يُصدم كلّ زائر من دولة عربية لتونس -لا سيّما من المشرق- مِن حجم المفردات البذيئة في اللسان الدارج، وما يصدمه أكثر أنّ التلفّظ بالبذاءة ليس مقصوراً على الشبان فقط، وإنّما تجاهر به الفتيات والنساء أيضاً، والكثير من الشباب -خاصّة في الأحياء والمدن الفقيرة حيث تضعف رقابة العائلة- يجدون متعةً في تلقين الأطفال من جيرانهم كلماتٍ بذيئة ليضحكوا على طريقة نطقهم بها، وربّما طلبوا منهم أن يتوجّهوا إلى آبائهم وأمّهاتهم وحتّى معلّميهم ومعلّماتهم بهذه الكلمات التي لا يفهم هؤلاء الأطفال دلالاتها، فيعرّضوهم لمواقفَ كثيراً ما تنتهي بعقابهم، أو تكون مدعاةً لضحك الكبار. وأغلب الشيوخ سمعتهم سيّئة هنا، حتّى ضُرب بهم الأمثال، كـ: «الحاج حجّ وأمارة الحجّ عليه، أما الغَمْزَة والهمزة باقية فيه» الهادي التيمومي، كيف صار التونسيّون تونسيّين؟، دار محمّد علي الحامي، صفاقس، تونس، ط5، 2022، ص63.. إنّ الكلام البذيء إذاً سمة في لسان الشعب التونسي كلّه، بمختلف شرائحه، ورغم أنّ التونسيّين راسخون منذ قرون في هذه العادة فإنّ الجيل القديم -إلى حدود الألفية الثانية تقريباً- يؤكّد أنّ الظاهرة تضخّمت كثيراً اليوم، لأنّ التلفّظ لم يعد مقصورا على جلسات خاصّة أو مناسبات الشجار التي يفقد فيها التونسي سيطرته على لسانه، وإنّما أصبحت البذاءة مسموعة في الشارع العام.

وبعيداً عن التقييم الأخلاقي لهذه الظاهرة، فإنّ القضية تطرح أسئلةً أساسيةً ذات صلة باللغة والتاريخ والاجتماع، ولا بدّ من ترك السعي العبثي لتطويق هذه الظاهرة، قبل محاولة فهمها أوّلاً.

أيّ كلام هو البذيء؟

إنّ أوّل مشكلٍ يطرحه هذا الموضوع هو التصنيف، فما هي المعايير التي نحدّد بها كلاماً ما على أنّه «بذيء»؟، فكلمة «بائعة هوى» لا تعدّ بذيئة كما كلمة «قحبة»، وكلمة «ماكش راجل» لا تثير شعوراً بأنّها بذيئة مثل كلمة «ميبون – مأبون» رغم التشارك الدلالي الظاهر، وحتّى في أسماء الأعضاء، فكلمة «الرحم» مقبولة، أمّا «الصرم» فلا. وكلمة «قضيب» أو «العضو الذكري» مقبولة ومستعملة في المقامات الرسمية كالتعليم، أمّا كلمة «زب» فهي بذيئة، لذلك مثلا حذف محقّق ملزومة الشاعر التونسي عبد الرحمان الكافي (1885-1934) «الزبوبية»  كلمة «زب» المتواترة في كلّ أبيات القصيدة، ووضع هامشاً عليها كتب فيه: «كلمة بذيئة يقصد بها العضو الذكري لدى الرجل».

إذاً ما الذي يجعل كلمة ما مقبولة وكلمة أخرى بذيئة، رغم أنّهما تعبّران عن المعنى نفسه؟

لسانيّاً، يمكن الاطمئنان إلى هذا التعريف: البذاءة في الكلام هي استدعاء الأعضاء التناسلية بكلمة أو تركيب قَصْدَ السبّ بها، أو المفاخرة بها، أو المزاح بها، أو لمجرّد الارتكاز عليها باعتبارها «تُكَأَة»  -من الاتّكاء- في الحديث، ككلمة «نَمّي» و«زبّي». ولمّا كانت ثمّة حاجة إلى تسمية الأعضاء التناسلية في غير هذه المجالات، كما في التعليم والطبّ، فقد وقع اختيار مصطلحات أخرى لتسميتها، كالثدي والقضيب والرحم والبظر والمني والجماع أو العلاقة الكاملة «عوض النَيْك»، لأنّ المصطلحات الأخرى «مشحونة» ثقافياً بالبذاءة.

الموقف الفقهي من الكلام البذيء

لخّص لنا هذا الموقفَ الإمامُ والمؤرّخُ ابنُ قتيبة الدِينَوَرّي «213 هـ -276 هـ /  828م -889 م» في مقدّمة كتابه عيون الأخبار، حيث قال: «إذا مرّ بك حديثٌ فيه إفصاح بذِكْرِ عورةٍ أو فرج أو وصفِ فاحشة فلا يحملَنك الخشوع أو التخاشع على أن تُصَعّر ’تُبعِد‘ خدَّك وتُعرض بوجهك، فإنّ أسماء الأعضاء لا تُؤْثِم، وإنّما المأثم في شتم الأعراض» ابن قتيبة، عيون الأخبار، دار الكتب المصرية، ط 1925، المقدّمة.. فهو هنا يمنع فقط ذكر الأعضاء قصدَ السبّ بها، أمّا غير ذلك، كالمزاح والتفاكه، فجائز. والذي يثير العجب أنّ أغلب المؤلّفين في الأدب الإيروسي «الجنسي» هم فقهاء، وأهمّهم إطلاقاً وأغزرهم إنتاجاً هو جلال الدين السيوطي الملقّب بـ «إمام الحبّ»، فمن مؤلّفاته التي نُشر منها ولم يُنشر نذكر: نواضر الأَيْك في معرفة النَيْك، والوشاح في فوائد النكاح، والأُسّْ فيمن رَأَسَ بالكُسّْ. وفي تونس، انتشرت في العهد الحفصي مؤلّفات جنسية كثيرة أغلب أصحابها فقهاء، وأشهرهم الشيخ النفزاوي صاحب الروض العاطر في نزهة الخاطر، الذي بدأ مقدّمته بالجملة التالية: «الحمد لله الذي جعل اللّذة الكبرى في فروج النّساء وجعلها للنّساء في أُيُور الرّجال ’جمع أير، القضيب‘، فلا يرتاح الفرج ولا يهدأ ولا يقرّ له قرار إلاّ إذا دخله الأير» محمّد بن محمّد بن عمر النفزاوي، الروض العاطر في نزهة الخاطر، تحقيق فرج الحوار، الدار المتوسّطية للنشر، تونس، 2018، المقدّمة.. وكذلك الفقيه أحمد التجاني (1272-1277 م) صاحب كتاب تحفة العروس ومتعة النفوس، ولا ننسى أنّ أكثر ديوان شعري «بذيء» وهو ديوان بشّار بن برد لم يجرؤ أحد على تحقيقه، حتّى حقّقه الإمام الأكبر لجامع الزيتونة ومفتي الديار التونسية محمّد الطاهر بن عاشور، وممّا جاء من البذاءة في شعر بشّار:

خَبَّرَتني القَنفاءُ «رأس الذكر» عَنكِ بِشَيءٍ*** فَاِتَّقِ اللَهَ في استِكَ البَخراءِ

لا تَدَع زِنيَةً وَدَع زُبَّ يَحيى*** وَاِسأَلِ أُختَيكَ عَن لَذيذِ الزِناءِ

وقد تعلّل بعض الفقهاء لإباحة الكلام البذيء بحديث رواه البخاري«الحديث رقم 6824» عن ابن عباس أنّ سأل النبي رجلاً عمّا وقع بينه وبين امرأة بقوله: «أنِكتها؟»، ولو أنّ بعض الفقهاء المحافظين حاولوا البحث عن تأويلات وتبريرات لدفع تهمة البذاءة عن لسان النبيّ.

الجذور اللغوية للكلام البذيء في العربية

أغلب الكلمات البذيئة في تونس لها أصول في اللغة العربية، وموجودة في أمّهات المعاجم، فلسان العرب لابن منظور فيه مثلاً: القحبة «من القُحاب، وهو السعال، يقال إنّ بائعة الهوى كانت تأذن لطلّابها بالدخول عليها بسعالها»، والزبّ «بضمّ الزاي في الفصحى»، والسُرْم «المخرج»، وفي تونس يقصد به الرحم غالباً، وينطق بالصاد، والبُزُول «في تونس بفتح الباء وضمّ الزاي مع تشديدها، وهو من بلوغ الناقة سنّ الثامنة أو التاسعة، والأرجح أنّه استعير في تونس للتعبير عن طلوع النهد، لأن النهد معناه الطلوع أيضاً»، هَرَدَ «مزّق، والمقصود فضّ البكارة أو المجامعة بعنف»، ناك، العصبة «من معانيها في الفصحى الشدّة والقوّة، ويشار بها إلى القضيب الضخم»، الميبون «المأبون، الذي فيه أُبنة، وهي صفة سوء عامة، وفي تونس تحدّدت جنسياً باللواط»، الملهط: في الفصحى: «اللاهط»، وهي المرأة التي تبلّ فرجها بالماء، وتعني في تونس العاهرة، هذه أشهر الأمثلة الفصيحة، وبعض العبارات البذيئة ذات أصول أمازيغية بربرية، ككلمة «زك» المستعملة في المغرب والجزائر أيضاً. وربّما استخدمت كنايات خاصة عن الأعضاء، كـ«النونة» وهي البظر، ولعلها تشبيهٌ له بحرف النون، والنقبة إشارة إلى الدُبُر، والجعبة هي وعاء السهام، تستعمل للدُبُر أيضاً. وتبدو أصول بعض الكلمات مجهولة، مثل «النَمْ» أي القضيب، وهي مستعملة في الجزائر أيضا بالمعنى نفسه، وهي غير موجودة بالمعنى نفسه في المعاجم العربية أو الأمازيغية.

مميّزات البذاءة التونسية

من المبادئ العامّة في اللغات أنّ الإكثار من استعمال أيّ تركيب في الكلام من شأنه أن يحدث ظواهر لغوية خاصّة، ولمّا كان التونسيون شغوفين بالبذاءة فقد نتجت ظواهر صارت من مميّزات اللسان التونسيّ، ويمكن تحديد سبع سمات أساسية في البذاءة التونسية:

1) «الانزياح الدلالي» للكلمات البذيئة

خرجت الكثير من الكلمات البذيئة في اللسان التونسي عن معانيها الأصلية، وصارت تحمل معانيَ أخرى لها علاقة صريحة أو خفية بالمعنى الأصلي، فكلمة «ميبون» التي تعني المخنّث في الأصل، تُستعمل في تونس للتعبير عن معاني سوء النية والخبث والشرّ، كأن يقول أحد لصاحبه: «إنت ميبون في مخّك»، ويقصد أنّه خبيث شرّير. وكلمة «ينيك» قد تعني يضرب: «ناكو بطريحة»، أو إيذاء النفس: «ناك روحو بروحو»، أو الإفساد: «ناكلها أمها الكرهبة»، أو التعبير عن العبث: «يَنَيّك وحده»، أو يعبّر بها عن التجاهل: «يمشي ينيك»، أو عن الغضب: «حلّ نَيّك الباب»، «سكّر نَيِّكْ فمّك». وربّما تحمل الكلمة الواحدة المعنى ونقيضه، وهي ظاهرة موجودة في اللغة العربية الفصحى، وتسمّى «الكلمات الأضداد» مثل كلمة «المولى» التي تعني السيّد كما تعني العبد، ومن الكلمات الأضداد في البذاءة التونسية «القحبة» التي تحمل عادة المعنى السلبي المعروف، لكن التونسي قد يستعملها للدلالة على الدهاء، فـ«فلان ولد قحبة» أي هو ذكيّ نَبِهٌ، ولعلّ وجه الصلة بين بائعة الهوى والذكاء هو تهمة «كيد النساء» في الثقافة العربية، حيث يُعتَقد أنّ «العواهر» خاصّةً يتصيّدن الرجال بحيلٍ لا تخطر على بال.

2) التُكأة أو «العكاكز» في الكلام

ينزع التونسي إلى استعمال كلمات بذيئة دون أن يقصد معناها، إنّما «يتّكئ» عليها كما كان يتّكئ مثلاً الرئيس الحبيب بورقيبة على كلمات يردّدها باستمرار في خطابه مثل: «فهمت حاصل معناه»، ومن أكثر الكلمات التي يتوكّأ عليها الذكور خاصّة هي القضيب، لذا نسمع في الشارع التونسي حضور «الزب» في جمل لا علاقة لها بما يعنيه، مثلا: «ها زبي طقس سخون»، «فكّ زبيّ مالقراية»، وكذلك عبارة «النيك» وما يشتقّ منها، «نِيكْ أمها لا مشيتها».

3) كلمات «بذيئة» نُسيت أصولها

من أطرف الظواهر اللسانية في البذاءة التونسية، أنّ الجهات في البلاد غير «متّفقة» كلّياً على قائمة مغلقة في الكلمات البذيئة، وهذا راجع إلى أنّ كثرة استعمالها أَضْفَتْ عليها ضَرْباً من المقبولية حتّى نَسِيَ الناسُ أصولَها البذيئة، لذا ربّما يقع ابن الشمال التونسي في إحراج إذا ما تواصل مع أبناء جهات أخرى، أو يقعون في إحراج معه، فتفلت من المتكلّم كلمة يظنّ أنّها عادية فإذا بسامعه يُصدم وينكسف إذا كان من ذوي الحياء، فكلمة «بعبوص» مقبولة في أغلب جهات الشمال مثلاً، باعتبارها تعني «الذيل»، أمّا في بعض جهات الساحل مثلا فهي تعني القضيب نفسه، والأرجح أنّ الكلمة بذيئة، لأنّ أغلب التونسيين متّفقون على أنّ الفعل «يبعبص» يعني لمس أماكن العفّة في المرأة بواسطة الأصابع. وكلمة «يهرد» في الجنوب التونسي تعني «يجامع» جنسيّاً، وهي مستعملة في أماكن كثيرة للتعبير عن الإفساد، وكلمة «يِتْمَنْيِكْ» مستعملة في كثير من الجهات، وفي بعضها الآخر هي بذيئة كما يدلّ جذرها. ولكثير من التونسيين قصص طريفة عن مواقف الإحراج هذه، من ذلك أنّ صديقا لي -وهو من الشمال التونسي- حدّثني عن أنّه كان في مطعم جامعي مع مجموعة من أصدقائه الطلبة من الجنوب، ومعه صديقة مثله من الشمال، فزلّ لسانها بكلمة «فلان يِتْمَنْيِك» دون أن تعي ما تعنيه للطلبة الجنوبيّين، فانقلبت سحنتهم واحمرّت وجوههم، فنبّهها صديقي الذي ظنّ أنّه عارف أكثر منها وقال: «اسكت راك هَرِدْتَها»، فزاد الطين بلّة، ولم يكن من جلسائهم الجنوبيّين إلا أن نهضوا جميعاً، وقاطعوا التواصل معه فترة طويلة.

4) العنف في البذاءة

ثمّة نزوع في الكلام البذيء التونسي إلى العنف، ربّما يعكس تمثّل التونسي للجنس باعتباره ساحةً لاستعراض فحولته على جسد المرأة، و«إسالة الدماء»، فالتونسي يعبّر عن افتضاض بكارة المرأة بـ«التكسير»: «كسّرها»، وفعل الإيلاج يعّبر عنه بفعل عنيف هو «حشاه»، و«هردها»، و«قطّعلها صرمها»، إلى آخره. لذلك كثيراً ما يستدعى الكلام البذيء للتعبير عن العنف في غير الجنس: «تو نجي انّكِيكْ»، «سكّر نيّك فمّك»، وتعابير تصل أحياناً إلى تمثيل «الطريحة» بتفاصيل الفعل الجنسي مباشرة في الشخص أو في أمّه أو أخته «تو اندخل فيك زبي»، «تو انّيكلك أمّك»،«أختك ألا ما انّيكهالك»، «تو تشدني منّو».

5) «الغَشَّة» أو الحيل البذيئة

إنّ الغِشّ في تونس ليس في التجارة والامتحانات فقط، بل في الكلام أيضاً، وهي ظاهرة منتشرة كثيراً بين ثلاثة فئات بشكل خاص: المراهقين، وبعض الإعلاميّين، والشباب. و«الغَشَّة» هي كنايات واستعارات ظاهرها كلام عادي، لكن باطنها -وهو المقصود- بذيء، فربّما يضحك عليك شخص بعد أن يسألك عن الوقت، ليتّضح أنّه قال: «قدّاش فيك وقت»، أي: «كم يمكن أن تصبر تحت الجماع؟»، وأغلب ضحايا الغشّة هم من الأساتذة والبنات. وتتّخذ الغشّة أساليب مختلفة، منها ما يسمّى في البلاغة العربية بـ«الجناس»، وهو تشابه كلمتين، كأن يسأل تلميذ أستاذته -خاصّة- بقوله «نكتبوه التمرين؟» وهو يقصد «نكت – بوه»، أي: هل «نِكت أباه؟» وإذا أجابت الأستاذة المسكينة بـ «نعم» انفجر القسم ضاحكاً، من حيث لا تدري. ويقع الأساتذة عموماً في كثير من الإحراجات، لا سيما أنّ بعض الكلمات في البرامج المدرسية المقرّرة تشترك أو تقترب من كلمات بذيئة، من ذلك أنّ زميلاً مشاكساً درس معي في أيّام الثانوية، سأل أستاذ التاريخ والجغرافيا عن «عَصْبَة الأمم» (League of Nations) التي تأسّست عام 1919، وقال له: «أستاذ ياخي بالحقّ اسمها عصبة؟» وانفجر القسم ضاحكاً، حتّى الأستاذ بدوره لم يتمالك نفسه عن الضحك. وبعض أساتذة العربية يجتنبون تدريس نصوص بعينها ويعوضّونها بأخرى، لأنّ فيها كلمةً مثل «عصبة» هذه، كبيت لأبي نواس يقول فيه:

كالمسك إن بُزِلَتْ والسَبك إن سكبت *** تحكي إذا مُزجت إكليل مرجانِ

فـ«بزل» لا تذّكر التلاميذ إلّا بثدي المرأة. وكلمة «صَرْم» -وتعني في الفصحى القطع- موجودة في أهمّ قصيدة جاهلية هي معلّقة امرئ القيس، وهي كلمة مستعملة كثيراً في الأدب القديم، لكن الأساتذة كثيراً ما يجتنبونها في مقام التدريس.

ومن طرق الغشّة الاعتماد على «التعدّد الدلالي» للكلمة الواحدة، فكلمة «واحد» في تونس، تعني بحسن النية «واحد» أو «أحد»، أمّا إذا قيلت بقصد «الغشة» فالواحد يعني «جِماعا واحداً»، وربّما يندسّ بعض هؤلاء في المظاهرات المساندة لفلسطين، التي يهتف فيها شخص بشعار «شعب عربي» ويعيد بعده الجميع عبارة «واحد»، فيرفع الخبثاء جملة «اش عملتك البارح» حتّى تسمع بعده «واحد» فيضحكون ملء أشداقهم. وقد استعمل فنان استعراضي تونسي هذه «الغشة» في أغنية نشرها يقول فيها «نعملك واحد» ثمّ يقول «يعسْ عليك»، لكن التونسيين يعرفون ماذا يقصد.

ومن الكلمات متعدّدة الدلالة «المتاع» فهي تعني في الأصل «الملكية»، فـ«هذي الدار متاعي» أي ملكي، لكنها تعني أيضاً القضيب حتّى في العربية الفصحى، فيستغلّها أصحاب الغشّة للإيقاع بضحاياهم، وحدّثتني صديقة أنّها سألت زوج أختها عن شاحن هاتف، واحتارت بين اثنين، أحدهما طويل والآخر قصير، فقالت له: «متاعك طويل والا قصير؟» فأجابها: «اسألي أختك».

ويحدّثنا عمر الصفاقسي، وهو تونسي عايش تجّار الأسواق المدينة العتيقة في العاصمة، عن أسلوب «الڨجمي»، وهو طريقة ابتدعها التجّار وسكّان أحياء العاصمة تتمثّل في قلب الكلام وعكسه، أو «الأكل» منه، حتّى لا يفهمه المعمّرون، وهم الفرنسيون المقيمون بتونس زمن الاستعمار، لأنّ المعمّرين تعلّموا الدارجة التونسية، وحتّى يجتنب أهالي العاصمة انتقامهم جعلوا يقلبون الكلام البذيء لينفّسوا به عن غضبهم دون تعريض أنفسهم للخطر. وتصبح بذلك مثلا «تو تخرى لي فيه»: «تو نخرى قالي فيني قيه»، أو «يدو في زبّي» تصبح: «ييني قدو في زيني قبي». ولمّا خرج المستعمر من البلاد ظلّ «الباندية» يستعملون «الڨجمي» ضدّ رجال الشرطة حتّى يفلتوا من العقاب ولا يدوّن عليهم شيء، أما الجيل الذي بعد هؤلاء، فأبقوا على «الڨجمي» من باب الحياء، حتّى لا يجرح الرجل حياء أخت صديقه أو جارته أو أيّ شخص كبير في السنّ يمرّ في الشارع، أمّا اليوم فهو شبه مهجور.

6) «اختلاط الأعضاء» أو «عندي والا عندك»

من العادي أن يقترض الرجل في تونس عضو المرأة في الكلام، كما تقترض المرأة عضو الرجل، فتقول هي: «ها زبي»، ويخاطب الرجل الرجلَ ويقول له «صُرمك». وأمر آخر لا ينتبه إليه حتّى التونسيّون أنفسهم أحيانا، هو كلمة «نَمْ» التي تنطق بتفخيم النون، وتطلق على عضو الرجل كما تطلق على عضو المرأة، ولا إشكال عندهم، المهمّ أنّ «المعنى وصل».

7) اشتقاق الأفعال من الأسماء

بلغ من استعمال التونسي للبذاءة أن اشتقّ من أسماء بذيئة في العربية الفصحى أفعالا لم تستعمل قطّ فيها، فمن كلمة «قحبة» اشتقّ فعل «تتقوحب»، ومن اسم «ميبون» اشتّق «يتوبّن»، ومن «جعبة»: «يتجوعب»، ومن «زب»، «يزبزب»، ومن «ترمة»: «يترّم»، وحتّى سبّ الجلالة اشتقّ له التونسي فعلا هو «يرَبْرِبْ». وغالبا ما تستعمل هذه المشتقّات لغير التعبير عن الجنس، وإنّما لمعاني أخرى. 

البذاءة بالإشارات

لا يقتصر التعبير البذيء باللغة فقط، فربّما اعتمد التونسي فيه مختلف الوسائط الرمزية، كالإصبع الوسطى، وإن لم يكفه الإصبع فإنّه يشير بيده كلّها بوضع كفّه في المفصل بين العضد والذراع، محاكياً بذلك قضيباً كبيراً، كثيراً ما يتوجّه به إلى رجال الشرطة في المظاهرات، أو تتوجّه به جماهير الأفرقة المتنافسة بعضها ضدّ بعض، وربّما وضع يديه عنده عضوه الذكري مشيراً به إيحائياً إلى غريمه. ويتعابث المراهقون من الذكور بملامسة مؤخّرات و«أثداء» بعضهم، من باب المزاح غالباً واستفزاز بعضهم، وهي ظاهرة منتشرة.

حجم البذاءة في تونس، والتفاسير الممكنة

يسمّى الكلام البذيء في تونس بـ «الكلام الزايد»، لكنّه اليوم، وحتّى أمس القريب، يبدو ضرورةً نفسية للناطقين به لا زائداً، حتّى أنّه يعبّر به عن الحبّ إذا بلغ بصاحبه الهيام: فـ «نحب زُكْ أمّك ’رَحِمُها‘» قد تخرج من فم عاشق ولهان. وبذاءة اللسان مقرونة أيضا بوصم آخر في اللسان التونسي هو «الكُفر»، وهو سبّ الجلالة، الذي اعتبره المؤرخ والباحث في الأنثرولوجيا التاريخية عبد الواحد المكني «اختصاصاً تونسياً»، والتونسي كثيراً ما يؤكّد هذا السبّ بإنجاز كامل يتمثّل في استعمال الفعل «يلعن»، لكنه قد يكتفي بعبارة «ربّ بوك» أو «ربّ أمّك» ليشعرك بأنّه يسبّ الجلالة، وهو يسبّها فعلا! لأنّه «يضمر» أو يحذف فعلَ اللعنة. والتونسي إذا قال «ربّي» فهو يذكر الله لكنه إذ وجّه لك الضمير «ربّك» فهو في الغالب يَسبّك.

ونجد في نصوص المؤرّخين والأدباء من مختلف الحضارات التي مرّت على تونس تقريباً، شهادات على «فظاعة البذاءة» في الكلام، وأَقْدَمُ شهادة على ذلك هي للقدّيس أوغسطينوس في اعترافاته، حيث يقول: «لا يمكن إجراء أيّ مقارنة مع الانحلال الأخلاقي المخجل والفظّ لتلاميذ قرطاج. إنّهم يرتكبون بحماقة صفيقة ألف وقاحة من المفروض أن يعاقب عليها القانون»  نقلا عن الهادي التيمومي، م.س، ص84..

ثمّ سيسجّل المؤرّخ ابن حوقل  -توفّي عام 977 م- شهادةً على تحرّر بعض القبائل البربرية، مثل كتامة وميلة وسطيف، حيث إنّ سيّد البيت كان يعرض نفسه على الضيف وأولاده وزوجته، تقديساً منهم للضيافة، وربما أصرّوا على الضيف في ذلك، يقول: «ويتخلّق قوم منهم بخلق ذميم من بذل أنفسهم لأضيافهم على سبيل الإكرام ولا يحتشمون من ذلك، وأكبرهم وأجملهم كأصغرهم في بذله نفسه لضيفه حتّى يلحّ به»، وأكّد ذلك في المؤرّخ الإدريسي -توفي عام 1166 م- في منتصف القرن الثاني عشر ابن حوقل، صورة الأرض، ص91، نقلا عن محمّد الطالبي، الدولة الصنهاجية، تعريب المنجي الصيّادي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2 1995، ص677-678، وجّهنا إلى ذلك د. الهادي التيمومي الذي ذكر في كتابه السابق ثمانية أسباب مفترضة لتفسير حجم البذاءة في العامية التونسية.. ومن هذا المثل التونسي: «كُسْكِسِيه وزعكة ’مؤخرة‘ ولده»، واعتبر المؤرّخ التونسي الهادي التيمومي، في شهادةٍ خاصةٍ لنا، أنّ هذا التحرّر الأخلاقي لدى البربر لا بدّ أن يعكس تحرّراً لغويّاً، هو الذي ترسّب في الشخصية التونسية.

وفي القرن العشرين، سمّى بيرم التونسي في مقال له بجريدة «الزمان» يوم 14 أوت (آب) 1934 تونس «مدينة الشتائم»، وقال: «[…] وتكاد تكون تونس الوحيدة في العالم التي لا يراعي أوباشها آداب السّير والحديث، ولا أخصّ بذلك مسلميها، فقد انغمست كلّ ألسنة سكّانها في البذاءة، وأصبحت كأنها من علامات الرجولة والفتوّة»  نقلا عن الهادي التيمومي، م.س، ص83..

وفي القرن الحادي والعشرين الراهن، يمكن تسمية ما بلغَتْه البذاءة في تونس بـ«الانفلات اللغوي»، حيث أصبحت الظاهرة خارجة عن السيطرة، فقد اضطرّت الهيئة العليا للاتّصال السمعي البصري «الهايكا»، إلى إغلاق عشرات البرامج الإذاعية والتلفزية، نظراً لـ«تفوّهات بذيئة» صدرت عن أحد الحضور أو الإعلاميين، بغضبٍ أو مزاحٍ أو سهو. وفي تونس يُرفت كلّ سنة عشرات التلاميذ من المعاهد، رفوتاً مؤقّتةً أو نهائية، نظراً لتلفّظهم بعبارات «منافية للأخلاق» تجاه أعضاء الأسرة التربوية، أو ضبطهم وهم يكتبون كلاماً بذيئاً على الطاولات وعلى السبّورات والجدران، وأحيانا رسوماً للأعضاء حتى على طاولة الأستاذ وكرسيّه، وقد صنّف برنامج بيزا (Piza) التابع لمنظمة التعاون والتنمية الأوروبية (O.C.D.E) عام 2015، التلميذ التونسي في المرتبة الأخيرة من حيث السلوك، ضمن 72 دولة نقلا عن الهادي التيمومي، م.س، ص84.. وكذلك في الملاعب تكثر العقوبات على اللاعبين والمدرّبين لتوجيهم عبارات بذيئة للإطار التحكيمي أو للفريق المنافس، أو حركات لا أخلاقية بأيديهم، ويحتدّ في تونس الكلام البذيء كلّما ضاق المكان واحتشد الناس، فيبلغ حدّته في محطّات النقل، والملاعب، والأسواق، خاصّةً في العاصمة.

لكن أغلب التونسيّين لهم تفسير خاصّ لهذه الظاهرة، وهو أنّ بذاءة واقعهم لا يجب أن يعبّروا عنها بغير بذاءة اللغة، وهذا التفسير -على ضيقه- يعكس خصلةً في التونسي، وهي صراحته الشديدة، أو على الأقلّ ادّعاؤه حبّ الصراحة، لذا كثيراً ما يستعمل التونسي جملاً من قبيل «نقلّو في وجهو طول»، و«اعطاهالو لا تقرى لا تكتب»، و«الصراحة راحة»، و«علاش نخبي»، و«نسالو مغرفة»، و«ما نعديهاش»، و«يمين البكّوش في صدرو»، و«عطيتو متاعو»، و«يعمل الله»، و«نقول وخلّي يصير الي يصير»، ويتظاهر التونسيون كثيراً بأنهم يكرهون «المنافقين»،«والي يمسكيو (masque)» والحربائيين، ومن يتكلّم في ظهورهم.

والمفارقة في سلوك التونسيّين، أنّ المتلفّظين بالبذاءة منهم يجدون لذّةً في المجاهرة بها، وربّما شعر البعض منهم بحرجٍ إذ رفع صوته بها سهواً ثمّ انتبه أنّ عابراً في الطريق سمعه، لكنهم -جميعاً أيضاً- لا يحبّون سماعها من غرباء في الشارع، لا سيّما إذا كانوا بصحبة عائلاتهم وحبيباتهم، حيث تتحرّك فيهم حَمِيّة الرجل الشرقي الذي يعطي لذلك الـ«قليل الحياء» درساً في «الحشمة والجَعْرة». لكنّ اللهجة التونسية تظلّ منطويةً على أسرارها، في «قاع الخابية»، حيث يكمن سحرٌ في البيان لا يفهم مغزاه وسرّه مَن لم «يتعتّق ويتخمّر» بتربة البلاد وثقافتها، ولم يذق هريستها ولبلابيها وكفتاجيها وهرقمتها، لذا تراها غير مبالية بكلّ الأحكام الأخلاقية الصادرة ضدّها، بل بكلّ مصادر هذه الأحكام، من قاضيها إلى حاكمها وشيخها وكلّ مدّعيّ التقوى الذين دعاهم عبد الرحمان الكافي إلى الإمساك بـ«متاعه» عوضاً من تمسّكهم بتقواهم.