لا يخفى على أحدٍ ما تمثّله اللحظة الحالية من تناقضاتٍ عدة، في ظل مرور عقدٍ على الثورات العربية، من صعود الأنظمة السلطوية مرةً أخرى وسيطرة حالة من التحفّز حول ميراث الحركات الإسلامية وجميع الأسئلة الشائكة حول دور ومعنى الدين في ظل هذا السياق. هي لحظة الهزيمة، وكذلك لحظة إعادة التفكير. وبالتالي تصبح محاولة تفادي الانغماس في هذا الجدل، الذي بدأ في القرن الثامن عشر ومازال مستمراً إلى يوم، بلا أي أفق لتجاوز تلك الدوائر المفرغة التي ندور فيها،  جزءاً لا يتجزأ من الخراب الذي يسود تلك اللحظة. علينا الاعتراف بأننا فشلنا في مساءلة الجدل الدائر على مرّ عقود، وفشلنا في محاولة التفاوض مع الحركات الإسلامية ومحاولة انتزاع ولو اعتراف بسيط بأن هناك احتمالات أوسع مما تم طرحه، وأنه يمكننا أن ننخرط في العالم دون التخلي عن فكرة الإيمان أو مع إمكانية الاعتراف بآدمية الآخرين الذين يشاركوننا هذا العالم.

ومن تلك النقطة تظهر قراءة سفر أيوب (في سياقه التوارتي-المسيحي)، وقصة النبي أيوب في التراث الإسلامي، كمحاولة لتجاوز المأزق الذي نواجهه الآن، ليس فقط لفتح أسئلة جديدة حول فكرة العدل الإلهي أو غموض الإيمان كفعل، ولكن لمسايرة النص ذاته، بتجلياته المختلفة، والتي قد تعطينا تصوراتٍ جديدةً عن مساراتٍ للتفكير تأخذ في الاعتبار حالة اليأس والهزيمة الحالية، ولكن لا تنتهي عندها.

تثير قصة أيوب أسئلةً عديدة حول فكرة الخلق الأول، وعلاقة الإنسان بالعالم، وتاريخ العهد الذي عهده الله مع آدم وحواء، لتتشابه القصتان في كيفية ربطهما بين حالة الإنسان المثالي (أيوب/ آدم وحواء) وإغوائه (في حالة آدم وحواء) ومسّه (في حالة أيوب) من قبل الشيطان، ليتبع ذلك ابتلاءٌ وشقاء. أيوب، على عكس آدم وحواء، لا يقع في فخ إغواء الشيطان، ولكن في كلتا الحالتين يكون الشيطان هو عامل إفساد حالة النعمة. يظهر ذلك في سردية خلق آدم وحواء، اللذين خرقا العهد بإيعازٍ من الشيطان، فيتم نفيهما إلى العالم ليشقى الاثنان وذريتهما إلى حين. ولكن لا يقتصر شقاء الإنسان على السعي في العالم، بل يبقى هنا خطر الشيطان الذي سمح له الله بإغواء الإنسان. ويصبح الإغواء جزءاً من الابتلاء أو المحن التي تواجه الإنسان لتظهر له حقيقة إيمانه، وتصبح تجربة أيوب نوعاً من إعادة تمثيل تلك اللحظة، ليمتحن الله إيمان أيوب ويكشف عن استحالة فهم أو الإرادة الآلهية أو استيعابها. الآيات 3-4، الإصحاح 42 من سفر أيوب، ترجمة الآباء اليسوعيين، وانظر في آيات الخلق الآية 33 من سورة البقرة.

من خلال هذا، يبدو لنا أن العهد الذي عقده الله مع آدم وحواء يتجاوز محدودية عهد أو ميثاق جماعة معينة، يظهر لنا في التراث اليهودي للتفسير اعتبار أيوب خارج الجماعة اليهودية; بل يتم اعتباره من جيل أنبياء التوراة من طبقة إبراهيم، وبالتالي هو سابقٌ على العهد الموسوي، وكأن التراث التوراتي يؤكد على اعتبار أيوب سابق على العهد والميثاق الذي عقده الله مع الجماعة اليهودية. ولكن ليؤكد التراث التوارتي أن قدرة الله وحاكميته على العالم تتجاوز جماعة العهد أو الميثاق الذي عقده الله مع موسى، انظر مقدمة نعوم سارناMoshe Greenberg, Jonas C. Greenfield and Nahum M. Sarna (Intros), The Book of Job: A New Translation According to the Traditional Hebrew Text  Jewish Publication Society; 1st edition, 1980فهو عهد الله مع البشر جميعاً، كحالةٍ سابقةٍ على أي رسالة، وكذلك لاحقة لكل الأجيال الآتية. تأتي سرديات الخلق في القرآن كسردياتٍ تتنوع حول موضوع الخلق وعلاقة آدم بالشيطان لتبين الشيطان كطرف ثالث؛ الطرف الذي يثير المتاعب، ولتصبح حياة الشيطان أيضاً موضوعاً للشقاء، ولكن دون احتمالية الغفران انظر ويتني س. بودمان، شعرية إبليس: اللاهوت السردي في القرآن (ترجمة رفعت السيد علي)، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، 2017، وما يقوم به بودمان من محاولة تتبع سردية الخلق وعلاقة ذلك بتصورات النص القرآني عن شخصية ودور إبليس.، وتعطي تلك الفكرة الكثير من الوضوح الأخلاقي ليس فقط حول ضعف الإنسان أمام إغواءات العالم (أصل الإغواء الأول هو تزيين معرفة العالم وما يحتويه انظر الآية 120 من سورة طه، والآية 20 من سورة الأعراف.)، ولكن أيضاً في دور الشيطان بتزيين تلك المغريات حتى يحيدَ الإنسان عن طريق الصواب.

لستُ بصدد تفسير لاهوتي حول ذلك الضعف وما يعنيه، ولكن أكتفي هنا بالتأكيد حول فكرة أن الإنسان دائماً ما يحاول تجاوز فكرة فنائه وما يترتب على ذلك من السعي الأبدي للخلود (والذي يترتب عليه نسيان وتناسي العهد. انظر الآية 155 من سورة طه على سبيل المثال. وأن العالم ليس دار قرار، ولكن دار سعي وعمل)، والتماهي مع قد تقدمه تلك المغريات من متعةٍ أو لذةٍ مؤقتة.

وبالتوازي، فإن قصة أيوب وتمسّكه بالصلاح وفعل الخير هي تأكيدٌ على عهدٍ سابقٍ ومتجاوزٍ لمذهب أو حتى دين بعينه. فعند لحظة الابتلاء يقرُّ أيوب بقدرة الله وسلطانه، ويمجد اسم الرب في استدعاءٍ مباشرٍ للعهد الأول الذي عقده الله مع آدم وحواء. وفي سجالٍ طويلٍ مع أصدقائه، يؤكد أيوب أنه حافظ على هذا العهد الذي ارتبط بمساعدة المحتاجين والمهمشين. وينطوي العهد الأول، إلى جانب ذلك الضعف تجاه المغريات (زينة الحياة الدنيا) التأكيدَ على السعي الدائم الذي يشكل حياة الإنسان منذ لحظة ميلاده وحتى وفاته (الآية 4، سورة البلد). يصبح العالم مسؤولية الإنسان (الآية 72، سورة الأحزاب) حتى مع ذلك التهديد الدائم من الشيطان، وتلك المغريات التي قد تُلهي الإنسان عن دوره ومسؤوليته. 

إن مفهوم الأمانة يتّخذ هنا منحىً سياسياً-أخلاقياً لا يمكن تجاهله، وهو أيضاً منحىً سابقٌ على أي جماعة أو رسالة، فجميع الآيات التي تشير إلى حالة الخلق تستخدم لفظ «إنسان»، وليس «مؤمنين» أو «مسلمين»، ولا تقتصر على ذكر جماعةٍ بعينها أو دينٍ بعينه. وبالتالي تصبح مسؤولية الإنسان عن العالم وحمله الأمانة هي حالة خارج أي حالة إيمانية أو حتى اعتراف برسالة أو عقيدة ما. وهذا يتماشى كذلك مع قصة أيوب، فأيوب، كما أشرنا، لا ينتمي إلى الجماعة اليهودية بشكلٍ واضحٍ أو مباشر، ولا حتى يظهر أنه يتبع مذهباً أو «ديناً» بعينه. وهذا لا ينفي عنه المسؤولية، ولا يعني أنه ليس لديه وعيٌ بضرورة فعل الصواب أو الخير، حتى بعد لحظة البلاء والأذى.

لا يعطي سفر أيوب حلآً لمشكلة الشر، بل يأتي رد الله من الغمام الإصحاح 38:01 -40:02 من السفر. لينكر على أيوب سؤاله من الأصل، وليسرد الله كيف خلق العالم وروّض وحوشه، وسيّر الحياةَ للإنسان بشكلٍ يعجز الإنسان عن فهمه أو إدراكه. وتصبح قوة الله المطلقة، التي لا يمكن استيعابها، تأكيداً على أن الله متجاوزٌ لأسئلةٍ مباشرةٍ عن مغزى أفعاله أو جدواها. ولا يختلف التراث الإسلامي كثيراً عن ذلك المبدأ نفسه، فيأتي التراث الإسلامي بشكله السني-الأشعري ليؤكد على تنزيه الله المطلق، وأن جميع ما يفعله خير، حتى لو لم يستطع المؤمنون فهمه أو إدراك حكمته. انظر إحياء علوم الدين للغزالي: الفصل الثالث من كتاب قواعد العقائد: في لوامع الأدلة للعقيدة المعروف بـ «الرسالة القدسية»، والباب التاسع، والعاشر والحادي عشر في الإبانة عن أصول الديانة للأشعري. ورغم الجدل والاختلاف بين الفرق الإسلامية المختلفة، لم يختلف الكثيرون حول تنزيه الله أو أفعاله عن أي تناقضٍ أو قصور. حتى أصحاب العقل، المعتزلة، لم يختلفوا كثيرا حول تنزيه الله المطلق، انظر الأصل الثاني: العدل، في شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار.

تعيدنا وجهة النظر تلك إلى المربع صفر. فإذا كان هناك إجماعٌ على استحالة فهم الحكمة الإلهية، وإذا كان هناك إجماعٌ كذلك على أن الله لا يُسأل عما يفعل، وأن في جميع أفعال الله حكمة لا يستطيع الإنسان إدراكها، يصبح إيجاد مسوغاتٍ وأسبابٍ لإرادة الله محاولةً محكوم عليها بالفشل على أحسن حال. وهذا لا يعني غياب بُعدٌ حُكمي يمكن تتبّعه لفهم تصرفات الله في العالم انظر الآيات 27، 164، 213 من سورة البقرة، الآيات 4-5 من سورة الأعراف، الآية 4 من سورة يونس.، ولكنّ الأصل أن إرادة الله مطلقة لا يسري عليها أي ارتباطٍ شرطي أو تقييدٍ.

ما تفعله قراءة السفر، وبالتوازي سرديات الخلق في النص الإسلامي، هي إعادة الإنسان مرةً أخرى إلى العالم. لا يفترض النص التوراتي أن الله سيكشف عن مكنون حكمة أفعاله وما يحكمها من منطق أخلاقي أو ما شابه، فيذهب النص إلى تأكيد عجز الإنسان التام عن الإلمام بإعجاز القدرة الإلهية. وفي النص الإسلامي يظهرُ إغواء الشيطان وإفساده لإيمان الإنسان محكومٌ أيضاً بسلطان الله وإرادته، وما يتبقى من جميع تلك السرديات المختلفة للخلق في النص القرآني هو -مرةً أخرى- ردّ مبدأ حتمية التصرف والفعل للإنسان. وهذا ما أعنيه من حالة الخلق وما ينتج عنها من رخاءٍ وهناء يتبعها شقاءٌ وسعي (تماماً كما في قصة أيوب)، تردُّ الإنسان في النهاية كفاعلٍ في العالم، له دائماً مساحةٌ من التصرف والاختيار في ما يمكنه فعله في ظل تواجده ومعاصرته لهذا العالم.

تظهر في غياب الارتباط الشرطي بين قضاء الله وعمل الإنسان، وبين مسؤولية الإنسان وصعوبة (أو استحالة) فهم أو تأويل إرادة الله، معضلةٌ أخلاقيةٌ بالأساس عجزتْ التياراتُ الإسلامية ومناوئوها عن الرد عليها أو تفسيرها. فما أنتجته الحركات الإسلامية من تصورات تعكس التسطيح المُخل لإرادة الله على سبيل المثال شعار «ينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء»، والذي يربط فعل «الاحتشام» أو الالتزام بتشكيل هويةٍ معينة، وهي ما يعتقد الإسلاميون أنها الهوية الإسلامية الصحيحة التي يجب أن تُعلن عن نفسها من خلال إعادة تشكيل الذات بهذا الشكل. ومن ناحيةٍ أخرى يربط الإسلاميون بين مثل ذلك الالتزام بزيٍّ معينٍ كضمانة لاستدرار النعمة الإلهية، وذلك في ترجمة مباشرة وأداتية لمفهوم الالتزام الديني، وكأن الاقتصاد عمليةٌ تدار على أساس الاختيارات الشخصية لبعض فئات المجتمع، وليس عمليةً معقدةً تحدث بشكل يومي من خلال ملايين العمليات المالية التي تشكل دورات المال والنقود مثلا.، والتشبث بالمردود الدنيوي الذي يظهر بشكل جلي في طرح نموذج التمكين مرة أخرى، ففي حال تمكين الإسلاميين من السلطة ستُحل جميع مشاكل المجتمع بشكلٍ ذاتي تقريباً (مع منافاة الواقع لذلك بالطبع).

يصبح فعل الخلق وربطه بمكانة الإنسان في العالم هو قدرة الإنسان على الاستجابة لذلك العالم، لتصبح الأخلاق مجرد عملية مبنية على التخلّق انظر باب «خلق» في لسان العرب، و سجل «خلق» في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. والخلق لغةً مفهومٌ على مستويين؛ الأول هو التقدير، أو إنشاء ما لم يكن موجوداً، والمستوى الثاني هو الإبداع على مثال موجود بالفعل. وربط العرب بين «الخَلق» والطبع وبين الخُلق والمروءة. ويظهر لنا في تطور المصطلح أن هناك بُعداً من المواءمة وإعادة تشكيل الذات على ما يليق أو ما يجب فعله. وهذا ليس مجرد ألاعيب لغوية أو تفكيك أصل المصطلحات لإسباغ معنىً جديد (على أهمية ذلك وضروريته)، ولكنّ تواتر استخدام مصطلح «خُلق» في كلام العرب ولغتهم بهذا المعنى، واستمرار ذلك في التراث الإسلامي أشهر مثال وصف القرآن للنبي محمد «وإنك لعلى خلقٍ عظيم»، الآية 3، سورة القلم. كذلك، يعطي مساحةً لاستشفاف أبعادٍ أخرى لمآلات المصطلح.

فمن ناحية، تصبح قدرة الإنسان على الاستجابة والتخلّق صفةً أساسية، لاحقةً لحالة الخلق الأولى (إبداع الله للإنسان بدون مثالٍ سابق)، فقابلية الإنسان على إدراك محيطه وتقرير ما يجب عليه فعله وما لا يجب فعله من آثار، وتأثير على من حوله، هو ما يُعرّف «خُلقه» وأخلاقه. فالقدرة على تشكيل طبعَ الإنسان بما يدركه وتغييره هو تعريفٌ للخلق يظهر ذلك بوضوح في وصف القرآن لأيوب «نعم العبد إنه أواب» (الآية 44 ، سورة ص). والإياب هو الرجوع، فيستجيب أيوب للبلاء فيناجي الله «ربّ أني مسنى الضر». وفي السفر يشكو أيوب حاله وغضبه ويأسه بكل وضوح، ولا أعني بالرجوع هنا الرجوع عن معصيةٍ أو خطيئة، بل على العكس؛ أعني إدراك أيوب ضرورة مراجعة أفكاره عن ربط الإيمان بالجزاء على سبيل المثال. انظر مقالة صفوت عادل مرزوق: «هل كان النبي أيّوب صابراً محتسباً؟».. وتكثر الأمثلة عن كيفية تخلّق الإنسان بما يليق أو ما لا يليق. يتجلى هنا ربط فعل التخلُّق بالصنعة أو «صناعة الذات»، ولا يعني ذلك بالضرورة انعدامَ المصداقية أو الاتساق في مبادئ الفرد أو قيمه، ولكن التأكيد على أن أفعال الإنسان يجب أن تصدر دائماً من موقع إدراك آثارها على العالم، وعلى ضرورة تغيير وتعديل ما يفعله بناء ذلك الوعي. فيصبح فعل الإنسان في العالم قابلاً للتغيير وللاستدراك، أو تدارك ما قد يفعله من أخطاء أو مثالب، وفي ذلك ترسيخ لفكرة مسؤولية الإنسان عن أفعاله.

وعلى صعيدٍ آخر، يصبح معيار الأخلاق هو المروءة؛ من الكرم والإنسانية، والذي من شأنه إسباغ أهميةٍ مركزية لربط معيار الصواب والخطأ بتأثير أفعال الفرد على غيره من البشر. فلا تقتصر الأخلاق فقط على قابلية الإدراك والتغيير، ولكنها تجذّر مفهوم الخلق في بعدٍ إنسانيٍّ مشترك، فلا تنفصل معايير الأخلاق عن كونها محكومةٌ بالأساس بالخاصية الاجتماعية للإنسان، فلا أخلاق لفردٍ غير معني بتأثير ما يفعله على من حوله، بل يأتي معيار الإيمان والدين، في كثير من تقاليد الحديث، في تأكيد على أفعال المؤمن اليومية وما تنتجه من آثار على غيره، كالمعيار الحقيقي للإيمان انظر الأحاديث المتفق عليها في تعريف الإسلام أو الإيمان، على سبيل المثال «المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده».. وفي هذا لا يختلف الدين كثيراً عما تواتر فهمه لغةً وأفعالاً من معنى الأخلاق أو الإنسانية بشكلها اليومي والدارج حتى. 

وبالمقارنة، تظهر المعضلة الحقيقية للحركات الإسلامية فيما طرحته من نماذج للتقوى والصلاح، والتي ركزت بشكل أساسي على تعريف «شكلي-طقسي» لما يمكن أن يكون تعريفاً عضوياً ومباشراً للصواب أو الصلاح. وهنا يكمن النقد الأساسي لنماذج الإصلاح الاجتماعي التي قدمتها الحركات الإسلامية على مر العقود الأربعة الماضية. فتم الربط بشكل مباشر وآني بين التمسك بالشعائر والطقوس وتغيّر أخلاق المجتمع بشكل جذري. يضاف ذلك إلى ذلك إصرار الإسلاميين على تعريف، أو بمعنى أصح، احتكار تعريف ما هو الدين الصحيح، وما هي الجماعة المؤمنة، في مواجهة صريحة مع الدولة وإصرارها هي الأخرى على تأميم المجال الديني وتعريف ما هو «الإسلام الصحيح». وبالأخص محاولة دولة يوليو تأميم المجال الديني واحتكارها تعريف ما هو الشكل المقبول للهوية الدينية وما هو حدود الدور الذي من الممكن أن تلعبه تلك المؤسسات (الأزهر على رأسها) في تعزيز سلطة الدولة.

لم تتجاوز نماذج الإصلاح التي قدّمتها الحركات الإسلامية التصور الأداتي للالتزام بشعائر أو طقوسٍ  بعينها، وما قد يتبعه من الاعتقاد بإعادة تشكيل أشكال التفاعل الاجتماعي؛ هو أولاً تمييزُ الجماعة المؤمنة عمن حولها (فيتم وصم غير الملتزمين وغير المؤمنين، وما يترتب على ذلك من مآسي العنف والاستباحة للأقليات الدينية)، وثانياً غياب فكرة الأخلاق ذاتها بربط الفعل بنتائجه كما أشرنا. فتقوى الإنسان الشخصية لا يمكن الحكم عليها في هذه الدنيا إلا بما تنتجه من آثار على من حوله (مثلما رفض أيوب الاعتراف بأن سبب البلاء هو عدم تقواه، فأخذ يعدّد الأعمال الصالحة التي كان يقوم بها، وكان جلها مرتبطاً بشكلٍ أساسي بمساعدة مَن حوله من المحتاجين والمهمشين). ومحاولة تحييد مثل هذا الحكم أو تأجيله بالإصرار على أن الالتزام بمجموعةٍ من الطقوس أو العبادات الشكلية هو المعيار الأوحد أو الأهم، وهو ما يُظهر حقيقة إيمان أحدهم، وما يترتب عليه من مردودٍ آخَرَوي، هو ما أحدث الانفصام الذي نراه الآن.

إن شمولية الرؤية التي قدمتها التيارات الإسلامية المختلفة حول تحويل تصورٍ أوحد للدين إلى برنامج سياسي واجتماعي متكامل (مبني بالأساس على ذلك الالتزام الشكلي-الطقسي الذي يشكّل هوية محددة) يظهر ذلك بوضوح في كتابات طلال أسد وتلاميذه، والتي حاولوا من خلالها تطوير نظرةٍ مغايرةٍ لخصوصية التجربة الإيمانية للمسلمين في مواجهة رؤية الغرب للدين (على سبيل المثال عجز ثنائية علماني/ديني على توصيف ظاهرة الإيمان لدى المسلمين). ورغم أهمية ما طوره أسد وبعض تلاميذه في مراجعة الغرب لمواقفه الظالمة للأقليات المسلمة، إلا أن الكثير من الإسلاميين في المنطقة العربية استعاروا تلك الأفكار بتسطيح كبير وتعميم مُخل لم يأخذ في الاعتبار الاختلافَ الجوهري بين سياق أقلية مسلمة في أوروبا على سبيل مثال ودولة عربية مثل مصر؛ يشكل الدين الإسلامي مصدراً أساسياً في تكوينها الاجتماعي والثقافي، ومن ثم لا يعاني فيها المسلمون من التمييز أو الاضطهاد. ، واستدعاء واستدرار النعمة الإلهية كجزاء لهذا الشكل من الالتزام، تظهر مخالفةً، وبشكل صريح، لما يقرّه النص في تجربة أيوب. فلا ينفي النص أن أيوب كان رجلاً صالحاً، ولا ينفي إيمانه بقضاء الله، ورغم ذلك لم يمنع هذا عنه الأذى والابتلاء. فصلاح أيوب لم يمنع عنه الأذى، وفي ذات الوقت لم يضمن أن الله سيديم عليه النعمة والرخاء. غموض إرادة الله وحكمه تأتي في مخالفةٍ صريحةٍ لنموذج الحركات الإسلامية عن التقوى والصلاح كضمانٍ أساسي ومباشر لتفضيل الله لجماعةٍ بعينها دون غيرها.

ليس لأحدٍ معرفة ما يخبئه الله لعباده (من جزاء أو عقاب)، وبإجماع أغلب طوائف ومذاهب المسلمين لا يوجدُ أي إنسان لديه السلطة في تحديد أو معرفة الجزاء الآخروي لأحدهم. يبقى كل ذلك في علم الغيب وضمن حكمة الله التي لا يكشفها لأحد، ويبقى لنا إعادةٌ النظر في فهمنا لمعنى الإنسانية والمروءة وارتباطهما المباشر بسلوك وأفعال البشر (وليس التزامهم الديني من عدمه)، وبعض التواضع في الحديث عن إدراك حكمة الله والحديث بالنيابة عن تلك الإرادة والمشيئة الإلهية. كما تجلى الله في الغمام لأيوب، في السفر، ولم يكشف عن سر معاناة وابتلاء أيوب، ليؤكد على غموض الإرادة الإلهية لا يختلف النص القرآني كثيرا عن ذلك المعنى. انظر الآية 51 من سورة الكهف.، أكد الله على صلاح أيوب وفساد حجج وجدل أصدقائه، مؤكداً على أن الابتلاء ليس بالضرورة علامة على غضب الله أو انتقامه، وفي الوقت ذاته أن التحدث بالنيابة عن الله في إصدار أحكام على عباده هو بالفعل علامةٌ على فساد الإيمان وتجرؤ على الحديث بما لا يحقّ لأحدٍ الكلام عنه. بعض هذا التواضع قد يفيد الإسلاميين كثيراً الآن.

تفتح قراءة سفر أيوب، بما تثيره من أسئلة حول معنى أو مغزى العمل، وإشكاليات تعريف الإيمان بشكلٍ مباشرٍ أو مُحددٍ سلفاً، مجالاً لتجاوز أفق النقاش القائم بالفعل، وتدعونا لأن نفعل مثل أيوب، فنفكر ونعلن أن جميع الإجابات التي طُرحت لم تعد تجيب على أسئلة اللحظة، وأن علينا أن ندرك أن «خلق» مساراتٍ جديدةً للتفكير ومحاولة استنطاق تراث كبير من الأفكار، هما التجلي الحقيقي لمعنى الأخلاق التي، كما عرفها وتعارف عليها العرب، لغةً وفعلاً، دائماً ما كانت في حالة تشكل وتطور بما يطرأ على المجتمعات وشعوبها، وفي استجابةٍ مباشرةٍ لذلك، وليس في انفصالٍ عن أيٍّ منهما.