نبَذَ ينبُذ وينبِذُ، نَبذاً ونَبَذاناً، فهو نابذ، والمفعول منبوذ. هكذا يقول معجم المعاني، والمعاني في هذا الزمن غائمة. يقولون له إنه منبوذٌ في هذه الحياة الدنيا الآفلة، فيرفع رأسه اختيالاً وأنَفةً مع علمه بأنه لا يملك أياً منهما. ينظر حوله فيجد نفسه متكدّساً بين المتكدسين أمام لقمةٍ توحي بالشبع والاكتفاء. يعرف أنه يتكدس في طرقاتٍ كثيرة، لكنه يدعي اللامبالاة بها. يذكر تماماً ما حدث معه منذ سبع سنوات، حينما خُطِف وعُذّب لشهور طويلة، قبل أن يُفرجوا عنه بعدما تنازل عن بيته وسيارته. خرج معطوباً بكل ما تحمله كلمة «معطوب» من معنى. لكنه منبوذ، ويسمع دوماً في أذنه من يقول له: «أنت منبوذ». يتردد الصوت في أذنه، لكنه لا يبالي. من تَكسّرت عظامه تحت أقدام الخاطفين لا يبالي، من فقد القدرة على المشية السويّة لا يبالي، من فقد القدرة على لفظ كل الحروف بالطريقة الصحيحة بعد أن فقد كثيراً من أسنانه وجزءاً من لسانه أيضاً لا يبالي. قالوا له إنّ خاطفيه معروفون، لكن «الدولة لا تملك السيطرة عليهم». يمسك رقبةَ الأنَفة التي يدّعي امتلاكها ويكسرها، وهكذا بالتالي تصبح أنفَته مكسورة الرقبة، يحملها معه بإصرارِ دائماً، ويستنجد بها في الحالات الأشد إهانةً، والتي يتعرض لها كل يوم. لكنّ «أنَفته»، برقبتها المكسورة المتدلية، تبدو مثل قطعة غسيلٍ بلّلها مطرٌ متّسخٌ بالغبار والطين.

كان يملك سيارةً فيما مضى، لكنه تنازل عنها للخاطفين الذين سلبوه كل شيء وطردوه من مكان نزوحه في الريف. بعد نيل حريته من المختطفين، جاءه الناس للاطمئنان عليه، فلم يرغب بلقاء أحد، وكان يبالغ في ادعاء المرض، الموجود به أصلاً، ليهرب ممن يسأله عن أحواله. هو عاش هذه التجربة قبل حوالي ثلاثين سنة من الآن؛ تلك التجربة التي كلّفته الحرمان من هويته ومن جواز سفره. رغم ذلك فكر مراراً  في السنوات الأخيرة بالسفر تهريباً إلى تركيا، ومن ثم إلى دولةٍ أجنبية، لكن الجُبن، محملاً بالأنَفة المكسورة الرقبة، كانا يثنيانه عن ذلك. يضاف إلى ما سبق، أنه وبعد حساباتٍ كثيرةٍ من ضربٍ وطرحٍ للثروة الصغيرة التي يمتلكها، فإنه سيصبح تماماً بلا مورد، وإن لم تساعده الظروف بإيجاد عملٍ فور وصوله للمكان المنشود، فإنه وأسرته سيتسولون في الشوارع. تتسمّر عيناه في الحائط حين تمرّ في باله تلك الفترة، ناهيك  أن زوجته ترفض تماماً فكرة السفر والابتعاد عن أهلها. ورغم أنّ كل ذريته من البنات، وهو الأمر الذي يحزّ في نفسه كثيراً، إذ بكى بكاءً مرّاً في كل مرّةٍ كانت زوجته تنجب فيها بنتاً، إلا إن بناته عزيزاتٌ عليه جداً، ولن يتردد لحظةً حين يجتزن سن السادسة عشرة أن يزوجهن لأول رجلٍ «آدمي»  يطرق بابه. تضحك  إحدى بناته حين يذكر أمامها عبارة العريس «الآدمي». بالنسبة له كلمة «آدمي» هي تتويجٌ لفضيلةٍ عاش عليها الرجل لسنواتٍ حتى أُطلقت عليه. بالنسبة لابنته  كلمة «آدمي» هي دروشةٌ عاش عليها الرجل لسنوات، حتى أُطلقت عليه الكلمة. يغضب منها: «بدك ابن حرام يعني؟». هو أيضاً آدمي، آدميٌّ جداً، جداً، لم يلمس سوى الحلال من زوجته، ولم يسرق مالاً، ولم يغتب أحداً، ولم يظلم أحداً، ولم يمدّ يديه، حين سنحت الفرصة، للحرام. والحرام بعينيه كان امرأةً أحبها غير زوجته، وقطعةَ ذهبٍ ثمينةٍ وضعتها أمه في يده حين خرج من السجن، ولم يعرف بشأنها أحدٌ من إخوته.

حين يمشي بقامته الطويلة وكرشه المتوسط وعينيه الساحرتين، ووجهه الذي يبتسم من تلقاء نفسه، يشعر الناظر إليه أن وراءه واسطةً كبيرة، أو إنه مدعومٌ من جهةٍ ما، لكنه في الحقيقة معتقلٌ سابق، ومخطوفٌ سابق أيضاً. يتحاشى الجميع ذكر قصة اعتقاله منذ حوالي ثلاثين عاماً، باستثناء أقربائه الذين يستشهدون بها فيما بينهم كنوعٍ من الفخر، ونوعٍ من تسجيل موقفٍ ضد النظام.
حين أحب طالبته التي لاحقته طوال شهور بنظراتها المتقدة، رغم أنه يكبرها بعشرين عاماً على الأقل، فكر كثيرا في وضعه المالي الذي سيعيشه معها قبل أن يفكر بموقف زوجته، وعرف أنه ما من حلٍّ لهذه المعضلة الكريهة. كانت طالبته تلاحقه برسائلها ومكالماتها ونظراتها المصبوبة صبّاً  في عينيه عله يستجيب، لكن استجابته كانت أخيراً عبارةً عن رسالةٍ على الجوال. تقول الرسالة:
«مساء الرقة والإحساس، مساء مكتوب بماء الألماس، مساء مخصوص لأعز الناس». بالنسبة له عبارة «أعز الناس» تُفصح عن كل ما يجول بصدره المخدوش بشفراتٍ حادةٍ خلال الاختطاف. لم يملك الجرأة ليخبر زوجته، ولم يملك الجرأة ليخبر طالبته، ولم يملك الجرأة للقيام بأي فعل، لكن بالنسبة له فهو يحوّل أي شيءٍ لانتصار، بالنسبة له فإن أنَفته ذات الرقبة المكسورة هي التي وجهته لسحق قلبه سحقاً أمام جمال طالبته، وهي التي وجهته لعدم طلب المال من إخوته المسافرين في الخارج للسفر خارج البلد، وهي التي وجّهته أن يبقى «آدمي» بالمعنى الذي تربّى عليه منذ أن ظهرت أولى شعرات ذقنه، ومنذ اللحظة التي عرّفوه فيها الحلال من الحرام.

لكن لماذا يشعر أنه منبوذٌ دائما!

قالوا، كان في السابعة عشرة من عمره، وكان يوزع مناشير حين اعتقلوه، وقالوا إنه كان يتحدث بما لا يجب التحدث به حين اعتقلوه، قالوا أيضاً إنّه كان غرّاً ولا يفقه شيئاً، ولكن الذي حدث هو مجرد تقريرٍ كيدي، لكن كل ذلك لا يهم، المهم أنه معتقلٌ سابقٌ ومخطوفٌ سابق، وهذا لوحده كافٍ كي يشعر أنه مطاردٌ طيلة الوقت. ينصح طلابه الذكور أن ينتبهوا أثناء مشيهم بالطرقات؛ لأن أحداً لا يعلم مَن يتربّص بهم. ينصح طالباته الإناث بألا يخرجن أبداً من البيت؛ لأن قصص الخطف «لسة شغالة»، والخاطفين يحبون الفتيات الوحيدات الخائفات اللواتي يمشين من دون أهلهن في الطرقات. الحل الأمثل ألا يخرج أحدٌ من البيت، الحل الأمثل أن يبقى المرء ليس بقرب الحيط فقط ويقول يارب السترة، بل أن يصبح هو الحيط نفسه؛ لأن ذلك كفيلٌ بأن يجلب له السترة، وأن يجلب الأمان أيضاً.

حين خرج من السجن وهو في بداية العشرين، استجمع ما يملك من ذكاءٍ وقوةٍ متبقية وأنَفةٍ مكسورة الرقبة، وعاد للدراسة حتى تخرج من الجامعة. كان حلمه الطب، لكنه قبل بالأدب العربي. يفكر في كل مرّةٍ يزور طبيباً فيها، وهي مراتٌ كثيرة، أنه «كم كان سيليق به أن يكون طبيباً، كم كان سيساعد الناس؟». لكن السؤال الذي أرّقه طويلاً، والذي بسببه كان يُجري محاكماتٍ عقليةً صارمةً في سرّه، إن كان سيعالج جرحى الثورة في حال كان طبيباً. لربما لو لم يذق طعم الاعتقال لقام بذلك من دون تردد، أما الآن، فإنّ أفكاره التي مزقها ظلام السجن وعذاباته تأبى أن تعطيه جواباً واضحاً. المؤكد أنه يكره النظام «كره العمى»، لكن ما بعد ذلك يقف ذهنه عاجزاً عن التفكير به. حين يأمن طالباً ما يهمس في أذنه ويقول: «ادرس وسافر من هنا». حين يأمن طالبةً ما يهمس لها ويقول: «ادرسي وتزوجي وسافري من هنا». بطبيعة الحال لايخطر في باله أن تسافر فتاةٌ لوحدها.

لكن، ألا يخبره أحدٌ لماذا يشعر أنه منبوذ؟

يضع قليلا من الجِل على رأسه. يحضر علبةً كبيرةً من النوع الجيد سيستخدمها لمدة شهور، وتلاحظ زوجته ذلك. هي لا تعلّق، لكنها لا تفهم كيف يتفق معه أن يكون متديناً في أواخر أربعيناته ويستخدم الجِل على رأسه. علاقتهما باردةٌ جداً، وتشعر أنه كان يجب عليه أن يقدّر أنها استحملته رغم وضعه الصعب، فبسببه دخل الأمن على بيتهم أثناء غيابه ثلاث مرات، ثلاث مرات! والعائلة كلها «حريمات». بسببه ذاقت أنواع العجز والحرمان والفقر بعد أن باعت أغلى ما يملكونه. لم تتحاور هي مع الخاطفين، بل أخوها فعل. قالوا إنهم من الدفاع الوطني، وقالوا إنّ لا كبير لديهم، وقالوا إنهم يريدون 6 ملايين، وقالوا إنهم سيظلون يعذبونه حتى يموت أو «تحضروا المبلغ». كان ذلك في 2016، وكانت أصغر وأجمل وأنحف، لكن ما حدث حينها جعلها تهرم ألف عام. حين خرج زوجها سلّموه لها في وضح النهار أمام الجميع، قالوا ارحلوا من هنا، لا نريد رؤية وجهكم هنا مرة ثانية. حين وقف زوجها وهو بعكس اتجاههم غير مصدق، شعر بيدٍ على كتفه، أشارت له اليد أن يوقّع هنا. كانت ورقة تنازلٍ عن  السيارة والبيت اللذين يملكهما. لم يحرك فمه، وقّع والعرق يتصبّب منه. حين تحكي زوجته القصة، وهي تحكيها مراراً لكل شخصٍ تراه، كانت تؤكد على الجزئية التي توضح أنهم كانوا من أصحاب الأملاك قبل أن يحصل ما حصل، ثم تؤكد بعدها على جزئية أنّ من خطفوه «منهم وفيهم»؛ أي من «الدولة»، وإنهم تركوهم مثل الكلاب ينهبون الناس. لم تفهم لماذا تشعر أحيانا بأنّ زوجها ملامٌ في ما حدث، وهذا ما يجعلها تشعر بمزيجٍ من الشفقة والازدراء تجاهه. زاد هذا الازدراء حين وصل لمسامعها أنه يحب طالبته وسيتزوجها. تحدثت معه بمرارةٍ وبحزمٍ عما سمعت. لم ينكر الرجل، ولم تبكِ هي. قالت له إنه لافرق لديها إنْ تزوج، لكن عليه أن يفكر ببناته. عند هذه النقطة انتهى النقاش.

في الفترة الأخيرة، قرر أنه سيسافر إلى تركيا عن طريق مهرّبٍ مضمون. أقنع زوجته أنه سيسبقهم ثم سيبعث لهم المال لكي يلحقوه. بالنسبة لعمره كانت مجازفةً مرعبة، لكنه عزم على الأمر أخيراً، فقد ضاقت فيه البلد وضاق هو بالبلد وبطرقات البلد وبكل شيءٍ يمتّ بصِلةٍ لهذا المكان. عندما زار الأمنُ بيتَهم آخر مرة، سألوه ألف سؤالٍ عن الحوالة التي كانت تصله من أخته المسافرة كل شهرين أو أكثر بقيمة 100 ألف ليرة، أي بقيمة ما يعادل 28 دولاراً تقريباً. شعر حرفياً بالاختناق. حتى ذلك المبلغ الصغير أصبح محروماً منه الآن. قال له المهرب إنه يريد 3000 دولار حتى يوصله ريفَ حلب الشمالي، و2000 دولار حتى تركيا. وافق بعد أن باع المحل الصغير الذي ورثته زوجته، واتفق معه المهرب أنه سيتم إيصاله بسيارة فان حتى طريق السلمية، وهناك ستتلقّفه سيارةٌ أخرى، وفي أثناء عملية التبادل هذه يتم تسليم المال من قبل أسرته للمهرب. لكن حين وصل إلى النقطة المتفق عليها، اكتشف متأخراً أنه وقع في كمين، وأنّ المهرّب ليس مهرّباً. وبعد أن نقلوه إلى سيارةٍ أخرى أغمضوا عينيه، واستولوا على هاتفه، ثم اتصلوا بالأسرة، وأخبروهم أنهم يريدون 3000 دولار، وإلا فلن يروا الرجل مجدداً. تردّدت الزوجة كثيراً قبل أن تسلّم لهم المال، لكنها استسلمت أخيراً، وبالفعل سلمت لهم المال.  حينما عاد الرجل إلى أسرته ودخل غرفته، كان في داخله قد قرّر أنه لن يخرج مرةً أخرى من غرفته، وأنه سيعتزل كل الأمكنة والناس.