في الحادي والعشرين من تموز (يوليو) الماضي أعلن رئيس الحكومة الإيطالية ماريو دراغي استقالة حكومته، بعد أن قامت ثلاثٌ من القوى السياسية بسحب الثقة التي سبق وأن منحتها إياها، وهذه الأحزاب والقوى هي: حركة «خمس نجوم» ورئيسها جوزيبي كونتي، وحزب «فورزا إيطاليا» بقيادة سيلفيو بيرلسكوني، وحزب «الرابطة» ويقوده ماتيو سالفيني.
حكومة دراغي هي الحكومة الإيطالية الثالثة منذ الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد عام 2018، وهي الانتخابات التي كان يُفترض أن تَنتج عنها ولاية تشريعية لمجلسي الشيوخ والنواب وحكومة واحدة حتى ربيع عام 2023. بناءً على ما حصل، أعلن رئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا عن انتخابات مبكرة في 25 أيلول (سبتمبر) الجاري، مفتتحاً بذلك معركة انتخابية بين قوى اليمين واليسار لتشكيل الحكومة المقبلة وحيازة التمثيل الأكبر في المجلسين، وضمن ظروف داخلية وخارجية تجعل هذه الانتخابات مختلفة عن انتخابات كثيرة سبقتها، بالنظر إلى الحرب على أوكرانيا وأزمة التضخم والغلاء والطاقة، وما تشير إليه استطلاعات الرأي من فوز شبه مؤكد لليمين «السّيادي» المتشدد والمحافظ، أو ما يعرف في إيطاليا بـ«يمين الوسط».
الحمض النووي السياسي
قد يبدو الأمر غريباً في بلد أوروبي وفي قارة عَرَفت معظمُ الحكومات والمجالس المنتخبة فيها استقراراً أكبر بما لا يقاس، إلا أنّ قراءة تاريخ ومسار الحكومات الإيطالية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، تقول إن استمرار حكومةٍ ما حتى نهاية ولايتها المحددة بالدستور هو الأمر «النافر» وغير الطبيعي. على امتداد 76 عاماً من عمر الجمهوريتين، الأولى والثانية، وبين عامي 1946 و 2022، شهدت البلاد ولادة 67 حكومة برئاسة 30 رئيس وزراء كُلّفَ بعضهم بتشكيل الحكومة لأكثر من مرة. وبحسب الأرقام، فإن متوسط عُمر الحكومة هو 414 يوماً بدلاً من خمس سنوات، مع الأخذ بعين الاعتبار فترة تشكيلها ومراسم تسلّم المهام وأداء القسَم وأيام الحكم الفعلية.
كانت حكومة سيلفيو بيرلسكوني (2001-2005) هي الحكومة الأطول عمراً ولمدة 1412 يوماً، تليها من حيث طول المدة حكومة ثانية برئاسة بيرلسكوني أيضاً (2008-2011) واستمرت لـ1287 يوماً، ثم حكومة بتينو كراكسي (1983-1986). بالمقابل، كانت هناك حكومات استمرت لأيام نتيجة فشلها في الحصول على الثقة، مثل حكومة أمينتور فانفاني مع 22 يوماً في المنصب عام 1954، وحكومة دي جاسبري التي عاشت 32 يوماً عام 1953، وحكومة جيوفاني سبادوليني عام 1982 مع 100 يوم فقط.
تتعدد الأسباب المحتمَلة وراء حالة عدم الاستقرار هذه، وبعضها موجود في الآليات التي يتم من خلالها الانتخاب والتصويت والترشّح إلى الانتخابات. فقانون الانتخاب الإيطالي، ورغم التعديلات التي طرأت عليه، بقي قانوناً يمنع سيطرة حزب واحد أو تشكيل حكومة من قبل طرف سياسي بمفرده منعاً لامتلاكه السلطة الحصرية وانفراده بالحكم، بعد تجربة مريرة مع فاشية موسوليني والديكتاتورية المطلقة. إلا أن هذا القانون يُنتج، في الوقت عينه، تحالفات وتسويات وائتلافات بين قوى مختلفة «إيديولوجياً» وبرنامجياً، تتحالف مؤقتاً في الحملات الانتخابية وغالباً ما تنفجر الصراعات السياسية فيما بينها بعد تشكيلها الحكومة.
إلى ذلك، فإن النظام البرلماني الإيطالي يفرض على رؤساء الحكومات الرجوع إلى مجلسي الشيوخ والنواب للموافقة على الإصلاحات، من دون أن يغيب عن المراقب والدراس للحالة الإيطالية وجود مواد بالغة المرونة في الدستور، تستغلها بعض القوى السياسية بما من شأنه أن يقوّض كل استقرار ممكن، مثل المادة 70 التي تقول بوجوب موافقة المجلسين على أي قانون قبل مروره، الأمر الذي يضاعف احتمال استعمال الفيتو من قبل الأحزاب وطرحها مسألة الثقة وعدَمها بشكل مستمر، ويجعل استمرار الحكومة أمراً صعباً جداً. أما المادة 67 فتُتيح للنائب الذي يصل إلى المجلس منتمياً إلى حزب أو حركة سياسية ما أن ينتقل إلى حزب آخر، أو أن ينشق عن حزبه ويشكل تكتلاً جديداً داخل البرلمان الذي وصل إليه بناء على توجّه سياسي وتوازنات سابقة على «الانشقاق»، وهو ما حصل كثيراً ومِثالُه انشقاق رئيس الوزراء الأسبق ماتيو رينزي عن «الحزب الديمقراطي» الذي كان في الحكومة، وتشكيله مع عدد من النواب حزب «إيتاليا فيفا» الذي أسقط الحكومة نفسها لاحقاً.
ثمة مساران تناوبا على إسقاط الحكومات الإيطالية منذ إعلان الجمهورية: الأول من خارج البرلمان وبدون تصويت، كما حصل عام 2016 عندما أعلن رينزي استقالة حكومته بعد خسارته الاستفتاء على الدستور، وعندما استقال إنريكو ليتا عام 2014 لأن قيادة حزبه اقترحت عليه الاستقالة وتشكيل حكومة جديدة. أما الاحتمال الثاني فهو سقوطها نتيجة أزمة برلمانية وعندما تفقد ثقة أحد المجلسين أو تحصل على ثقة غير وازنة وأغلبية ضعيفة، وقد تكرر ذلك كثيراً وأخيراً مع سحب الثقة من حكومة دراغي المكلّفة اليوم بتسيير الأعمال حتى الانتخابات القادمة.
هكذا يمكن القول إن عدم الاستقرار السياسي والسقوط السريع والمتلاحق للحكومات يكاد يكون مُضمّناً ضمن ما يسميه بعض الصحفيين الإيطاليين بـ«الحمض النووي السياسي للبلاد»، حيث «كل شيء يتغير في السياسة بحيث لا يتغير شيء» وفقاً لعبارة إيطالية شهيرة.
حكومات ما بعد عام 2018
جرت آخر انتخابات تشريعية في إيطاليا عام 2018، وحصل فيها الحزب الديمقراطي الإيطالي (يسار الوسط) على 18.7 بالمئة من الأصوات فقط. لكنّ تلك الانتخابات أسفرت عن ظهور قوى جديدة وازنة على الساحة السياسية، مثل حركة «خمس نجوم» التي حصدت لوحدها 32 بالمئة من أصوات الناخبين، و«رابطة» ماتيو سالفيني التي حصلت على 17 بالمئة، وكانت جزءاً من تحالف يمين الوسط الذي يضم أيضاً كلاً من حزب «فورزا إيطاليا»، وحزب «أخوة إيطاليا» بقيادة جورجيا ميلوني السياسية اليمينية المتطرفة التي تصنفها بعض الأوساط الإيطالية كإحدى رموز «الفاشية الجديدة». وقد حصل هذا التحالف اليميني على 37,30 بالمئة من الأصوات، إنما من دون حضور وازن لميلوني التي لم تحصد سوى 4 بالمئة فقط. أما اليوم، فإن هذا التحالف يتصدر استطلاعات الرأي وتتقدم السيدة ميلوني على الجميع باحتمال حصول «أخوة إيطاليا» لوحده على 24 بالمئة، وإذا أصابت استطلاعات الرأي فإنها ستكون، في الغالب، رئيسة الوزراء المقبلة لإيطاليا بعد 25 أيلول (سبتمبر) 2022.
كان من الطبيعي أن تقوم حركة «خمس نجوم» بتشكيل الحكومة الإيطالية في حزيران (يونيو) 2018 بصفتها الحزب الأول الفائز من دون أي تحالفات سياسية مع قوى أخرى، لكن كان لا بد لها أن تتحالف مع آخرين لكي تبصر حكومتها النور. وعليه، تحالفت الحركة مع «الرابطة» بزعامة سالفيني الذي أصبح وزيراً للداخلية في حكومة يرأسها جوزيبي كونتي.
كانت خمس نجوم في البداية حركة شعبوية مشككة باليورو وبالاتحاد الأوروبي، وقد سبق لرئيسها، في حينه، لويجي دي مايو أن دعا إلى استفتاء يقول فيه الإيطاليون كلمتهم بشأن بقاء إيطاليا في الاتحاد، لكنه تراجعَ بعد الانتخابات وقدّم كونتي «تطمينات» و«ضمانات» تفيد بأن حكومته ستبقى مؤيدة لأوروبا. رغم ذلك، بقيت تلك الحكومة متعثرة ومربَكة وكأنها تسير في حقل ألغام مع احتمال سقوطها في أية لحظة.
افتتح سالفيني عهده بسلسلة من الإجراءات ضد المهاجرين والسفن التي تحملهم من الشواطئ الإفريقية، واحتجز بعضها في البحر ومنعها من الإنزال على شاطئ جزيرة لامبيدوزا، كما دعا إلى تدابير أكثر تقشفاً وغيرها من سياسات تُعارض بروكسل ونهج كونتي نفسه. وفي آب (أغسطس) 2019، وعلى ضوء نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي واستطلاعات الرأي الإيطالية التي كانت تشير إلى ارتفاع شعبية سالفيني بين الإيطاليين، أقدمَ الرجل على الانسحاب من الائتلاف الحاكم وأسقط حكومة كونتي مطالباً بالذهاب إلى انتخابات مبكرة «يقول فيها الإيطاليون كلمتهم». هكذا، انتهت الحكومة بعد سنة وشهرين فقط من تسلمها السلطة التنفيذية.
التقط الحزب الديمقراطي الفرصة التي سنَحت له ولأول مرة منذ هزيمته المدوية في انتخابات 2018، وبدأ العمل على تحالف مع «الحركة» يجنّب البلاد الانتخابات. وبالفعل، بعد مشاورات سياسية مع رئيس الجمهورية وبين خمس نجوم والحزب الديمقراطي، ولدت حكومة كونتي الثانية أو حكومة «كونتي بيس» التي صارت تعرف أيضاً بـ«حكومة الجائحة» بعد أن ضرب وباء كوفيد 19 إيطاليا والعالم. أصبح سالفيني في موقع المعارضة وانتقلت الخمس نجوم من التحالف مع اليمين المتطرف والعنصري إلى التحالف مع «يسار الوسط»، وفي مشهدٍ ميكيافيلليّ من العيار الثقيل.
وجود الحزب الديمقراطي في حكومة كونتي الثانية وبدء حركة خمس نجوم العمل على تطبيق التعهدات التي قدمتها سابقاً، ساهم في تخفيف أجواء الكراهية والاحتقان في البلاد، وكان يَعِدُ باستقرار سياسي واقتصادي نسبي قياساً بالحكومة السابقة، خصوصاً بعد أن وافق الاتحاد الأوروبي على دعم إيطاليا المتضررة بشدة من الوباء بمبلغ 219 مليار يورو ضمن ما سمي بـ«خطة إعادة التعافي». قامت الحكومة بعدد من الإجراءات وطبقت ما يعرف بـ«دخل المواطنة»، وهو مساعدة مالية شهرية للأسر الفقيرة تُمنح بما يتناسب مع عدد أفراد الأسرة وإمكانياتها ودخلها السنوي، وكان هذا «الدخل» واحداً من الوعود التي أطلقتها خمس نجوم أثناء حملتها الانتخابية عام 2018، كما منحت مساعدات مالية طارئة وعاجلة تحت مسمى دخل الطوارئ للقطاعات والأشخاص الذين تضرروا من الجائحة أو فقدوا وظائفهم. لكنّ دوام الحال، في إيطاليا، من المُحال.
ففي كانون الثاني (يناير) 2021 أعلن وزراء حزب «إيتاليا فيفا»، الذي يتزعمه رينزي، استقالتهم من حكومة كونتي بسبب «تأثّر الاقتصاد الإيطالي بطرق إدارة أزمة الوباء» وفقاً لتصريح رسمي حينئذٍ، وصار من الصعب إعادة تشكيل حكومة جديدة وثالثة برئاسة كونتي نفسه هذه المرة، إلى جانب صعوبة إجراء انتخابات مبكرة في ظل الجائحة رغم دعوات قوى اليمين إلى تلك الانتخابات وحماسها لها. لهذا، استدعى رئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي وكلفه بتشكيل «حكومة وحدة وطنية»، ويُعرف عن دراغي تأييده للاتحاد الأوروبي ولسياسات بروكسل ودوره الإيجابي بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، وتصريحه الشهير بأنه «سيفعل كل ما يلزم لمنع اليورو من الانهيار».
شكّلَ دراغي الحكومة التي اجتمعت فيها قوى لم يسبق لها أن التقت على أي برنامج، اليمين واليسار، الرابطة والحزب الديمقراطي وخمس نجوم وقوى سياسية أخرى. ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، كان دراغي واضحاً في تأييده لزيلينسكي وللأوكرانيين، ودعمه إرسال السلاح لهم وإدانة الغزو الروسي واعتباره أن «أوكرانيا تدافع عن كل أوروبا». كل هذا لن يعجب قوى وشخصيات مؤيدة لموسكو وعلى رأسها حزب سالفيني، وجاءت المبادرة هذه المرة من حركة خمس نجوم وزعيمها كونتي، وقامت بسحب الثقة من الحكومة لأسباب تتعلق أيضاً «بالإدارة الاقتصادية للبلاد»، وتبعتها في جلسة لاحقة كتلة ماتيو سالفيني وكتلة سيلفيو بيرلسكوني، ولتنتهي حكومة دراغي بعد 18 شهراً من ولادتها.
التدخل الروسي ضد دراغي!
في 28 تموز (يوليو) الفائت نشرت صحيفة لا ستامبا الإيطالية مقالاً تحدّث عن وثيقة استخباراتية وعن دور روسي في إسقاط حكومة ماريو دراغي بالاعتماد على حزب الرابطة وماتيو سالفيني. وقال المقال إن المسؤول البارز في السفارة الروسية في روما، أوليغ كوستيوكوف، اتصل بمستشار العلاقات الدولية لدى سالفيني، أنطونيو كابوانو، وسأله عن مدى استعداد وزراء الرابطة في حكومة دراغي لتقديم استقالتهم. أنكر سالفيني هذه الاتهامات، وأعلن أنه حليف للديمقراطيات الغربية مع دعوته لعلاقات جيدة مع بوتين.
ربما يكون سالفيني قريباً من الغرب ومؤيداً له كما يقول، لكن بحسب المواسم والظروف، فهو مثلاً لم يُخفِ إعجابه بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب رغم اختلافه معه عندما عزم هذا الأخير على توجيه ضربة عسكرية للأسد بعد استخدامه السلاح الكيماوي في إدلب ودوما، وخرج الزعيم الإيطالي في فيديو يدافع فيه عن بشار معتبراً أن الاتهامات الموجهة له باستعمال السلاح الكيماوي ضد المدنيين «مزيفة».
ليست هذه المرة الأولى التي تثار فيها قضية العلاقة بين سالفيني وبوتين، فهو أعلن عام 2014 تأييده ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وشارك بعدها في جلسة للبرلمان الأوروبي مرتدياً قميصاً يحمل صورة بوتين وبحضور رئيس الجمهورية ماتاريلا، وجّه فيها نقداً لمواقف الرئيس تجاه المهاجرين وكتب على فيسبوك: «أُعطي اثنين من ماتاريلا مقابل نصف بوتين!»، كما سبق له وأن وصف بوتين بأنه «أحد أفضل السياسيين في عصرنا» وبأنه «الشخص الذي تحرّك بأكثر الطرق ذكاءً في سوريا».
من المؤكد أن بوتين سيكون سعيداً بسقوط دراغي وبأيّ ضعف أو انهيار يصيب حكومة أوروبية معارِضة لغزوه وسياساته، وهو لم يوفر دعماً وفرصة لذلك، وقد جاء تصريح الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيدف ودعوته الأوروبيين إلى «معاقبة حكوماتهم» ليؤكد ذلك، وهو التصريح الذي تلته احتجاجات قوية من القوى الإيطالية المؤيدة لأوروبا والاتحاد الأوروبي ولأوكرانيا في ظل صمت مطبق من قبل جوزيبي كونتي وماتيو سالفيني. وإذا صحَّ، وهو صحيح، أن بوتين يدعم الحركات اليمينية والشعبوية التي يمكن أن تشوّش على الاتحاد أو تلحق الضرر به مستقبلاً، فإن هذا لا يكفي لقراءة المشهد الإيطالي اليوم ومنذ سنوات انطلاقاً من هذه الزاوية فقط، وتغييب التحول الكبير في مزاج الناخبين الإيطاليين منذ آخر انتخابات وحتى اليوم، وخيارات كثيرين يذهبون إلى التصويت لصالح أقصى اليمين، وهو ما يستحق نقاشاً مستفيضاً ومستقلاً.
يسار ويمين ونتيجة شبه محسومة
سارعَ اليمين السيادي إلى إعلان «جبهته» التي ستخوض الانتخابات، كما بدأ اليسار وعلى رأسه «الحزب الديمقراطي» ورئيسه إنريكو ليتّا يستعد لما أسماه بـ«تحالف المجال الواسع» الذي يهدف إلى «ضرب اليمين» ومنعه من الفوز والحصول على الأكثرية في البرلمان وتشكيل الحكومة.
يبدو تحالف اليمين متماسكاً وصعب الكسر، في حين تعرّض مشروع التحالف التقدمي المزمع تشكيله إلى عدة انتكاسات وضربات وانسحابات من قبل قوى محسوبة على اليسار أو على الوسط أو معارضة لليمين، ومن المرجح أن يحصل تحالف ميلوني-بيرلسكوني-سالفيني على أصوات لا تقل عن 40% في ظل دعاية انتخابية قوية تستغل الظرف الاقتصادي السيء الذي تمر به إيطاليا، وتقدم وعوداً بضرائب أقلّ (بصرف النظر عن صعوبة تحقيقها) وغير ذلك، بالتزامن مع غياب برنامج تقدّمي متماسك ومقنِع من قبل الحزب الديمقراطي وحلفائه، وتصاعُد الاعتراض على سياسة ليتّا من طرف قواعد حزبه نفسه، والحجم الصغير للقوى المتحالفة معه وضعف تأثيرها على الناخبين.
ليس ثمة مؤشرات لحصول تغيّر في ميزان القوى السياسي القائم حتى الانتخابات، لا من ناحية القدرة على تشكيل جبهة تقدمية قوية بقيادة الحزب الديمقراطي -وهي جبهة تبقى مطلوبة دائماً رغم الضعف الحالي لها ومسؤولية اليسار الديمقراطي والليبراليين الإيطاليين أنفسهم عن بعض أحوالهم اليوم- ولا من ناحية الدعوات الكاريكاتورية لشرائح من الجالية المسلمة في إيطاليا إلى «لوبي عربي ومسلم» يؤثر في مسار الأحداث، ذاك أن بعض أصحاب هذه الدعوات هم ممن يكابدون تناقضات وأماني ومخاوف تثير الشفقة، بين خوفهم من ميلوني ورموز اليمين المتشدد وسياساته الاجتماعية والاقتصادية الجديدة تجاه المهاجرين، وبين تمنياتهم في الوقت عينه بأن ينال هذا اليمين من المثليين والمتحولين جنسياً وغيرهم ممن «يمارسون ما حرّم الإسلام»، بحسب نقاشات كثيرة دارت وتدور على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي العربية في إيطاليا.
هذا لا يعني أن الطريق سيكون معبداً أمام ثالوث اليمين السيادي بعد انتصاره، فسالفيني معارض فعلياً للاتحاد الأوروبي وبدعوات سيادية واضحة، أما ميلوني التي كانت على النهج ذاته مع تطرّف وتشدد أكثر من سالفيني في هذه القضايا، وما تزال، فبدأت ترسل إشارات وتطمينات للصحافة العالمية والاتحاد الأوروبي بأنها لن تدعو أو تعمل على خروج إيطاليا من الاتحاد، وبأنها ستحافظ على دعم إيطاليا لأوكرانيا في الحرب وعلى التحالف العسكري مع دول الناتو، بينما يعارض بيرلسكوني الخروج من الاتحاد الأوروبي ويرفض حتى اللحظة رفع العقوبات عن روسيا، على الضد من حليفه سالفيني الذي دعا مراراً إلى إلغاء تلك العقوبات.
نتيجة كل هذا، وتبعاً للأزمة التي تزداد منذ الغزو الروسي، وارتفاع أسعار الطاقة والدفعات الكبيرة المنتظرة والمقدّمة من بروكسل إلى إيطاليا ضمن «إعادة التعافي»، وهي قد تتوقف أو تُلغى في ظل حكومة معادية لأوروبا، وبالنظر أيضاً إلى الخلافات غير المعلنة حالياً بين قوى اليمين التي لا بد لها أن تتأثر (وتؤثر) أيضاً بهذه الأزمة، فإنه سيكون من الصعب الحكم على مستقبل البلاد القريب مع سلطة ستكون غالباً مركّبة من قوى مختلفة هنا ومتفقة هناك، إنما منسجمة مع نفسها ومع فكرها المحافظ وإيديولوجيتها المتشددة، تمارس سياسات منغلقة وتمييزية معادية للديمقراطية الليبرالية وللأجانب، تعمل على التضييق عليهم وتدفع باتجاه إيطاليا مأزومة أكثر وأقل انفتاحاً على العالم، سياسياً وثقافياً واقتصادياً.
لكنّ ما هو محتمل أيضاً وبدرجة أكبر، أن يطال التقليد الإيطالي الشهير الحكومة القادمة، وأن «يَمْكُرَ التاريخ» بها أسوةً بما فعلَ مع زميلاتٍ لها كثيرات منذ عام 1946، ولهذا الاحتمال إنْ تحقق فعلاً، كلامٌ ومقال مختلف قد يطال تشريع الأبواب وفتحها مجدداً على احتمالات أكثر رحابة، وهكذا دواليك.