأجل، مستمَدٌّ من نشيد الأممية، النشيد البروليتاري للحركة الشيوعية العالمية. لكن الماركسية كانت بالنسبة إلى فانون مثل ضوء مُنكسِر عبر موشورات عدّة. فمن الناحية الفلسفية، كان صنفه من الماركسية مُشبَعاً بالديالكتيك الهيغلي، وفينومينولوجيا ميرلو بونتي فضلاً عن وجوديّة هايدغر وسارتر، ولا سيما الأخير. والفخامة الفلسفيّة العظيمة التي تقف وراء كتاب شبابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء فهي هيغل، وليست ماركس. ثانياً، وجّه فانون للماركسية والشيوعية تلك التّهمة ذاتها التي طرحها عديدٌ من الكتّاب الآخرين ذوي الأصول الأفريقية الكاريبية والأفريقية الأميركية، لا سيّما صديقاه سيزير وريتشارد رايت. لقد رأى هؤلاء أنّ الاستعمار مكوِّن من مكوّنات العالم الرأسمالي الحديث، وأنّ العنصريّة هي الإيديولوجيا والممارسة المؤسِّسة للاستعمار، وأنّ التقاليد الفلسفية والسياسية المتحدّرة من الماركسية لم تأخذ العنصرية بالجدية الكافية، باعتبارها أمراً متأصّلاً في العلاقات الاجتماعية للرأسمالية والإمبريالية على الصعيد العالمي. ولقد أكّد فانون مزيداً من التأكيد أنّ مقولة الأمّة تحظى، في السياق السياسي للاستعمار، بالأسبقية على مقولة الطبقة، وأنّ الفلاحين والبروليتاريا الرثّة، في بنية المجتمعات الأفريقية/الكاريبية الاجتماعية والاقتصادية (ويشمل أحياناً جميع المجتمعات الاستعمارية)، أكثر ثوريّةً من البروليتاريا ذاتها؛ ونظرته هذه إلى البروليتاريا الرثّة على وجه التحديد، تتعارض تمام التعارض مع الاتجاهات الماركسية جميعها تقريباً. ويمكن القول، إجمالاً، إنّ فانون كان لا يزال يبحث عن نظريةٍ متماسكةٍ، تشكّل الماركسيّة مكوِّناً رئيساً من مكوِّناتها، حين وضع الموت حدّاً لسعيه الألمعيّ، هو الذي يقفُ اقتضابُ حياته في تضادٍّ حادّ مع تنوّع سياقاته وانخراطاته، الفكريّة والسياسية على السواء. وسوف نبدأ هنا بخطاطة موجزة عن حياته، ثمّ سنعلّق على موضوعاتٍ ومقولاتٍ محدّدةٍ تُعتبر أساسيّةً في فكره الرصين.
تأثيراتٌ مبكرة
كانت التقاليد الفلسفية والأدبية الأفريقية الكاريبية هي حِضانَة فانون الفكريّة الأوّلى والدائمة، حيث وُلد في جزر المارتينيك وكان إيمي سيزير معلّمه وصديقه المقرّب. واشتملت تلك الحِضانة على شخصيات بارزة مثل إدوار غليسان، وولسون هاريس، وجورج بادمور، و سي. ل. ر. جيمس، والإثنولوجيّ الهاييتي الألمعي رغم قلّة شهرته جان برايس مارس. شدّت هذه التأثيرات فانون نحو اليسار في ريعان شبابه، وتعزّزت بالتقائه ذلك الجزء من العالم الأدبي الأفريقي الأميركي في الولايات المتحدة ممثّلاً في ذلك الوقت بكتّاب على غرار لانغستون هيوز وريتشارد رايت. ولقد منح هذا الطيف الكامل من الكتّاب فانون إحساساً حاداً بالتضاد بين عظمة الحضارة البرجوازية الأوروبية الفلسفية والثقافية من جهة، وهمجية ثالوث العبودية والاستعمار والعنصرية الذي ارتكبته تلك الحضارة ذاتها حول العالم من جهة أخرى. وإذا ما كانت موضوعات عمله بشرة سوداء، أقنعة بيضاء (1952) تتداخل مع موضوعات قصيدة سيزير العلامة البارزة العودة إلى أرض الوطن (1939؛1947) وعمله اللاحق خطاب عن الاستعمار (1955)، فإنّها تتقارب بالمثل مع موضوعات استمع، أيها الأبيض! (1957) لريتشارد رايت.
قام ذلك التكوين الفكري أيضاً على تجربة فانون الفعلية مع عنصرية الاستعماريين المتفشية، ليس في مستعمرة المارتينيك التي وصفها الحكّام الفرنسيون بأنّها مقاطعة فرنسية نائية فحسب، بل حتى في قوّات فرنسا الحرة التي احتشدت تحت قيادة شارل ديغول ضد الاحتلال النازي لفرنسا في أثناء الحرب العالمية الثانية، وانتسب إليها فانون في سن الثامنة عشرة كمعارضٍ للفاشية. ولدى عودة فانون إلى جزر المارتينيك في عام 1945، عمل في حملة سيزير الانتخابية، إذ كان هذا الأخير مرشّح الشيوعيين لمنصب نائبٍ من المارتينيك في المجلس النيابي الأوّل للجمهورية الفرنسية الرابعة. وما تدلّ عليه هذه الوقائع هو أنَّ موقف فانون الجذري المعادي للنازية، إلى جانب تعاطفه مع الشيوعية وإيمانه بأنّ على المرء أن يناضل بنشاط من أجل ما يؤمن ويعظ الآخرين به، كان متين الصوغ بحلول الوقت الذي نال فيه شهادة البكالوريا وأبحر إلى فرنسا لإكمال تعليمه العالي.
درس فانون، في فرنسا، الأدب والمسرح والفلسفة، وحضر محاضرات موريس ميرلو بونتي، الفيلسوف الشهير وصاحب سارتر المقرّب الذي سيقيم معه فانون صلةً وثيقةً لاحقاً. وكان هذا هو الوقت الذي وقع فيه فانون على فينومينولوجيا هيغل وديالكتيكه إلى جانب ضروب شتّى من الوجودية، وأنماط من الفلسفة انتظمت تفكيرَه اللاحق كلّه. ومضى فانون بعد ذلك يدرس الطب والطب النفسي، وحصل على شهادة طبيب نفسي في عام 1951، ثمّ عمل كطبيب مقيم تحت إشراف الطبيب النفسي الراديكاليّ الكاتالاني فرانسوا توسكيل المشهور بدراسته دورَ الثقافة في الأمراض النفسية، وكان له تأثيرٌ خلّاق ليس على كتاب فانون الأوّل الذي يدرس فيه مَرَضيّات العنصرية في الكاريبي ولدى الشتات الأفريقي الأوسع فحسب، بل أيضاً على عمله كطبيب نفسي في الجزائر بعد تعيينه رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مشفى البليدة -جوانفيل في عام 1953.
يجب أن نؤكّد هنا على أمورٍ ثلاثة. أوّلاً، حين وصل فانون إلى الجزائر، في الثامنة والعشرين من عمره وبعد سنةٍ واحدة فقط من نشر كتابه الأوّل، كان رجلاً ذا ثقافة فكرية واسعة وسابقة لأوانها، وعلى معرفةٍ وثيقة ليس بالفلسفة الأوروبية والفكر الأفروكاريبي فحسب، بل بالروابط بين أفريقيا والشتات الأفريقي أيضاً، ناهيك عن تدريبه المهني في الطبّ النفسي وعلم الأمراض النفسية. ثانياً، حتى وصول فانون إلى الجزائر، كان شغفه السياسي المعادي للاستعمار والعنصرية منصبّاً بشكلٍ كاملٍ تقريباً على كيفية تأثير هذين الأمرين على السود الذين تعود أصولهم إلى أفريقيا السوداء والذين تتشابك هويتُه معهم ذلك التشابك العميق، بوصفه زنجيّاً ذا بشرة داكنة للغاية. لكنّه رأى في الجزائر ضحايا للعنصرية والعنف الاستعماريين ليسوا سوداً، وبمجرّد أن اندلعت حرب الاستقلال في الجزائر، وقع على عنفٍ استعماري أشدّ تطرّفاً بكثير من أيّ شيء رآه في جزر المارتينيك. وسرعان ما أدرك أنَّ لون البشرة في حدّ ذاته أمرٌ ثانويّ في بنى العنصرية الاستعماريّة؛ وأنَّ من الممكن وصم العرب بالقدر ذاته من الوحشية والاحتقار اللذين يوصم بهما السود. ثالثاً، وعلى الرّغم مما سبق أنّ أبداه فانون من ميول سياسيّة، فقد أتى إلى الجزائر لا لأسباب سياسيّة، بل مهنيّة.
كان مشروعه الأوّل في مشفى البليدة هو أن يدرّب الممرّضين والأطباء المقيمين على ذلك النوع من العلاج الاجتماعي الذي تعلّمه من توسكيل، وأن يتحرّى الخلفيات الثقافية لمرضاه في سياق ممارسته النفسية الخاصّة. وكان في أثناء مثل هذه التحرّيات أن راح يرى عمق تلك الجروح النفسية التي يُنزلها النظام الاستعماري برعاياه.
الاتصال بجبهة التحرير الوطني الجزائرية
بُعيدَ ذلك، راح فانون يرى ضحايا التعذيب بصورةٍ تكاد تكون روتينيّةً خلال ممارسته، واكتشف في مشفاه شبكةً سرّيةً مرتبطة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية، واتّصل بهم بنفسه، بصفته طبيباً نفسيّاً في بادئ الأمر. لكنه رأى، بصفته ملتزماً فلسفيّاً بوجودٍ صادقٍ يجب أن يتّحدَ فيه الفكرُ والفعلُ ذلك الاتحادَ العضويَّ، أنَّ من غير المقبول شخصياً أن يظلّ مسؤولاً في الخدمةِ الاستعماريّة في خضمّ ثورةٍ، بل وفي خضم آلة التعذيب الاستعمارية الشاملة. واختار، بدلاً من ذلك، أن يخدمَ الثورة، فاستقال من الخدمة الاستعمارية في صيف عام 1956 وانضمّ إلى صفوف الثورة بعد ذلك بوقتٍ قصير.
هذه خلفيّة موجزة لذلك الرجل الذي صاره فانون حين تفرّغ للعمل الثوري في الواحد والثلاثين من عمره، وهي أيضاً خلفية للمنطلقات الفكرية التي دخلت تأليف تُحفتَه الأخيرة، معذّبو الأرض، بعد خمس سنوات، عشيّةَ وفاتِه. ولا بدّ من القول، بخصوص اللوكيميا التي قتلته، في السادسة والثلاثين من عمره، أنّه أُصيب بها خلال رحلته الشاقّة عبر الصحراء كجزءٍ من فريق كان يحاول فتح جبهةٍ ثالثة للثورة وخطوط إمدادها. وبهذا المعنى، فقد مات فانون من أجل الثورة التي سعى إلى خدمتها بحياته. وسوف ننتقل الآن إلى بعض الموضوعات الرئيسة في فكره.
القوميّة، سيفٌ ذو حدّين
سوف نتوه كثيراً في قراءتنا فانون بوجهٍ عام، وقضيّة القومية بوجهٍ خاص، إن لم ندرك أنّه كان، على الرغم من جميع شطحات خياله البلاغية، ديالكتيكياً أولاً وقبل كلّ شيء. وكي نبسط الأمور كثيراً، فإنَّ هذا يدلّ على شيئين على الأقلّ. أوّلهما، أنّ الواقع، باعتباره كُلّاً، ينطوي على تناقضاتٍ داخلية، تجعل من الضروري، لفهم واقعٍ ما، أن نحيط أولاً بتلك التناقضات. وثانيهما، أنّ الأشياء والسياسة والمجتمع والتاريخ والذات الإنسانية لا تكون ساكنةً قطّ، بل في حركةٍ دائمة. وكي نحيط بواقعٍ ما، علينا أن نحيط ليس بما هو كائنٌ فحسب، بل بما هو في صيرورة أيضاً. فالأمر الذي لا يقتصر على كونه ضروريّاً فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى كونه ذا قيمة إيجابية مطلقة في شرط من الشروط، قد يصبح قيداً وخطراً في شرط آخر لاحق. وهذه المبادئ التحليلية أساسية لفهم ما يقوله فانون حول التكوّن القومي والشعور القومي، حول العنف، حول الهويّات العرقية والمَرَضيات العرقية، وحول كثيرٍ من القضايا الأخرى. وإلّا فسوف يبدو كأنّه لا يكفّ عن مناقضة ذاته، قائلاً شيئاً في مكان وعكسَه في آخر. وسبب ذلك بشكل خاصّ هو أسلوب فانون القاطع والنبوئي والاستعاري بشدة في بعض الأحيان، لا في كتاباته عن الجزائر والثورة الأفريقية بل في كتابيه الأوّل والأخير المقروءَين على أوسع نطاق.
حين قرأت لأوّل مرّة الفصل الثالث البديع من كتاب فانون معذّبو الأرض، وعنوانه مزالق الوعي القوميّ، تبلبلتُ، بل ارتعتُ. إذ كنت أنا نفسي نتاج القوميّة الهندية، وكنت أقرأ الفصل في عام 1969 الذي يمثّل لحظةً تاريخية مشحونة على نحوٍ خاص. فمن جهة أولى، كان ثمّة اعتداءات إمبرياليّة قاتلة على الأنظمة القوميّة: اغتيل باتريس لومومبا في عام 1961، وأُطيح سوكارنو في عام 1965 في واحد من أكبر حمّامات الدم في القرن العشرين، وأُطيح كوامي نكروما بانقلابٍ آخر برعاية وكالة المخابرات المركزيّة (سي آي إي) في العام التالي 1966، وهُزمَ جمال عبد الناصر والقومية العربية العلمانية في الغزو الاسرائيلي في العام الذي بعده، 1967.
من جهة أخرى، راحت حروب تحرر وطني مجيدة تندلع عبر آسيا وأفريقيا، لا سيّما في فيتنام ولاوس وكمبوديا والمستعمرات البرتغالية. ولم يكن من السهل هضم تحذيرات فانون المخيفة والتي بدت متشائمةً من مزالق الوعي القومي، تلك التحذيرات التي أتت حين علم أنّه على فراش الموت وليس لديه ما يخسره إن قال رأيه، من داخل تناقضات الثورة الجزائرية نفسها. لم يذكر فانون أيّ بلدٍ بعينه، لكن كان من المحسوس أنّه يلخّص ما شهده بنفسه، ليس في غرب أفريقيا فحسب، بل في المغرب العربي أيضاً، ولا سيما في الصراعات الطاحنة داخل جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
من بين جميع المفكرين الثوريين المنخرطين بنشاط في حركات التحرر الوطني، كان فانون الأوّل والأفصح في التقاط حقيقة أنّ القوميّة ذاتها سيف ذو حدين: لا غنى عنها إطلاقاً في توحيد الشعب بأسره في معركة الإطاحة بالحكم الاستعماري وإقامة تضامن قومي من مختلف المجموعات الدينية واللغوية والإقليمية والإثنية في داخل الإقليم القومي؛ لكنّها في الوقت ذاته أداة يمكن استعمالها لنقل السلطة من الأسياد المُستعمِرين ليس إلى الشعب المُستعمَر، بل إلى طبقةٍ حاكمة قومية ناشئة حديثاً، سواء كانت تلك الطبقة برجوازيّة أم بيروقراطية فحسب. ويصف فانون، في الفصل الأوّل من معذّبي الأرض، ذلك النوع من الاستقلال بأنّه عملية تأميم لسرقة الأمّة.
علاوةً على ذلك، تتطلب شروط الكفاح المسلّح ضدّ الاستعمار عينُها درجةً عاليةً من مَرْكَزَة القيادة في جيش التحرير كما في التنظيم السياسي القائد والدولة المضادّة التي ينظّمها (أي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وجيش التحرير الوطني، والحكومة الجزائرية المؤقتة في الحالة الجزائرية). لكنَّ هذه المَرْكَزَة، بالغة الضرورة في أوقات الحرب والثورة، تنطوي هي ذاتها، بعد الثورة، على جميع الاحتمالات لأن تسفر لا عن ديمقراطيّة شعبية، بل عن ديكتاتوريّة حزب واحد. ولقد سبق لهذه المُسلَّمة النظرية أن حضرت في جدال روزا لوكسمبورغ ولينين. وهذا هو، من ثمَّ، الديالكتيك والمعضلة: القوميّة إيديولوجيا تقدميّة بصورةٍ غير مشروطة في النضال ضد الاستعمار، لكنها يمكن أيضاً أن تُستخدَم لتوطيد حكم طبقةٍ حاكمة محلية جديدة باسم الأمّة، في حين ينطوي التنظيم الثوري ذاته على بذور ثورة مضادّة ما لم تُراعى أعلى درجات الاحتراز وتُوجَد حلول عمليّة للمعضلة.
السلطة للشعب
على الرّغم من أنّ فانون نادراً ما استخدم المعجم الماركسي في تناول قضايا من هذا النوع، إلّا أنّه اقترح بشكل فطريّ حلّاً ماركسياً كلاسيكياً: اللامركزية القصوى للسلطة وإقامة أجهزة للسلطة الشعبية وصولاً إلى مستوى القرية، في أثناء الثورة نفسها، وأكثر من ذلك بعدها مباشرةً. في النظرية الماركسية، يُسمّى هذا اضمحلال الدولة، أي الأطروحة التي تقول إنّ مهمة الثورة ليست أن تستبدل بالدولة البرجوازية نوعاً آخر من الدولة بل أن توزّع وظائف الدولة على الشعب على أوسع نطاق ممكن: الفكرة، بعبارة أخرى، هي أن أيّ اشتراكية سوف تتحوّل بالضرورة إلى أوتوقراطية بيروقراطية إن لم يستمرّ اضمحلال الدولة، منذ الانطلاقة، إلى جانب بناء الاشتراكية ذاتها. ذلك أنّ انعتاق الطبقة العاملة لا يمكن أن يتحقق إلّا بأيدي الطبقة العاملة نفسها، كما في قول ماركس الشهير. وإذ يفكّر فانون في سياق المستعمرات غير المصنِّعة بمعظمها، فإنّه يوسّع هذا القول السائر ليرى أنّ الحكم الاستعماري يمكن إطاحته بواسطة جيش وحزب ثوريين لكنّ التحرر الوطني الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلّا عبر ممارسة سلطة الشعب كلّه، ورؤياه، وعمله، لا سيما الفلّاحين وجماهير العاملين بلا أجر.
أتت مكاشفات نيكيتا خروتشوف حول الفترة الستالينية، في عام 1956، في الوقت ذاته الذي أقلعت الثورة الجزائرية ونَذَرَ فانون نفسه لها. وخسرت الحركة الشيوعية العالمية في أعقاب تلك المكاشفات كثيراً من المثقفين، بمن فيهم سيزير الذي استقال من عضويّته القديمة في الحزب الشيوعي إثر ذلك. لم يكن بوسع فانون ألّا يعبأ بكلّ ذلك. وفي تلك الأثناء، كان يشهد أيضاً النشوء الجنينيّ لحالات الحزب الواحد إلى جانب قياداتٍ مركزيّة وكارزمية في داخل الحركات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء أفريقيا والعالم العربي. وتلك هي البوتقة التي اكتنفت تحذيراته النبوئية من مزالق الوعي القومي.
في العنف
حين نُشر معذّبو الأرض للمرة الأولى، دانت شعبيّته الأولية بالكثير، ليس في فرنسا أو في غير مكان من أوروبا فحسب، بل في أماكن بعيدة أيضاً كالبرازيل، إلى تقديم سارتر الذي كان لافتاً بفيض كلماته، وميله إلى الإطناب كما سيعترف سارتر لاحقاً، وتركيزه الذي يكاد يكون حصرياً على الفصل الافتتاحي من الكتاب، وعنوانه في العنف. هكذا مال سارتر ليس إلى اختزال طيف الجدالات في الكتاب ككلّ فحسب، بل أيضاً إلى تقديم رواية أحادية الجانب نوعاً ما لجدال فانون بالغ التعقيد المتعلّق بقضيّة العنف، وهي رواية تقارنه بسوريل وتفضله عليه، وتصوّر فانون كأنّه نبيّ العنف الدائم المناهض للاستعمار. ولقد بدأ ارتقاء الكتاب إلى الشعبيّة في الولايات المتحدة ببطء مع نشر غروف برس الترجمة الانجليزية في عام 1965؛ وبلغ مكانةً أيقونيّةً في حوالي عام 1970، في أوج التمرّدات الجامعية، وأعمال الشغب داخل المدن، والحركات القومية السوداء، وتشكيل حزب الفهود السود. وفي هذا الوسط، أُسيئت قراءة فانون مرّتين؛ إذ اعتُبر كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء بمنزلة بيان غاضبٍ عن الهوية العرقية الأفريقية الأميركية مُطعّماً برسالة إحيائية ثقافية فحواها العودة إلى أفريقيا، في حين فُهِمَ تأكيدٌ مفردٌ على الفصل الموسوم في العنف على أنّه ترخيص بشنّ نضالاتٍ مسلّحة ضد دولة الولايات المتحدة في المدن الأميركية، مع النظر إلى جماهير السكّان السود في معازلهم على أنّهم الفاعل الثوري الحقيقي.
هذان النوعان المبكران من سوء قراءة فانون هما جزءٌ من العبء الذي نتحمّله لدى محاولتنا تجديد فكره الآن. فبعد عقود، اختلف السياق السائد اليوم كلّياً. بالنسبة إلى فانون، لا يستمدّ العنف الثوريّ مشروعيّته من تفكّر نظري مجرّد بل من فعليّة الثورة ذاتها. وليس ثمّة فعليّة كتلك في زمننا هذا، مع أنَّ العالم صار أكثر عنفاً بشكل هائل وفي حاجةٍ أعظم إلى تحوّل ثوري. فكلّ أشكال العنف السياسي المنظّم في زمننا تأتي من اليمين بحيث بات يُنظر إلى اللاعنف في معظم الخطابات اليسارية والليبرالية على أنّه حتميّة أخلاقية، لا مجرد متطلَّبٍ استراتيجي في ظل ظروف محدّدة، بل الأفق الذي يحدّد الفعل الأخلاقي المسموح به، ما يترك حقل العنف السياسي، حتى نظرياً ومفهومياً، لقوى اليمين المختلفة. وفي هذا الجوّ، فإنَّ اتهام فانون بالتغاضي عن كلّ نوعٍ من أنواع العنف يرقى إلى اتّهامه على الأقلّ بنوعٍ متطرّف من الرومنسية اليمينية، إن لم يكن باللاعقلانيّة، والمرض، والنزعة الفاشية أيضاً. ومن المهمّ ألّا نخاف هذا النوع من تنمّر الطبقة الاجتماعية العليا التي ترى أنّها أقوم من سواها وأن نضع الأمور في نصابها الصحيح.
خلال نحو مئتي عام بين الثورة الفرنسية وتحرر فيتنام، دعونا نقول إنّ مشروعيّة العنف الثوري كانت أمراً مفروغاً منه من جهة اليسار الثوري، في جميع أرجاء العالم، بكلّ أحزابه وشظاياه. وافترض الجميع ببساطة أنَّ الدولة الرأسماليّة، والدولة الاستعماريّة من باب أولى، بنية عنفٍ لن تتنازل عن السلطة قبل أن تستعمل جميع الوسائل المتاحة لديها، فإمّا أن يتنازلوا ويقبلوا سيطرتها تحت إدارة نيو استعمارية جديدة، أو أن يكافحوا حتى الرمق الأخير. كان هذا شيئاً من الفطرة السليمة في السياق التاريخي القديم الذي ورثه فانون كمفكّر ومقاتل. فحين نشر فانون كتابه، كمقاتل في الثورة الجزائرية، كانت الثورتان الصينية والكوبية حدثين جديدين، وحروب التحرر الوطني لا تزال مستعرةً في فيتنام ومحيطها. وما كان محلّ نقاش بالنسبة إليه ليس العنف بشكل عام بل العنف الثوري، بوصفه النقيض في التغلّب الديالكتيكي على العنف الاستعماري، ليس في زمن فانون فحسب بل في أشكال العنف الاستعماري المتراكمة عبر تاريخ الاستعمار والتي تركت بصمة مشوهة عميقة على مجتمع المُسْتَعْمَرين واقتصادهم ونفسيّتهم.
لا بدّ هنا من تنبيهين اثنين. أوّلهما، هو أنّه على الرغم من أن فانون ينزع إلى الحديث عن الاستعمار بشكل عام، فإن ما يقوله فعليّاً ينطبق أكثر بكثير على تطرف الاستعمار الاستيطاني، من جنوب أفريقيا إلى فلسطين، وتجب قراءته، أولاً وقبل كلّ شيء، في السياق الجزائري. ثانيهما، هو أنَّ ما يقوله فانون ينطبق على حركات التحرر الوطني الثورية التي تَنْشُدُ إطاحةً كاملةً بالنظام، كما في فيتنام. أمّا بالنسبة إلى ما تبقّى، فغالباً ما يجري التفاوض على انتقال من الحكم الاستعماري إلى دولة الطبقات الحاكمة المحلية بحدّ أدنى من العنف من جهة المستعمَر تجاه المستعمِر، كما نعرف جيّداً من تقليد القومية الدّمثة من النوع الغاندي النهروي (أمّا عنف المستعمَرين تجاه بعضهم بعضاً -أو حمامات الدم الأخوية كما أسماها فانون- فهو بالطبع أمرٌ آخر).
لا يضفي فانون طابعاً رومنسيّاً على المستعمَرين (الإنسانُ المستعمَرُ إنسانٌ حسود)، وما عدا اثنين من التهاويل البلاغية، فإنَّ من الصعب اتّهام فانون بتمجيد العنف الثوري. ومعظم فصل في العنف مكرّسٌ في الحقيقة ليس للعنف الصادر عن المستعمَرين بل لتنازلات وخيانات النخب المحلية والأنواع المتنوعة من العنف التي يختبرها المستعمَرون. وكان فانون يعرف تمام المعرفة، كمقاتل ثوري وخبير في علم النفس المَرَضي، أّن المستعمَرين قادرون لا على العنف الثوري ضد مضطهديهم فحسب، بل ضد أنفسهم وضد بعضهم بعضاً: عدوانية مكبوتة، تشويه الذات، حمامات الدم الأخوية بين المجموعات والقبائل، لجوء إلى الدين والغيب، إلخ. وهو يصف العنف الجوابيّ المنظَّم الذي يأتي مع الانتفاضة المناهضة للاستعمار بأنّه ضرورة تاريخية بسيطة، بنبرة تكاد تكون آسفة:
عمل المستوطنين هو أن يجعلوا حتى أحلام السكّان الأصليين بالحرية مستحيلة. وعمل السكّان الأصليين هو أن يتصوروا جميع الوسائل الممكنة لتدمير المستوطنين. على المستوى المنطقي، مانوية المستوطن تنتج مانوية الأصلي. ذلك هو التناظر التام بين خطين من التفكير.
يُستكمَلُ هذا الصوغ لمنطقين متضادين، أي التصور الذي مفاده أنّ وحشية المستعمِرين يمكن أن توحشنَ فكر المستعمَرين أيضاً، بتصوّرٍ آخر مفاده أنَّ الذين تبنّوا في بداية الكفاح مانوية المستعمِر البدائية يكتشفون أنّ الاستغلال الغاشم يمكن أن يرتدي وجهاً أسود أو وجهاً عربيّاً. كراهيّة فانون للمستعمِر يضاهيها تماماً احتقاره للنخبة الأصلية الاستغلالية.
العرق والإنسانوية
كان فانون ثورياً، لكنّه ثوري فلسفي. كانت التفرقة العرقية تجاه الذات والمجتمع، تجاه المستعمَر كما المستعمِر، تجربةَ فانون الوجودية الأساسية في جزيرة المارتينيك الصغيرة بقدر ما كانت كذلك في مدينة باريس الميتروبولية (المدينة التي لا تكفّ عن الكلام على نفسها، كما قال كوكتو مرّةً). لكنّ أعمقَ التزاماتِه الفلسفية والأخلاقية كان تجاه الإنسانوية الكونية، أو ما أسماه الكونية المتأصلّة في الشرط الإنساني.
لم يكن خيار التمرّغ القانع بالهوية السوداء أو أيّ نوع آخر من سياسات الهوية وارداً بالنسبة إلى فانون، المُدرِك تماماً للاعتلالات النفسية بين المستعمَرين. كما لم يكن لديه أدنى اهتمام بنزعة الإحياء الثقافية غير النقدية: إعادة تثمين الثقافة الموضوعة في كبسولات كانت قد استُنْبِتت منذ السيطرة الأجنبية، على نحو لا يُعاد فيه تصوّرها، أو إدراكها من جديد، أو تحريكها من الداخل، بل تُصرَخ فحسب. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ فانون يُعاتب، ويرى أنَّ المثقّف المستعمَر حين يستخدم الماضي وهو يكتب لشعبه عليه أن يفعل ذلك بنيّة الكشف عن مستقبل. لكنّه يعلم أيضاً، على غرار معلّمه سيزير، أنَّ سفينة التقليدَين الأوروبيَين العظيمين، التنوير الجذري والإنسانوية الرفيعة تحطّمت منذ زمن بعيد، على شواطئ الرأسمالية والاستعمار الصخرية الخشنة. ولهذا يعلن فانون، في الصفحة الأولى من كتابه بشرة سوداء، أقنعة بيضاء أنّه يكتب من أجل إنسانوية جديدة، مدركاً تماماً، ربما، إعلان ماركس في عام 1844 أنَّ الشيوعية … إنسانوية، وإعلان سارتر، بعد نحو قرن، في عام 1947، أنّ الوجودية إنسانوية. ولكن ما نوع تلك الإنسانوية الكونية في ظلّ ما يمارسه الاستعمار من نزع للإنسانية واستغلال وعنصرية؟ لا يتناول فانون هذا السؤال من منظور الاقتصاد السياسي بل من منظور الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي.
بمعنى ما، فإنّ كتاب فانون الأوّل بشرة سوداء، أقنعة بيضاء هو تأمّلٌ حانقٌ في اعتلالات الاستعمار النفسية، على جانبيّ الخطّ الفاصل بين المستعمَر والمستعمِر، من خلال مقولات كتاب هيغل فينومينولوجيا الروح، لا سيما ديالكتيك السيد-العبد. ويمكننا أن نقارن بين قولين مقتضبين. هيغل: لا يوجد الوعي الذاتي بذاته ولذاته إلا حين يوجد، ومن خلال واقعة أنّه يوجد، من أجل آخر؛ أي أنّه لا يوجد إلا بكونه معترَفاً به. فانون: لا يكون المرء إنساناً إلّا بقدر ما يحاول فرض وجوده على آخر كي يُعترَف به. وعلى ذلك الكائن الآخر، وعلى اعتراف ذلك الكائن الآخر به، تتوقف قيمته وكينونته كإنسان. والاعتراف/العرفان الحقّ، بالنسبة إلى فانون كما بالنسبة لهيغل، هو علاقة تبادل، والمعضلة الأنطولوجية التي يسعى هيغل لحلّها هي ما إذا كانت مثل هذه العلاقة المتبادلة ممكنةً بين كيانات تواجه بعضها ليس بعلاقة تكافؤ بل بعلاقة تراتب هرميّ. يفترض فانون أنّ العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقة استغلال شديد وعدم تكافؤ في الحياة المادية، وهي لذلك تفتقر إلى أي احتمال للاعتراف المتبادل بقيمة إنسانية متكافئة في سياق المواجهة الأخلاقية. فالمستعمِر، الواثق من تفوّقه، لا يُوجد إلّا من أجل نفسه، كسيّدٍ للمعيار الذي يحدّد معنى أن يكون المرء أبيض أو غير أبيض، أوروبياً أو غير أوروبي؛ المستعمِر، بعبارة أخرى، هو محتكر المعنى الاجتماعي في الأوضاع الاستعمارية. وما إن يحاول المستعمَر أن يشعر بنفسه حتى تَقطعَ عليه ذلكَ فكرةُ كيف يراه السيد المستعمِر. وكما يقول فانون: لا يجب أن يكون الأسودُ أسودَ فحسب؛ بل يجب أن يكون أسودَ إزاء الرجل الأبيض. ويرى فانون أنَّ الأفراد والجماعات غير المتكافئة على هذه الشاكلة، والمغتربة (بالمعنى الماركسي) اجتماعياً ونفسياً على هذه الشاكلة، غير قادرة على الاعتراف المتبادل بالقيمة المتكافئة التي لا يمكن من دونها تَصوُّر أيّ إنسانوية كونية. والثورات التي تُبطل تواريخ العرق والطبقة والإمبراطورية هي الشرط المسبق لاعترافٍ حقيقي يمكن أن يبلغ الباب المفتوح لكل وعي. ذلك هو تبرير فانون الفلسفي الأساس لنضالات التحرر الوطني والممارسة الثورية:
لا يعيد النضال التحرري للثقافة القومية قيمها وبُناها الشكلية فحسب. النضال الذي يهدف إلى إعادة توزيعٍ جوهرية للعلاقات بين البشر، لا يستطيع أن يترك من دون مسّ شكلَ ثقافة الشعوب أو جوهرها. وبعد انتهاء النضال، لا يأفل الاستعمار فحسب، بل يأفل المستعمَر أيضاً.
وذلك أيضاً هو تبرير فانون الفلسفي الأساس لتخيّل مستقبل نافع:
سوف يزول اغتراب أولئك السود والبيض الذين يرفضون أن يتركوا أنفسهم أسرى برج الماضي المُجسَّد.
نقع، من ثمَّ، في الصفحات الختامية الشهيرة من بشرة سوداء، أقنعة بيضاء على تأكيد نهائي على الحرية الإنسانية، وعلى إنسانوية تمكن استعادتها تتخطّى الاستغلال، تتخطّى العرق، وذات توجّه استثنائي نحو المستقبل:
… أنا، كإنسان ملوّن، وبقدر ما يمكن لي أن أُوجدَ أيّما وجود، لا حقّ لي أن أُقحم نفسي في عالم التعويضات رجعية الأثر. أنا، إنسان ملوّن، لا أريد سوى هذا: ألّا تمتلك الأداةُ الإنسانَ قطًّ. أن يتوقف استعباد الإنسان للإنسان إلى الأبد. للإنسان الأبيض. بقدر ما للزنجي تماماً.
هكذا تقع على مسامعنا أصداء من ماركس الشاب (ألّا تمتلك الأداةُ الإنسانَ قطًّ) ترددها الرغبة الثوريّة التي لا يمكن كبتها في مستعمَر يتطلّع إلى اجتثاث ديالكتيك السيد-العبد من جذوره. هذه إنسانوية كونية، بالفعل! لكن لا كهديّة موروثة من الماضي الفلسفي الأوروبي. بل كفضيلة لا يمكن بلوغها إلّا كعاقبة للتحرر من رأس المال والإمبراطورية. وهذا النضال من أجل ذلك التحرر هو، عند فانون، ما يتيح لنا أن نلقي نظرة خاطفة إلى المستقبل.