منذ بدء المنافسة المبكّرة على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية المُقرَّرة أواسط العام المقبل، تكاثرت التصريحات السياسية الداعية لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم وفق خطط مختلفة، وأحياناً متباينة، إلّا أن جميع أفرقاء السياسة التركية في السلطة والمعارضة شاركوا في هذه الدعوات، التي تم تقديمها على أنها استجابةٌ لمطلبٍ شعبي لم يتم قياسه بدقة في الحقيقة، كما أنها كانت أحد أبرز مواضيع النقاش السياسي في تركيا خلال الفترة الماضية.
لكن إلى أين يعود السوريون؟ هناك عدّة اقتراحات تركية؛ كالتي قدمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال خطبته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2019، حين حمل صوراً لمشروع بناء وحدات سكنية ضمن مجمعات صغيرة متوسطة الحجم ضمن الشريط الحدودي السوري مع تركيا، وتتألف كلٌّ منها من طابقين وأرضٍ صغيرة يمكن زراعتها حسب التصور الذي قدمّه الرئيس التركي.
بالفعل جرت إقامة مثل تلك التجمعات، لكن ليس من قبل الحكومة التركية بل نفذتها منظمات إنسانية سورية محلية بهدف إيجاد سكن بديل عن الخيام للنازحين في الشمال. لم تنتشر هذه التجربة على نطاق واسع بسبب التكلفة، وقبل ذلك بسبب عدم موافقة الأمم المتحدة على دعم الفكرة نتيجة تعقيدات كثيرة من بينها مسألة ملكيات الأراضي والخوف من التغيير الديموغرافي. على أيّ حال، حظي المشروع الذي قدمه الرئيس التركي في الأمم المتحدة بدعم من دولة قطر فقط، ولم يجرِ حتى اليوم تنفيذ أيّ من تلك الوحدات السكنية ضمن مناطق النفوذ التركي في شمال سوريا.
ثمة اقتراحٌ آخر قدمه بدايةً زعيم أكبر أحزاب المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، وهو استعادة العلاقات مع النظام السوري والاتفاق معه على السماح للاجئين السوريين في تركيا بالعودة مع تقديم ضمانات بشأن حياتهم وممتلكاتهم. يبدو هذا الاقتراح من وجهة النظر التركية أكثر سهولة، فهو لا يحتاج إلى مشاريع سكنية كبيرة ولا إلى تمويل ضخم من الأمم المتحدة أو جهة أخرى.
جرى تدوير هذا الاقتراح في دائرة التصريحات السياسية التركية، وبدأ الحزب الحاكم بالتفاعل الجدي معه خلال العام الماضي، لتبدأ التصريحات التي تتحدث عن اتصالات مباشرة أو غير مباشرة بين الحكومة التركية وأفراد من حكومة النظام السوري مثل علي مملوك (رئيس مكتب الأمن الوطني لدى النظام)، وكان آخرها تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عندما تحدَّثَ عن لقاء سريع جمعه مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في مؤتمر دول عدم الانحياز، الذي أقيم في العاصمة الصربية بلغراد العام الماضي، وتحدَّثَ في التصريح ذاته عن ضرورة الوصول إلى مصالحة بين النظام والمعارضة من أجل حلّ مشكلة اللاجئين.
لعلّ وزير الخارجية التركي، وكذلك مُحرِّرَ القسم العربي في وكالة الأناضول للأنباء التي نقلت الخبر، لم ينتبها إلى أنّ كلمة «مصالحة» تحمل في الذاكرة السورية محمولاً شديد السلبية، نتيجة ما أُطلقَ عليه اتفاقات المصالحة بين النظام السوري وفصائل محلية في عدد من المناطق، انتهت عملياً بانقلاب النظام على الاتفاقات والعمل على القضاء التام على أي وجود معارض لحكمه، خاصةً بعد أن حظي بدعمٍ عسكري من موسكو ابتداءً من عام 2015 وحتى العام 2018 حين استطاع إنهاء وجود فصائل المعارضة التي سيطرت على مناطق ثارت على النظام منذ 2011 في معظم البلاد، بما في ذلك المناطق التي كانت تخضع لاتفاقيات دعيت باتفاقيات المصالحة مثل جنوب دمشق، وتمّ تهجير جزء من سكّانها إلى الشمال السوري.
هكذا اعتبر السوريون المعارضون للنظام السوري، وخاصةً أولئك الذين شاركوا في فعاليات الثورة السورية منذ العام 2011، أنّ التوجه التركي للمصالحة مع النظام سيُفضي إلى القضاء النهائي على أي جيب معارض له، كما سيفضي إلى تسليم سكّان الشمال السوري واللاجئين السوريين في تركيا إلى آلة الاعتقال والبطش التي بقيت مستمرة إلى اليوم في مناطق سيطرة نظام بشار الأسد (نمت آلات مشابهة في مناطق سلطات الأمر الواقع الأخرى، أحياناً بالاعتماد على خبرات منشقين عن أجهزة الأمن ذاتها التابعة للنظام السوري).
بذلك اكتسبت الاحتجاجات التي خرجت في بلدات الشمال السوري، يوم الجمعة الفائت 12 آب (أغسطس) تحت شعار لن نصالح، معنىً جديداً قد يكون غير مسبوق، على الأقل ضمن هذا المستوى العام وبالذات في تلك المناطق التي تخضع للنفوذ التركي. كانت شعارات المظاهرات توجه رسالةً مباشرة للحكومة التركية، تقول إن التصالح مع النظام أو الاتفاق معه غير مقبول، وهو ما دفع عدداً من الشخصيات العسكرية التابعة لتركيا، والخاضعة عادةً للمزاج السياسي التركي تماماً حتى في مواجهة مجتمعاتها المحلية، إلى رفض تلك التصريحات. صدرت أيضاً تصريحات مماثلة عن الائتلاف السوري، الخاضع بدوره لنفوذ تركي لا يقل عن ذلك الذي يؤثر في الفصائل التي تسيطر على ريف حلب وعفرين.
قامت وكالة أنباء الأناضول التركية شبه الرسمية بتغيير الكلمة لاحقاً من «مصالحة» إلى «اتفاق»، وصدرَ بيان عن وزارة الخارجية التركية يؤكد على التزام تركيا بقرار الأمم المتحدة 2254 الذي يُعَدُّ المرجعية الدولية الرئيسية للحل السياسي في سوريا، بما يشمل تغييراً جذرياً في النظام السياسي وإنشاء سلطات انتقالية بصلاحيات واسعة. بعد تلك الإجراءات التي عُدَّت امتصاصاً للغضب الشعبي في مناطق النفوذ التركي، بالإضافة إلى إدلب التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» وحكومتها الدمية «حكومة الإنقاذ» مع وجود عسكري تركي، أعلنَ «الجيش الوطني»، وهو المسمى الرسمي للفصائل التابعة لتركيا، عن اعتقال عدد من المتظاهرين الذين اتهمهم بحرق العلم التركي في مدينة إعزاز مساء يوم الخميس السابق لتظاهرات الجمعة، وقام بتسليمهم للسلطات التركية.
عمليات التسليم تجري يومياً أيضاً في الاتجاه المعاكس، حيث تقوم السلطات التركية بترحيل أعداد من السوريين من تركيا إلى مناطق الشمال السوري، تحديداً مناطق نفوذ فصائلها في شمال حلب وعفرين. وقد اتخذت السلطات التركية قراراً غير معلن بترحيل أي شخص يكون محلَّ شكوى حتى قبل الفصل في هذه الشكوى قضائياً، بالإضافة إلى أن كل السوريين الذين يقومون بأي إجراءات في المخافر التركية معرّضون للترحيل أياً كان الإجراء. هناك حوادث موثقة حول ترحيل سوريين تقدموا للشهادة في حوادث دون أن يكونوا طرفاً فيها، إذ قام عناصر المخفر بتحويلهم إلى سجن الترحيل بعد إنهاء إجراءات الشهادة.
على الرغم من كل ذلك، لا يبدو إلى الآن أنّ هناك أي خطة يمكن أن يُقدمها أي طرف في تركيا لإعادة 3.7 مليون لاجئ سوري. لن يقبل النظام السوري بذلك بطبيعة الحال نتيجة عدّة أسباب، من بينها انهيار الخدمات العامة في مناطقه وعدم قدرته على تحمل تكاليف أعداد جديدة من السكّان، والتهديد الأمني الذين سيمثلونه بالنسبة له نتيجة وجود أعداد كبيرة من المعارضين والثائرين عليه بينهم، ما سيتطلب منه تفريغ أعداد كبيرة من عناصر أجهزته الأمنية والمتعاونين معهم. أما خيار حصر قرابة الأربعة ملايين لاجئ في المناطق الحدودية إلى جانب أربعة ملايين آخرين، نصفهم نازحون داخليون ونسبة كبيرة منهم تعيش في المخيمات، فلا يبدو أنّه خطةٌ ستحظى بدعم جدي من أي جهة، وهي خطة لا يمكن تنفيذها على أي حال دون وجود موارد غير موجودة في تلك المنطقة.
بالمقابل، لن توقف تلك العقبات استمرار التصريحات التركية حول مسألة اللاجئين، فالموضوع بالتأكيد مُحبَّب لجميع الأطراف السياسية أكثر من الحديث عن حلّ مسألة التضخم الكارثي الذي يشهده الاقتصاد التركي منذ سنوات، والذي تفاقم مؤخراً بطريقة تنذر بعواقب تهدد استقرار البلد. وكما في حالة مسألة اللاجئين، لا يبدو أنّ هناك طرفاً سياسياً تركياً يمتلك حلّاً لمسألة التضخم، إلا أنّ الحديث عن مسألة إعادة اللاجئين على ما يبدو أكثر سهولة، فبالإضافة إلى إبعاد الأنظار عن مواضيع أساسية مثل الاقتصاد، يفيد حديث اللاجئين في حشد جماهير واسعة تحت شعارات عنصرية ودعوات كراهية موجهة ضد الأجانب، وتحديداً السوريين، يبدو أنّها تلقى رواجاً ويمكن ترجمتها في صناديق الاقتراع.
يقيم معظم السوريين اليوم في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة، وهو قانون استُحدِثَ خصيصاً لهم، يعطيهم الحق بالحصول على هوية تعريفية ورقم وطني تركي يبدأ بالرقم 99 تمييزاً له عن الرقم الوطني للمواطنين الأتراك. تُمكّنهم تلك الهويات من الوصول إلى الخدمات العامة في تركيا مثل الصحة والتعليم، ويحتاجون بالمقابل إلى إذنٍ من دائرة الهجرة التابعة للمنطقة التي يعيشون فيها من أجل القيام بالعديد من الأمور، من بينها السفر بين الولايات التركية والسفر خارج تركيا (بلا عودة) أو تغيير مكان إقامتهم (قامت الحكومة التركية مؤخراً بمنعهم من السكن في قرابة الألف حي في عموم البلاد) والكثير غيرها.
آخر التحديثات على المشروع التركي لتوطين اللاجئين في المنطقة الحدودية يتحدث عن قدرتهم على الاحتفاظ بتلك الهويات والأرقام الوطنية التركية الخاصة بالأجانب، والاحتفاظ بنفاذ محدود إلى تركيا في مواعيد محددة مسبقاً ولفترات قصيرة، فيما يحمل السكّان في مناطق النفوذ التركي هويات مشابهة لا تعطيهم الحق في الدخول إلى تركيا. يمكن وصف الوضع القانوني للاجئين السوريين في تركيا بالعديد من الأوصاف، أولها عدم وجود اعتراف رسمي تركي بكونهم لاجئين يملكون حقوقاً وفق القوانين الدولية.
حالة البين بين هذه هي الخطة التي تسير عليها الحكومة التركية منذ عشر سنوات، إنها الخطة 99 التي تعني أنّ لا أحد يعلم يقيناً ما هو الحل، غير أن توجيه اللوم للضحايا واللاجئين الذين هربوا من عمليات القصف والقتل والاعتقال سهلٌ للغاية اليوم في كل مكان في تركيا، فهؤلاء بشر فائضون عن الحاجة، وجودهم مشكلة على طرفي الحدود، لا يمكن نقلهم ولا يريد أحدٌ تَحمّل وجودهم. سيقترح السياسيون كثيراً من الحلول والخطط، ربما سيقترح سياسيُّ متطرّف تقديم دعمٍ مادي للنظام لبناء سجون ومعتقلات جديدة تستوعب تلك الأعداد. هذا الحل بالنسبة لمثل هؤلاء هو بالتأكيد أسهل من مواجهة المشكلات الحقيقة لبلادهم.