دوماً ما تسحرنا الحكايات المتعلقة بالكتابة داخل السجن أو المعتقل، فيصعب علينا تخيل الإلهام مفتوح الأفق التخييلي في مكان مغلق وفي ظل ظروف حياة قاسية. بينما نشعر بالسعادة حين نعلم بمعجزة الكتابة عبر تدريب الذاكرة، أو ورق السجائر، ونتابع بحماس عمليات تهريب النصوص كجزء من نصر الأدب على القيود. في الغالب، يتركز أدب السجون على تجربة الاعتقال، والحياة اليومية داخل السجن، والعلاقات بين السجناء والحراس والتعذيب. فيغلب عليها طابع الشهادة الشخصية التي يكتبها المعتقل أو المعتقلة. لكن ما يلفت الانتباه في تجارب مثل تجربة المسرحي غسان الجباعي هي كتابة مسرحية لا تتعلق بالشهادات، بل تتألف من ثلاث نصوص مسرحية تخييلية تحتوي على شخصيات، حبكة، وعوالم سردية وجمالية، وبالطبع مقولة مضمرة، هذه المرة من خلال النص التخييلي. ليصبح السؤال: أي حكايات اختار السجين -المعتقل أن يعالج في نصوصه؟ ولماذا اختار هذه المسرحيات أو الحكايات رغم عدم تعلقها بتجربة الاعتقال أو السجن؟

في كتابه المسرح في حضرة العتمة يذكر الكاتب الجباعي أن أول مسرحية كتبها في سجن تدمر كانت جنراليوس تاريخ كتابة النص في السجن عام 1988، لكنه لن ينشر حتى العام 1995.وهي رؤية معاصرة لمسرحية يوليوس قيصر لوليم شكسبير «1599»، التي تصنف من مسرحيات شكسبير الملكية، شخصيتها الأساسية ملك، وتروي مرحلة هامة من التاريخ الروماني في التحول من الجمهورية إلى الإمبراطورية. الرجل التاريخي الذي صنع مجد روما يقع فريسة الغرور والرغبة في الحكم الفردي، لكن البعض يحلل بأن التحول إلى النظام الإمبراطوري كان حتمياً مع توسع مساحات النفوذ الروماني على خريطة العالم. تقسم مسرحية شكسبير إلى ثلاثة أقسام: الأول يجسد عنجهية قيصر وعلاقته مع العامة وأحكامه الظالمة، والثاني مخصص لعملية المؤامرة التي يخطط لها نبلاء روما للتخلص منه، أما القسم الثالث والأكثر أهمية فيتعلق بتبعات مقتل قيصر، وأسئلة الجريمة والعقاب، والأحكام المنقسمة حول جريمة قتل الطاغية؛ هل هي بطولة أم خيانة؟ أم أنها تكرس اللجوء إلى العنف، وخصوصاً ما نتج تاريخياً عن اغتيال قيصر، أي اندلاع حرب أهلية في روما، موضوعها الأساسي أحقية قتل قيصر من عدمه.

يوضح الجباعي أنه اختار العمل على هذه المسرحية منذ سنوات الدراسة ليعالج من خلالها الفارق بين الثورة والانقلاب، وهو يجد في شخصية بروتوس الشخصية المحورية في المسرحية: «بروتوس، القريب من قلب الشعب الروماني، يقرر التخلص من قيصر خوفاً من تحوله إلى ديكتاتور، بعد ازدياد سطوته وطموحه الجامع، فقد بات اسم قيصر مقروناً باسم روما، وباتت السلطات جميعها بيده، بعد الانتصارات التي حققها في الحرب. من المؤكد أن بروتوس كان رجلاً عاطفياً وجدانياً نبيلاً، ليس بالسياسي البراغماتي، وبالتحليل السيكولوجي العميق نصل إلى أنه حتى الإنسان العنيف، إذا كان ضميره حياً واندفع إلى القتل، فسيشعر بالوجوم، وربما الندم، عندما يحقق فعله ويموت خصمه».

جنراليوس أو تحولات يوليوس قيصر وبروتوس بن عبد الله

تفتتح المسرحية بموكب قيصر في شوارع وساحات روما، تهتف الجموع: «تحيا روما، يحيا قيصر، روما قيصر». في تأكيد على امتلاك الحاكم للمدينة، أو اندماجهما في مخيلة العامة، سوريا الأسد، روسيا بوتين، إسبانيا فرانكو، كلها مصطلحات تعيدنا إلى مقولة لويس الرابع عشر الشهيرة التي تختزل الدولة بالحاكم: «أنا الدولة- فرنسا، وفرنسا أنا»، بينما سيصرح بروتوس عند محاكمته بأنه قتل قيصر لأنه يحب روما.

في الساحة العامة وحين يتقدم العراف ليخبر قيصر بنبوءة تحذره من خطر وشيك، يسخر منه قيصر أمام الجموع، وكما في مسرحية شكسبير، تركز المشاهد الافتتاحية على صورة قيصر الظالم. بقسوة يعامل قيصر العراف، ويهزأ منه: «قيصر لا يرى بالعين المجردة». ثم تالياً يسأله: «ماذا يقدم لنا الغيب؟». تلعب الهيئات والأزياء دوراً محورياً في أحداث المسرحية لكن أيضاً في تأويلاتها، يظهر ذلك جلياً بملابس العراف، الذي يشكل في المسرحية دور الصحافة والجرائد في الأنظمة الحديثة، فالعراف يصبح قطاع الصحافة في الدول الحديثة ويتم التدليل على ذلك من أزيائه، فهو يرتدي جريدة تلف كامل جسده: «نشاهد العراف وهو يرتدي الجريدة الصباحية التي لفوه بها، ينهض، يتقدم نحو الأمام ويعزف، يمكن أن نقرأ بعض العناوين والمانشيتات على ثوبه، لكن ليس بشكل كامل، بينما تبقى أعمدة المقالات غائمة غير مفهومة».

العراف إلى قيصر: «ستصبح جنراليوس»

قيصر: «ماذا يعني ذلك؟».

إنها نبوءة التحولات في حكاية قيصر من الحاكم الإمبراطوري إلى الديكتاتور العسكري. والأدق، هي استمرارية أشكال الحكم المتسلطة عبر التاريخ، وفي المشهد التالي، التمثال، يذكرنا المؤلف بالأفعال التمجيدية المشتركة بين الحكام عبر التاريخ، وعبر كوميديا ساخرة يوصّف المشهد المسرحي محاولات قيصر للتشابه، للتماثل مع التماثيل التي تكرس حكمه في الفضاء العام يدخل قيصر إلى المسرح ويقف إلى مكان مرتفع، نراه يتدرب على أفضل وضعية يصبح فيها تمثالاً ناجحاً، يجرب نفسه واقفاً وذيل ردائه مطوي على زنده الأيمن، بينما يحمل الصولجان باليد الأخرى، ثم يغير من وضعيته وتنقل ذيل الرداء إلى اليد اليمنى والصولجان لليسرى. يجرب وضعية الجلوس في المسرح وهو يشاهد مصارعة الثيران يمد يده إلى الأمام كأنها تؤدي أمام جماهير غفيرة، ضاماً أصابعه الأربعة، رافعاً إبهامه نحو الأعلى، وبحركة سريعة، يدير إبهامه نحو الأسفل علامة الأذن بالموت. مما يذكر بمشهد من مسرحية كاليجولا لألبير كامو، حين يقرر الإمبراطور أن يتأخر في إصدار حكم الإعدام على المجرم، وليخطب بالجمهور مبيناً دوره الحتمي لاستمرارية الحكم والمجتمع، بعد أن يتأخر كاليجولا في إصدار الحكم يخاطب الجمهور مذكراً إيّاهم أنّهم يستمتعون بقلوبهم الباردة وضمائرهم المرتاحة، بينما يتوجب على الحاكم أن يتحمل مسؤولية القرار والحكم: «أقدم على ذلك، لتحافظوا أنتم على صفاء قلوبكم.»، وفي تعبير آخر: «لقدرٍ لا يدرك أحكام القدر، لذا جعلت من نفسي قدراً، وقررت تقمص صورة الآلهة البلهاء، ذات الطلاسم، والتي اعتاد الأسبقون تقديسها. لكن حتى الآلهة غير قادرة على إعادة البراءة، ولا أن تبعث القصاص من جديد».

من فيلم قيصر، إخراج أورسون ويلز

تحولات حضور السلطة عبر تاريخ الأنظمة الشمولية والتمجيدية

تركز أعمال جان جينيه المسرحية على دور الهيئات، المظهر في توزيع الهويات والأدوار الاجتماعية، وتحضر العلاقة بين الزي والهوية والسلطة بوضوح في مسرحية الملك هو الملك لسعد الله ونوس «1977» فالحبكة الأولية للحكاية تقوم على تبادل الملابس بين الملك وأحد العامة المتشردين. وتقوم عملية تبادل الملابس في المسرحية بين الملك والمتشرد كانطلاقة لتبادل الهويات، المهن، مواقع السلطة والطواعية، بما يؤكد على دور الهيئة في تراتبية السلطة. يوظف الجباعي الأزياء، لكن للتدليل على مقولة أخرى، استمرارية التسلط عبر التاريخ بأشكال وهيئات متنوعة. في مشهد الخياط يتحول قيصر من الزي الروماني إلى الأزياء العسكرية المعاصرة. أولاً، يخلع قيصر ردائه الملكي، مما يعبر عن فقدان السلطة المستمدة من الأزياء، ومن ثم يعبر في حالة تحول إلى ملابس القرن العشرين، فتتحول الملابس القيصرية إلى ملابس عسكرية من الكاكي موديل القرن العشرين، ويمتلئ المسرح بثياب مبرقة للمغاوير، أحذية جنود وبساطير، نياشين، كمامات.

قيصر: ما هذه؟

أنطونيو: كمامة

قيصر: ولأي شيء تستخدم؟

أنطونيو: ضد الغازات السامة التي قد يستعملها العدو يا مولاي.

تتبدل بعدها أداءات الطاعة للقائد العسكري الجديد، فتحل التحية العسكرية بدلاً من الركوع، ويتبدل لقب قيصر من مولاي إلى «سيدي»، وتوضع الثياب الرومانية التقليدية في المتحف.

في العام 1937، قدم المخرج السينمائي الأمريكي أورسون ويلز رؤية فيلمية لمسرحية قيصر شكسبير، قدم فيها تأويلاً سياسياً معاصراً، حيث جعل الأحداث تجري في أجواء الفاشية الإيطالية الراهنة آنذاك، مشدداً على طغيان قيصر في زي موسوليني، ومنحازاً إلى بروتوس. عساف، روجيه، سيرة المسرح أعلام وأعمال الجزء الرابع مسرح الباروك، دار الآداب، بيروت، 2012، ص87-88.

إن هذه التأويلات الفنية المختلفة لمسرحية شكسبير تشترك بالميل إلى معالجة صورة السلطة في المراحل التاريخية المتعددة، لذلك فمسرحية جنراليوس تستعرض البنية الأساسية لمظاهرات واحتفالات التأييد والتمجيد في مشهد بعنوان الطبل، والذي يذكر بمضمون وعنوان رواية الصمت والصخب لنهاد سيريس، التي عبّر عنها كاتبها بمقولة: «الصمت لنا والصخب للزعيم». أما مشهد الطبل في المسرحية، فهو كرنفال احتفالي تمجيدي يتحول فيه الجماهير إلى فزاعات في إشارة رمزية إلى فقدانهم القدرة والإرداة، وها هم يتصرفون تحت قيادة أفراد من المصارعين المجالدين، يذكر المشهد بالاحتفالات الدعائية التي تحتفي بالأعياد الوطنية أو الحزبية في سورية، حيث يجبر الناس على الخروج إلى الشوارع والمشاركة في المسيرات والرقصات، وتوزع عليهم الأعلام والشرائط للزينة. إن الاحتفال الروماني في هذا المشهد يماثل الاحتفالات الوطنية والحزبية التمجيدية في القرن العشرين. حتى الشعر يتحول إلى المديح كنوع وحيد، فيفقد الشاعر قيمته في نظر الزعيم، يقول قيصر للشاعر: «لدينا الكثير من أمثالك، أتعلم»، كل ذلك عن دور الشاعر والفن في خدمة السلطة. وتهتف الجماهير في طواعية بكلمات مضمرة المعاني:

هتاف الطاعة: الجميع يرددون: 

نزين الشوارع بأمر منه، 

نزين الهواء، 

نحمل الصور، ونحمل الرجال، 

ونطفئ القمر، 

نجوع، نشقى نتعرى، 

نموت ألف مرة،

 تبقى روما، روما قيصر، قيصر روما بأمر منه

ينتهي المشهد مع تحول أحد العامة إلى بعير هائج يلبس على رأسه حطة وعقال ويطير في الهواء، كصورة فوق واقعية مسرحية ترمز إلى تحول الهتافين والموالين إلى الحالة القطيعية.

لكن المسرحية التي يخطها الكاتب المعتقل من زنزانته لا تسعى إلى تقديم شخصية الطاغية وحسب، بل إنها تحاول الوصول إلى الأسئلة التي ضمنها شكسبير في مسرحيته، فإدانة الطاغية ليست بمثابة عمل فني إشكالي عملاً فنياً إشكالياً، بل هي الاحتمالات المفروضة في التعامل مع الطاغية. وهو الخط السردي الذي يتمركزه بروتوس، ويرى العديد من النقاد بأنه الشخصية المحورية، يكتب المسرحي والمؤرخ روجيه عساف عن حضور قيصر وبروتوس في المسرحية عساف، روجيه، سيرة المسرح أعلام وأعمال الجزء الرابع مسرح الباروك، دار الآداب، بيروت، 2012، ص87-88.: 

يقدم شكسير شخصية قيصر التاريخية من خلال المناظير المختلفة التي تلتفط صورته الملتبسة: يراه الشعب نداً للآلهة وسيداً مقتدراً على مصير العالم، ويرى أصدقاؤه القائد النابغة الذي تحتاج الأمة إليه، بينما ترى المعارضة فيه رجلاً خطيراً يدفعه طموح مفرط، ويفضحون خطابه الغوغائي، أما قيصر فينظر إلى نفسه وكأنه شخص ثان، ويتكلم عن نفسه وكأنه صورة أسطورية ينبغي أن يتماثل معها. وفي الوقت نفسه، يرى وهنه الذاتي ويشعر بشيء من الرهبة والقلق أمام هذه الصورة المؤلهة التي يلزم نفسه بتجسيدها. ولقد فرض بروتوس أن يكون الاغتيال على مرأى من الجميع وليس مغموراً، وأن يتخذ منحى عمل عادل رسمي ومهيب، وأن يعرف الشعب من هم الفاعلون وأسباب فعلهم وتبريره، وبالتالي شرعيته ونتائجه. وفي الجزء الثالث من المسرحية، يرتقي بروتوس إلى مرتبة التراجيديا إذ أنه يستبطن التاريخ ويدرك بعمق المفارقة العميقة التي تنطوي على التناقض بين الأفكار والأحداث. إن المسار الذي يسلكه بروتوس قبل نهايته المأساوية مليء بالتساؤلات المحيرة والمعاينات المقلقة حول الالتزام والأخلاق والسياسة وحول الإشكالية الدائمة بين الحكم والعدل، وبين الخير والحق. لينتهي الأمر ببروتوس بالانتحار دون أن يتزعزع إيمانه بالقيم السامية التي كرس حياته لها. 

إن ما يذكره روجيه عساف يوصّف بدقة الجدليات العميقة التي تحكم أية معالجة للعلاقة بين الطاغية والمتمرد، فلطالما فضلت المجتمعات القانون والنظام الصارم على التمرد، ولطالما لجأت التجمعات البشرية إلى هرمية القيادة للاستمرارية التاريخية، وهذا ما يركز عليه أبرز دارسي شكسبير في النصف الثاني من القرن العشرين، يان كوت، الذي يقدم تأويلات معاصرة لأغلب أعمال شكسبير، ورغم أن كتابه شكسبير معاصرنا لا يتطرق إلى مسرحية يوليوس قيصر، إلا أن ما يكتبه عن مسرحيات شكسبير التاريخية ينطبق تماماً عليها كوت، يان، شكسبير معاصرنا، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980، ص10.: 

أعمال شكسبير تختزل عالماً كاملاً، وكل معالجة مسرحية لفترة تاريخية سيجد القارئ فيها ما يريد أن يراه. فالقارئ أو المشاهد في النصف الثاني من القرن العشرين يؤول مسرحياته من خلال المرحلة الراهنة والتجارب المعاصرة، وهذا هو السبب في أنه لا يفاجأ أو يندهش من قسوة شكسبير. فالمتلقي المعاصر ينظر إلى الصراع من أجل السلطة وجرائم القتل الاغتيال بهدوء أكبر من نظيره المتلقي في القرن التاسع عشر. والموت الفظيع التي ينتهي إليه أغلب شخصيات المسرحية، ليس من قبيل النهاية التراجيدية التطهيرية، بمقدار ما هي حقيقة تاريخية برهنت عليها ممارسات التنافس على السلطة، لتصبح في المسرح كالضرورة التأريخية. وتبدأ مسرحيات شكسبير التاريخية بصراع على العرش أو توطيده، وكل واحجة منها تنتهي بموت الملك وتتويج جديد. وفي كل من التاريخيات يجر الحاكم الشرعي وراءه سلسلة طويلة من الجرائم: فينفض عنه السادة الذين أعانوه للوصول إلى التاج، فيقتل أولاً أعداءه، ثم حلفاءه السابقين، ويعدم كل من يمكن أن يكون خليفة له أو مدعيا بالعرش. غير أن كل خطوة نحو السلطة تستمر بتميزها بالقتل، والعنف والخيانة. وهكذا، عندما يحمل التاج الأمير الجديد يجر وراءه سلسلة من الجرائم لا تقل طولاً عن سلسلة جرائم من سبقه، وعندما يلبس التاج، يكون قد أصبح مكروها كسلفه، فيظهر مدع جديد باسم العدالة المغتصبة، وتدور العجلة دورة كاملة، ويبدأ فصل جديد من المأساة التاريخية المستمرة. وبالتدريج تنبجس صورة التاريخ نفسه، منبثقة عن ملامح ملوك ومغتصبين معينين في مسرحيات شكسبير التاريخية، إنها صورة الآلة الكبرى، صورة التاريخ كما تحضر في مسرحيات شكسبير.

محاكمة اغتيال الزعيم بين الفعل النضالي والجريمة السياسية

الجزء الأساسي في المسرحية يأتي بعد عملية الاغتيال، وهو يتعلق بالمحاكمة ومناقشة الفعل الجرمي أو البطولي، وهذا ما يجعل الموضوعة الأساسية للمسرحية جدليةً أخلاقية وسياسية مكرورة في التاريخ: هل قتل الطاغية جريمة؟ عنف؟ فعل بطولي؟ أم تنطوي على رغبة دفينة في تولي الحكم والسلطة من بعد رحيل الزعيم؟

ركز العديد من كتاب المسرح مثل جان جينيه وميلو راو على تفكيك الهيئات والوضعيات والأدوار في النظام القضائي. وتعتبر المحاكمات أكثر الأداءات المسرحية رصانة مما يفرضه القانون. لكن طالما اعتبر المحاكمة أحد أشكال العرض المسرحي الأكثر استعراضية في التاريخ. في مسرحية جنراليوس، «قاعة المحكمة عبارة عن غرفة منزل، المحلفون الثلاثة يلبسون عباءة واحدة تظهر من ثقوبها رؤوسهم المتشابهة، أو يلبسون أقنعة متماثلة. أما المدعي العام يشبه المثلث الطويل المتساوي الساقين، إنه يلبس رداء ويقف على ساقين منفرجتين، رأسه مثلث صغير، وقبعته مثلثة صغيرة وحتى شارباه يشكلان زاوية حادة. بينما محامي الدفاع هو أقرب إلى الكرة منه إلى المستطيل، رأسه كروي، كرشه كروي، رجلاه مقوستان متقابلتان، وكذلك ساعداه، إنه بشكل عام يشبه إشارة الاستفهام بين قوسين». 

يظهر في المنتصف المتهم بروتوس الملفوف بشرشف يغطيه، في إشارة إلى هويته الغامضة، التي سنكتشف تحولاتها تالياً في المسرحية. المشهد أساساً حلمي، ويغطي كامل مساحة عمق المسرح، ميزان هائل على المنصة، يتسع لحجم إنسان في كل من كفتيه، على أحد الكفتين شعر امرأة طويل يتدلى على خشبة المسرح، بينما تكون الإضاءة شاحبة وصوت الكمان وحده يعزف، حين ينطق المحلفون بالتهمة: 

«النبيل بروتوس بن عبد الله أنت متهم بقتل قيصر باني مجد روما، شاركت المتآمرين ونفذت معهم جريمة القتل العمد».

بروتوس: أنا لم أقتل قيصر، بل حاولنا أن نقتل الديكتاتور، أن ندافع عن أنفسنا.

لكن برأي المدعي العام فإن الجريمة واحدة، حيث لا يمكن التفريق بين قتل قيصر وقتل الديكتاتور، الديكتاتور إنسان أيضاً، ولقد أزهق المتهم روحاً على أية حال.

وحين تسأل اللجنة بروتوس عن دافع قتله قيصر، يجيب:

بروتوس: لأني أحب روما.

المدعي العام: لكن روما لا تحبك، لا تحب من يقتل قيصرها.

بروتوس: روما دائماً هكذا تقتل من يحبها.

المدعي: إنه يتهم روما بأنها قاتلة.

بروتوس: أحب روما مثلما أحب أي حمار، أو شجرة، أو تل روماني.

تحولات المتمرد بروتوس ومصير المهمش بن عبد الله

بعد التحولات التي عرضتها المسرحية عن شخصية قيصر، تبدأ لعبة التحولات تطال شخصية المتمرد الذي أقدم على الاغتيال، ينتقل من هوية البطل المحب لروما وبلاده، إلى الخائن الطامح في الحصول على العرش، هكذا تدخل النقاشات بين أهالي روما إلى الدوافع الأنانية الذاتية لبروتوس، «إنه قتل قيصر ليحل محله». وحين تنطق هذه الذريعة أمام بروتوس، يبدأ الأخير بالإعلان: «ولكنني لست بروتوس، لست بروتوس أيها السادة». يضحك المحلفون.

وخلافاً لمسرحية شكسبير يدخل الكاتب الجباعي شخصية نسائية محورية في المسرحية، تحمل اسم غوديفا، وتظهر في المشاهد الختامية لكنّ حضورها مركزي، وهي نموذج الشخصية المتحررة من الهيئات والأدوار التي تحكم الجميع من حولها. تدخل غوديفا إلى غرفة المحاكمة وتقطع الإجراءات بتعاليمها وأوامرها للجميع بالخروج، بيتها هذا هبة من الإمبراطور:

«فجأة تقتحم المكان امرأة جميلة، سليطة اللسان، قوية قاسية ووقحة، الكشف عن الصدر والساقين لا يعني لها سوى الاحتقار والتحدي». غوديفا ستلعب دوراً محورياً في المسرحية، وخصوصاً في الحوار الذي يجري بينها وبين بروتوس، حيث تكشف له عن حقيقة ماضيه، أصوله، وحقيقة هويته التي تتوه عنه.  

غوديفا: أنت لم تقتل قيصر لأنك تحب روما، أنت قتلته لأنه أبوك.

بروتوس: أيتها المرأة، أنا لم أقتل أحداً، وقيصر ليس أبي، عاش قيصر قبل ألفي عام، أنا لم أصادفه إلا في الكتب، أبي كان عريفاً في الجيش وقتل في حرب 67، وأنا حداد، لم أكمل تعليمي لأني أحببت الحديد، أنا اسمي عبد الله بن…

تحديداً عن هذا القول، يسقط الكاتب الوضع الروماني والتاريخي الذي عالجه في المسرحية، ولأول مرة على الوضع السوري، فبروتوس تحول إلى عبد الله ابن عريف الجيش الذي قتل في حرب ال67، إنه مجرد حداد من العامة لكنه يمثل المواطنون الضحايا من حروب الأنظمة وصراعاتها. فالأسماء التي يحملها بروتوس متعددة في المسرحية، وهي كلها تحولات لشخصية واحدة، محمد أبو عبد الله أو علي، كلهم بروتوس، هو إذاً، تجسيد للتمرد على الطاغية عبر عصور وحضارات متعددة من الرومانية إلى العربية والإسلامية، ليست ذات بروتوس هي التي تحاكم، بل النموذج الذي يمثله.

يقول بروتوس: «إنهم لا يحاكمونني، بل يحاكمون اسمي، أو صورتي، أو فشلي».

تحاول غوديفا أن تحرر بروتوس بن عبد الله من الرداء الذي يخفي هويته، تساعدها أربع نساء، يظهر تحت الرداء شاب عار في ثيابه الداخلية، مقيداً ويداه خلف ظهره، ومعصوب العينين. إنه رمز لواقع الاعتقال والقمع السياسي الذي يعيشه المواطنون من نموذج بروتوس ومحمد بن عبد الله عبر التاريخ. البطولة مقيدة ومسجونة، وأجساد المواطنين عبر التاريخ مكبلة إلى قيود الأنظمة السلطوية. وفي نهاية المسرحية يتحول بروتوس إلى طفل، يتكلم ويتحرك كالأطفال بينما تعتني به غوديفا والنساء من حوله، كأنها حكاية كل مولود أو طفل يحضر إلى هذا العالم متمرداً على الظلم، ولكن في الوقت نفسه، منذوراً لارتكاب العنف أو منذوراً للاعتقال والسجن. ولربما عند هذه النقطة أمكن إدراك السبب الكامن وراء اختيار المؤلف السجين هذه المسرحية. 

قيصر يجب أن يموت ( Caesar Must Die)، مجدداً في السجون الإيطالية

كم مرة سيعاد هذا المشهد،

 مرات ومرات، وهنا وفي بلدان أخرى، وبلغات لا نعرفها،

 كم مرة سينزف قيصر دماً على المسرح،

 دماً يسيل من فترة إلى أخرى، ومن مسرح إلى آخر.

اقتباس من فيلم قيصر يجب أن يموت

إن علاقة مسرحية مسرحية يوليوس قيصر بالسجون ستعرف فصلاً مبهراً جديداً في العام 2012، وذلك على يد المخرجين الإيطاليين الأخوين تافياني، الذين حازا على جائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي عن الفيلم الذي جسّد مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير، هذه المرة في سجن ريبيا الإيطالي بالغ الخطورة. حمل الفيلم عنوان قيصر يجب أن يموت (Caesar Must Die) وكأنه إجابة جديدة على الجدلية التاريخية التي تحملها المسرحية. 

يتابع الفيلم تجربة تحقيق عرض مسرحي في واحد من أقسى السجون الإيطالية، ريبيا، في ضواحي روما. هناك يقرر الأخوان تافياني العمل مع مجموعة من السجناء بغاية الوصول إلى عرض مسرحية يوليوس قيصر، وهكذا تتوالى أيام التدريب المسرحي داخل السجن تحت المراقبة المشددة من قسم الإدارة. يقول الأخوان تافياني: «إنها محاولة لإيجاد مساحات التعبير حتى عند أولئك المحكومين بعقوبات مشددة». ويكتب الناقد جان دومينيك نوتان: «إنه فيلم وثائقي عن السجن، لكنه بالآن عينه فيلم حكائي يروي عن تجربة مسرحية داخل سجن، هذه الازدواجية المبدعة بين التخييلي والوثائقي تستمر طيلة دقائق الفيلم الثمانين دون توقف عند حدود النوع». وللتأكيد بأن مشروع العرض المسرحي قد تحقق يبدأ الفيلم مع المشهد الأخير من العرض المسرحي الذي حققه السجناء، وهو مشهد انتحار بروتوس، وينتهي المشهد المسرحي عند قبر بروتوس، يصفق الجمهور، وتنكشف الصالة أمام المتفرج بأنها عرض مسرحي، تتابع الكاميرا خروج الجمهور من الصالة، على الدرج خارج المسرح حتى الرصيف في الشارع العام، تأكيداً على واقعية العرض المسرحي. المشهد الثاني يعيدنا إلى بداية الحكاية، إن المخرج المسرحي وفريق تصوير الفيلم التلفزيوني في دخولهم الأول إلى مجموعة السجناء، يعلمونهم عن رغبتهم في اختبار السجناء لأجل الأدوار المسرحية. يقول المخرج بوضوح للمجموعة:

«لقد اخترنا مسرحية يوليوس قيصر، وهي حكاية رجل جعل من مدينة روما مدينة عظيمة، ثم استسلم لغواية الاستبداد، فقتله شركاؤه».

مسرح السجناء والتداخل بين الماضي الشخصي والدور المسرحي

تجري اختبارات الأداء – الكاستينغ – للسجناء أمام الكاميرا، يطلب منهم المخرج واللجنة أداء حالة من الغضب ومن ثم الحزن. وتترك الكاميرا للمتفرج أن يتابع بدقة أداءات الاختبار لسجناء محكومين بالعقوبة المؤبدة أوبسنواتٍ طويلة. ويبين لنا الفيلم تهمة كل منهم، لنلاحظ أن النصيب الأكبر هو لجرائم الجريمة المنظمة – المافيا وجرائم القتل العمد وتجارة المخدارت. يتذمر أحد المشاركين كوسيمو ريغا الذي لعب بدور كاشياس: «أعادتنا المسرحية إلى أجوائنا المليئة بجرائم القتل والاغتيالات»، وهو ما يتطابق تماماً مع الشخصية التي اختيرت له، فكاشياس هو حكيم المسرحية وصاحب الفكر النقدي. أما سلفاتور سترينو الذي لعب دور بروتوس فيدخل في حالةٍ ذهنية أخرى حالما ينطق جملة: «ليتني أقبض على روح قيصر دون أن أقطع أوصاله»، إذ يدخل بنوبة حزن وهو يسترجع اللحظات الأخيرة لموت زميله في الجريمة المنظمة بين يديه، ويستذكر عبارات مقاربة نطقها صديقه في لحظات موته الأخيرة.

من فيلم قيصر يجب أن يموت

إسقاطات مسرحية وسينمائية أكثر تعقيداً تحضر في السجن عند موت قيصر. في مسرحية شكسبير مشهد أساسي تبدأ فيه المسرحية، وهي رحلة تجول قيصر بين العامة، ويبين لنا المشهد مقدار العنهجية التي بلغها قيصر والتمركز حول حكم الأنا الفردية، وممارسة الظلم. وبعدها حين يقتل قيصر، نجد السجناء ينادون بصوت عالي بين الزنازين وعبر القضبان: «الحرية، الحرية، مات الطاغية»، كأنها ليست حدثاً مسرحياً، بل حقيقة رغبة مكبوتة في الهتاف للحرية ولموت الطاغية. تتابع الكاميرا بذكاء نقاشاً يجري بين الحراس الحكوميين في السجن، نسمع اثنين منهما يتناقشان بين ضرورة الولاء للطاغية أو بين إمكانية خيانته؟ جدلية يمكن تطبيقها على مهنتهما كحراسٍ للسجن بين الولاء للمهنة أم التمرد على الضباط الظلمة. وكما الحارسان في سجن ريبيكا في روما، فإن نزلاء السجن بأكملهم ينقسمون بين مؤيد ومعارض لجريمة اغتيال قيصر، وكما هو الحال في نص شكسبير، حيث يؤدي الانقسام إلى وقوع حرب أهلية في حينها، فإن نزلاء السجن ينقسمون إزاء هذا السؤال التاريخي الإشكالي: هل يجب قتل الطاغية أم تعتبر هذه خيانة؟ وما الذي ستؤدي إليه دوامة الاغتيالات المستمرة؟

يخطب بروتوس أمام الأكروبول الروماني، أما في الفيلم فهو يقف في باحة السجن حيث يراقبه السجناء من بين النوافذ الحديدية والقضبان، يقف أمام جثة قيصر مبرراً أفعاله وموجهاً خطابه إلى النزلاء والإداريين في السجن. وينتهي الفيلم في مشاهد مصورة على خشبة المسرح عن الحرب الأهلية الرومانية المذكورة في نص شكسبير، وكذلك تعرض لنا الكاميرا الجمهور الذي يقطع التذاكر على باب سجن ريبيبيا الإيطالي، لنشاهد أخيراً عودة السجناء إلى زنازينهم ووحدتهم بعد انتهاء المشروع. يقول كوسيمو ريغا: «منذ أن اختبرت الفن تحولت هذه الزنزانة إلى سجن». لكن الفيلم يروي لنا مصائر السجناء الذين شاركوا في المسرحية بعد انتهائها، مؤدي دور بروتوس يصبح ممثلاً بعد انقضاء محكوميته، أما من يؤدي دور قيصر فيكتب وينشر كتاباً بعنوان: حر من الداخل، ومؤدي دور كاشياس يكتب كتاباً بعنوان مذكرات سجين مدى الحياة

كلمة أخيرة، غزارة تحولات الخيال داخل فضاء الزنزانة

لا شك أن التجربة المسرحية التي عاشها سجناء الفيلم الإيطالي وسعت من أفق إمكانات كل منهم ومنحتهم مساحات جديدة للتعبير. فلا داعي لاستعادة الأقوال عن دور المسرح التفاعلي أو الاحترافي، ذلك أن موضوعتنا هي التأليف التخييلي في عزلة المعتقل، حيث برهنت التجربة التي نتطرق إليها، على أن الكتابة الإبداعية تسمح للكتاب والكاتبات بالمساهمة في حراك وأسئلة التاريخ من خلال العمل الأدبي. فلا تفاجئنا معالجة الكتابة التأليفية داخل المعتقل لموضوعات الاستبداد والمقاومة والنظام الإنساني، لكننا اكتشفنا قدرة المخيلة الإبداعية على تأليف التحولات، وحضور الطفولة المستمر، هذان العنصران يحضران بتميز واضح بأكثر في النصين التاليين الذين كتبهما غسان الجباعي تالياً في المعتقل. النص الأول بعنوان الشقيقة تاريخ كتابة كلا النصين (الشقيقة وبودي الحارس) في العام 1986، عرضت (الشقيقة) على المسرح الفلسطيني العام 1992، أما تاريخ النشر 1995.وهي مونودراما لصانع فخار مصاب بالشقيقة اسمه بو ديب، يعش منعزلاً في زنزانته، وتتحول الجرار التي يصنعها إلى شخصيات يحدثها عن نفسه وعذاباته وأحلامه، وعن ذكرياته الحميمية الجباعي، غسان، المسرح في حضرة العتمة، دار العوام، السويداء، 2020، ص316.. وتماثل وضعية بوديب في المسرحية، مع مسرحية نهاية اللعبة لصمويل بيكيت «1957» حيث تعيش شخصيتها الأساسية في عزلة، بينما يقطن والده ووالدته إلى جانبه في حاويات قمامة كبيرة، يخرجان منها للحوار بين الفنية والأخرى مع ابنهم الوحيد. في الشقيقة تحضر شخصيات بوديب من الذاكرة والماضي، تظهر من جراره الفخارية. يجسد بوديب في افتتاحية المسرحية قدرة الحياة على إحداث التحولات في حياة الإنسان، فتحول الإنسان إلى درة أو حيوان أو طائرة. والنص الثاني بعنوان بودي الحارس تاريخ كتابة النص. الذي يعيش على الحدود ليحمي أرواح الضحايا التي تحولت إلى أشجار. فالأشجار التي يعيش بودي لحراستها ليست إلا أرواح الضحايا المتحولة إلى الطبيعة: «هذه الغابة ليست غابة، ليست أشجارا ولا خشباً، بل رجال ونساء وأطفال من لحم، شيء رائع ان يتحول الرجل إلى سنديانة، والمرأة إلى زيتونة والطفلة إلى شجرة برتقال». حتى يتحول بودي نفسه إلى شجرة: «أنا أسكن هنا، أنا لست شبحاً، ولا شجرة، لي أغصاني، صحيح ’يتفقد يديه وأصابعه‘، لي أوراقي ’يتفقد ثيابه وأذنيه وشفتيه‘ التي سقطت في الخريف الكبير، ولي جذوري التي تمشي على التراب».