«يا أهل الخير، يا أهل النخوة، النظام ضرب كيماوي، أهلنا بزملكا وعين ترما بالشوارع ميتين».

بهذه المناجاة الحزينة صدحَ المؤذن، وهو يغصّ في كلامه ويبكي مع أصوات التكبير من مآذن بلدة كفربطنا عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ليعلن عن أكبر مصيبة حلّت بنا.

انقلبَ ليلنا نهاراً. ضجيجٌ في الشوارع ونداءٌ من المآذن، وتكبيراتٌ يقطعها بكاء المؤذنين تارة وطلب المساعدات لإخلاء المدنيين ونقل الملابس والخلّ والمشروبات الغازية إلى المشافي تارة أخرى. لم نكن نملك المعرفة والخبرة في كيفية التعامل مع هذه الأنواع من الغازات، لتكون هذه المواد البسيطة سبيلنا في الإسعاف الأولي، فقد كانت الحاجة تفوق قدرة المَرَافق الصحية على استيعاب الأعداد الكبيرة.

قبل سماع صوت المؤذن كانت ابنة جيراننا فاطمة، وهي من سكّان زملكا، قد وصلت إلى بيت أهلها وهي تبكي وتصرخ وصوت سعالها يصل إلينا.

عندما سألها والدها عن بقية العائلة رَدَّدت برعب: «ماتوا… ماتوا».

مع سماع هذا الخبر، ثم أول كلمة استغاثة من المساجد، خرج أبي مسرعاً للمساعدة في الإسعاف بسيارته البيك آب الكبيرة التي تتسع لأعداد أكبر من السيارات العادية. هيأتُ نفسي بسرعة منتظرة خطيبي الذي يعمل مُسعفاً حتى يأتي ويأخذني إلى مكان عملي في مشفى الفاتح في كفربطنا. كنتُ متوترة وأنا أنتظره، وكانت أمي إلى جانبي تبكي ويأكلها القلق على إخوتي الذين كانوا خارج البيت. بقيتُ أنتظرُ ساعة ونصف، حتى جاء بسيارة الإسعاف ليأخذني.

خرجنا من البيت وعند وصولنا إلى الشارع العام كانت القذائف والصواريخ تتساقط، وكنا نسير كأننا في سباق معها. كنت أكاد لا أصدق ما يحدث، ولم أكن أفكر في تلك اللحظة سوى بالوصول إلى المستشفى، فالجميع تحت الخطر ويجب أن أصل كي أقوم بواجبي.

نظرت إلى خطيبي وهو يقود بسرعة جنونية. لم أكن أدركُ ما به، لكنني شعرتُ أنه لم يكن في وعيه تماماً. قلت في نفسي: إنه مصدوم من هول ما رأى. لم أكن أعلم أنه أيضاً قد استنشق السارين من ثياب المصابين أثناء إسعافهم.

شعرتُ أنّ قطع المسافة استغرق زمناً طويلاً جداً، على الرغم من أنني كنت أقطعها يومياً سيراً على الأقدام. وصلنا إلى شارع المستشفى التي كانت تقع على طرف البلدة، لأجد إطارات مشتعلة على طرفيه وسيارات في حركة ذهاب وإياب تنقل المصابين والشهداء من وإلى المستشفى. نزلت بسرعة لأقف مذهولةً أمام واحد من أعظم المواقف التي يمكن أن تشهدها الإنسانية: أعداد كبيرة، عشرات بل مئات من المصابين الممددين على أرض الشارع وفي ساحة المستشفى الخارجية، فيما يتعاون الممرضون والمدنيون على نزع ملابسهم وفرزهم بين شهيد أو مصاب، في مشهد عظيم ومؤلم من التكاتف والتعاون.

كانت صهاريج المياه تعمل على غسل المصابين والمتواجدين معهم من آثار السارين خارج المشفى.

خُيِّلَ إليَّ أنّ المصابين مثل أسماكٍ مُعذَّبة اُخرِجت لتوها من مائها. كانوا يرتعشون كالأسماك، ويتخبطون وزبد أبيض يخرج من أفواه بعضهم، بعيون ذات حدقات متضيّقة.

صدمتني بشدة تلك الأعراض التي كنتُ أعيانُها لأول مرة أنا وأغلب سكان الغوطة من أطباء وممرضين ومدنيين. لاحقاً، حدَّثَنا أحد الأطباء أنه خلال مسيرته المهنية على امتداد سنواتها، ورغم دراستهم لأعراض الغازات السامة، إلا أنه لم يُعاين في الواقع أي حالة مشابهة. كان هول الصدمة كبيراً، لكنه كان مجبراً على التعامل الفوري معها.

حاولتُ الدخول إلى المشفى لكنّ أعداد المصابين الهائلة كانت تُعرقل دخولي. اضطررتُ أن أخطو من فوقهم، وكلّي خوفٌ أن أدوس خطأً على أحدٍ ما فأزيد ألمه لو افترضنا أنه واعٍ للألم. دخلتُ فوجدتُ ضعفَ الأعداد التي رأيتها خارجاً، قسم الإسعاف وغرف العمليات والتصوير الإشعاعي وحتى ممرات المشفى الضيقة، امتلأت كلّها ليس بالمصابين فقط، إنما بالشهداء وجلّهم من الأطفال والنساء بلباس النوم، فاضت أرواحهم وهم نائمون.

رحتُ أفكر، هل شعروا بشيء قبل موتهم؟ هل تألموا؟

قطع تفكيري ذاك صوتُ زميلتي ولاء وهي تناديني في قسم الإسعاف. اقتربتُ منها، كانت متعبة جداً. نظرتُ إلى عينيها فكانت لديها حدقات متضيقة جداً مثل المصابين بالخارج، الحدقات الدبوسية. شعرتُ بالخوف الشديد من تبدّل ملامحها، ومرّت ثانيةٌ شعرت فيها وكأني غبت عن الواقع.

سألتها: «أنت بخير؟».

أجابت: «أنا بخير لكن الكادر الأول الذي استقبل الدفعات الأولى من المصابين تأثروا بشدة، وتم نقلهم إلى العناية المركزة أو الاستشفاء… خذي هذه الإبر  (إبر الأتروبين) و أعطي كل شخص مصاب إبرة».

بينما كنتُ أعملُ على حقن المصابين وتقديم الإسعافية الأولية لهم، لمحتُ خطيبي يترنح أمام باب المشفى فتجدَّدَ شعوري أنه ليس بخير، لكني لم أملك الوقت لأذهب وأطمئن عليه. بعد دقيقة واحدة سمعتُ صوت سقوط ثقيل على الأرض وأصوات أناس تنادي: «وقع الشب.. تعالوا شوفوا». نعم، هذه المرة سمح خطيبي لقوته بالانهيار والضعف أمام ما لاقاه من آثار السارين العالق بأجساد وملابس الشهداء والمصابين الذين أسعفهم. تم سحبه بسرعة ليفحصه الطبيب وأنا في حالة صدمة: هل سينجو؟ كان هذا السؤال الوحيد الذي وجهته للطبيب وأرفقته بجملة: «هو مريض ربو». حاول الطبيب طمأنتي وطلب نقله إلى غرفة العناية المركزة، وبِتُّ أنا في حيرة بين خيارين صعبين: هل أترك واجبي تجاه عملي وأبقى بجانب رفيق دربي؟ أم أن عليَّ أن أتعامل معه ككافة المصابين؟

أكملتُ بعدها عملي وأنا أشعر بضيق شديد، وبين وقت وآخر كنتُ أسترق دقائق قليلة أهرب فيها إلى العناية المركزة لأرى ما إذا كان على قيد الحياة، أم أنه رحلَ مثل كثيرين بتنا نضع أرقاماً على جباهم بالترتيب ريثما يتم التعرّف عليهم.

الساعة الآن السادسة صباحاً وما زلنا على الحال نفسه. قال لي أحد الأطباء: «نور وثّقي الجميع في الطابق الأعلى في قسم النسائية». صعدتُ إلى لتسجيل أسماء المتواجدات من النساء في حال كنَّ في وعيهنّ. بدأت التوثيق، ومع كل اسم أكتبه كانت تدور في ذهني أفكار وأسئلة: هل فقدت هذه المرأة أحداً من أهلها؟ هل يعلم أقاربها بتواجدها هنا؟

لقد تشتت شمل العوائل بسبب كثرة المصابين والسيارات التي كانت تسعف كل مجموعة إلى مركز طبي مختلف.

في إحدى الغرف، تقع عيني على شابة في العشرين من عمرها على ما أعتقد، كانت تنتفض وتختلج بسبب حالة الاختناق التي أصابتها. اقتربتُ منها وسألتها عن اسمها لأفحص وعيها، فما كان منها إلا أن شدّت يديها حول عنقي بقوة وأخذت تهزني للخلف والأمام وهي تردد: «روعة روعة… أنا اسمي روعة». حاولتُ إبعاد يديها عني فقد بدأت أشعر بالاختناق، شعرتُ أن عينانها تتوسلان لي لأُخلِّصها من ألمها، عينان دامعتان وملامح خائفة بقيت محفورة في ذاكرتي إلى اليوم. خفتُ أن أتسبب في أذيتها، لكنها كانت تؤذيني. جاءت زميلتي وساعدتني في إبعادها.

كنتُ أعلم أن العديد من المرضى سيصابون بنوبات هلع عنيفة ونوبات شبيهة بالربو بسبب ضيق التنفس، لكني لم أكن أتخيل أن يكون الأمر على هذا الشكل.

قاربت الساعة الثامنة صباحاً. أسمع صوت الطائرة من بعيد تنقض على فرائسها، جاءت لتكمل إجرام النظام الأسدي. يبدو أنها كانت تحاول القضاء على الناجين، فكانت وجهتها المشفى. سمعتُ صوت الصاروخ يقترب، لينفجر في الجهة المقابلة لمدخل المشفى مخلفاً وراءه أضراراً كبيرة.

يأتي هذا القصف ليزيد من حجم الكارثة الكيماوية التي كان أثرها على نفوسنا كبيراً جداً وغير قابل للاستيعاب في تلك اللحظات. تحولت المدارس وساحات المساجد والمستودعات إلى أماكن للمصابين والشهداء، الشهداء الذين تم توثيقهم من خلال الصور والأرقام على جباههم بسبب عدم المقدرة على التعرّف على هوية معظمهم.

عدتُ إلى بيتي. أقل ما يمكن أن أصف نفسي به أني كنتُ جثة متعبة بلا روح، أحمل بين ثنايا قلبي بكاءً وصراخاً وصوراً و زبداً واختلاجات وعيون بحدقات دبوسية. 

دخلتُ منزلي لأطمئنَ أخيراً على أفراد عائلتي الذين لم أكن أعرف عنهم شيئاً منذ فارقتهم الليلة الماضية. تخبرني أمي فوراً أن والدي متعب، أدخل غرفته فأراه مستلقٍ بلا حراك تكسو جبهته قطرات العرق الناتجة عن ارتفاع حرارة شديد، بوجه أحمر محتقن وحزنٍ رهيب. تلفت نظري ثيابه، هي نفسها التي ذهب بها حين غادرنا ليساعد في الإسعاف. عاد أبي يومها متعباً فنام مباشرة مكللاً بآثار السارين، غير مدرك لعواقب فعلته. دقائق معدودة وتم نقله إلى المشفى ووضعه تحت المراقبة.

أَستغلُّ الوضع قليلاً لأعود وأطمأن على خطيبي. أدخلُ غرفة العناية المركزة، فيخبرني الممرض المناوب أنه بخير وأنه تجاوز مرحلة الخطر، لكن هاتفه الجوال لا يكاد يتوقف عن الرنين. أخذت الهاتف وخرجت للشرفة لأحافظ على الاتصال من الانقطاع، هي أرقام أفراد عائلته المقيمين في العاصمة دمشق. وبالفعل، وردَ اتصالٌ من عمّه، وهي المرة الأولى التي سأكلمه فيها لأنني أعلم مسبقاً موقفه من ثورتنا والألفاظ التي يطلقها علينا. دارَ حوارٌ بسيطٌ بيننا بدأ بسؤال: «ليش ما عم ترد ياغبي، أمك قلبها متل النار»، وحين أخبرته بإصابة خطيبي بالسارين ووجوده حالياً في المشفى كان رده صاعقاً حدَّ الموت: «حاجة كذب وتمثيل ياخونة… عم تخربوا البلد» ثم أنهى الاتصال فوراً. تتردد كلماته في مسامعي ودموعٌ غزيرة تحفر على وجنتي أخاديد لن تُرممها أي كلمات اعتذار لاحقة. يكاد إنكار وقوع جريمة السارين يكون أشدّ ألماً علينا من الجريمة ذاتها. كيف لأشخاص تفصل بيننا وبينهم بضعة مئات أمتار أن يقذفونا بتهم الكذب والتمثيل لجذب تعاطف طرف ما؟ كيف يفعلونها؟ كيف يستطيعون النوم وعلى مقربة منهم وقعت مجزرة جماعية كهذه؟ لو هبّت ريح خفيفة ليلتها لكن الضحايا والمصابون بالعشرات في مناطق دمشق القريبة من عين ترما وزملكا.

على أي حال، كثرت بعدها هذه الإنكارات حتى بتنا نسمعها ولا نلقي لها بالاً.

مرت الأيام القليلة التالية للمجزرة بصعوبة بالغة أيضاً، ففي كل يوم، ومع قدوم أحد للتعرف على صورة شهيد أو لأخذ مصاب، كان مشهد اللقاء بين التائه وأهله أو مشهد عائلات الشهداء يعيدنا إلى اللحظات الأولى لهذه المجزرة.

في تلك الأيام القاسية، كان شابٌ عشريني يأتي يومياً مع أمه إلى الإسعاف بأعراض ضيق تنفس خفيف، مع حرارة خفيفة تزيد من حيرتي، فقد تجاوز مرحلة الخطر ويستطيع أخذ علاجه في المنزل. عند سؤالي لوالدته عن شدة حزنه وتعب ملامحه، أخبرتني أنه عريسٌ تَزوَّجَ الأسبوع الماضي وفقد زوجته في المذبحة الكيماوية، فكان حزنه على فقدها أكثر تأثيراً في جسده من السارين.

لا نهاية للمشاهد القاسية في الذاكرة، التي تجعل النوم أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة لي. أتذكر أيضاً شاباً استضافه جيراننا، وكان قد تَعرَّضَ للسارين في تلك الليلة المشؤومة ونجا من الموت إلا أنه كان ما يزال لا يعي ما يدور حوله تماماً. يجلس على شبّاك الحارة، ويصدر أصواتاً عالية غريبة، يبكي بحرقة تارة ويدخل في نوبات من الإقياء تارة أخرى. كان صوته في كل حالاته يصيبني أحياناً، ويصيب كثيرين ممّن يسمعونه في الحيّ، بنوبات بكاء طويلة. استمرّ الشاب على هذا الحال لسبعة أيام، حتى جاء والداه وأخذاه معهما.

اليوم، وفي الذكرى التاسعة لمجزرة العصر تلك، أعترفُ أنني ما أزالُ أخشى شهر آب وأكرهه، وأفقد قدرتي على النوم أيضاً في لياليه الحارّة. تزورني في المنام أطيافُ الشهداء والمصابين وأصواتهم وصورهم؛ وجه الشابة روعة لا يكاد يفارق مخيلتي، روعة التي نجت من تلك المجزرة، ولا أعرف إن كانت قد نجت من القصف والهجمات خلال السنوات التالية حتى تهجيرنا من الغوطة. وبعد التهجير كما هو الحال قبله، سنبقى نطالب بالعدالة للطفولة التي سُرقت والأجساد والنفوس التي تألّمت والأرواح التي أُزهقت.