من يقارن التجربة الاشتراكيّة البريطانيّة بمثيلتها الألمانيّة لا يعثر من القواسم المشتركة إلاّ على أقلّ القليل. فهنا لا تحتلّ الإيديولوجيا دوراً بارزاً، أو حتّى متجانساً في اشتغاله، كما أنّ التاريخ البرلمانيّ يتصدّر المشهد، تاركاً للتاريخ النقابيّ ركناً ناتئاً فيه. ومنذ النشأة الأولى، يفاجئنا تعدّد لافت في المواقع، يواكبه ويتغذّى عليه تنافر وصراع داخل الحزب الواحد حتّى ليبدو أحياناً أنّ واحديّة الحزب تعبير سخيّ لا يطابق الموصوف، فيما القول بقابليّة الحزب لتوحيد المصالح والأفكار لا يستدرج إلاّ التشكيك. وفضلاً عن هشاشة الإيديولوجيا التي قُصد أن تكون كذلك، وعن عدم وجود زعيم تاريخيّ من طينة القادة الذين عرفهم اليسار الاشتراكيّ الفرنسيّ مثلاً، انطوى حزب العمّال البريطانيّ على رخاوة تنظيميّة منذ بداياته، بحيث ظلّ أقرب إلى مجموعة «أحزاب»، أحدها برلمانيّ، والآخر يتمثّل في النقابات، بينما يحيل الثالث إلى التنظيمات المحلّيّة والقاعديّة. ودائماً ما انعكست التوازنات بين تلك المكوّنات على هيئة الحزب التنفيذيّة التي غالباً ما استقلّت بذاتها كأنّها «حزب» آخر من «أحزاب» حزب العمّال البريطانيّ أغلب الظنّ أنّ تلك العناصر «الرخوة» ساهمت في إضعاف ألفة المثقّف العربيّ مع تجربة العمّال البريطانيّين، قياساً بتجارب اشتراكيّة أخرى، خصوصاً منها الفرنسيّة..
ما قبل البدايات
لئن ضمّ حزب العمّال البريطانيّ «أحزاباً» كثيرة، وتخلّلت مسارَه مراوحاتٌ عريضة في المكان الضيّق نفسه، فإنّ تاريخه هو، بأكثر من معنى، تواريخ عديدة.
فالحزب، وفق الرواية الرسميّة، تأسّس في 1900، متفرّعاً عن الحركة النقابيّة والتنظيمات الاشتراكيّة في العقود القليلة التي سبقت. حينذاك لم تكن النساء يصوّتن، بل حتّى العمّال الذكور لم يكونوا جميعاً قد أحرزوا هذا الحقّ، كما كانت إيرلندا كلّها لا تزال محتلّة من بريطانيا، فيما الحزبان الرئيسيّان هما المحافظون (التوريز) والليبراليّون (الويغ).
أمّا البدايات المتعرّجة التي أفضت إلى التأسيس فتعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما أملَتْه الحاجة إلى تمثيل مصالح الطبقة العاملة الصناعيّة والمدينيّة وتطلّعاتها، هي التي كبّر التوسّع الصناعيّ حجمها ورُقَع انتشارها. فالحقبة التي ولد الحزب في قلبها، أي ما بين ثمانينات القرن التاسع عشر واندلاع الحرب العالميّة الأولى، هي بالضبط حقبة تلك الزيادة النوعيّة، حيث بلغ عدد أعضاء النقابات، في 1900، سنة التأسيس الرسميّ للحزب، مليونين. وهذا لئن منح تلك النقابات نفوذاً وتأثيراً كبيرين ومبكرين، فإنّه لم يكن كافياً لتحرير البيئة النقابيّة من نفوذ الحزب الليبراليّ. فهي بدت أقرب إلى جناح من أجنحة الحزب المذكور الذي رعى ترشّح بعض النقابيّين للانتخابات العامّة. هكذا نجم عن تفاعل الطرفين علاقة جديدة تختار النقابات بموجبها مرشّحيها كما تتولّى تمويل حملاتهم، فيما يخوضون معاركهم على قوائم الليبراليّين. وقد عُرف من يفوز من المرشّحين هؤلاء بتسمية «نوّاب الليب لاب» (Lib lab MPs)، أي النوّاب الليبراليّين العمّاليّين.
حينذاك تشكّلت عدّة مجموعات اشتراكيّة صغرى بهدف دخول الحقل السياسيّ، كان منها «حزب العمّال المستقلّ» والجمعيّة الفابيّة التي ضمّت مثقّفين من الطبقة الوسطى، و«الاتّحاد الاشتراكيّ الديمقراطيّ» الماركسيّ الهوى، و«حزب العمّال الاسكتلنديّ»… ويجوز القول، ولو بشيء من التعميم، إنّ «العمّال المستقلّ» كان الطرف الأكثر إنتاجاً للناشطين، فيما ظلّ الفابيّون مصدر الأفكار والنظريّات الأوّل، بما فيها عدم المبالغة في التعويل على الأفكار والنظريّات.
الفابيّون والتدرّج
والجمعية الفابيّة ولدت في لندن عام 1883، أنشأها صحافيّون وكتّاب وموظّفون اتّجه تركيزهم إلى ردم الفوارق الطبقيّة والدعوة إلى مستقبل تقدّميّ يُبلَغ إليه تدريجيّاً. فهؤلاء الإشتراكيّون شاؤوا، بطريقتهم، إعادة تنظيم المجتمع عبر إزاحة وطأة المُلكيّة الفرديّة عن الأرض ورأس المال الصناعيّ، وقيادة العالم ببطء وسلميّة نحو مستقبل اشتراكيّ.
وكان من اللافت والدالّ أنّهم نسّبوا أنفسهم إلى فابيوس ماكسيموس، الجنرال الرومانيّ الذي كان جنوده، إبّان الحرب البونيقيّة الثانية، أقلّ ممّا هو مطلوب لإلحاق الهزيمة بهنيبعل الذي كان يغزو إيطاليا ويحرز انتصارات على الرومان. هكذا رأى فابيوس ضرورة اعتماد حرب الاستنزاف، واهتمّ بتطوير تكتيكات صبورة ودفاعيّة لكنّها تراكميّة أيضاً. فمن غير الحكيم، وفقاً له، الاشتباك المباشر مع العدوّ، ويُفضَّل عليه انتظار الفرص الملائمة، وتحقيق ما أمكن من انتصارات صغيرة في هذه الغضون. وبالمعنى هذا رأى الفابيّون إمكان تحقّق الاشتراكيّة عبر العمليّة الديمقراطيّة، من خلال «انتصارات صغيرة» كتغيير القوانين وتأميم بعض الصناعات وفرض الضرائب على الملكيّات الكبرى والضرائب التصاعديّة على المداخيل، فضلاً عن اعتماد التعليم الرسميّ الشامل. وربّما جاز هنا، وفي مجال التيّمن بالرموز التاريخيّين ودلالاته، مقارنة الخيار الفابيّ بخيار آخر وقع عليه بعض الاشتراكيّين الألمان بعد نيّف وثلث قرن، حين اختاروا سبارتاكوس اسماً لهم، قبيل تحوّلهم إلى الشيوعيّة. ذاك أنّ المصارع الذي قاد العبيد وثورتهم كان، من غير شكّ، أقدر من جنرال على استثارة العواطف النبيلة، إلاّ أنّه، مع هذا، انتهى إلى هزيمة تاريخيّة، على العكس من فابيوس الذي أحرز انتصاراً تاريخيّاً لدى قراءة تاريخ الحزب وأدبيّاته وسجالاته، يكثر على نحو لافت استخدام تعبير fit to govern (صالح أو ملائم للحكم) بوصفه معياراً حاسماً في محاكمة طرف سياسيّ ما..
الاستقلال عن الليبراليّين
لئن عادت أولى تجارب «الليب لاب» إلى 1874، حين انتُخب نائبان منهم، فقد كان للتجربة المبكرة هذه أن نمّت عن وجود هامش عريض من التقاطع، في المسار البريطانيّ، بين العمّاليّ والليبراليّ. غير أنّ تعاظم الوزن النقابيّ، تبعاً لنموّ الصناعة، راح يحضّ القوّة العمّاليّة الناشئة على استقلاليّة تشبّ بها عن الطوق الليبراليّ. وبالتدريج انتزع نوّابهم استقلاليّتهم الكاملة عن حلفائهم ورعاتهم الليبراليّين، خصوصاً لدى التصويت على حقوق العمل وشروطه وظروفه.
وجاء العام 1887 مثقلاً بالدلالات: ففيه، وفي «مؤتمر النقابات» (أو المؤتمر النقابيّ) (TUC)، دعا النقابيّ الاسكتلنديّ والقائد العمّاليّ اللاحق كير هاردي إلى إنشاء «حزب عمّالٍ» هدفه «إشاعة التمثيل البرلمانيّ للعمّال». بيد أنّ هاردي الذي كان أيضاً واعظاً ميثوديّاً، «بقي»، بحسب مارك بِفِر، «ليبرالياً راديكاليّاً، يدعم معظم السياسات الليبراليّة لكنّه يريد من الحزب الليبراليّ أن يتبنّى ترشّح المزيد من الطبقة العاملة»، فيما الحزب العمّاليّ الذي اقترحه هو «في الحقيقة، قوّة ضغط تخدم هذا الهدف» Mark Bevir, The Making of British Socialism, Princeton, 2011, p. 304..
وفي العام نفسه بدأ يتبلور البُعد الإيديولوجيّ لما بات مشروعاً جديداً، وهو في العموم بُعد يتنصّل من الأفكار أكثر ممّا يتمسّك بها، وإن نحا تنصّله أحياناً إلى دمج بعضها الكثير الذي يأبى الاندماج إلاّ في مصنع «العمّال» البريطانيّين. فابتداءً رفض الفابيّون الفوضويّة (الأناركيّة) وكرّسوا تمايزهم عن الماركسيّة، وهو ما جاء بدفع من بعض رموزهم الأبرز بمن فيهم سيدني ويب الذي كان أهمّ المفكّرين والفاعلين في تطوّر الاشتراكيّة الفابيّة المرجع السابق، ص. 18-19..
فويب كان أكثر من كرّس حياته ووقته للقضيّة، لا سيّما بعد اقترانه برفيقته السوسيولوجيّة والمؤرّخة (الثريّة) بياتريس بوتّر، ولاحقاً ويب. وبوصفه اقتصاديّاً وعالماً سياسيّاً، كان ويب الكاتب الأساسيّ لأدبّيات الجماعة بما فيها «تاريخ النقابيّة» – كتابه الذي ترجمه فلاديمير إيليتش لينين إلى الروسيّة.
على أن الجوّ العامّ الذي كان يصنّف نفسه «اشتراكيّاً»، كان يملأ المصطلح بمضامين مختلفة، كثيرها متعارض، كما سنرى بعد قليل. فويب مثلاً لم يعارض الاقتصاد الماركسيّ فقط، بل أسند اشتراكيّته إلى جون ستيوارت ميل وعدد من الاقتصاديّين النيوكلاسيكيّين المرجع نفسه، ص. 138-139..
وإذ كانت الجمعيّة الفابيّة دائمة الإلحاح على ضرورة الحزب الاشتراكيّ المستقلّ، فقد بلغ الإلحاح ذروته مع عقد الفابيّين مؤتمرهم السنويّ الأوّل في 1892، والذي دعا إلى استيلاد جسم سياسيّ تامّ الاستقلال عن الحزبين القائمين، المحافظ والليبراليّ. وهذا إنّما وازاه تداخلان آخران، أحدهما بين الحزب الموعود والنقابات، ممّا سنعود إليه مطوّلاً، والثاني بينه وبين أحزاب عمّاليّة محلّيّة وقطاعيّة سبقته في التشكّل على أمل «خلق حزب اشتراكيّ على نطاق وطنيّ» المرجع نفسه، ص. 206..
محافَظة وماركسيّة وبين بين
إذاً بدت الاشتراكيّة البريطانيّة، منذ البدايات، منظومة معتقدات قليلة اليقين، بما يخالف كلّ توقّع مسبق أو مألوف لليقينيّات. ففيها استُعين بكمٍّ من المنظومات الفكريّة حتّى جاز التشكيك، على ما سبقت الإشارة، بأهميّة العنصر الإيديولوجيّ في بنائها. ومع أنّ الجمعيّة الفابيّة كانت الطرف الذي رفد حزب العمّال اللاحق بمعظم ثقافته ومثقّفيه، فإنّ قلّة من الفابيّين أبدت اكتراثاً بـ «نمط النظريّات الاقتصاديّة المجرّدة»، حتّى اعتبر الأديب والمسرحيّ الاشتراكيّ جورج برنارد شو، بسخريته المعهودة، أنّ اهتماماً كهذا يقتصر عليه وعلى زميله سيدني ويب وحدهما المرجع نفسه، ص. 145. لم يتردّد شو، في أحد «مأثوراته» الهرطوقيّة، في القول «إنّ الاشتراكيّة، لولا العمّال، كانت انتصرت قبل زمن طويل»..
والحال أنّ تجربة الأخير خصوصاً بدت بمثابة لوحة تتنافس فيها الألوان والظلال الصارخة. فقد شكّلت علمويّة الداروينيّة الاجتماعيّة إحدى طرق ويب إلى الاشتراكيّة التي بدت له «صيغة تجريبيّة من فكرة التاريخ العالميّ الهيغليّة»، يمكن الوصول إليها عبر أوغست كونت وجون ستيوارت ميل وداروين وهربرت سبنسر المرجع نفسه، ص. 185..
وكان لوضعيّة كونت تحديداً أن وفّرت له نظريّة خطّيّة للتاريخ، بموجبها يتقدّم المجتمع من اللاهوت عبر الميتافيزيك إلى العلم، كما تتقدّم الأخلاقيّة من الأنانيّة إلى الغيريّة. أمّا في الزمن العلميّ المستقبليّ فسوف يُعهَد بحكم المجتمع إلى أصحاب المشاريع الصناعيّين، على أن يعمل هذا الحكم لصالح ازدهار الجميع. وبدورها ما لبثت هذه الرؤية الكونتيّة أن تفرّعت إلى اتّجاهات شتّى المرجع نفسه، ص. 57..
وعندما تحدّث كير هاردي، في 1894، عن اشتراكيّته العمّاليّة، اقترح تطوير فكر اشتراكيّ بناءً على قراءة العهد الجديد وكارليل وراسكين وماتزيني وبلاتشفورد وهوبسون، وعرّف تلك الاشتراكيّة بوصفها خليطاً من المسيحيّة والليبراليّة والإنسانويّة. ومن مصادر انتقائيّة مشابهة، كما يكتب ماثيو ورلاي، تصوّر القياديّ العمّاليّ الآخر رامزي ماكدونالد اشتراكيّته شكلاً للمجتمع يتطوّر عضويّاً وينبثق من رأسماليّةٍ «نضجت إلى شكل أعلى من تنظيم المتاجَرة». فهي عنده من نتاجات الصعود الأخلاقيّ للجنس البشريّ كما أنّها «المرحلة التي تلي الليبراليّة».
والأهمّ أنّ اشتراكيّة ماكدونالد «صالحت هدف الاشتراكيّة والمطالب المتفرّقة للنقابات». لكنّ هذا الإنجاز، الذي حدّ من البُعد الأخلاقويّ قليل التسييس، لم يكن كافياً لتأليف معنى متماسك للاشتراكيّة العمّاليّة، لا سيّما في ما خصّ النظر إلى الدولة، أكان في ظلّ الرأسماليّة أم في ظلّ الاشتراكيّة، وإلى طبيعة مصالحها القوميّة والطبقيّة، وكيف تُرسم الحدود بين الحيّزين الخاصّ والعامّ Matthew Worley, Labour inside the Gate: A History of the British Labour Party between the Wars, I.B. Tauris, 2005, p. 23.
غير أنّ العمّاليّة البريطانيّة كانت أشدّ اختلاطاً من العناصر المشار إليها أعلاه. فهي كانت مهمومة أيضاً بمخاطبة المناطق العمّاليّة التي بدت النزعة المحافِظة متمكّنة منها، وهو ما بدا أمراً مُشكَلاً. فقد فرض خلق جاذبيّة عمليّة لهذا الفكر لدى البيئات المذكورة مقاربة أشدّ مرونة حتّى من المرونة السابقة، إذ لم يكن سهلاً التوفيق بين التوجّهات الأخلاقويّة ومعها التكرّس الذاتيّ لـ «القضيّة»، وأولويّات الطبقة العاملة وبعض تقاليدها الثقافيّة، فضلاً عن الحضور القويّ للوطنيّة «الفخورة» في بعض أوساطها المرجع السابق، ص. 48..
ويتحدّث ورلاي، فوق هذا، عن «اشتراكيّة محافظة» يتمسّك أصحابها بـ«الإصلاح الاجتماعيّ المحافظ» الذي تعود منافعه على العمّال، ومنهم على الوطن بالتالي. وقد انحاز بعض هؤلاء في زمن مبكر نسبيّاً (بين 1904 و1930) إلى «العمّال»، بمن فيهم بعض أبناء الأُسَر المحافظة تقليديّاً، كدالتون وأتلي، حاملين معهم إلى الكيان الحزبيّ الوليد التمويل والجاذبيّة الانتخابيّة الأوسع والخبرة الحكوميّة والإداريّة في بعض الحالات المرجع نفسه، الصفحة نفسها..
ولمّا كانت الصلة بالماركسيّة أحد القياسات الأبرز للتموضع الإيديولوجيّ، فإنّ الجمهور البريطانيّ، وفق بِفِر، لم يتعرّف إلى أفكار كارل ماركس إلاّ في 1881، وذلك من خلال مقالتين، إحداهما كتبها إرنست بلفورت باكس وقدّمت نوعاً من «مقدّمة معقولة» لتلك الأفكار، فيما كتب هنري مايرز هِندمان المقالة الثانية التي لم تأت على ذكر ماركس بالاسم، مُدافِعةً عن سياسات بديلة ومستعيرةً الكثير من تحليله للرأسماليّة. بيد أنّ التعرّف بقي سطحيّاً ومتضارب النتائج لأسباب عدّة بينها طبيعة المُعرِّفين. فباكس إنّما اشتُهر لاحقاً بكونه منظّراً ماركسيّاً، وبوقوفه إلى جانب كاوتسكي ضدّ بِرنستين، مع أنّ الأوّل صنّفه «طوباويّاً». بعد ذاك ارتبط اسمه بميول قوميّة حادّة حملته على تأييد الحرب العالميّة الأولى، وهو أيضاً ما فعله هندمان. والأخير هو من بنى الحركة الماركسيّة الصغيرة والمبكرة، بتأسيسه «الاتّحاد الاشتراكيّ الديمقراطيّ» (SDF) وتزعّمِه إيّاه، هو الذي غدا أوّل مجموعة اشتراكيّة في ثمانينات القرن التاسع عشر. ولسنوات عدّة بقي «الاتّحاد» التنظيم الماركسيّ الأكبر والأشهر في بريطانيا، فكان الأصل الأبرز للحزب الشيوعيّ اللاحق. لكنّ الموقع هذا الذي احتلّه هندمان لم يُعفه من كراهية شخصيّة وسياسيّة واسعة، إذ غالباً ما نُسب إلى شخصه المنفّر عجز «الاتّحاد» عن جذب الطبقة العاملة إليه. وبينما اعتبره نقّاده الماركسيّون إصلاحيّاً وقوميّاً وسلطويّاً وسبباً في تقسيم الماركسيّين البريطانيّين والحؤول دون ظهور بديل اشتراكيّ حقيقيّ لحزب العمّال، رأى فيه نقّاد اشتراكيّون آخرون صاحب راديكاليّة قصوى لا تستطيع أن تغري الطبقة العاملة البريطانيّة.
فهندمان، مثلاً، وفق أحد نقّاده ومعاصريه، «لم يقدّر أهميّة النقابات، ولا العمل بينها لخلق حركة اشتراكيّة أصليّة»، وهو، وفق ناقد معاصر آخر، قدّم المثال الاشتراكيّ على نحو «جافّ»، يكاد يكون عديم المثاليّة، وهو إذ نجح في إظهار الرأسماليّة بوصفها مُبدِّدة وشرّيرة، فإنّه «لم ينجح في إظهار الاشتراكيّة بوصفها أشدّ عمليّةً أو مرغوبيّة» في وقت لاحق، انتقد هندمان لينين لاستيلائه الأقلّيّ على السلطة واستخدامه الإرهاب للاحتفاظ بها. وكان ممّن رأوا أنّ الثورة البلشفيّة ليست اشتراكيّة لأنّ روسيا لم تعرف الطور الرأسماليّ من التطوّر الاقتصاديّ، وأنّ التعصّب وحده لا يكفي للقفز فوق “عمليّة التطوّر التاريخيّ”. وبدوره عارض باكس أيضاً الثورة الروسيّة. أنظر Mark Bevir…, p. 77..
وإليهما، هناك اسم ثالث كثيراً ما يرد مع كلّ استعادة للبدايات الماركسيّة في بريطانيا. إنّه وليم موريس (1834-1896)، الذي كان مثقّفاً وفنّاناً وشاعراً متعدّد الاهتمامات. ومع أنّه تأثّر أيضاً بالفوضويّة التي اختلطت بماركسيّته، فهو من أسّس «العصبة الاشتراكيّة» في 1884 بعد مرور عابر في «الاتّحاد»، كما عُرف بمناوأته للفابيّين بوصفهم مشتطّين في التعبير عن الطبقة الوسطى. وكان باكس من عرّف موريس إلى الماركسيّة كما قدّمه إلى فريدريك إنجلز الذي اعتبره صادقاً لكنْ حالماً وأكاديميّاً وقليل الفائدة العمليّة. ثمّ في مقالة كتبها لينين عام 1911 وصف السيرة الذاتيّة التي وضعها هندمان بأنّها «قصّة حياة تافهٍ بورجوازيّ بريطانيّ (…) يجد أخيراً طريقه إلى الاشتراكيّة لكنّه لا ينبذ مطلقاً التقاليد البورجوازيّة والآراء والانحيازات البورجوازيّة» الاستشهاد من لينين (ج 17 من الأعمال الكاملة) في:Seamus Flaherty, Marx, Engels and Modern British Socialism: The Social and Political Thought of H. M. Hyndman, E. B. Bax and William Morris, Palgrave Macmillan, 2020, p. 309..
وعلى العموم، فإنّ «الاتّحاد» الذي لم يتموضع في أيّ استواء اشتراكيّ أوروبيّ أعرض، لم ينجح في اختراق الثقافة السياسيّة البريطانيّة، وبدا غير قابل للتعقّل كجسم منسجم وسهل التوقّع، ما جعله يخسر المنافسة مع تنظيم اشتراكيّ آخر هو Mark Bevir…, p. 65-66. «حزب العمّال المستقلّ» (ILP) . والأخير، بدوره، قال باشتراكيّة تدمج الاشتراكيّة الأخلاقيّة بالاقتصاد والسوسيولوجيا الفابيّين، كما عبّر قادته، وفي عدادهم رامزي ماكدونالد، عن هذا الخليط الذي لم يخلُ من توجّهات كنسيّة المرجع السابق، ص. 304..
وفي دراسة خصّصها لهؤلاء الثلاثة (هندمان وباكس وموريس) في علاقتهم بالماركسيّة والاشتراكيّة العمّاليّة، لاحظ سيموس فلاهِرتي أنّهم جميعاً دمجوا في اشتراكيّتهم ماركس وستيوارت ميل، فيما تلقّى هندمان تحديداً تأثيرات ليبراليّين آخرين كهنري فاوست وجون مورلاي وأرنولد توينبي، لا بل أن هندمان وموريس تحوّلا إلى الاشتراكيّة بعد قراءتهما ما كتبه ميل عنها، وهو النصّ الذي كثيراً ما نوقش في دوائر الاشتراكيّين الأوائل Seamus Flaherty…, p. 13. ويذهب فلاهرتي إلى أن موريس كان «تعدّديّاً استعار تصوّر الصراع الطبقيّ من ماركس واستحسن رأسمال ماركس إلى حدّ بعيد. فماركس رأس المال والبيان الشيوعيّ كان مجرّد تأثير واحد بين تأثيرات كثيرة». ص. 228-229..
هكذا لا نقع في سِيَر الماركسيّين الأوائل ممّن نشروا الأفكار وأسّسوا التنظيمات السياسيّة الكثير ممّا يُقنع بماركسيّتهم، أو أقلّه بتماسكها. ولا يعني هذا انعدام كلّ تأثير للماركسيّة على أفراد في البيئة العمّاليّة، إلاّ أنّه بقي تأثيراً محصور النطاق كما لم يطل به العمر. فقد اعتبر بِفِر مثلاً أنّ القطيعة الناجزة للفابيّين مع الماركسيّة تظهر بأوضح ما يكون في حالة برنارد شو الذي انضمّ إلى الجمعيّة الفابيّة بُعيد تأسيسها، ثمّ تحوّل إلى كبير سجاليّي الجمعيّة وأحد أبرز قادتها وناشري دعوتها، وهذا قبل ذيوع شهرته ككاتب مسرحيّ. ذاك أنّ جميع من كتبوا سيرته أقرّوا بأهميّة الماركسيّة، وخصوصاً كتاب رأس المال، في تطوّره الفكريّ في ثمانينات القرن التاسع عشر، هو الذي رأى حينذاك، وبلغة قد يعترض عليها ماركسيّون كثيرون، أنّ ماركس «عملاق وعبقريّ» سوف يغيّر العالم «على نحو أعمق ممّا فعل المسيح أو محمّد» Mark Bevir…, p. 152. وفي تقييم ماركسيّ لاحق، لا يخلو من الدقّة، لبرنارد شو، نقرأ التالي: «كان شو شخصاً مثيراً للجدل ومتناقضاً. لقد كان ماركسيّاً ومناهضاً للماركسيّة، ثوريّاً وإصلاحيّاً. أحياناً كان يبدي جهلاً هائلاً بالنظريّة الماركسيّة، لكنّ قلبه بقي أميناً لأحرام الثورة الاشتراكيّة، التي كان يرفضها رأسه الفابيّ».Paul O’Brien, George Bernard Shaw: a fascinating contradiction, Socialist Worker, 26 February 2008..
وفي إيجازه المكوّنات والمؤثّرات في ما خصّ الاشتراكيّة العمّاليّة البريطانيّة، يرى ورلاي أنّها استطاعت أن تكون في وقت واحد «وطنيّة وأمميّة، باسيفيّة وعدوانيّة، أخلاقيّة وبراغماتيّة، ذات حصريّة طبقيّة وذات اشتماليّة اجتماعيّة» Matthew Worley…, p. 24.. وهو يستعيد عبارتين «مأثورتين» يعتبرهما مفتاحيّتين في الوعي العمّاليّ. فقد أكّد كير هاردي أنّ «ما يؤدّي إلى كسب الانتخابات ليس الاشتراكيّة أو غيابها، بل حقيقة أن يكون المرشّح ممثّلاً لحزب يفهمه الرجل العاديّ غير المتضلّع في النظريّات ويوافق عليه». أمّا وفق كليمنت أتلي، فإنّ الحزب «لا يستمدّ استلهامه من معتقد اقتصاديّ ما، ولا من نظريّة ما في السيطرة الطبقيّة. فهو دائماً يركّز دعايته على مبادىء أخلاقيّة، ونحن نظنّ أنّ كلّ فرد ينبغي أن يُمنح الفرصة الكاملة كي يحقّق شخصيّته أو شخصيّتها» المرجع السابق، ص. 10..
وقد أمكن للاتّجاهات والميول الكثيرة أن تتعايش بهدوء نسبيّ وأن تتعاقب في آن، فانطوت الجماعات الاشتراكيّة الأولى، أي «الاتحاد» و«العصبة الاشتراكيّة»، على مقادير من الماركسيّة قبل أن تستولي الفابيّة على الصدارة ثمّ تليها مجموعات انتشرت خصوصاً في الأطراف وبشّرت بـ «دِين الاشتراكيّة»Mark Bevir…, p. 15-16..
إلى العمل… أي إلى البرلمان
لقد بدا الثابت والراسخ في تلك المسيرة طموح الكثيرين من العمّال والنقابيّين في الوصول إلى البرلمان ونيل مطالبهم من خلاله. لكنّ تسعينات القرن التاسع عشر سجّلت أيضاً بدايات تصدّع العلاقة بين الطرفين النقابيّ والليبراليّ، سيّما وأنّ قيادة الليبراليّين، الممثِّلة لتقدّميّي الطبقة الوسطى، بدأت تبدي الضيق بظاهرة «نوّاب الـ Lib lab». وإنّما في السياق هذا سبق لهاردي أن أسّس، عام 1893، «حزب العمّال المستقلّ» الذي يجوز اعتباره التمرين الأبرز على حزب العمّال اللاحق، مسرّعاً تدهور العلاقة مع الليبراليّين ومعزّزاً اختلافات الطرفين المرجع السابق، ص. 208..
وفي العام نفسه دعا «مؤتمر النقابات» (TUC) إلى التملّك العامّ لوسائل الإنتاج وإلى تقديم دعم ماليّ للمرشّحين العمّاليّين في الانتخابات المحلّيّة والبرلمانيّة الذين سيدافعون عن هذه الصيغة في المؤسّسات الدستوريّة المرجع نفسه، ص. 210..
لكنْ في انتخابات 1895 تبيّن أنّ «العمّال المستقلّ» هو الأقوى بين هذه الجماعات، لكنْ تبيّن أيضاً أنّ الانتخابات نفسها أظهرت كم أنّ هذه القوى العمّاليّة لا تزال، بصفتها الاشتراكيّة هذه، ضعيفة انتخابيّاً. فقد رشّح «المستقلّ» 28 مرشّحاً لكنّه نال أقلّ من 45 ألف صوت، ورأى قائده هاردي أنّ من الضروريّ للفوز إنشاء وحدة بين المجموعات الاشتراكيّة، فيما كان، بوصفه واعظاً دينيّاً، ينشط في تأسيس أخلاقيّةٍ تلازم المشروع العمّاليّ (وهو ما أتاح للميثوديّة رقعة حضور تفوق أيّة رقعة احتلّتها منظومات الوعي الأخرى)Matthew Worley…, p. 35..
في هذه الغضون بدأ يساور الأجواء النقابيّة شعور مفاده أنّ العمّال ما عاد في وسعهم المضيّ في الاعتماد على الحزب الليبراليّ، ولا البقاء مجرّد قوّة ضاغطة فيه، وأنّ عليهم بالتالي إنشاء حزبهم الخاصّ بهم وأن يدخلوا إلى البرلمان بصفتهم هذه. وفي 1899 قُرّر عقد مؤتمر نقابيّ خاصّ لجمع سائر الفئات الاشتراكيّة المتناثرة معاً بحيث تعمل في ظلّ راية واحدة. وبموافقة «مؤتمر النقابات» انعقد المؤتمر في شباط 1900، بحضور كثيرين من ممثّلي الطبقة العاملة والمنظّمات الاشتراكيّة، وكان ما يقارب نصف الحضور من «مؤتمر النقابات». وقد اتّفق المندوبون الـ129، رغم تعدّد الآراء وسجالها، على دعم توصية هاردي بإنشاء «مجموعة عمّاليّة مميّزة في البرلمان»، تكون مستقلّة عن سواها في قراراتها وتشريعاتها وتحالفاتها المستوحاة من مصالح العمّال. هكذا انبثقت «لجنة التمثيل العمّاليّ» (LRC) لتوحيد الجهود وتنسيق المحاولات الهادفة إلى دعم النوّاب الذين ترعاهم النقابات ويمثّلون العمّال. وبالفعل شُكّلت اللجنة هذه، وكانت أساساً من النقابات، كما أنّ النقابات هي التي موّلتها، وهي حملت تسمية حزب العمّال، أو بالأحرى حزب العمل، التي أعيد تكريسها في 1906.
ولمّا لم يكن لهؤلاء قائد، انتُخب النائب عن «العمّال المستقلّ» رامزي ماكدونالد سكرتيراً، فغدا لـ «العمّال» قائد للمرّة الأولى. لكنّ من أيّدوا تولّي ماكدونالد قيادة الحزب لم يتجاوزوا الـ61 صوتاً مقابل 56 صوتاً أيّدوا منافسه النقابيّ جون روبرت كلاينس ممّا عُرف به كلاينس أنّه كوزير داخليّة، إبّان حكومة ماكدونالد الثانية (1929-31) رفض منح تأشيرة دخول لليون تروتسكي، الذي كان لا يزال منفيّاً في تركيّا ودعاه «العمّال المستقلّ» لإلقاء محاضرة في بريطانيا.. ومذّاك بات ماكدونالد أكثر الأسماء تماهياً مع الحزب في العقدين الأوّلين من حياته. وبصفته هذه، وكـ «عصاميّ» متفرّع عن أسرة متواضعة، يرى الاشتراكيّة «خلاصة التعليم والعقل»، راح يُحكم ربط الحزب بالطبقة الوسطى وهو ما رأى البعض أحد أسبابه في زواجه بمارغريت غلادستون، ابنة العائلة الثريّة و«العريقة» والمحافظة. بحسب ما وُصف كثيراً في ما بعد، مديحاً وهجاءً.
لكنّ دستور الحزب فرض على القائد قيوداً تجعل قيادته أمراً صعباً، على عكس حال المحافظين وقائدهم واسع الصلاحيّات. فهو يُنتخب سنويّاً، وتحدّ من سلطته سلطةُ الأكثريّة في «حكومة الظلّ» المختارة من النوّاب الحزبيّين، وهناك أيضاً سلطة المؤتمر السنويّ الذي غالباً ما تسيطر عليه النقابات، ومعها سلطة «اللجنة التنفيذيّة الوطنيّة» (NEC) التي تعيّن كبار المسؤولين الحزبيّين.
ولم تكن البدايات البرلمانيّة سهلة. ففيما كان ماكدونالد يواجه المهمّة الشاقّة التي هي توحيد تيّارات الرأي الكثيرة داخل الحزب، أجريت انتخابات عامّة في 1900 لم يجد «العمّال» الوقت الكافي للاستعداد لها وخوض حملاتها، مكتفين بترشيح 15 شخصاً فاز منهم اثنان أحدهما ماكدونالد. وفي تلك الأثناء ظهر ما بات يُعرف بـ «قضيّة تاف فايل» (Taff Vale Case)، وهو خلاف بين العمّال المضربين وشركة سكك الحديد، صدر بنتيجته الحكم الجائر الذي يفرض على النقابات دفع مبلغ 23 ألف جنيه استرلينيّ تعويضاً عن الخسائر التي ألحقها الإضراب، جاعلاً الإضرابات أقرب إلى الاستحالة. وقد اعتُبر أنّ إذعان الحكومة المحافظة التي يرأسها أرثر بلفور لمصالح الصناعة والبيزنس (وهي تقليديّاً أقرب إلى الحزب الليبراليّ فيما تلتفّ مصالح ملاّكي الأرض حول المحافظين) ينمّ عن طبقيّة حادّة لا تعبأ بمصالح العمّال الصناعيّين وهمومهم، ما ولّد المزيد من التعاطف مع «العمّال» وقضيّته.
ثمّ في انتخابات 1906 العامّة، أحرز الحزب 29 مقعداً، وكان ما ساعد في ذلك معاهدة لم تُكشَف علناً عهدذاك، بين ماكدونالد والقائد الليبراليّ هيربرت غلادستون، هدفها الحؤول دون انشطار الصوت المعارض بين مرشحين عمّاليّين وآخرين ليبراليّين، ومن ثمّ ضمان إسقاط المحافظين. وفي اللقاء الأوّل لكتلتها النيابيّة، قُرّر اعتماد تسمية «حزب العمّال» رسميّاً، وتوكيد ما بدأ قبل ستّة أعوام، وجاء ذلك في 15 شباط دالاًّ على السلطة التقريريّة للبرلمان في ما خصّ الحزب بطبيعته وبمقوّماته. يومذاك انتُخب كير هاردي رئيساً لحزب العمّال البرلمانيّ (PLP)، أي عمليّاً قائد الحزب، لكنّه لم يفز إلاّ بفارق ضئيل، وبعد دورات تصويت عدّة، على منافسه، النقابيّ هو الآخر، ديفيد شاكلِتون.
وكان من أوائل ما فعلته الحكومة الليبراليّة الجديدة إنهاء العمل بـ «تاف فايل»، ما اعتُبر انتصاراً كبيراً لـ «العمّال» واكبته تحوّلات في داخل الحزب. فقد تمدّد تنظيم «المستقلّ» إلى الحزب «البرلمانيّ» الجديد وضمّ كافّة النوّاب العمّاليّين، إلاّ أنّ الأخير ظلّ ينتخب لجنته التنفيذيّة ورئيسه، محتفظاً بهامش عريض من الاستقلال عن الحزب الأعرض. والاستقلاليّة هذه إنّما تعهّد هاردي التمسّك بها في المؤتمر الحزبيّ عام 1907، حيث أيّد 632 ألف مقترع (ضدّ 252 ألفاً) إلزاميّة قرارات المؤتمر لنوّاب العمّال، شرط أن تُترك طريقة تفعيل هذه القرارات وتوقيتها الزمنيّ للنوّاب أنفسهم من خلال عمل منسّق مع «الهيئة التنفيذيّة الوطنيّة» للحزب Matthew Worley…, P. 18-19..
أمّا في ما خصّ ميولهم وانحيازاتهم الثقافيّة، فينشر جوناثان روز نتائج جدول حول المؤلِّفين المفضّلين لدى النوّاب العمّاليّين في 1906، حيث يتصدّر القائمة جون راسكين، وإذ يرد اسم أدم سميث ثالثاً، وتشارلز ديكنز رابعاً، والتوراة سابعاً، ثمّ تكرّ أسماء تنيسون وماتزيني وداروين وستيوارت ميل وشكسبير وسواهم، فإنّ اسم ماركس لا يردّ البتّة في القائمة Jonathan Rose, The Intellectual Life of the British Working Classes, Yale, 2010, p. 42..
مسائل التنظيم والتوازنات الداخليّة
كانت المرحلة التي امتدّت حتّى الحرب العالميّة الأولى مرحلة مزدوجة الهموم: من جهة هندسة الحزب كقوّة انتخابيّة، ومن جهة أخرى هندسة التفاوض بين أطراف الحزب، خصوصاً النقابات والسياسيّين، بحيث تستقرّ على صيغة قابلة للديمومة. وقد تقدّم الأداء البرلمانيّ مع انتخابات 1910 ففاز 42 مرشّحاً عمّاليّاً، لكنّ مؤتمر الحزب في 1913، والذي انعقد في بلفاست بإيرلندا، فجّر القضيّة الشائكة حول ما إذا كانت السيادة الحزبيّة تنبثق من المؤتمر الحزبيّ، كما الحال في التقليد الموروث عن الديمقراطيّة النقابيّة، أم من الحزب البرلمانيّ.
وكانت البنية الحزبيّة، حتّى اندلاع الحرب، رخوة تنظيميّاً وأشبه بالرابط الفيدراليّ بين مكوّناته. غير أنّ ما أحدثته الحرب من تغييرات، اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، أعاد صياغة قاعدته التنظيميّة، وهو ما عكسه الدستور الجديد الموضوع في 1917 والذي صُدّق عليه في 1918، بهدف إنشاء الحزب كمنظّمة وطنيّة تجتمع فيها سمتان قد تبدوان لوهلة متناقضتين: أن يغدو أكثر تجانساً، وفي الآن نفسه ذا جاذبيّة انتخابيّة أكبر. فقد أريد لـ «العمّال» أن ينفتح على أعضاء الطبقة العاملة بما يتعدّى النقابات، وعلى من يتعدّاهم إن أمكن. كذلك ضمّ الدستور بنوداً تخاطب الأفراد وأخرى للأحزاب الموضعيّة والقطاعيّة، وكان ثمّة توجّه خاصّ إلى النساء بالتوازي مع التطوّرات الكبرى التي افتتحها صدور «مرسوم تمثيل الشعب» (Representation of the People Act) الذي وسّع حقوق التصويت لتشمل معظم النساء اللواتي تجاوزن الثلاثين والأغلبيّة الساحقة من الراشدين الذكور، بحيث ارتفع عدد المقترعين والمقترعات في 1918 إلى 21،4 مليوناً، ولم يكونوا سوى 7،7 مليون في 1912. وهو ما أرسى أساساً صلباً للتمثيل العماليّ في البرلمان، واكبه توسّع شهدته سنوات الحرب في العضويّة النقابيّة للنساء Matthew Worley…, P. 20..
وتمدّد حضور «العمّال» التنظيميّ، وكذلك دعمه الشعبيّ، على نطاق بريطانيا، هو الذي كان يتمتّع، حتّى 1914، بوجود رسميّ في 158 موقعاً جغرافيّاً ومهنيّاً، فضلاً عن 672 فرعاً متفاوت الحجم لـ «العمّال المستقلّ» عن المرجع السابق، ص. 116..
إلاّ أنّ دستور 1917-1918 اكتسب شهرته من التزامه بأن «يؤمّن للمنتجين باليد وبالذهن كامل ثمار صناعتهم، وأكثرَ توزيع عادل ممكن، استناداً إلى ملكيّة عامّة لوسائل الإنتاج وإلى أفضل النُظم التي يمكن إحرازها في الإدارة والسيطرة الشعبيّين لكافّة الصناعات والخدمات»، وهو ما بات يُعرف بالفقرة الرابعة من الدستور التي ستغدو لاحقاً مادّةً لنزاعات لا تفتر.
مع هذا، يصرّ ورلاي على «تجنّب المبالغة» في أهميّة الفقرة الرابعة آنذاك. فإذا صحّ أنّ الثورة البلشفيّة في 1917 استولت على مخيّلة البعض، فإنّ استعداد «العمّال» لأن يكون منظّمة اشتراكيّة تؤمن فعلاً بالملكيّة العامّة لوسائل الإنتاج، لم يكن في الوارد، خصوصاً أنّ الفهم السائد حينذاك لـ «التأميم» انطوى على تمييزه عن الملكيّة العامّة، بدليل أنّ مبدأ التأميم كان لا يزال مقبولاً من بعض النقابيّين غير الاشتراكيّين في حزب العمّال، لا بل من بعض الليبراليّين أنفسهم. وإلى هذا طغت قناعة النافذين في الحزب بالحاجة إلى بديل اشتراكيّ لا يكون إلاّ برلمانيّاً، وهو ما عزّزه التفاعل غير المشجّع مع الفكر اللينينيّ وتبشيره بالثوريّين «المحترفين». ويداً بيد سار هذا السعي إلى التمايز عن اللينينيّة يساراً مع الرغبة الحارقة في استكمال التمايز عن الليبراليّين يميناً، فبدا الأمر بالتالي أشدّ تعقيداً من أن تختصره معادلة خطّيّة واحدة المرجع نفسه، ص. 21..
على أنّ التجاوُر الذي ضَوَتْه قاعدة الحزب تبعاً لاتّساع أطرافها وتضاربهم، تعرّض لامتحان كبير خلال الحرب العالميّة، إذ انقسم الحزبيّون بين مؤيّدين لها ومعارضين. ففيما آثر ماكدونالد والنوّاب العمّاليّون غير النقابيّين مناوأتها، آثر النوّاب النقابيّون أن لا يقفوا في وجه «تيّار الرأي القوميّ متواصل النهوض» HENRY PELLING, A HISTORY OF BRITISH TRADE UNIONISM, MACMILLAN (4th ed.), 1987, p. 149..
وكان أن نمت معارضة الحرب نسبيّاً، كما استقال رامزي ماكدونالد، الداعي إلى الحياد، من قيادته البرلمانيّة التي تولاّها أرثر هِندرسُن فغدا الوجه الأشدّ نفوذاً في الحزب، ثمّ ما لبث أن ضُمّ وزيراً للدفاع إلى حكومة الليبراليّ هربرت هنري أسكويث، الحربيّة والائتلافيّة، ليصبح بهذا أوّل وزير عمّاليّ.
ورغم تأييد تيّار الحزب العريض للحكومة، وارتباط تولّيه أولى وزاراته بتأييده الحرب، وهي كانت وزارة أساسيّة وحربيّة تعريفاً، فإنّ «العمّال المستقلّ» استمرّ يعارض التطوّع للقتال، فيما نظّم «الحزب الاشتراكيّ البريطانيّ» الصغير، والذي احتفظ أعضاؤه بالانتساب، في الوقت نفسه، إلى حزب العمّال، عدداً من الإضرابات المعترضة.
دروس ما بعد الحرب
مع انتخابات 1918 بُعيد انتهاء الحرب، حقّق أطراف الحكومة الإئتلافيّة المحاربة نصراً كبيراً، فيما عوقب باسيفيّو العمّال، وعلى رأسهم ماكدونالد، حتّى أنّه عجز عن استعادة مقعده النيابيّ. لكنّ درس الحرب، الذي حضّ على تفضيل السياسات الأكثر قوميّة وأكّد على منافعها، اختلف قليلاً عن مجريات العلاقة بروسيا البلشفيّة في ثورتها وحربها.
فقد عارض «العمّال» بقوّة تدخّل الحلفاء ضدّها في 1919-1920. ومع أنّه احتفظ بنقديّة صريحة ومعلنة للبلاشفة، فهو لم يدعم أيّ تحرّك يفضي إلى ضرب الجمهوريّة الوليدة، مقترحاً اعترافاً ديبلوماسيّاً بها وإقامة علاقات تجاريّة معها. وكان هذا، بحسب رأيه الغالب، ممّا يعزّز السلم ويساعد مهمّة التعافي الاقتصاديّ لما بعد الحرب في بريطانيا. وقد تأدّى عن الموقف المذكور تعريض «العمّال» لحملة محافظة ويمينيّة «شبه هستيريّة» تتّهمه بالتعاطف مع البلاشفة. هكذا تضافرت التحذيرات من ثورة دمويّة والتخويف الهذائيّ من اقتران قيام إدارة اشتراكيّة بشيوع «الحبّ الحرّ» والانهيار الأخلاقيّ المعمّم Matthew Worley…, p. 76..
وعلى هذا النحو استمرّت علاقة تنطوي على الكثير من الانتقائيّة في ما خصّ الشيوعيّة والشيوعيّين، البريطانيّين منهم والسوفيات. فمع الحرب الروسيّة البولنديّة (1919-1921)، ومع توجّه الحكومة البريطانيّة إلى تقديم الدعم للبولنديّين في مواجهة التهديد البلشفيّ، أرسل هندرسن برقيات لجميع فروع المنظّمات الحزبيّة طالباً منهم تنظيم تظاهرات ضدّ دعم بولندا، ومشكّلاً في وقت لاحق «مجلس عمل» لتوسيع نطاق الإضرابات والاحتجاجات من دون التورّط في أيّ «عمل مباشر». وبسبب عدد المظاهرات ومردودها الاقتصاديّ والصناعيّ السلبيّ على البلاد، أُجبرت الحكومة البريطانيّة على وقف الدعم لمجهود الحرب البولنديّ. لكنْ في المقابل، رفض «العمّال»، بين 1921 و1923 طلب «الحزب الشيوعيّ لبريطانيا العظمى» الانتساب إليه، علماً أنّه كان لا يزال هناك شيوعيّون نقابيّون يتحدّثون بصفتهم النقابيّة في مؤتمرات «العمّال»، بل كان لا يزال هناك شيوعيّون كثيرون منتسبين في الوقت ذاته إلى «العمّال»، حتّى أنّ العضويّة العمّاليّة لأعضاء «الحزب الاشتراكيّ البريطانيّ» لم تحل دون تشكيلهم هم أنفسهم قاعدة الحزب الشيوعيّ الذي أُسّس صيف 1920 وضمّ معظم الماركسيّين البريطانيّين المتحمّسين لثورة أكتوبر واللينينيّة. ولئن ناقش «العمّال المستقلّ» في المناخ هذا الانتساب إلى الأمميّة الثالثة التي أسّسها البلاشفة، فإنّهم سريعاً ما اكتشفوا أنّ شروط العضويّة لا تنسجم مع تصوّراتهم الأقلّ تنظيميّة وتراتُباً والأكثر سلميّة وتدرّجاً المرجع السابق، ص. 40..
بيد أنّ «العمّال» احتفظ، في المقابل، بدور قياديّ في إعادة تأسيس الأمميّة الثانية، المُدانة سوفياتيّاً، بعد تفسّخها مع انفجار الحرب. فقد ساهم ماكدونالد وهندرسن، بدءاً بـ 1917، في النقاشات التي دار معظمها حول التمايز عن الصيغ والرؤى التي طرحتها الثورة الروسيّة. وبالفعل بات هندرسن واحداً من ثلاثة تشكّلت منهم اللجنة الدائمة التي عيّنها مؤتمر الاشتراكيّين الأوروبيّين في 1919 تحضيراً لإعادة بناء الأمميّة الثانية التي نُقل مقرّها المؤقّت في 1920 إلى لندن المرجع نفسه، ص. 77..
لكنْ بقي الأهمّ في الاستراتيجيّة الحزبيّة منذ 1918 جذب الطبقة الوسطى بمهنيّيها ومقترعيها، ما اعتُبر، بين أمور أخرى، دليلاً على رسوخ التركة الليبراليّة عند «العمّال» الذين شرعوا يرثون الليبراليّين. هكذا جاءت بياناتهم الانتخابيّة التي غالباً ما توجّهت إلى «الشعب»، ومعها أقلام قادة كماكدونالد وويب وأفواههم، ترسم الاشتراكيّة كإيمان بـ «المواطَنة الأخلاقيّة التي تتعدّى المصلحة القطاعيّة أو الفرديّة» أكثر منها إيديولوجيّةً طبقيّة. وغير بعيد من هذا التصوّر، ذاك الواقع الضاغط الذي أكسب الطبقة الوسطى أهميّة مزدوجة للعمّاليّين. فهي، من جهة، حاجة انتخابيّة حاسمة، ومن جهة أخرى، حاجة يمليها العوز إلى التمويل كما إلى «الأدمغة»، وهو التعبير الذي قُصد به المحامون والعارفون بشؤون السياسة الخارجيّة وبالجيش والبحريّة، أي أعلى كوادر الحكم والسلطة المرجع نفسه، ص. 52..
وقد ركّز هندرسن جهده على بناء قاعدة تأييد شعبيّ وانتخابيّ. فبعدما عرف الحزب القليل من التنظيم الوطنيّ المرتكز على فروع الاتّحادات النقابية والنوادي الاشتراكيّة، أقيمت شبكة وطنيّة من المنظّمات القاعديّة عملت بالاستقلال عن النقابات وعن اللجنة التنفيذيّة للحزب، كما شرّعت بابها أمام كلّ متعاطف مع سياساته. كذلك ضمِنَ هندرسن اعتماد موقف شامل وموحّد في صياغة السياسات الحزبيّة، في برنامج ظلّ معمولاً به حتّى 1950، وفيه قدّم الحزب نفسه حزباً اشتراكيّاً تنطوي مبادئه على ضمان مستويات معيشة للجميع في الحدّ الأدنى، وعلى تأميم الصناعة، وفرض ضرائب مرتفعة على المداخيل الكبرى والثروات. وفي 1918، وكما سبقت الإشارة، تمّ تبنّي «الفقرة 4» التي كتبها سيدني ويب وضمّها إلى الدستور، والتي تلزم الحزب بالعمل للوصول إلى الملكيّة عامّة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل.
بيد أنّ بلورة أدوات هذا التمثيل بقيت هي نفسها عرضة لنقاش لم يحسمه وجود حزب العمّال والاستقرار على طبيعةٍ ما تكون طبيعته. ففي العام ذاته، 1918، طُرحت فكرة «حزب عمّاليّ للنقابات» رفعتها النقابات «الوطنيّة» الخائفة ممّا اعتبرته «نفوذاً اشتراكيّاً» على الحزب. ولئن رفضت الفكرةَ أكثريّةٌ كبرى قاربت الأربعة ملايين، في تصويت أجراه «مؤتمر النقابات»، فإنّ مؤيّديها بلغوا 567 ألفاً، والأهمّ أنّ الثلاثة الذين طرحوا هذه الفكرة انتُخبوا كلّهم إلى اللجنة البرلمانيّة لـ «مؤتمر النقابات» المرجع نفسه، ص. 41..
«العمّال» حزب ثانٍ ثمّ أوّل
بسرعة راح ينحسر الحزب الليبراليّ، كما عانى انشقاقاً مدمّراً سمح لـ «العمال» بتنسيب الكثيرين من مؤيّديه إليه. وفيما الليبراليّون في هذه الحال من التبعثر في مطالع العشرينات، تجاوزهم «العمّال» عدداً ومؤيّدين فنال 142 مقعداً في انتخابات 1922، وغدا الحزب القائد في معارضة المحافظين، والثاني في البرلمان.
ومنذ 1922 و«العمّال»، الذي انتخب ماكدونالد قائداً له، هو إمّا حزب حاكم أو على رأس المعارضة الرسميّة. لكنّ الحزب البرلمانيّ غيّر، في ظلّ ماكدونالد وبدفع منه، مواضع التشديد في لغته، وكان أن تولّى النوّاب الجدد من أبناء الطبقة الوسطى مهمّة التلطيف المرجع نفسه، ص. 35.. وفي مقالة له نُشرت أواخر ذاك العام ألحّ ماكدونالد نفسه على أنّ حزبه يحاول أن «يقبض على» البرلمان، لا أن «يدمّره»، فيما معارضة الحكومة سوف تنضبط بـ«الوسائل المقبولة دستوريّاً»المرجع نفسه، ص. 37..
وبموافقة الليبراليّين بقيادة أسكويث، أصبح ماكدونالد، أوائل 1924، أوّل رئيس لحكومة عمّاليّة أقلّيّة إذ كان عدد النواب العماليّين أقلّ من ثلث أعضاء مجلس العموم. وهو قرار حظي بتأييد الحزب البرلمانيّ واللجنة التنفيذيّة ومجلس «مؤتمر النقابات» سواء بسواء. وكان الإنجاز الأكبر لتلك الحكومة «مرسوم إسكان ويتلاي» (the Wheatley Housing Act)، الذي انطلق معه برنامج لبناء 500 منزل للمجالس البلديّة يستأجرها العمّال ذوو الأجور المنخفضة، كما مُرّرت تشريعات تخصّ التعليم والبطالة والضمان الاجتماعيّ وحماية المستأجرين. لكنْ بسبب اعتماد الحكومة على دعم النوّاب الليبراليّين القليلين، فإنها لم تستطع إنفاذ سياسات أخرى تتعلّق بتأميم صناعة الفحم وفرض بعض الضرائب الأخرى على المُلكيّة. غير أنّ أمرين تأكّدا لـ «العمّال» بفعل تلك التجربة القصيرة: أنّه قادر على أن يكون حزباً حاكماً، وأنّه غير قادر على ذلك إلاّ بصعوبة منشؤها تكوين الحزب نفسه. فداخل «كنيسته العريضة»، ظهّرت الأشهر التي تولّى «العمّال» السلطة خلالها أنّه لا يزال «ائتلافاً من هويّات متمايزة، وإن متقاطعة، في عدادها الاشتراكيّة والنقابيّة والراديكاليّة والنِسويّة، فضلاً عن الأفراد والمنتسبين ذوي التعريف الأقلّ وضوحاً». و«كان حتميّاً»، كما يضيف وارلي، «أنّ يثير القصور الذي كشفته الحكومة العمّاليّة في 1924 قلقاً ينتاب فروع الحزب، وبدا الأشدّ انقشاعاً اتّضاحُ الطبيعة المعتدلة، أو الجزئيّة، للسياسة العمّاليّة إبّان وجود الحزب في السلطة، وهو ما قاد تالياً، وبسرعة شبه فوريّة، إلى محاولات لإنشاء برنامج سياسيّ أكثر دقّة وقابليّة للتطبيق»المرجع نفسه، ص. 105..
ومع أنّ بريطانيا لم تشهد إضرابات عمّاليّة كبرى إبّان حكومة ماكدونالد، فقد سقطت الحكومة بعد عشرة أشهر، حين تخلّى الليبراليّون عن دعمها، وهو ما تلته انتخابات عامّة.
إلاّ أنّ اكتمال الانهيار الذي عصف بالحزب الليبراليّ هو ما أدّى إلى اكتساح محافظ في انتخابات 1924، فعاد المحافظون إلى الحكم منتزعين تأييد بعض مَن كانوا يؤيّدون الليبراليّين، وإن تمكّن العمّال من رفع عدد مؤيّديهم ليصلوا إلى ثلث الإجماليّ.
وفي المعارضة استمرّ ماكدونالد يقدّم حزبه كقوّة «معتدلة». فخلال الإضراب العامّ في 1926 عارض الحزب الإضراب مجادلاً بأن الطريقة الأفضل لإحراز إصلاحات اجتماعيّة هي عبر صندوق الاقتراع. والحال أنّ العلاقات بين النقابات والحكومات العمّاليّة، منذ تلك الحكومة، ظلّت في معظم الأحيان مشوبة بالتوتّر والصراع. فماكدونالد، إبّان حكومته تلك، كثيراً ما وجد نفسه وجهاً لوجه مع «رفيقه» إرنست بيفِن، الأمين العامّ لنقابة المواصلات، وهو ما لن يكفّ عن التكرار بأسماء أخرى في تجارب لاحقة سوف يشار إليها.
شيوعيّون وسوفيات… يمينيّون وفاشيّون
منذ أوائل العشرينات، وخصوصاً أواسطها، نشط «العمّال» في القتال على جبهتين: من جهة، مكافحة بقاء الشيوعيّين داخل تنظيمه أو انتسابهم إليه، وذلك بسبب تعارضهم مع طبيعته الدستوريّة، وتعارض «ديكتاتوريّة البروليتاريا» اللينينيّة مع أفكاره، وتبعيّتهم لموسكو، وهذا فضلاً عن إدراك «العمّال» الأثرَ الانتخابيّ السيّء الذي ينجرّ عن الصلة بالشيوعيّين. وفي هذا السياق عبّر بعض أبرز القادة العمّاليّين عن تحفّظاتهم الكبرى على الشيوعيّة، بادئين حملة احتواء للشيوعيّين داخل الحزب انتهت بطردهم منه.
غير أنّ حملة «التطهير» لم تُلغِ وجود أصوات مؤثّرة من الباسيفيّين اليساريّين الذين رأوا أنّ السلم يبقى مستحيلاً بسبب الرأسماليّة والديبلوماسيّة السرّيّة وتجارة الأسلحة، وأنّ من الضروريّ التركيز على عناصر ماديّة وفكريّة تطوي ذكريات الحرب الأولى ولا تحرّك العواطف القويّة في ما خصّ القوميّة وحدود البلدان. وكان واضحاً في هذا الموقف الذي لازم «العمّال» طويلاً تقاطع وعي مساواتيّ واشتراكيّ غائم ووعي أخلاقيّ ضارب في جذر دينيّ بروتستانتيّ.
لكنْ من جهة أخرى، كان لا بدّ للحزب أن يتصدّى لعمليّات تشويه السمعة اليمينيّة. فقبل أربعة أيّام على انتخابات 1924، نشرت صحيفة التابلويد ديلي ميل ما اشتُهر بـ «رسالة زينوفييف» التي تبيّن أنّها مزوّرة، حيث يُفترض أنّ القائد البلشفيّ السوفياتيّ الذي كان يرأس الكومنترن، وجّهها إلى الشيوعيّين البريطانيّين، يدعوهم فيها إلى مباشرة حملة تحريضيّة يرافقها تسلّلهم إلى الجيش والبحريّة بهدف إلحاق الشلل بهما تمهيداً لعمل ثوريّ، وهذا مع التأكيد على أهميّة العلاقات البريطانيّة – السوفياتيّة في ظلّ حكومة عمّاليّة حيث تسهم تلك العلاقات في تجذير الطبقة العاملة البريطانيّة. وكان للرسالة المزعومة، التي أثارت أخذاً وردّاً كثيرين داخل الحزب، تأثير سلبيّ على التصويت العمّاليّ، فيما كان لها سهمها (الذي تتفاوت التقديرات بشأنه) في تأمين الفوز للمحافظين بقيادة ستانلي بالدوين المرجع نفسه، ص. 113..
لكنّ «الكنيسة العريضة» التي كانها «العمّال» وجدت نفسها أمام إشكال داخليّ من نوع آخر وفي ساحة أخرى. ذاك أنّ السياسيّ الأرستوقراطيّ والانتهازيّ أوزوالد موزلي استطاع أن يجد موقعاً له في الحزب، بعد أن جرّب الأحزاب الأخرى تباعاً. وقد استطاع، قبل أن ينعطف إلى الفاشيّة ويؤسّس «اتّحاد الفاشيّين» في 1932، أن ينتزع لنفسه مقعداً برلمانيّاً عام 1926 بوصفه مرشّحاً عمّاليّاً، ثمّ يُسمّى وزيراً ثانويّاً (junior minister) في الحكومة. أمّا الأشدّ تعبيراً عن رخاوة الحياة الحزبيّة البريطانيّة، وعن الجذر غير الديمقراطيّ المشترك بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، فهو ما أضاءته واقعة استقالته من «العمّال» وحكومته في 1931، والتي جاءت إثر امتناع الحزب عن اعتماد خطّته المتصلّبة والفوريّة في التغلّب على البطالة، حيث طالب بوضع الاستيراد والمصارف في عهدة الحكومة، وبرفع تقديمات التقاعد، فيما كان الكساد الكبير يقضم العائدات الحكوميّة، الضريبيّة منها وغير الضريبيّة.
الانتخابات تُكسَب من الوسط
على أنّ انتخابات 1929 العامّة جعلت «العمّال»، وللمرّة الأولى، الحزب الأكبر في البرلمان ولو من دون أغلبيّة مطلقة، إذ نال 37 بالمئة من الأصوات و287 مقعداً. بيد أنّ ماكدونالد (الذي عيّن أوّل وزيرة امرأة في تاريخ بريطانيا، وهي مارغريت بوندفيلد التي تسلّمت وزارة العمل)، كان لا يزال يعتمد على الدعم الليبراليّ (59 مقعداً) لتشكيل حكومة أقلّيّة، مدركاً أنّ موقعه التفاوضيّ، هذه المرّة، أقوى ممّا كان إبّان حكومته الأولى.
لقد بدا الحزب قادراً، في 1930، على تمرير تشريع يرفع إعانة البطالة ويحسّن الأجور وشروط العمل في صناعة الفحم (وهي القضايا التي سبق أن أثارت إضراب 1926 العامّ)، فضلاً عن مرسوم إسكان يعيق طرد سكّان الأحياء الفقيرة.
لكنّ الكساد الكبير حلّ في 1929، أي بُعيد تشكيل حكومة رامسفيد الثانية، وكانت بريطانيا من أكثر البلدان التي أصيبت بتأثيرات الأزمة الماليّة الضخمة. ففي أواخر 1930 بلغ عدد العاطلين عن العمل أكثر من مليونين ونصف المليون، ولمّا لم تكن للحكومة إجابات قاطعة وواحدة عن الوضع الماليّ المتآكل، تفاقمت الأزمة في داخلها. هكذا رفض بعض أعضائها الأساسيّين كلّ حدّ من الإنفاق، وخصوصاً عصر إعانات البطالة المدفوعة ممّا كانت تلحّ عليه قيادات حزبيّة ومعها الأحزاب المعارضة. وحين أجري التصويت انقسمت الحكومة بنسبة 11 إلى 9 لصالح ماكدونالد وتيّاره، علماً أنّ بعض الوجوه البارزة في الأقلّيّة كهندرسن وجورج لنسبُري هدّدوا بالاستقالة رافضين الموافقة على وقف الدعم أو ضبطه. وفي النهاية استقالت الحكومة صيف 1931، فشجّع الملك جورج الرابع ماكدونالد على تشكيل حكومة أخرى تضمّ الأحزاب كافّة، وكان لتفاقم الأزمة الماليّة والحاجة إلى قرارات حكوميّة حاسمة، أن زادا ضغط الملك لتشكيل هذه الحكومة.
وبدورها ضمّت الحكومة الجديدة أربعة من العمّال الذين كانوا يؤيّدون مواقف ماكدونالد، وأربعة من المحافظين على رأسهم بالدوين وتشمبرلين، وليبراليّين اثنين. لكنّ رئاسته الحكومة لم تعن أنّ طرق ماكدونالد معبّدة في الحزب. فموقفه وسلوكه كانا قد أثارا غضباً كبيراً في أكثريّة كبرى من ناشطي «العمّال» الذين أحسّوا بـ«الخيانة»، كما عارضته النقابات بقوّة، ما أسّس تكتّلاً ضخماً نجم عنه طرد ماكدونالد ومؤيّديه واختيار هندرسن بدلاً عنه قائداً للحزب.
وبالفعل سكّت أدبيّات الحزب في 1931 تعبير «خيانة ماكدونالد»، ما عزّز في «العمّال» ثقافة ضعف الثقة بالقائد التي كانت تتفاقم مع كلّ استقطاب داخليّ كان يتعرّض له الحزب. إلاّ أنّ ما أدّت إليه تلك التجربة كان فرض المزيد من الحدود على سلطات القائد، وإجباره على العمل بمراعاة أكبر لتوازنات القوى بين أجنحة الحزب، وتالياً تمثيلها كلّها (اليمين واليسار والنقابات إلخ…) لدى تشكيل حكومة عمّاليّة وهذا ما أذعن له لاحقاً، كلٌّ بطريقته، قادة «العمّال» اللاحقون كغايتسكل في 1959 وويلسون في 1969 وكالاهان في 1978. أنظر:DENNIS KAVANAGH, ‘Conclusion: reading and misreading Old Labour’ in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.), New Labour, Old Labour: The Blair, Wilson and Callaghan Governments, Routledge, 2004, p. 346..
لكنْ بالعودة إلى انتخابات أواخر 1931، التي خيضت ضدّ القوى الثلاث المؤتلفة، أي المحافظين والليبراليّين ومؤيّدي رمسفيلد العمّاليّين (الذين شكّلوا «المنظّمة القوميّة العمّاليّة»)، أتت النتيجة كارثة على «العمّال» الذي انخفض تمثيله إلى 52 مقعداً بينما حصل المحافظون على الأكثريّة الأكبر في تاريخ بريطانيا البرلمانيّ. كذلك خسر هندرسن نفسه مقعده النيابيّ وتسلّم القيادة الوزير السابق، الوحيد بين «العمّال» الذي احتفظ بمقعده، أي الباسيفيّ جورج لانسبوري.
وكان مفاد الدرس المستقى، والذي سيرافق «العمّال» طويلاً، أنّ الانتخابات لا تُكسب إلاّ من الوسط، وأنّها إذا ما خيضت من اليسار سيكون الإخفاق مؤكَّداً. فإلى الصعوبات التي فرضتها الأزمة الماليّة، بدت الطبقة العاملة ضعيفة الثقة بقدرة «العمّال» على التعاطي مع المشاكل الاقتصاديّة، لا سيّما تزايد البطالة في قطاعات الفحم والصلب وبناء السفن والنسيج. وكان هناك العامل الإيرلنديّ أيضاً: فالـ 2،5 مليون إيرلنديّ كاثوليكيّ في إنكلترا واسكتلندا سبق لهم أن شكّلوا قاعدة صلبة لـ «العمّال» في عديد المناطق الصناعيّة، كما تعاطفت كنيستهم النافذة مع الحزب منكرةً، دفاعاً عنه أو تستّراً عليه، أنّه اشتراكيّ. لكنْ في 1930 بدأ استياء رجال الدين يتعاظم ممّا اعتبروه تعاطفاً عمّاليّاً مع الاتّحاد السوفياتيّ، فضلاً عن استيائهم من موقف «العمّال» من تنظيم النسل، وخصوصاً من تمويل المدارس الكاثوليكيّة. وكان لهذا التحوّل الكاثوليكيّ عن «العمّال» وعن تأييده أن قوّى الائتلاف المناوىء في مطالع الثلاثينات زار وفد من سياسيّي ومثقّفي «العمّال» الاتّحاد السوفياتيّ، وكان في عداده ويب ودالتون وبيفان، للاطّلاع على تجربة التخطيط الاقتصاديّ هناك. أنظر Matthew Worley…, p. 164.
على أنّ الحزب عرف انشقاقاً صغيراً آخر في 1932، حين غادره بعض يساريّيه، من ذوي الأغلبيّة الاسكتلنديّة، وممّن كانوا دوماً على يساره، خصوصاً بالنسبة إلى التحالف والائتلاف، المرفوضين لديهم، مع الليبراليّين. وقد اختار هؤلاء السير في مسار من الانحدار المديد.
«تريبيون» والتضارب حيال الجبهة الموحّدة
مع صعود الفاشيّة في القارّة، اتّبع الحزب، مرّة أخرى، ما اعتبره موقفاً متوازناً في حصيلته: من جهة، وفي ظلّ علاقات بالغة التردّي مع المحافظين، اتّهم «العمّال» حكومتهم بامتلاك «حوافز إمبرياليّة عريضة»، فيما رفضت لجنته التنفيذيّة، من الجهة الأخرى، كلّ اقتراح بانضمام «العمّال» إلى «جبهة موحّدة ضدّ الفاشيّة» تجمعه بالشيوعيّين. وفي حزيران 1934 عبّر كليمنت أتلي، في البرلمان، عن «معارضة الشيوعيّين والفاشيّين سواء بسواء. فالطرفان يعملان لتدمير الديمقراطيّة وهما يقولان ذلك» المرجع السابق، ص. 166..
لكنّ هذا التوتّر سبقته مقدّمات تعود إلى مرحلة 1928-1932، حين اعتمد الشيوعيّون ما اعتمدته موسكو من خطّ شديد العصبويّة، مشهّرين بقادة «العمّال» وبـ «مؤتمر النقابات» بوصفهم «فاشيّين اجتماعيّين»، بل رافضين التعاون مع اليسار العمّاليّ نفسه، ما أدّى إلى إضعاف الشيوعيّين وعزلهم والانحدار بهم إلى سويّة تقارب الاضمحلال في البيئات العمّاليّة HENRY PELLING…, p. 200-201..
وإذ استقال لانسبوري من القيادة في 1935، بعد خلافات علنيّة حول السياسة الخارجيّة والنهج الباسيفيّ، ليحلّ محلّه نائبه أتلي الذي سيقود الحزب في العقدين التاليين، شهد الحزب صحوةً وانبعاثاً ملحوظين في انتخابات السنة نفسها، بحصوله على 154 مقعداً و38 بالمئة من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحرزها «العمّال». ففيما بدأ شبح الحرب مع ألمانيا النازيّة يقترب، تخلّى الحزب، ولو على نحو تدريجيّ، عن سياسته الباسيفيّة، مؤيّداً مبدأ إعادة التسلّح، ثمّ انضمّ بحماسة، في 1937، إلى معارضة سياسة نيفيل تشمبرلين في ممالأة ألمانيا.
وسجّلت تلك الحقبة تقارباً بين «العمّال» والحزب الشيوعيّ الصغير في التصدّي لفاشيّي موزلي، وفي دعم جمهوريّي إسبانيا. وفي بعض الحالات، ومجدّداً، أمكن لأفراد من «العمّال» أن ينتسبوا في الوقت نفسه إلى الحزب الشيوعيّ، والعكس بالعكس. ذاك أنّ اليسار العمّاليّ بقيادة أنيورين بيفان استطاع أن يرفع صوته ويميّزه عن الصوت الحزبيّ الرسميّ، مؤكّداً أنّ «عصبة الأمم» اتّحاد من «لصوص أمميّين» يسرقون سائر العالم، وأنّ المطلوب لبريطانيا بناء «جبهة موحّدة» من منظّمات الطبقة العاملة المناهضة للفاشيّة وللحرب. فالحليف العالميّ لن يكون، في هذه المعركة، سوى الاتّحاد السوفياتيّ، فيما الحليف المحلّيّ ليس سوى الحزب الشيوعيّ البريطانيّ Matthew Worley…, P. 166..
وفي مطالع 1937 نشأت، داخل الحزب، كتلة «تريبيون»، نسبةً إلى نشرتها الأسبوعيّة التي أسّسها وموّلها عضوان من أثرياء «العمّال». وقد بدت الكتلة والنشرة معبّرتين عن توجّهات بيفان، ومن بعده مايكل فوت، كما كتب فيها كتّاب من وزن جورج أورويل وهارولد لاسكي. أمّا الهدف من الاثنتين عند نشأتهما فكان الحضّ على إقامة الجبهة الموحّدة المناهضة للفاشيّة وللسياسات الممالئة لألمانيا، على أن تضمّ الجبهة المذكورة «العمّال» وسائر التنظيمات الاشتراكيّة الصغرى التي على يساره، بناءً على تصوّر فقير في سياسيّته يفترض وجود وحدة مفترضة بين الرأسماليّين تشمل برلين النازيّة ولندن الديمقراطيّة.
وتحوّلت «تريبيون» وممثّلوها في البرلمان إلى عنصر بالغ الإزعاج لحزبهم. فتصويتهم بـ«لا» كان مطلقاً ومن طينة عدميّة، شاملاً كلّ ما قدّمته الحكومة من اقتراحات وقوانين، وهو ما لم يتغيّر مع تحوّل «العمّال» لاحقاً إلى حزب حاكم يقدّم إنجازات ملموسة للطبقة العاملة وعموم السكّان PHILIP NORTON, ‘Parliament’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 213-214..
والراهن أنّ يسار «العمّال» البيفانيّ شكّل عنصراً دائم التميّز داخل الحزب، لا سيّما برلمانيّيه، كما كانت له جذور وامتدادات خارج البرلمان، سهّلت انتخاب بعض رموزه نوّاباً عن دوائر «عمّاليّة» مضمونة.
لكنْ مرّة أخرى، تمكّن الحزب من أن يثبّت مطلب الهيئة التنفيذيّة بحلّ «العصبة الاشتراكيّة»، وهي المجموعة الموصوفة بالتطرّف اليساريّ والتي كانت الأشدّ إلحاحاً على إنشاء جبهة موحّدة مع الشيوعيّين ضدّ الفاشيّة، وقد حُلّت فعلاً HENRY PELLING…, p. 203..
ولئن طُرد بيفان وبعض رفاقه من الحزب بسبب مواقفهم التي اعتُبرت متشدّدة يساراً، فإنّ الشيوعيّين كانوا هم من وجّه رصاصة الرحمة إلى السياسة الجبهويّة جملةً وتفصيلاً حين غيّروا موقفهم مع توقيع المعاهدة السوفياتيّة – الألمانيّة صيف 1939 Matthew Worley…, p. 218-219..
زمن الانتصارات
في 1940 شارك الحزب في الائتلاف الحكوميّ لزمن الحرب. فبعد استقالة تشمبرلين ربيع ذاك العام، قرّر خلفه المحافظ ونستون تشرشل ضمّ باقي الأحزاب إلى ائتلاف يكرّر الائتلاف الذي عرفته الحرب العالميّة الأولى، فسُمّي أتلي نائباً أوّل لرئيس الحكومة، كما شغل وزارات أساسيّة قياديّون عمّاليّون كإرنست بيفن الذي تولّى وزارة العمل، المولجة حينذاك بإدارة اقتصاد الحرب، وتولّى هيربرت موريسون وزارة الداخليّة، وهيو دالتون وزارة الرفاه الاقتصاديّ. وعلى العموم شُهد لهؤلاء بالكفاءة في معالجة المسائل الداخليّة والاقتصاديّة الصعبة لزمن الحرب.
لكنْ مع عودة السياسة، خاض الحزب، في 1945، الانتخابات العامّة في مواجهة تشرشل والمحافظين، ولمفاجأة الكثيرين حصد انتصاراً باهراً بنيله ما يقلّ قليلاً عن 50 بالمئة من الأصوات و159 مقعداً. وجاءت الحكومة التي شكّلها أتلي الأكثر راديكاليّة في تاريخ الحكومات البريطانيّة، إذ أمّمت الصناعات الكبرى (المناجم والصلب والكهرباء والغاز والمواصلات الداخليّة بما فيها سكك الحديد والقنوات المائيّة) والبنك المركزيّ «بنك إنكلترا»، وأقامت «دولة الرفاه من المهد إلى اللحد» كما تصوّرها ونظّرها الاقتصاديّ وليم بيفيريدج، الليبراليّ المتأثّر بالكينزيّة والمدافع عن نظريّة العمالة الكاملة، حيث لا يجوز للبطالة أن تتعدّى نسبة الـ 3 بالمئة. وقد شكّل تقريره الشهير المُعنوَن «الضمان الاجتماعيّ والخدمات المتحالفة» (والذي عُرف بتقرير بيفيريدج) السند النظريّ الذي استندت إليه «دولة الرفاه» في 1945. أمّا الحلف الذي صاغه أتلي لتنفيذ تلك السياسات فكان، بحسب هنري بيلِنغ، «توازناً يكاد أن يكون متساوياً بين وزراء الطبقة العاملة والطبقة الوسطى» HENRY PELLING…, p 291..
إلاّ أنّ هذا لم يعن أنّ علاقة أتلي بالنقابات كانت قليلة التعقيد. فهو بذل جهوداً جبّارة للحفاظ على ائتلافه العريض والجمع تالياً بين تقديم الإنجازات واستبعاد انفجار أزمة ماليّة يتسبّب بها ارتفاع الأجور.
ولا يزال كثيرون من دارسي التاريخ البريطانيّ في القرن الماضي يرون في إنشاء «خدمة الصحّة العامّة» (National Health Service – NHS) «الاشتراكيّةَ العمليّة» المثلى التي وفّرت الأساس الذي نهضت عليه حكومة أتلي كما باتت مرجع تقليد في أوروبا Matthew Worley…, p. 156..
بيد أنّ إنجازات الحزب في السلطة ذهبت أبعد. ففي 1948، في ظلّ تولّي أنيورين بيفان وزارة الصحّة، هو المطرود سابقاً من الحزب، أُقرّت الرعاية الصحّيّة المجّانيّة للجميع، فكانت إنجاز حكومة «العمّال» الأعظم. وعلى جبهة أخرى، تولّت حكومة أتلي، المتحمّسة لخطّة مارشال الأميركيّة ولأفضل علاقات ممكنة مع واشنطن، تفكيك الإمبراطوريّة البريطانيّة بمنح الهند استقلالها في 1947، وبعد عام مُنحت بورما (ميانمار) وسيلان (سريلانكا) استقلالهما وأنهي الانتداب على فلسطين. غير أنّ الحكومة نفسها، وفي ظلّ ابتداء الحرب الباردة، قرّرت المضيّ في برنامج للتسلّح النوويّ ضدّاً على مواقف الباسيفيّين وتيّار واسع في الحزب.
لكنْ على هامش الحياة الحزبيّة، ظهرت في 1947، عشيّة اندلاع الحرب الباردة، مشكلة «التسلّل الشيوعيّ إلى النقابات»، وكانت بلدان أوروبا الشرقيّة قد حُملت على رفض مشروع مارشال، فيما جعل الشيوعيّون البريطانيّون يهاجمون الولايات المتّحدة وبريطانيا وقادة حزب العمّال «المتآمرين على الطبقة العاملة والعاملين على تشويه وعيها» HENRY PELLING…, p 233..
وقد حقّق الحزب فوزاً آخر في 1950 ولو بفارق خمسة مقاعد فقط عن المحافظين، علماً بأنّه، وبقياس العدد، نال أكبر عدد يناله في أيّة انتخابات عامّة. لكنّ ما فاق هذا أهميّة، من زاوية التعريف بالثقافة السياسيّة البريطانيّة وبقابليّة الإصلاحات لإحراز الإجماع، وتالياً الديمومة، أنّ معظم التغييرات الاجتماعيّة التي أدخلها «العمّال» خلال 1945-51 قبلَها المحافظون وتبنّوها، مكتفين بالمطالبة بوقف التأميمات عند الحدّ الذي بلغته. هكذا غدت الإصلاحات جزءا مما عُرف بـ «إجماع ما بعد الحرب» (post-war consensus) الذي استمرّ العمل به حتّى أواخر السبعينات.
يمين ويسار، نقابيّون وسياسيّون
لكنْ سريعاً ما تحوّل موضوع التسلّح إلى عنصر انقساميّ داخل «العمّال»، خصوصاً أنّ الإنفاق الدفاعيّ بلغ 14 بالمئة من الناتج الوطنيّ في 1951 مع الحرب الكوريّة، ما شرع ينعكس سلباً على الإنفاق الاجتماعيّ. وإذ فرض وزير الخزانة هيو غايتسكل بعض الحدود على تقديمات الخدمات الصحّيّة (إذ الثابت، منذ 1945، لدى يمينيّي الحزب ووسطيّيه، أن لا يتردّى العائد الصناعيّ من جرّاء تقديمات الرفاه)، استقال بيفان احتجاجاً ومعه هارولد ويلسون الذي كان رئيس مجلس التجارة.
وعلى مدى الخمسينات، كما لاحظ هنري بيلِنغ، سُلّطت الأضواء على النقابات بسبب تعاظم دورها داخل الحزب. فقادتها اكتسبوا موقعاً مهمّاً في صناعة القرار بسبب أعداد منتسبيها، كما بسبب اعتماد «العمّال» على تقديماتها الماليّة. والقوّة هذه كانت تتبدّى خصوصاً في المؤتمرات السنويّة الحزبيّة. لكنّ المفارقة كانت يومذاك أنّ أقلّيّة الحزب اليساريّة بدت الأشدّ استياء من تصاعد هذا الدور النقابيّ، حتّى أنّ بيفان، في مؤتمر 1951، وصف الفيتّو الذي تتمتّع به الكتلة النقابيّة الضخمة وتسلّطه على التصويت ونتائجه بـ«مهزلة التصويت الديمقراطيّ». وهذا إنّما نبّه إلى وجود يسارَين، نقابيّ وسياسيّ – ثقافيّ في «العمّال»، قد يختلفان هنا ويتّفقان هناك، لكنّهما حتماً لا يتطابقان وفق هنري بيلِنغ، كانت «المهارة الخطابيّة» منذ 1945، وليس العلاقة بالنقابات سبب صعود بيفان. المرجع السابق، ص. 226.. ومن موقعه المقابل سبق للقائد النقابيّ أرثر ديكِن أن طالب، في 1952، بحلّ «مجموعة بيفان» ووقف الانتقادات التي تصدر عن نشرة «تريبيون»المرجع نفسه، ص. 251..
وحرصاً منه على توسيع أكثريّته الضعيفة في البرلمان، دعا الحزب، مسلّحاً برصيده الإصلاحيّ الضخم، إلى انتخابات أجريت قبل موعدها بقرابة عامين، لكنّ المفاجأة كانت أنّ مواجهة 1951 لم تكتف بإلحاق الهزيمة به، رغم نيله عدداً أكبر من المقترعين، بل أبقته 13 سنة أخرى في المعارضة، إذ لم يعد إلى السلطة إلاّ في 1964.
في هذه الغضون تفاقم انقسام «العمّال» الحادّ بين يساريّين يتزعّمهم بيفان ويمينيّين يتزعّمهم غايتسكل، فيما كان التعافي الاقتصاديّ لما بعد الحرب والآثار الاجتماعيّة التي أنتجتها إصلاحات حكومة أتلي يسهّلان على المحافظين حكم البلد. ولئن كان للحرب الأهليّة الإيديولوجيّة داخل الحزب دورها المؤكّد في خسارته الانتخابيّة، فإنّ موافقة المحافظين، بقيادة ونستون تشرشل «العائد» إلى الحكم، على إصلاحات «العمّال»، رفعت حظوظ المحافظين الانتخابيّة وحرّرت تلك الإصلاحات من الحصريّة الحزبيّة ومن ربطها بـ «العمّال» الذي حُدّ من قدرته على استثمارها انتخابيّاً.
وبعدما خاض أتلي المُسنّ، في 1955، آخر انتخابات عامّة فحصد فيها الفشل وتقاعد، حلّ محلّه في القيادة غايتسكل. لكنّ معركة الوراثة تلك جاءت قويّة في دلالاتها، فخاضها ضدّه، بوصفه يمينيّاً، اليساريّ بيفان. إلاّ أنّ الأخير الذي نال مليوني صوت لم يحالفه النجاح، وفاز الأوّل، الأصغر منه سنّاً ببضع سنوات، بما يزيد عن أربعة ملايين صوت المرجع نفسه، ص. 252-253..
لكنْ على عكس حظّه في الانتخابات الحزبيّة، تمخّضت الانتخابات العامّة في 1959 عن هزيمة غايتسكل وحزبه، وهذا برغم الأزمة الحادّة التي سبق أن تعرّض لها حكم المحافظين في 1956 بسبب «أزمة السويس» وتدهور العلاقات البريطانيّة مع الولايات المتّحدة الذي أملى استقالة أنتوني إيدن وحلول هارولد ماكميلان محلّه. وعلى جاري العادة، رجعت إلى الواجهة خلافات «العمّال» بعد هزيمته الانتخابيّة، فدارت حول نزع السلاح النوويّ، ودخول بريطانيا إلى الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة، والفقرة الرابعة من الدستور الحزبيّ حول التزام مبدأ التأميم التي أراد غايتسكل التخلص منها.
والحال أنّ الأخير لم ينجح في ما نجح فيه الاشتراكيّون الديمقراطيّون الألمان عام 1959، في مؤتمر باد غودسبرغ الشهير، حين أنهوا كلّ صلة بين اشتراكيّتهم والماركسيّة. هكذا أبقي على الفقرة الرابعة لتكون موضوع نزاع عمّاليّ مُقبل. مع هذا ساد ممارسةَ الحزب وثقافتَه السياسيّة لون من الوعي المُراجِع كان مفاده الاعتدال والبراغماتيّة من دون نبذ العناصر القديمة في تكوينه الإيديولوجيّ.
نظريّات كروسلاند وسياسات ويلسون
لقد ارتبط الخطّ المُراجع خصوصاً بأنتوني كروسلاند، الذي شغل لاحقاً وزارات عدّة، بما فيها وزارة الخارجيّة في الستينات والسبعينات. فكروسلاند كان المنظّر الاشتراكيّ لحقبة الحرب الباردة، كما اعتُبر المعادل النظريّ لسياسات غايتسكل. فهو، منذ 1956، نشر كتابه مستقبل الاشتراكيّة حيث دافع عن شكل مُراجع أو تنقيحيّ من الاشتراكيّة الديمقراطيّة في مواجهة اليسار الماركسيّ. وبحسب رايموند بلانت، دارس التطوّر الفكريّ للاشتراكيّة البريطانيّة، جادل كروسلاند بأنّ الرأسماليّة في عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية خضعت لتغيّر عميق ينبغي التكيّف معه، فيما بات مطلوباً التعامل مع مبدأ التأميم أو الملكيّة العامّة لوسائل الانتاج والتوزيع والتبادل، كما صاغتها الفقرة الرابعة، بوصفها وسائل لبلوغ الاشتراكيّة، وليس كغايات بذاتها. فالهدف الاشتراكيّ الأساسيّ، وفق صياغة بلانت لأفكار كروسلاند، هو خلق مجتمع أكثر مساواة ينطوي على عدالة اجتماعيّة في توزيع الموارد والفرص. وهذا ما يمكن بلوغه ليس من طريق التأميم والتخطيط فحسب، بل أيضاً بتوظيف الاقتصاد الكينزيّ مصحوباً بالإرادة السياسيّة لتحسين أوضاع من هم أفقر وأضعف. وهو أعاد توكيد هذا الرأي حين جادل في منشور فابيّ بأنّ النموّ الاقتصاديّ هو الممرّ الوحيد إلى تحقيق الهدف العميق للاشتراكيّة الذي هو تحسين الموقع النسبيّ لمن هم أفقر، من دون تدفيع الثمن للأغنى ومن ثمّ الإخلال بالحياة السياسيّة والديمقراطيّة التي تضمن وحدها التصويت لـ «العمّال». كذلك نشر كروسلاند كتاباً أسماه الاشتراكيّة الآن حول الآفاق المتاحة في ظلّ حكومة عمّاليّة، وذلك عشيّة وصول الحزب إلى السلطة في انتخابات 1974. RAYMOND PLANT, ‘Political thought: socialism in a cold climate’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, P. 37. ولئن توفّي في 1977 فإنّ أنتوني غيدنز وباقي منظّري «الطريق الثالث» الذين التفّوا حول توني بلير سيعيدونه، بعد عقدين، إلى صدارة المشهد العمّاليّ.
لقد توفّي غايتسكل فجأة في 1963، ما فتح طريق القيادة أمام هارولد ويلسون، الذي حُسب آنذاك أقرب إلى اليسار بسبب استقالته المصحوبة باستقالة بيفان اعتراضاً على تقليص حكومة أتلي التقديمات الاجتماعيّة. وفي العام التالي، 1964، عاد «العمّال» إلى الحكم بقيادته حيث بقوا فيه حتّى 1970. وكان ممّا أعادهم، بفارق ضئيل، تردّي الأوضاع الاقتصاديّة إبّان حكم المحافظين، وسلسلة من الفضائح في مطالع الستينات (أهمّها فضيحة بروفيومو) شوّهت صورة حكومتهم. وبدورها نفّذت حكومة ويلسون عدداً كبيراً من الإصلاحات الاجتماعيّة والتعليميّة ارتبطت خصوصاً باسم وزير الداخليّة روي جنكينز، كإلغاء عقوبة الإعدام في 1964 وتشريع الإجهاض والمثليّة الجنسيّة في 1967 (في البداية، لمن هم في الـ21 وما فوق، وفقط في إنكلترا وويلز)، ثمّ في 1968، ألغيت كلّ رقابة على المسرح. وكان اللحاق بالثورة التقنيّة حينذاك من هواجس ويلسون وحكومته، حيث كرّرت خطاباته وبرامجه الإصرار على دولة جديدة ترعى العلوم والتطوّر العلميّ ويكون النموّ الصناعيّ محرّكها الأوّل.
وفي الموازاة شدّد «العمّال» على توسيع الفرص من خلال التعليم الذي استُحدثت فيه مجالات جديدة كما أزيلت من أمام مجّانيّته الشاملة قيود عدّة.
على أنّ البطالة المنخفضة نسبيّاً والبحبوحة اللتين اتّسمت بهما بدايات عهد ويلسون، ما لبث العجز التجاريّ الكبير الموروث عن الحكومة السابقة أن أعاقهما. كذلك انقضت السنوات الثلاث الأولى على الحكومة، 64-67، في محاولة مستحيلة لتجنّب خفض قيمة الجنيه الاسترلينيّ.
ولئن أُبعد «العمّال» في انتخابات 1970 وخسر مواجهته للمحافظين بقيادة إدوارد هيث، فقد أبقى على ويلسون قائداً له في المعارضة، علماً بأنّ علاقات الحزب والنقابات كانت قد تدهورت إلى أسوأ المحطّات التي بلغتها.
ويستعرض روبرت تايلور أبرز محطّات التدهور في صلة الحزب بالنقابات على مدى الستينات. فأساساً سعت الحكومات العمّاليّة منذ ما بعد الحرب العالميّة إلى الحصول على دعم النقابات في ضبط الأجور. ومع ويلسون تزايد الإلحاح على دعمها حمايةً للعملة التي انكشف ضعفها حيال المضاربين، في سياق التراجع العامّ لموقع بريطانيا التي خسرت إمبراطوريّتها. كذلك عُوّل على الدعم النقابيّ لتصحيح ميزان مدفوعات يتنامى عجزه، ولطمأنة النظام الماليّ الدوليّ إلى الكفاءة الاقتصاديّة للندن في ظلّ حكومتها العمّاليّة. وبين 1964 و1970، ومن دون أيّة صياغة لحلف معلن بين الحكومة والنقابات، أو أيّ تجديد لحلف سابق، اعتمد الوزراء العمّاليّون على تلك العلاقة القديمة المألوفة والمُتوارَثة بين الطرفين، لضمان إذعان النقابات لضبط الأجور. وفيما كانت الأخيرة تبدي قلقاً واستياء متصاعدين، حاولت الحكومة، أواخر الستينات، «إصلاح النقابات» من خلال اللجوء إلى التشريع، الأمر الذي وضع كلاًّ من الطرفين في مواجهة الآخر، وهدّد بإنهاء تحالفهما، أو ما تبقّى منه. وفي النهاية، تراجعت حكومة ويلسون «على نحو مُذلّ»، إلاّ أنّ تراجعها جاء يؤكّد القناعة التي كان يزداد معتنقوها من أنّ النقابات تتحوّل قوّةً مستفحلة الجبروت مدجّجة بسلطة فيتو تستخدمها حين تشاء في مواجهة أعمال الدولة الديمقراطيّة. ROBERT TAYLOR, ‘The Rise and Fall of the Social Contract’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 91.
وإذ انفجرت في وجه حكومة هيث المحافظة ألغام إيرلندا الشماليّة ثمّ، في 1973، نشب النزاع مع عمّال المناجم، تأدّى عن ظروف جديدة تراجع عدد المنتسبين إلى «العمّال» ممّن رأوا في إدارة ويلسون إدارة يمينيّة عاجزة عن اللحاق بالمستجدّات. هكذا خسر الحزب ربع مليون عضو لصالح المعبّرين عن تلك «المستجدّات»، فاستقطبت معظمَهم حركات القضيّة الواحدة كنزع السلاح والحركة النسويّة، كما اتّجه بعضهم القليل إلى تنظيمات اليسار الجديد FRANCIS BECKETT, ENEMY WITHIN – THE RISE AND FALL OF THE BRITISH COMMUNIST PARTY, Francis Beckett, 1995. P. 161.. وفي نظرة استعاديّة يبدو أنّ ما حصل يومذاك كان نذيراً مبكراً لمبدأ الحزب والحزبيّة أكثر منه لـ «العمّال» بصفته الحصريّة.
توني بِنّ
لقد طرح النائب اليساريّ توني بن ينتمي بن إلى الأرستوقراطيّة البريطانيّة، فهو حامل اللقب الوراثيّ «فيسكونت ستاغنايت» الذي تخلّى عنه في 1963، واستمرّ يحمل اسمه الأصليّ أنتوني ويدجوود بن الذي «دمقرطَه» في 1970 بتلخيصه إلى توني بن. أستاذه في أكسفورد كروسلاند هو الذي أدخله إلى الحياة السياسيّة مطالع الخمسينات، حيث اعتُبر «يساريّاً معتدلاً وتجديديّاً»، حتّى أنّه دعم غايتسكل في معركته مع بيفان. لاحقاً وصفه كروسلاند بأنّه هاوي «خلق أزمات لا نهاية لها». في 1970 ما أسماه «العقد الاجتماعيّ»، ثمّ أيّده فيه، بعد عامين، القطب العمّاليّ جيمس كالاهان الذي تولّى القيادة الحزبيّة بعد ويلسون، فكان أوّل قياديّ نقابيّ يصل إلى هذا المنصب. أمّا «العقد» المذكور فيُفترض به، من جهة، الحرص على إدامة أفضل علاقات الشراكة والتعاون بين الحزب والنقابات، ومن جهة أخرى، ووفق صياغة كالاهان في 1974، توفير «وسيلة لبلوغ ما لا يقلّ عن إعادة بناء اجتماعيّة واقتصاديّة».
ذاك أنّ علاقة الحزب والنقابات باتت تهدّد بقاء الحزب نفسه، حتّى أنّ جاك جونز، الأمين العامّ لنقابات المواصلات والنقل، وأبرز الوجوه النقابيّة يومذاك، نبّه المؤتمر السنويّ لـ «العمّال» في 1971، إلى ضرورة «إنهاء التوتّر بين النقابات والأجنحة المثقّفة في الحزب»، ناعياً الافتقار إلى الحوار بين الطرفين. ورأى فيرنون بوغدانور أنّ «الأجنحة المثقّفة» كان المقصود بها نوّاب الحزب وهيئته التنفيذيّة.VERNON BOGDANOR, ‘1974: the crisis of Old Labour’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, P. 25-26.
وحتّى روي جنكينز، أشدّ قياديّي «العمّال» ليبراليّة وأوروبيّةً، ونائب قائد الحزب حتّى استقالته في 1972، شدّد على ضرورة تأسيس «تفاهم أكثر ودّيّة» بين الحزب والنقابات. فـ «تفاهم» كهذا كان في مطالع السبعينات هو السائد في معظم بلدان أوروبا الغربيّة والديمقراطيّة، من اسكندنافيا إلى ألمانيا الغربيّة والنمسا، كما كان يُنظر إليه بوصفه الشرط الضروريّ المسبق لنجاح الاشتراكيّة الديمقراطيّة في تسيير اقتصادات السوق.
إلاّ أنّ عناصر أخرى كانت تدفع في اتّجاهات مختلفة. فقد شرع ما يسمّيه بوغدانور «ثقافة الواجب الاجتماعيّ» يتعرّض لهجمة النزعتين الاستهلاكيّة والمتعويّة اللتين أطلقهما يسر مجتمع الخمسينات والستينات وبحبوحته. وقد بدا اليسار غير مطمئنّ إلى هذه الثورة التي رفعت التوقّعات: فمنذ 1959، وفي آخر خطاب له أمام مؤتمر حزبيّ، هاجم بيفان «هذا المجتمع الذي يُسمّى ميسوراً»، وسمّاه «بشعاً» و«مبتذلاً» و«خادعاً في لمعانه»، واعتبر أنّ أولويّات ذاك المجتمع خاطئة كلّها. ولم يوفّر بيفان الطبقة العاملة التي «بقبولها تفاهات النزعة الاستهلاكيّة تخون الحركة العمّاليّة» وتتخلّى عن الدور الذي أعطاه إيّاها التاريخ. ثمّ استعاد توني بن هذا التوجّه في 1971 معتبراً المجتمع الاستهلاكيّ «المَهرب الفرديّ من الطبقة إلى البحبوحة، والذي هو سرطان يقضم أحزاب الاشتراكيّة الديمقراطيّة الغربيّة، وهو ما يؤمن به [أنتوني] كروسلاند». المرجع السابق، ص. 32.
على أنّ بن أحدث تحوّلات ثلاثة كبرى في البيئة الحزبيّة لـ «العمّال». فهو أوّلاً صلّب التحالف مع النقابات من خلال رئيس نقابة عمّال المناجم الشيوعيّ أرثر سكارغيل، وأعطى هذا التحالف أولويّته قياساً بالعلاقة مع يسار الحزب التقليديّ المرموز إليه بمايكل فوت. وهو ثانياً وسّع بيكار الاهتمامات العمّاليّة بالشؤون الدوليّة، فقاتل دفاعاً عن عدم التسلّح وعن مناهضة السياسة الأميركيّة والرابطة الأطلسيّة، كما دافع عن القضيّة الفلسطينيّة كاسراً الصلات التقليديّة الراسخة بين «العمّال» وإسرائيل. ولم يكن عديم الدلالة أنّ كلّ المواقف التي تبنّاها ودافع عنها كانت، وفق حسابات الحرب الباردة، قريبة إلى ما تراه موسكو. وهو أخيراً أبدى من الرغبات والسلوكات ما يشي باستعداده لكسر وحدة الحزب، أو لدفعه إلى هزائم انتخابيّة، مقابل صون عفّته الإيديولوجيّة، ما شكّل انقلاباً على مفهوم عمّاليّ قديم وعريق يضع الوحدة الحزبيّة والفوز الانتخابيّ فوق أيّ اعتبار آخر. وبأكثر من معنى يمكن القول إنّ توني بن كان أباً سياسيّاً وإيديولوجيّاً لقائد «العمّال» اللاحق جيريمي كوربن الذي كان مقرّباً منه وناشطاً في حملاته الانتخابيّة داخل الحزب.
ولئن عاد «العمّال» بفارق ضيّق إلى السلطة في تشرين الأوّل 1974، فهذا لا يلخّص المعاني الكثيرة والمتضاربة لذاك الفوز. فالانتخابات تلك إنّما تلت أخرى أجريت في شباط من العام نفسه وأنتجت برلماناً معلّقاً ينمّ عن التوازن السياسيّ الحادّ في البلد. كذلك جاءت النتائج تؤكّد انخفاض نسبة المصوّتين لـ «العمّال»، بل انخفاض نسبة المصوّتين عموماً، ما عُدّ صفعة مبكرة للحياة والنظام الحزبيّين. فللمرّة الأولى منذ 1924 عجز الحزبان الرئيسان معاً عن نيل 40 بالمئة من الأصوات، كما كانت تلك الانتخابات أوّل انتخابات بعد ستٍّ سبقتها لا ينال فيها «العمّال» 40 بالمئة من الأصوات.
هذه الحصيلة الإشكاليّة حفّت بها تأويلات ورهانات متضاربة. فويلسون، على ما يبدو، راهن على أن تترافق عودته في 1974 مع وجود أكثريّة عمّاليّة تتيح له ضبط التوسّع اليساريّ في حزبه، خصوصاً وأنّ «العمّال» خاض الانتخابات ببرنامج أقرب إلى اليسار، وهو ما فرضته دفاعيّة موقع ويلسون داخل الحزب بسبب هزيمة 1970 وهجمات النقابات واليسار المركّزة عليه. هكذا طرح المانيفستو الانتخابيّ توسيعاً نوعيّاً للملكيّة العامّة، بما في ذلك تأميم حقوق التعدين، وبناء السفن، وإصلاحها، وكذلك الموانئ وآلات المركبات الفضائيّة، مع توسيع حصّة الدولة في صناعة الأدوية وإصلاح الطرقات والبناء والآلات ونفط بحر الشمال وغازه. كذلك اقترح المانيفستو إيّاه «تحوّلاً أساسيّاً لا رجعة عنه في توازن القوّة والثروة لصالح الشغّيلة وعائلاتهم».
أبعد من هذا كُسر احتكار النوّاب العمّاليّين لصناعة قرارات الحزب، وخصوصاً اختيار مرشّحيه، لمصلحة دور أكبر للقواعد الحزبيّة حيث يتمتّع اليسار بقوّة لا يحظى بها في الحزب البرلمانيّ أنظر المرجع نفسه، ص. 25..
هكذا رأى توني بن، عشيّة تلك الانتخابات، أنّ الفوز في ظلّ برنامج كهذا يعني انتصاراً مطلقاً لليسار في داخل الحزب ذاته: «ذاك أنّ إحدى الحجج الكبرى لليمين هي أنّ الانتخابات لا تُكسب ببرنامج يساريّ. فإذا كُسبت الانتخابات ببرنامج يساريّ فالمعنى أنّ اليمين خسر المجادلة، وهذه لحظة تاريخيّة في تاريخ الحركة العمّاليّة البريطانيّة» المرجع نفسه، ص. 30-31..
لكنّ الانتصار بفارق هزيل في الأصوات، واضطرار ويلسون إلى تشكيل حكومة أقلّيّة مدعومة من «وحدويّي ألستر» البروتستانت «الرجعيّين»، تركا أثرين في يسار الحزب ويمينه: فقد بدا أنّ توقّعات بن المضخّمة لم تتحقّق، وإن مضى اليساريّون يجادلون مُنتشين بأنّ الانتخابات نصر مؤزّر، حتّى لو لم تدعم الأرقام رأيهم. لكنْ بدا أيضاً أنّ ويلسون لن يستطيع بهذا الانتصار الهزيل تحجيم رفاقه اليساريّين من ذوي الضجيج المرتفع.
وإلى ذلك شابت سنوات ويلسون الثلاث الأخيرة في الحكم والحكومة (1974-1976) مشكلات، داخليّة وخارجيّة، لا حصر لها. أنظر عن تلك المرحلة وتحدّياتها Chris Ballinger and Anthony Seldon, ‘Prime Ministers and Cabinet’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 192.
ففضلاً عن رفضه دعوة الرئيس الأميركيّ ليندون جونسون للمشاركة في حرب فيتنام، راح الحكم نفسه يبدو مهمّةً صعبة في السبعينات، أكان الحاكم محافظاً أم عمّاليّاً، وذلك تبعاً لأزمة النفط في 1973 التي تسبّبت بتضخّم مرتفع وبركود عالميّ.
تصدّع في الوحدة
حيال تعقّد الأزمة داخل الحزب، كما في إدارة السياسة العامّة، واصل توني بن، كوزير دولة للصناعة، نهجاً تصعيديّاً يرفض التوقّف عند مكاسب التأميمات الكبرى التي أُقرّت. هكذا تأدّى عن نهجه انفكاك عدد من اليساريّين الأكثر دراية بالصعوبات وهشاشة الأوضاع الحزبيّة والداخليّة والخارجيّة، ممّن آثروا الاكتفاء بتلك المكاسب والسعي لحمايتها. وبدا بن تالياً، بحسب روبرت تايلر، معزولاً داخل الحكومة، محروماً من دعم الوزيرين اليساريّين الآخرين، مايكل فوت وباربارا كاسل ROBERT TAYLOR, ‘The Rise and Fall of the Social Contract’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 97. الحذرين من طموحه ومراميه المورِّطة.
لكنّ العام 1975 حمل تحدّياً آخر أكبر حجماً هو الذي بات يوصف بـ«التسلّل التروتسكيّ» ونشاطاته «الدخوليّة» (entryist)، من خلال جماعة تروتسكيّة عُرفت بـ «النزعة النضاليّة» (Militant Tendency) تبعاً لصحيفتها Militant. ومع أنّ وسطيّي الحزب ويمينيّيه تعاملوا مع وجود هؤلاء داخل حزبهم بجدّيّة وتأهّب، فإنّ يساريّيه رأوا الأمر مبالغاً به، إن لم يكن تعبيراً عن ميول تآمريّة. وإذ عُيّن أحد قياديّي «النزعة» مسؤول الشبيبة في الحزب، في خريف 1976، تفاقمت الأزمة التي استثارت حملة في «العمّال» وخارجه. هكذا حذّر كالاهان في خطابه خلال المؤتمر الحزبيّ عامذاك من «عنصر جديد يزحف إلى الحزب»، ومن عناصر سياسيّة «تسعى إلى التسلّل إلى حزبنا وإلى استخدامه لأغراضها»، بينما هاجم يسار العمّال، في المقابل، بعض التقارير الصحافيّة واعتبرها «حملة محسوبة» لإطلاق عمليّة «صيد للساحرات»، وذلك «في خطّة متعمّدة لتدمير الحزب». ERIC SHAW, ‘The Labour Party’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 291.
على أيّ حال فالمناخ التآمريّ الملائم لاحتدام الحرب الباردة في السبعينات بلغ حدّ تجسّس أفراد في الأجهزة الأمنيّة على ويلسون نفسه إبّان الطور الأخير من عهده، وهو ما ترافق مع تحذيرات يساريّي الحزب «اللاعقلانيّة» من تعرّض بريطانيا لانقلاب كالذي شهدته تشيلي في 1973 بذريعة القوّة الفائضة التي باتت تحرزها النقابات وتأثيرها السلبيّ على الاقتصاد البريطانيّ أنظر ROBERT TAYLOR…, p. 118..
وإذ أدّت معارضة «العمّال» عضويّةَ الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة (وكانت بريطانيا قد انضمّت إليها في 1972 في ظلّ هيث) إلى إجراء استفتاء عام 1975، فقد صوّت الثلثان للبقاء، ما عُدّ هزيمة لويلسون وحكومته. ومع أن شعبيّته، رغم ذلك، بقيت قويّة نسبيّاً، فقد استقال على نحو مفاجىء من رئاسة الحكومة، في 1976، متذرّعاً بأوضاع صحّيّة، ليحلّ محلّه جيمس كالاهان.
والحقّ أنّ حكومتي ويلسون وكالاهان السبعينيّتين حاولتا السيطرة على التضخّم عبر ضبط الأجور، ما حقّق بعض النجاح في 1978، إلاّ أنّه، في المقابل، أساء أكثر فأكثر إلى العلاقة بالنقابات المطالبة برفع الأجور بدل مكافحة التضخّم، كما دفعها إلى شفير الانفجار. إلى ذلك ظلّت الطبيعة الأقلّيّة للحكومة سبباً دائماً وراء إضعاف قرارها. فلتوسيع أكثريّته البرلمانيّة، خصوصاً بعدما توقّف عن دعمها قوميّون اشتراكيّون اسكتلنديّون بسبب رفضها إقامة جمعيّة وطنيّة اسكتلنديّة، أبرم جيمس كالاهان عام 1977 معاهدة مع الليبراليّين بقيادة ديفيد ستيل لكنّها لم تعش غير عام واحد، فاستُبدلت باتّفاقات مع أحزاب اسكتلنديّة وويلزيّة أطالت عمر الحكومة وأضعفتها في آن معاً. وفي النهاية سقطت الحكومة ودعي إلى انتخابات عامّة.
النقابات… النقابات
على أنّه في تلك الغضون كانت «المسألة النقابيّة» تتحوّل صاعق تفجير يتعدّى الحزب إلى المجتمع والسياسة البريطانيّين، خصوصاً أنّ الثورة التقنيّة التي بدأت في الستينات بدأت تطرح الثمار التي رآها كثيرون تجاوزاً للنسق الصناعيّ – النقابيّ السائد وافتتاحاً لزمن «ما بعد صناعيّ». وفي المعنى هذا، بات يلوح لكثيرين أنّ النقابات تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى ضريبة على الاقتصاد وقيد على الديمقراطيّة في وقت واحد.
فقد سجّل استقصاء رأي لمؤسّسة غالوب أنّ نسبة البريطانيّين الذين اعتبروا أنّ النقابات «قويّة جدّاً» (بمعنى أنّها أقوى ممّا يجب)، ارتفعت بين 1972 و1975 من 52 بالمئة إلى 73، فيما انخفضت نسبة القائلين إنّها ليست قويّة بما يكفي من 13 بالمئة إلى 4 VERNON BOGDANOR…, p. 30.. وشمل التحفّظ على قوّة النقابات بعض القادة العمّاليّين من غير اليساريّين ككالاهان، الذي عُرف في 1969 بمواقفه المؤيّدة للنقابات. فقد عبّر لتوني بن، في 1974، أي قبل تولّيه رئاسة الحكومة، عن «قلقه» من قوّتها، و«هذه هي مشكلتنا»، كما أضاف. وفي العام التالي حذّر كروسلاند من تلك «القوّة».
بيد أنّ بولي توينبي وديفيد ووكر لاحظا تناقضاً بالغ الأهميّة في ما خصّ الحزب ومستقبله، هو الذي شرع يتفجّر في السبعينات. فدولة الرفاه التي أنشأها «العمّال» قبل عقود ثلاثة إنّما عنت مساومةً بين الطبقة الوسطى، لا سيّما مهنيّيها، والطبقة العاملة. غير أنّ الظروف الجديدة، خصوصاً الثورة التقنيّة ورفاه الطبقة الوسطى واستهلاكيّتها، صرفت هذه الأخيرة عن تلك التسوية بعدما أشعرتها بانتفاء ضروراتها POLLY TOYNBEE AND DAVID WALKER, ‘Social policy and inequality’, in: Anthony Seldon and Kevin Hickson (ed.)…, p. 126..
وكانت أواسط السبعينات، وخصوصاً أواخرها، تطرح تحدّيات كبرى، لدى «العمّال» كما لدى المحافظين، على الكينزيّة كمرجعيّة للسياسات الاقتصاديّة. ففي البيئة العمّاليّة، نظر اليسار إلى وفاة كروسلاند في 1977 بوصفها وفاة لمراجعته الاشتراكيّة الديمقراطيّة نفسها. وبحسب تأريخ أنتوني سِلدن، كان هذا اليسار مندرجاً في «عمليّة تطويرٍ لاستراتيجيّة اقتصاديّة بديلة» يرعاها توني بن خصوصاً، وتؤول إلى مغادرة الكينزيّة يساراً. أمّا في بيئة المحافظين فكان يتبلور التيّار النيوليبراليّ، مرموزاً إليه بأقطاب محافظين كمارغريت تاتشر وكيث جوزيف محاطَين بمثقّفين ومعاهد بحث فقدوا كلّ قناعة بالنهج التقليديّ للمحافظين. هكذا فيما كان المحافظون يسقطون إرث قادة كماكميلان وهيث، كان «العمّال» يسقطون إرث غايتسكل وويلسون.
ولئن لم يحل التحسّن النسبيّ الذي طرأ على الاقتصاد في 1978 دون اندلاع إضرابات واسعة، لا سيّما في بات يُعرف بـ «شتاء الغضب» (تشرين الثاني (نوفمبر) 1978-شباط (فبراير) 1979)، فقد كان لتلك الإضرابات ولتعطيلها دورة الحياة المعهودة أن رفعت إلى الذروة شعبيّة مارغريت تاتشر، القائدة الجديدة للمحافظين، التي وعدت بكسر شوكة النقابات، ثمّ هزمت «العمّال» في انتخابات ذاك العام بعدما جعلت لها عنواناً طاغياً: «مَن يحكم بريطانيّا: الحكومة أم النقابات؟».
ذاك أنّ الصورة التي شاعت آنذاك هي أنّ الأجور المرتفعة للعمل، بفعل الضغط النقابيّ، فقدت شعبيّتها في ظلّ ارتفاع نسب البطالة، لا سيّما بين الشبيبة، ومع بدايات انتقال بعض الصناعات إلى الخارج ممّا عُرف لاحقاً بـ «التفريع» (outsourcing). هكذا أمكنت المجادلة، وليس فقط في البيئات اليمينيّة، بأنّ مصالح العمل التي تحميها النقابات باتت تتضارب مع مصالح الاقتصاد عموماً ومع مصالح باقي المجتمع.
عود على بدء
ومجدّداً دخل الحزب، بعد هزيمته في 1979، مرحلة من التنافس الداخليّ الحادّ بين يسار يتزعّمه توني بن، ويتّهم اليمين، وعلى رأسه كالاهان، بالتسبّب بالهزيمة، ويمين يتزعّمه دنيس هيلي.
وفي 1980، وبفارق ضيّق، انتخب الحزب البرلمانيّ مايكل فوت، اليساريّ ونائب القائد، قائداً للحزب، فيما هُزم هيلي. والنتيجة تلك ما كانت لتتحقّق لولا تقديم فوت نفسه مرشّح إجماع يعيد توحيد الحزب ويتمايز عن يساريّة بن. لكنّ البرنامج الذي ما لبث أن اعتمده القائد الجديد نصّ على نزع السلاح النوويّ من طرف واحد والانسحاب من الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة تقليديّاً كان موقف اليسار العمّاليّ يقوم على تصنيف الجماعة الاوروبيّة بأنّها «نادٍ رأسماليّ»، وأنّها غير ديمقراطيّة في صنع قراراتها، وعامل معيق لاعتماد سياسات اشتراكيّة في الداخل وسياسات استقلاليّة في الخارج. ومن الناتو، مع دعوة إلى تدخّل حكوميّ أكبر في النظام المصرفيّ واعتماد حدّ أدنى للأجور (ومنع «الرياضة الأرستوقراطيّة» الشهيرة، صيد الثعالب).
وأبعد من ذلك كان تغيير قواعد انتخاب القائد، وهو ما كان يقتصر حتّى 1980-1981 على النوّاب الحزبيّين وحدهم. فقد أُنشئت لهذا الغرض «كلّيّة انتخابيّة» أعطيت فيها النقابات 40 بالمئة من الأصوات، ككتلة جلموديّة واحدة، وكلّ من الحزب البرلمانيّ وأحزاب القاعدة 30 بالمئة.
وردّاً على توجّهات جديدة كهذه، اعتُبرت شديدة التطرّف وغير قابلة للتسويق الانتخابيّ، انشقّ عن الحزب، في 1981، أربعة من أقطابه التاريخيّين، هم روي جنكينز وشيرلي ويليامز وبيل روجرز وديفيد أوين (سمّاهم الإعلام «عصابة الأربعة» كتيمّن ساخر بـ «عصابة الأربعة» الصينيّة)، الذين شكّلوا «الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ». وما هي إلاّ أشهر حتّى تجدّدت مشكلة «النزعة النضاليّة» التي اتُّهمت بالدخوليّة التروتسكيّة والعمل بما يتعارض مع دستور الحزب.
لكنّ الحزب، في ظلّ فوت والبرنامج المتشدّد، تعرّض لهزيمة مُرّة في انتخابات 1983 إذ لم ينل أكثر من 27 بالمئة من الأصوات، أي أدنى نسبة ينالها منذ 1918، فيما خسر توني بن نفسه مقعده النيابيّ. وإذ رُدّت تلك النتيجة الصاعقة إلى السياسات اليساريّة «الانتحاريّة»، فإنّها بدت حجّة كافية لدحض التسرّع الذي انطوى عليه تحليل بِن لانتخابات 1974، ولاستعادة التحليل الكلاسيكيّ من أنّ الانتخابات في بريطانيا لا تُكسب إلاّ من الوسط.
ومع استقالة فوت حلّ محلّه في القيادة نيل كينوك، الموصوف بأنّه من «اليسار الوديع» (أو الناعم)، والذي كان أصلاً من أعمدة «تريبيون». لكنّ كينوك تخلّى، ولو تدريجاً، عن السياسات غير الشعبيّة للحزب، كما راح اسمه يرتبط بميل اشتراكيّ ديمقراطيّ وبتأسيس «التجديد» الذي كان توني بلير وغوردون براون من ثماره اللاحقة.
وكان من أكبر امتحانات كينوك وقيادته إضراب عمّال المناجم في 1984-5 رفضاً لإغلاقها، ما أعاد تقسيم «العمّال»، تماماً كما فعل الإضراب الذي تلاه في 1986 والذي أعلنه عمّال المطابع ردّاً على طرد صاندي تايمز المملوكة لروبيرت ميردوك بعض عمّالها، بسبب إدخال الكومبيوتر وتجديدات تقنيّة أخرى. وقد اعتُبر الإضرابان هزيمتين كبريين للنقابات، وإن حظيت بدعم قوى جندريّة ومثليّة وازنة في ما لاح لوهلة إشارةً إلى قيام ائتلاف مجتمعيّ جديد يتعدّى الأحزاب التقليديّة وأُطرها. وهكذا ففي مؤتمر الحزب في 1985 صدر، للمرّة الأولى، قرار ملزم، ومدعوم من نقابة عمّال المناجم، بدعم الحقوق الجندريّة وحقوق أصحاب الممارسات الجنسيّة على اختلافها.
وحسّن الحزب، من جهة أخرى، أداءه الانتخابيّ في 1987 مقلّصاً الأكثريّة المحافظة، فيما كان الاشتراكيّون الديمقراطيّون والليبراليّون يتّحِدون ويشكّلون حزب الديمقراطيّين الليبراليّين. لكنْ بعد الانتخابات مباشرةً طُرد المزيد من عناصر «النزعة النضاليّة» ومعهما نائبان أيّداهم، ممّن شاعت تسميتهم، خصوصاً في الإعلام، بـ «اليسار المجنون» (أو الأبله) (Loony Left).
ومضى توني بن في معركته، فتحدّى في 1988 كينوك على قيادة الحزب، لكنّه لم ينل سوى 37 نائباً مقابل 183 صوّتوا لمنافسه الذي بقي قائداً للحزب، أمّا في «الكلّيّة الانتخابيّة» التي ألحّ اليسار على إنشائها فنال بن 11 بالمئة مقابل 89 لكينوك.
وإذ استقالت تاتشر، في 1990، من قيادة المحافظين ومن رئاسة الحكومة، بدا ذلك فرصة لـ«العمّال» أيّدتها استقصاءات الرأي، خصوصاً أنّ تاتشر كانت قد أضعفت حزبها حين فرضت، في سنتها الأخيرة، «الضريبة على الرأس» (Poll tax) غير الشعبية فيما بدأ الاقتصاد يجنح نحو الركود. لكنْ في انتخابات 1992، وفي ظلّ قيادة جون مايجور، عاد المحافظون مجدّداً ولو بفارق أصغر، ما ضاعف الشكوك بقابليّة «العمّال» للعودة إلى الحكم أكان بتوجّه إصلاحيّ أم بدونه. وأمام هذا الشعور بانسداد الآفاق جميعاً بدا لكثيرين أنّ الأمل الوحيد هو في تغيير نوعيّ يخلّ بالمألوف والمتوقّع. وإذ اختير جون سميث، الموصوف باليمينيّة، ليعبّر عن ذاك التغيير، فإنّ الذبحة القلبيّة التي أودت به، بعد أقلّ من عامين على تولّيه القيادة، ولم يكن له من العمر سوى 56 عاماً، تركت آمال التغيير معلّقة على النجم الصاعد توني بلير.